بعد الهزيمة تفرقهما المواقف بشأن العراق ولبنان!

بين القاهرة والرياض في لبنان

تنافس بنكهة الصراع

محمد السباعي

في لبنان، الشاشة الأكبر لعرض تناقضات الأوضاع العربية، يبدو الدور المصري في الآونة الأخيرة وكأنه مستقلٌ عن الدور السعودي، فكما للسعودية رجالها وحلفاؤها، فإن لمصر أيضاً رجالها وحلفاءها وقد عرف منهم رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة.

معادلة (سين سين) أي السعودية وسورية لم يقدّر لها أو بالأحرى لم يرد لها أن تضبط إيقاع القوى السياسية اللبنانية المتناحرة والتي تنتمي لفريقي 14 آذار و8 آذار. فقد بدا أن القاهرة دخلت على خط التجاذبات اللبنانية، بالرغم من أنها خاضت مواجهة سياسية وإعلامية وتالياً قضائية مع حزب الله على خلفية استعمال بعض عناصر الحزب من الفلسطينيين واللبنانيين والمصريين الأراضي المصرية لتهريب السلاح للمقاومة الفلسطينية إبان العدوان الاسرائيلي على غزة في ديسمبر 2008 ـ يناير 2009 والتي اعتبرتها الحكومة المصرية اعتداءً على السيادة المصرية، فيما لا إشارة من أي نوع لمسألة السيادة اللبنانية في دخول العامل المصري في المعادلة الداخلية في لبنان.

وفيما كانت الأنظّار تتّجه إلى ما ستسفر عنه جلسة مجلس الوزراء في 21 سبتمبر الماضي وما كان سيدلي به رئيس الجمهورية ميشال سليمان، وتالياً رئيس الحكومة سعد الحريري في انتظار ما كان قد يصدر عن دمشق والرياض من مواقف حيال الشأن اللبناني، برز تطوّر جديد ولافت حيث دخلت القاهرة وفي شكل مكشوف كفريق وطرف عبر كلام أطلقه الناطق الرسمي بإسم وزارة الخارجية المصرية حسام زكي في 20 سبتمبر الماضي، الذي عبّر عن قلق مصر حيال ما يجري في لبنان محدّداً (مصدر القلق بأنه تحدّي بعض اللبنانيين المدعومين بقوة السلاح الخارج عن سيطرة الدولة اللبنانية للسلطتين التنفيذية والقضائية في البلاد في شكل سافر). وفي ذلك إشارة واضحة الى سلاح حزب الله، الأمر الذي دفع بعض مسؤولي الحزب لتذكير الجانب المصري لما كان يردّده خلال التجاذب حول خلية حزب الله في مصر، وطالبوه بالالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبنان، أسوة بدعوات سابقة له للحزب.

على المقلب الآخر، كان واضحاً أن ثمة إرباكاً في الموقف العام لدى السعودية وحلفائها، فبين تصعيد غرائزي غير منضبط بنكهة مذهبية ورسائل تحذير بالغة القسوة بعدم الإنسياق الى معركة غير مأمونة العواقب، تكشف في الحد الأدنى إضطراباً في الموقف والخطة المعتمدة من الرياض لجهة احتواء مفاعيل ما يحضّر له مع اقتراب موعد صدور القرار الظني، والذي تشير التكهنات من مواقع متعددة الى أن أصابع الإتهام تتجّه الى عناصر من حزب الله.

ما يمنع اعتناق السعودية لخيار التفجير الأمني، أن المكتسبات التي حصلت عليها خلال السنة الماضية ستكون عرضة للضياع بسهولة في حال قررت أن تشعلها حرباً مفتوحة مع قوى المعارضة المدعومة من سورية. صحيح أن هناك في الموالاة من لا يشعر بخسارة من أي نوع في معركة مفتوحة مع المعارضة، وخصوصاً حزبي الكتائب والقوات، بل قد تكون المعركة خياراً بالنسبة لهما قد تخلق فرصة إعادة خلط الأوراق وإضعاف القاعدة الشعبية للتيار الوطني الحر.

معيب لمصر تحالفها مع القتلة والعملاء!

الأمر ليس على هذا النحو بالنسبة لتيار المستقبل، الذي ـ بالتأكيد ـ بدأ يستشعر خطورة الذهاب بعيداً في التجاذب الداخلي تحت عنوان المحكمة الدولية أو معرفة الحقيقة، وقد ارتفعت أصوات من أكثر من مكان تفيد بأن الحريري ليس أغلى من لبنان، وأن خيار المحكمة الدولية لا قيمة له إن كان سيؤدي الى إسالة الدم، بل هناك من يهمس الآن حتى داخل الطائفة السنيّة في بيروت بأن معرفة الحقيقة لا يجب أن تؤدي الى خراب لبنان، وإن كانت هناك من وسيلة لتجنيب لبنان لأي مأساة أخرى فليكن حتى بإلغاء المحكمة الدولية، فهناك دماء عزيزة أهرقت قبل اغتيال الحريري وبعده ولم تحدث هذا القلق لدى اللبنانيين عموماً.

هذه الرؤية التي يبدو أن بعض المسؤولين السعوديين يميل الى تبنيّها من أجل الحفاظ على منجزات الخمس سنوات الماضية، والتي تمّ فيها بناء النفوذ السعودي، فإن القاهرة بدت أكثر تشدّداً من الرياض في موضوع المحكمة الدولية بل طالبت بالمضي في هذا الخيار مهما كلّف الثمن، من أجل معرفة هوية الجناة! يدرك اللبنانيون والمتابعون أن المناكفة المفتوحة بين حزب الله ومصر تعكس نفسها في مثل هذه المناسبة.

ما يحاول بعض قادة تيار المستقبل تحاشى إنكشافه، هو تجاذب العاملين المصري ـ السعودي داخل التيار، وهو تجاذب ينعكس إرباكاً وتوتّراً، كونه لا يعكس بالضرورة موقف الحريري نفسه، وهذا من شأنه أن يوصل الرسالة الخاطئة الى الفريق الآخر، أي المعارضة، التي تنتظر من رئيس تيار المستقبل سعد الحريري موقفاً تصالحياً يؤدي الى ارتخاء الأجواء الداخلية.

موافقة الحريري على الاستمرار في خيار التهدئة لا تعكس إرادة جماعية داخل فريق 14 آذار، فقد تصدر تصريحات من نواب مستقبليين مقرّبين من رئيس كتلة المستقبل ورئيس الحكومة السابق فؤاد السنيّورة، المحسوب على المعسكر المصري في لبنان، وتؤدي الى ارتفاع منسوب التوّتر. وقد يضطر سعد الحريري للعب دور (رجل إطفاء) حرائق يشعلها نوّاب في تياره من خلال مقابلات تلفزيونية ويستعملون خطاباً طائفياً تصعيدياً، وقد حدث أن اتصل ذات لقاء تلفزيوني مباشر بأحد نواّبه وأنّبه على مسمع الحاضرين في الاستوديو، وسأله عمّن أذن له بالتصريح بمواقف عبّر عنها دون الأخذ علماً وإذناً مسبقين بها.

وقد ظهر لاحقاً أن النائب الذي أنّبه الحريري كان عقاب صقر، حيث ذكر عاملون في فريق إنتاج (بموضوعية) الذي تبثّه قناة (إم تي في) أنه خلال إحدى فترات الاستراحة، تلقى النائب عقاب صقر إتصالاً هاتفياً من منزل رئيس الحكومة سعد الحريري. وبينما اعتقد صقر أنه سيتلقى التهئنة، فوجئ بأن محدثه (قدّر الحاضرون أنه الرئيس الحريري نفسه) يلومه على مشاركته في الحلقة، وعلى إطلاقه مجموعة من المواقف من دون الحصول على إذن أو تنسيق مع رئاسة الحكومة ومكتب الحريري نفسه.

هناك في تيار المستقبل من يتبنى فكرة، ويتزّعمها الرئيس السنيورة، بأن استدراج حزب الله الى الشارع يعتبر في حد ذاته نجاحاً، فيما يعتبر فريق الحريري بأن المعركة إذا انفجرت هذه المرة فلن تكون محدودة كما هو الحال في 7 آيار (مايو) 2008، بل ستقلب موازين القوى رأساً على عقب، وستطيح بمنجزات ومكاسب كبيرة ولن يكون بالإمكان استردادها مرة أخرى، وقد تكون نهاية دور آل الحريري في لبنان.

وفيما يبدو، فإن الجانب المصري الذي لا يمتلك وجوداً مادياً وشعبياً وازناً في الشارع اللبناني يميل الى خيار المعركة، وإن اختلف على مستوى سخونتها ومداها الجغرافي والزمني والنوعي. أما السعودية فعلى العكس تماماً فهي ترى نفسها في وضع لا تحسد عليه، فقد وقفت عاجزة أمام عودة رئيس قوى الأمن الداخلي السابق اللواء جميل السيد من باريس الى مطار بيروت الدولي واستقباله الاستعراضي والاعتراضي من قبل قوى المعارضة وعلى رأسهم حزب الله، وسافر سعد الحريري الى الرياض فيما يشبه خطوة احترازية تحسّباً لأية أعمال غير محسوبة في الشارع اللبناني، خصوصاً وأن الرسالة كانت واضحة للحريري بأن استعمال المحكمة الدولية كورقة ضد حزب الله يعني سقوط الحكومة. على أية حال، اضطرت السعودية الى أن تجدّد اتصالاتها بالعاصمة السورية في محاولة للعثور على مخرج مناسب لكل الأطراف، مع تزايد الضغوطات من قادة المعركة بأن ثمة دوراً للسعودية لابد أن تضطلع به من أجل حل أزمة المحكمة الدولية.

السنيورة: رجل مصر، مقابل حريري السعودية!

مصادر سعودية ذكرت بأن وضع السعودية في المنطقة بلغ درجة خطيرة من الحساسية (وأن مصر تمارس دوراً مستقلاً عنها في لبنان ولا يجب تحميل كل ما يصدر عن فريق الموالاة للسعودية). مبعوث الملك عبد الله الأمير عبد العزيز بن عبد الله جاء الى دمشق ليؤكّد على سريان مفعول اتفاق التهدئة مع سورية في لبنان. ولكن الحريري الإبن عاد من السعودية بشعارات ذات طابع مزدوج، فمن جهة يعلن تمسّكه بخيار التطبيع مع سورية، وفي الوقت نفسه يعلن تمسّكه بخيارات وشعارات قوى 14 آذار. ومن الغريب أن صدور مذكرات التوقيف بحق أكثر من 30 مسؤولاً لبنانياً وسورياً وألمانياً فهمت من قبل الفريق المسيحي في قوى 14 آذار على أنها إعلان قطيعة في العلاقات السورية اللبنانية، ووقف التقارب بين دمشق وبيروت.

رئيس الحكومة سعد الحريري أعاد التأكيد على ثباته في الاستمرار في خيار الانفتاح على سورية وتطوير العلاقة معها، بينما بدا واضحاً من تصريحات نواب المستقبل كونها غير متطابقة مع موقف الحريري. بل أن رئيس كتلة المستقبل النائب فؤاد السنيورة أشار في 19 سبتمبر في ذكرى (اغتيال النائب الشهيد ناظم القادري) الذي اغتيال في عام 1989، الى دور ما لسورية في الاغتيال خصوصاً وأن الذكرى ترافقت مع اغتيال النائب انطوان غانم.

ما بدا لافتاً في الموقف السوري ما أعلنه وزير الخارجية السوري وليد المعلم لصحيفة (وول ستريت جورنال) في 29 سبتمبر الماضي من أن (المحكمة الدولية مسيّسة وأن دمشق تعارض أي جهود من الامم المتحدة تدعم إصدار إتهامات من شأنها إغراق لبنان في جولة جديدة من العنف الطائفي). في المقابل، أكد وزير الخارجية المصري احمد ابو الغيط خلال لقائه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون (إتفاق مصر الكامل مع الموقف الذي عبّر عنه الأمين العام مؤخراً بشأن تأييد المحكمة وعملها باعتبارها مؤسسة تتمتع بالاستقلالية).

وأشار ابو الغيط، وفق ما نقل عنه المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، الى اقتناع مصر (بضرورة مواصلة المحكمة عملها لكشف الجناة في حوادث الاغتيال التي شهدها لبنان، وحتى يمكن أن تذهب حقبة الاغتيالات السياسية في هذا البلد الى غير رجعة). وكان ابو الغيط قد شدّد على أن المحكمة الدولية تحظى بتأييد مصري كامل، مشـيرا في تصريـح لقنـاة (العربية) الـى أن المحكمـة أنشـئت بقـرار صادر عـن مجلـس الأمـن، والقـرارات الدوليـة لا يمكن التراجع عنها.

وفي سياق خارجي متصل، اعتبرت نشرة (ميدل ايست بوليسي سورفاي) الصادرة عن (مجموعة سياسات الشرق الأوسط) الأميركية للدراسات في 30 سبتمبر، أنه (من المتوقع من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، أن تصدر قريباً، قرارات اتهامية لمن تعتقد أنهم مرتبطون باغتيال رئيس الحكومة الاسبق رفيق الحريري).

ما هو لافت في تقرير النشرة، والذي يعكس التباين السعودي المصري في موضوع المحكمة أن مسؤولين أميركيين بارزين في الخارجية الأميركية يعتقدون بأن الرئيس السوري بشار الأسد يريد من الحكومة اللبنانية (إدانة المحكمة وقطع المساهمة المالية اللبنانية عنها)، وأضافوا (إن هذا ما يريده السعوديون أيضا على ما يبدو). وأضافت النشرة نقلاً عن مصدر مطلع مخضرم قوله إن (السعوديين يريدون تصفية المحكمة الدولية ولم يعد لبنان مهماً لهم بما يكفي).

هذا كان قبل صدور المذكرات القضائية السورية ضد شخصيات لبنانية تنتمي أغلبها الى فريق 14 آذار بل وبعضهم يعمل في فريق سعد الحريري مثل وسام الحسن وأشرف ريفي وغيرهما. في رد فعل عاجل، قام وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط بزيارة الى جدة في 4 أكتوبر التقى خلالها نظيره السعودي الامير سعود الفيصل، وصرح بعد اللقاء الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية المصرية حسام زكي بأن مصر والسعودية (تدعمان) المحكمة الخاصة بلبنان، وتعتبران أن محاولات تعطيلها (لن تحقق هدفها).

غير أنه بدا غامضاً فيما يرتبط بتطابق الموقفين السعودين من المحكمة الخاصة بلبنان رغم تأكيده على أن (كلا من مصر والسعودية لها موقف واضح والمحاولات المبذولة لتعطيل عمل المحكمة هي محاولات لن تحقق الهدف منها...)، وبدا أكثر غموضاً بقوله (وجهة نظر مصر هي أن المساعي المبذولة من أجل الاستقرار في لبنان يجب أن تراعي هذه النقاط، كما أن هذه المحكمة مهمة من أجل مستقبل لبنان، ومن أجل وقف عمليات الاغتيال السياسي في هذا البلد). فهو في الأخير تحدّث عن وجهة نظر مصرية فيما يرتبط بالمحكمة.

الصفحة السابقة