السعودية أمام تحدٍّ عراقيٍّ جديد

سعد الشريف

من خلال (قناة العربية) كان ملايين المشاهدين من مختلف دول العالم، وبالخصوص في السعودية، يتابعون الحدث العراقي مساء 11/11/2010، حيث النقل المباشر لمجريات العملية السياسية، وحيث تمّ تعيين رئيس لمجلس النواب العراقي أسامة النجيفي، فرئيس للجمهورية جلال الطالباني، فدعوة من الأخير لنوري المالكي لتشكيل الوزارة.

اتسم النقل المباشر للعربية باستخدام لغة هادئة، مضمونها تأييد ما يجري، والتسليم السعودي سياسياً بالأمر الواقع، بما في ذلك إصدار شهادة وفاة لمبادرة الملك عبدالله (التي ولدت في الحقيقة ميتّة)؛ وربما قد عنى ذلك الهدوء السعودي: النزول من أعلى السلّم، ورفع الفيتو عن المالكي، وفتح السفارة السعودية في بغداد، وهي واحدة من آخر السفارات التي تفتح في تلك العاصمة العربية.

بمعنى آخر: قد يعني الهدوء والبراغماتية اللذان عكستهما (العربية) في نقلها المباشر ـ ولساعات ـ للحدث العراقي، تسليماً سعودياً بالهزيمة في العراق، أو نزولاً عند الرغبة الأميركية ـ الغربية؛ أو كليهما، ما قد يؤدي الى أن تختطّ السعودية سياسة جديدة غير تلك التي سادت منذ عقدين من الزمان، أي منذ احتلال العراق للكويت.

في 30/10/2010 تقدّمت الحكومة السعودية بما أسمته مبادرة لحل الأزمة السياسية العراقية، قالت أنها تأتي بغطاء من الجامعة العربية، وهي ـ أي المبادرة ـ لن تبدأ إلا بعد عطلة الحجّ! أي بعد نحو عشرين يوماً من تاريخ إعلان المبادرة!

العراقيون استشاطوا غضباً، بمن فيهم الأكراد. وصدر بيان فوري ومباشر ومشترك شمل الأكراد جميعاً، والقوى السياسية الشيعية جميعاً (التحالف الكردستاني، والتحالف الوطني العراقي) يرفض المبادرة السعودية. وعلى هامش الرفض قال سياسيون وقادة عراقيون أن السعودية صبرت طيلة الأشهر الماضية ولم تتقدم بمبادرة أو تقوم بجهد لرأب الصدع بين القوى السياسية، بل كانت طرفاً مؤججاً للخلافات الداخلية. وأضافوا بأنه حين شارفت التداولات العراقية المحلية على النجاح، وفق مبادرة الزعيم الكردي مسعود برازاني، هرعت السعودية لتخرّب المسيرة، ولتطرح مبادرتها، التي جاءت بلا استئذان ولا مشاورة مع أحد من الأطراف العراقية أو الدول المحيطة بالعراق؛ بل وبدون مشاورة دول الجامعة العربية التي جاءت السعودية لتتحدث باسمهم.

وإزاء الرفض القاطع والفوري من القوى العراقية لما أُسمي بالمبادرة السعودية ـ عدا من بعض قيادات القائمة العراقية ـ وبسبب غضب الأكراد مما أسموه بالمبادرة التخريبية، اضطر سعود الفيصل ان يعقد مؤتمراً صحفياً في اليوم التالي للمبادرة أي في 31/10/2010، ليقول بأن مبادرة الملك عبدالله مغطّاة عربياً، وأن القادة العراقيين طالما طالبوا المملكة باتخاذ مبادرة، وأضاف بأن ما أعلنته المملكة من مبادرة تحمل استجابة لما يطلبه العراقيون، وكرر بأن بلاده لا تتدخل في الشأن العراقي الداخلي، وأن كل ما تريد فعله هو جمع القادة العراقيين تحت سقف واحد ليتفقوا! وزاد بأن مبادرة الملك لا تتناقض مع المبادرة الكردية، بل هي متممة لها، وشدد على احترام السعودية للزعماء الأكراد، وتمنى نجاح مبادرتهم.

بضعة أيام فقط مضت على اعلان المبادرة السعودية المرفوضة شكلاً وتوقيتاً ومضموناً من قبل القوى العراقية الرئيسية، وإذا بالتفجيرات تهزّ بغداد انتقاماً. قال الجميع أنها تفجيرات سياسية موحاة من الخارج، فيما كانت برقيات التأييد تترى من قطر والبحرين والإمارات والجامعة العربية والأردن، وقوى 14 آذار بلبنان، وكلها تقول: أيها العراقيون، اغتنموا الفرصة واقبلوا بالمبادرة السعودية.

لا أحد يعرف كنه المبادرة، ولكن الأكثرية في العراق متفقة بأنها مبادرة سيئة وتخريبية. وقد عبّر أكثر من قيادي عراقي بأن المبادرة السعودية جاءت لنسف كل الجهود التي توصل اليها العراقيون في تداولاتهم الأخيرة. لم يشأ أحد تصديق ما يقال بأن العراقيين قاب قوسين أو أدنى من الإتفاق، وأن السعوديين سعوا لنسفه لأنهم لم يحصدوا مكاسب سياسية خاصة بهم. ولكن الذي حدث فيما بعد أثبت أن العراقيين لم يكونوا بحاجة الى الجهد السعودي، بقدر حاجتهم الى كف الأذى السعودي عنهم.

أيام قلائل مضت على إعلان الرفض، فانفجرت بغداد بالقنابل، بدأت بالمسيحيين، وانتهت بتفجيرات في 16 منطقة شيعية. وكان التحليل السائد وهو صحيح يقول: هذا هو جزاء من يرفض المبادرة السعودية. واعتبرت التفجيرات محرّضاً للقادة العراقيين على تكثيف جهودهم للخروج من المأزق السياسي والأمني، فاجتمعوا في أربيل كردستان العراق في 8/11/2010، وبشرتنا قناة (العربية) كما قناة (الجزيرة)، بأن الإجتماع ذاك قد فشل!

وفي اليوم التالي اجتمع العراقيون في بغداد هذه المرّة، فيما كانت الآمال السعودية كما آمال دول خليجية وعربية أخرى بأن يفشلوا. ولكن لم يحدث ذلك، وقد اتفقوا على تقاسم السلطة وعلى اليوم الموعود (11/10/2010) لعقد البرلمان لتسمية الرؤساء الثلاثة: (رئيس البرلمان، رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء).. وهذا ما حدث بالفعل.

شعرت السعودية بأنها قد استعدت غالبية الشعب العراقي بمختلف أطيافه، ولكن هذا لم يكن يهمّها، وكانت لديها القابلية أن تضع المزيد من الملح في الجراح العراقية، عبر تمويل العنف، وإرسال التكفيريين الوهابيين من مواطنيها ليذبحوا الناس في الشوارع والمساجد والكنائس والأسواق.

لكن لا بد أن تكون هناك من نهاية لهذه السياسة، ولو بالإرغام.

السعودية تقول بأنها لن تعترف بحكومة المالكي، وتعاملت معه طيلة رئاسته الحكومة بصلافة وترفّع، لا لأنه عميل أميركي ـ من وجهة نظرها ـ ولا لأنه فاشل في إدارة الدولة، بل لأنه يحمل انتماءً لا تقبل به السعودية، ولأنه لم يرضخ لإملاءاتها السياسية.

الأميركيون سيرحلون قريباً من العراق.. على الأقل جيشهم. وستبقى الحدود العراقية السعودية مفتوحة، وهو أمرٌ لا يرحب به السعوديون، ويريدون بقاءً عسكرياً أميركياً أطول في العراق، لسببين أساسيين: الأول، لأن خروج الأميركيين يعني نهاية التغييرات الدراماتيكية في بنية السلطة العراقية، أي ان خروجهم سيبقي ترتيبات السلطة الحالية في العراق كما هي عليه الآن، وبالتالي فإن أمل السعودية في تغيير الوضع العراقي لصالحها سيكون مستحيلاً في غياب الجهد الأميركي المباشر. والثاني، إن خروج القوات الأميركية يقرب الإحتكاك بين بغداد والرياض سياسياً وأمنياً. فمن المعلوم أن واشنطن ما فتئت تضغط على القيادات العراقية بأن تتجنّب المواجهة الإعلامية والسياسية مع السعودية. ولازال الضغط قائماً. ولكن إن خرجت القوات العسكرية الأميركية، فإن النفوذ الأميركي في العراق سيضعف لا محالة، وبالتالي لا يمكن ضبط تصرفات السلطة العراقية التي أجبرت على الصمت إزاء مواقف السعودية السلبية تجاهها، وفي مقدمها محاصرتها سياسياً على الصعيد العربي، وتمويلها للعنف والإرهاب التكفيري في الداخل العراقي.

إزاء هذا الوضع، يبدو من الصعب على الأمراء السعوديين مواصلة سياسة الإستعداء لبغداد.

كان الجميع يعلم بأن استحقاقات الإنتخابات الأخيرة تمثل مرحلة فاصلة مع ماضي الإحتلال الأميركي للعراق. وكان السعوديون مستعدين لأقصى الحدود لاستثمار الوقت المتبقي لديهم قبل خروج القوات الأميركية، لتكون لهم اليد العليا في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة. وبنحو أو آخر، ساهمت التدخلات السعودية في تصلّب موقف القائمة العراقية التي كان واضحاً أنها لا يمكن أن تحكم العراق بمجرد حصولها على 91 نائباً من أصل 325 مقعداً، خاصة مع رفض الأكثرية الكردية والشيعية لذلك. ولم يكن صانعو القرار في الرياض يعتمدون في رؤيتهم للوضع العراقي على أسس استراتيجية وعلمية واضحة، فكان تدخلهم فجّاً ذا طابع استعلائي.

حسنٌ.. هل يمكن القول أنه بتعيين الرؤساء الثلاثة في العراق، انتهت مرحلة من العلاقات السعودية العراقية وبدأت أخرى؟ أم أن ما ستكون عليه الأوضاع القادمة إنما هو استمرار لسياسة الماضي؟

هل السعودية مستعدّة لمواجهة بغداد سياسياً وأمنياً من جديد ولو كانت وحيدة عربياً وبدون رضا حلفائها الغربيين بل وبدون ترحيب من القوى المؤثرة في صناعة القرار العراقي: سوريا وايران وتركيا؟

قيل ـ وهو صحيح ـ أن السعودية لا تريد للعراق ان يتعافى، لأن في تعافيه (مرض) للسعودية!

كيف؟

إقتصادياً، بتعافي العراق.. سيزداد انتاجه من النفط، وستعود حصته المقررة له في الإنتاج ضمن أوبك، والتي غطّتها السعودية. معنى ذلك أن مالاً أقل ستحصل عليه السعودية من حصة أقل في الإنتاج. وفي أقل الأحوال، فإن انتاجاً عراقياً أكبر، سيؤدي الى خفض الأسعار في الأسواق النفطية العالمية.

سياسياً، بتعافي العراق.. سيلعب العراق دوراً بارزاً في محيطه الإقليمي، ابتداءً من الخليج المجاور. بحضور العراق سياسياً، ستضعف المكانة السعودية أكثر مما هي عليه الآن. سيعود العراق منافساً سياسياً، وقوة سياسية غير مؤطرة ضمن قوى الإعتدال ذات الميول الأميركية الغربية، وهو ـ أي العراق ـ بحكم موقعه الإستراتيجي وخلفيته الأيديولوجية أقرب الى حلف الممانعة في ايران ودمشق. تصاعد مكانة العراق سياسياً، عبر لعبه دوره المنوط به، يعني تضاؤلاً للنفوذ السعودي بين دول الخليج كما بين العرب أنفسهم.

أمنياً، لو تعافى العراق، فإنه لا يمكن تجاهله كلاعب أساس في توفير الإستقرار لمنطقة الخليج. من الصعب أن تنظر السعودية أو حتى الدول الغربية للعراق كدولة مهددة للأمن الخليجي، وإلا ما فائدة كل ما قامت به تلك الدول من حرب على العراق؟! ومن الصعب تجاهل حقيقة أن الدولة العراقية المستقرّة لن تقبل بالترتيبات الأمنية التي تتجاهلها فضلاً عن أن تقبل بتلك التي تضرها.

أمن الخليج، لن يكون المسؤول عنه السعودية ودول الخليج الأخرى بدون العراق، سواء اعتبر هذا الأخير مهدداً أو شريكاً. وفي كل الأحوال لا بد من إيجاد مخرج لموضوع أمن الخليج، وهو ما لم يظهر حتى اليوم. وفي الحقيقة فإن المشكلة تتجاوز السعودية. مجلس التعاون لا يمكن أن يوفر أمناً، بدون العراق وبدون التنسيق مع إيران. وحتى لو احتوي العراق ضمن منظومة دول مجلس التعاون الخليجي، فإنه سيكون سيّد تلك المنظومة وليس السعودية، وهو لن يقبل ـ على الأرجح ـ النظرة الغربية الأميركية والسعودية في تحديد من هم الأعداء، ومن يهدد الأمن. بمعنى ان العراق لن يقبل ـ وضمن الدور الأمني الذي يلعبه ـ أن ينحو باتجاه الصراع مع ايران كما تفعل السعودية وامريكا اليوم.

ما يمكن الخلوص اليه حتى الآن هو التالي:

ـ إن السعودية ووفق آخر تطورات العراق، كانت الخاسرة من بين كل دول الجوار العراقي.

ـ يرجح أن تغيّر السعودية سياستها تجاه العراق وقد تفتح صفحة جديدة من العلاقات معه مختلفة، لأنه لا قدرة لها على مواصلة ذات السياسة في غياب الوجود العسكري الأميركي.

ـ يرجح أيضاً، أن القائمة العراقية إذا ما التزمت بالتشدد حسب بعض المواقف السعودية، فإنها ستنشق على نفسها، بين من يدخل اللعبة ويشارك في الوزارة، وبين من يبقى خارجها منبوذاً. والأرجح أن السعودية ستنصح صقور القائمة العراقية: علاوي والمطلق على سلوك الإتزان والمشاركة السياسية.

ـ سيكون الوضع الأمني العراقي القادم مؤشراً ليس فقط على نجاح العملية السياسية فيه، بل وعلى قبول السعودية بالحكم الجديد من عدمه. فالسعودية لها دائماً أيادٍ داخل القاعدة. كيف لا وهي صانعتها ومربيتها وهي التي تغذيها بفكر وهابي آتٍ من عندها، وبأموال ورجال قادمين من أراضيها؟

ـ وأخيراً، فإن واشنطن كما لندن لن تشجعا السعودية على مواصلة سياستها القديمة، وإذا لم تنصت لهما، فإنها ستذهب الى المعركة وحيدة. الأميركيون والبريطانيون لا يريدون خسارة العراق استراتيجياً، وإن لم تكن لهم الكلمة الفصل فيه، وهم يريدون نصيباً من المنافع الإقتصادية بعد أن خسروا ما يقرب 3 تريليون دولار في حربهم على العراق. هذه هي أولويتهم في الوقت الحاضر: ان لا يقع العراق كاملاً بيد إيران، أن يبقى العراق هادئاً من أجل الحصول على جزء من مشاريع البناء والتعمير.

الصفحة السابقة