الكرة السعودية في لبنان خارج الملعب

لا تعلم ما يمكنها القيام به، ولا تملك القدرة على دفع أخطاء وأخطار تشارك فيها بملء إرادتها.

تريد مخرجاً لمأزق تجد نفسها فيه، ولكن لا تعرف لغة تدوير الزوايا.

وتحاول مرة بعد أخرى كيما تخرج من عنق الزجاجة كلما اشتدّت حلقات الأزمة وازدادت التهاباً، ولكنها تعيش ارتيابات حادّة تنسيها في غالب الأحيان أن فوضى لبنان تعني نهاية حتمية للنفوذ السعودي.

محمد شمس

كل اللبنانيين من موالاة ومعارضة ينتظر موقفاً سعودياً واضحاً، فقد باتت العائلة المالكة بمثابة ولي الدم الفعلي وليس سعد الحريري الذي يعمل وفق إملاءات الرياض. كل المخارج باتت موصدة فيما يخص (المحكمة الدولية) وليس هناك سوى مخرج سعودي. هذا ما يعتقده اللبنانيون لأن السعودية التي تشارك سوريا في تثبيت التهدئة واستمرارها، هي من تملك إرادة حل ملف المحكمة الدولية الذي بات عنواناً لفتنة كبرى تهدد اللبنانيين.

ما هو موجود بين أيدينا من معطيات يشير الى أن السعودية تعمل على مسارات متعددة في المجال اللبناني، بما فيها مسار الفتنة الأهلية، فثمة معلومات عن وصول عناصر من تنظيم القاعدة من جنسيات متعدّدة من بينها الجنسية السعودية الى الشمال اللبناني استعداداً لساعة الصفر المرتبطة بموعد صدور القرار الظني. معطى آخر، هو تعليمات صدرت الشهر الفائت (أكتوبر) الى عناصر من حزب القوات اللبنانية في أوروبا بالاستعداد للعودة الى لبنان عبر قبرص لتعذّر الدخول عبر مطار بيروت الدولي (بسبب سيطرة حزب الله)، أو الحدود البريّة (بسبب السيطرة السورية)، بانتظار إشارة البدء بالدخول على خط الصراع السني الشيعي المنتظر وقوعه بعد صدور القرار الظني، والذي تفيد كل المعطيات بأن الإدعاء العام في المحكمة الدولية يتّجه لاتهام حزب الله بالضلوع في عملية اغتيال رفيق الحريري.

سعد الحريري سعودي بامتياز

في المسار السياسي، تشعر الرياض بأنها عاجزة عن تحقيق اختراق استثنائي في ظل رفض أميركي لتعديل مسار المحكمة الدولية التي باتت مسيّسة بالكامل، خصوصاً بعد حادثة (العيادة) في الضاحية الجنوبية التي أظهرت ردود الفعل العربية والدولية على أن المحكمة لم تعد تنشد العدالة أو الحقيقة بل هي مصمّمة لتنفيذ مآرب سياسية محدّدة سلفاً.

في نهاية أكتوبر الماضي كانت دمشق على موعد مع مبعوث الملك الخاص الأمير عبد العزيز بن عبد الله الذي حمل معه رسالة مكتوبة الى القيادة السورية، قيل حينذاك بأنها تنطوي على فرج سياسي لأزمة لبنان الذي دخل مرحلة حرجة بعد حادثة (العيادة) وإعلان الامين العام لحزب الله حسن نصر الله عن وقف التعاون مع التحقيق الدولي. وكما يبدو، فإن الرسالة السعودية جاءت بعرض وليس بحل، يقايض فيها السعوديون الحل في لبنان بحصّة في العراق. فجاء تسلسل الأحداث متسارعاً، الرسالة تصل الى دمشق وقبل انتظار الجواب يتقدّم الملك بمبادرة لدعوة القادة العراقيين إلى الرياض لفرض أمر واقع على دمشق، ثم ما إن يعلن القادة العراقيون رفض المبادرة تشتعل بغداد بالتفجيرات.

الدخان الأبيض الذي كانت بيروت تنتظر خروجه من دمشق إنقلب الى أسود في بغداد. فقد ظهرت الاجابات على كل الاسئلة في وقت قياسي، في لبنان رفض سعودي للعب دور إضافي في موضوع المحكمة الدولية لتجنيب اللبنانيين فتنة كبرى، وفي العراق تفجيرات سعودية في رد فعل على رفض مبادرة الملك عبد الله ورفض السوريين المقايضة السعودية (المحكمة الدولية مقابل الحصة الوازنة في العراق).

التفجيرات السعودية في بغداد تنطوي أيضاً على إجابة في لبنان، وهذا ما دفع رئيس الحكومة سعد الحريري الى الهرب الى لندن للحيلولة دون الاصطدام مع (حقيقة) أخرى حول شهود الزور، حتى لا يوضع أمام خطر زوال (المحكمة أو الحكومة)، فيما أبقت القيادات السياسية المؤثرة في لبنان (سورية والسعودية وإيران) الباباً مفتوحاً لإطالة أمد التهدئة، حتى وإن كان الأمر يتمّ هذه المرة، وهذا غير مسبوق، على مستوى السفراء الثلاثة (علي عبد الكريم (سورية)، وعلي عسيري (السعودية)، آبادي غضنفر (إيران)، فهؤلاء باتوا يمارسون دور (المنفّس) لنوبات الاحتقان العابرة أو المتراكمة خصوصاً بعد دخول الأمين العام لهيئة الامم المتحدة بان كي مون على خط التوتّر العالي في لبنان وتقديمه تقرير ينطوي على تعريض بحزب الله وقدارته العسكرية ومطالبته بنزع سلاحه، الذي وضع بخلاف (البيان الوزراي اللبناني) في إطار سلاح الميليشيات، وكذلك تصاعد الحديث عن قرب صدور القرار الظني، أو تسريعه أميركياً كيما يصدر قبل الموعد المقرر له، من أجل استباق أي خطوات قد تقدم عليها المعارضة في لبنان أو حتى سورية وإيران.

السعودية إستوعبت كما يبدو رسالة نصر الله جيداً حين ذكّر (من في الداخل والخارج وأن يعيدوا حساباتهم والذهاب نحو مخرج ينقذ البلد، ويخرج بعض اللبنانيين من الرهان على أكاذيب واتهامات باطلة وظالمة)، وختم كلامه بموقف حاسم (الأكيد إننا لن نقف مكتوفي الأيدي حيالها).

كل ما تبقى في الإستقرار اللبناني منوط بالتقارب السوري السعودي الذي نظر إليه كثير من اللبنانيين على أنه مظلة حماية، ولكن هذا التقارب ليس محسوماً، سيما وأن ثمة (منغّصات) قد تؤثر عليه، ومنها العامل المصري الذي يلعب حالياً دوراً سلبياً في المعادلة اللبنانية، في المزايدة على آل الحريري بل وآل سعود في الدفاع عن (المحكمة الدولية)، ويعتبر ذلك ورقة للضغط على السوريين وحزب الله من أجل كسر التوازن اللبناني والإقليمي.

على أية حال، فإن زيارة نجل الملك عبد الله الى دمشق لناحية تخفيف التشنج السياسي على خلفية الخطوة الاستفزازية التي قام بها المحققون الدوليون في الضاحية الجنوبية لبيروت بطلب تفتيش ملفات (عيادة نسائية)، ورد فعل حزب الله بإعلان القطيعة مع التحقيق الدولي، انتهت الى الفشل. وسقط كما ذكرت الصحافة اللبنانية في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الرهان على اللقاء السوري ـ السعودي في دمشق، بل وجاء غياب الحريري عن جلسة مجلس الوزراء يوم الأربعاء في الثالث من نوفمبر ليثبّت حقيقة السقوط، ما يفتح الباب على كل الاحتمالات. سقوط الرهان على اللقاء السوري السعودي يؤشر الى سقوط رهانات أخرى (حكومة الوحدة الوطنية، الحوار الوطني، التهدئة، الاستقرار..).

تفجيرات بغداد ردّ على رفض مبادرة السعودية

التعويل على (إيجابية) العلاقة بين القيادتين السورية والسعودية، وعلى (التشاور الإيجابي) بين دمشق والرياض لم ينتج حتى اللحظة حلاً في لبنان، ولا يبدو أن هناك من حل مرجو في القريب العاجل، وقد يسبق السيف العذل، فتصدر المحكمة الدولية قرارها الظني قبل أن تكتمل جولة مشاورات سورية سعودية لإنقاذ لبنان. السوريون أبلغوا السعوديين كما أبلغوا حلفاءهم بأن الإدارة الأميركية والنظام المصري يضغطان باتجاه الإسراع في إصدار القرار الإتهامي بحق أفراد من حزب الله. وفي ظل غياب جديّة من قبل سعد الحريري وفريق 14 آذار أو حتى السعودية والنظام القضائي اللبناني أو حتى المحكمة الدولية بخصوص البت في ملف شهود الزور، فإن ما يمكن توقّعه سيكون بحسب واقع الحال الراهن سلبياً. لأن تأجيل موعد جلسة مجلس الوزراء عنى تأجيل جلسة الحوار الوطني في اليوم التالي، واستطراداً سينعكس ذلك سلباً على التشاور السوري السعودي ما يفسح في المجال أمام دخول عناصر جديدة تسهم بالتأكيد في تعكير الإستقرار الهش، وسوق البلاد نحو الفتنة المعدّة.

في سياق القراءة الفتنوية للأحداث في لبنان، كتب طارق الحميد في صحيفة (الشرق الأوسط) في 28 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مقالاً بعنوان (ليت الحريري يفعلها)، علّق فيه على كلام للرئيس السوري بشار الأسد حول فكرة استقالة سعد الحريري، في مقابلة مع غسان شربل في صحيفة (الحياة) حيث قال (نعتقد أن سعد الحريري قادر على تجاوز الوضع الحالي. في الأزمة الحالية هو قادر على مساعدة لبنان، نعتقد أنه شخص قادر. أنا أعتقد أنه الآن الشخص المناسب جداً لهذه المرحلة الصعبة).

اعتبر الحميد إجابة الأسد سبباً كافياً بحد ذاته لإقناع الحريري بضرورة الاستقالة الآن، لأن كلام الأسد، حسب الحميد، أن الحريري (هو الوحيد القادر على إفساد قيمة المحكمة الدولية، وليس تعطيلها أو إيقافها. فالحريري ولي الدم، وزعيم السنة اليوم في لبنان، ورئيس الوزراء، ومجرد تنازله عن دم رفيق الحريري، أو الطعن في المحكمة، سيحيد أتباعه). هذا ما فهمه الحميد من كلام الأسد. وخلص الحميد من تحليله الفذّ الى نتيجة واحدة هي أن (قوة سعد الحريري اليوم هي في استقالته، وليس في بقائه). والسبب في ذلك (إن كثرة التنازلات تفقد المنصب قوته وقيمته مستقبلا، وهذا خطر على لبنان. كما أن من شأن استقالة الحريري اليوم أن تقلب الطاولة على من يريد تلطيخ سمعة المحكمة، وتجعل الحريري الشخص المناسب ليس لهذه المرحلة فحسب، بل ولمستقبل لبنان أيضاً). ونقول هنيئاً للحريري بك مستشاراً، وليته يأخذ بنصيحتك، لأنك بذلك تكمل مسيرة زوال النفوذ السعودي من لبنان.

يفترض الحميد زعماً بأن الحريري فعلاً يمثل السنّة في لبنان، وبالتالي فإن استقالته ستضع لبنان في مأزق حيث لن يقبل أي من القيادات السنيّة تولّي منصب رئاسة الوزراء، ونسي الحميد أن رفيق الحريري نفسه أب سعد الحريري قد شهد تجربة مماثلة وقد تولّى عمر كرامي رئاسة الحكومة في ظل وجود الحريري الأب، ولم تنقلب الدنيا، ولم يعترض أحد بل كان الوضع الأمني والسياسي أفضل بكثير مما هو عليه لبنان اليوم.

هل الاستقطاب الطائفي يكون سبباً لمثل هذا الطرح الحميدي؟ نعم، ولكن هل يعكس ذلك وضعاً سياسياً صحيّاً، أم أن شعبية الحريري الإبن أكثر من شعبية والده في ظل التفجّر الطائفي، أم أن القيادات السنيّة الأخرى أقل شعبية وهي التي ارتبط لبنان الحديث بها مثل ضمير لبنان سليم الحص، وعمر كرامي ونجيب ميقاتي وغيرهم الكثير. فلماذا يختزل لبنان في شاب لم يبلغ سياسياً سن الرشد؟. فهل يعقل أن تقرن قامات سنيّة كبيرة ووازنة بشخص مجهول مثل علاء حسين الذي عيّنه صدام حسين حاكماً على الكويت في زمن الاحتلال في أغسطس (آب) 1990 ـ 1991.

الصفحة السابقة