دولة الأجنحة

حتى لا يساء تفسير العنوان من قبل الأبرياء والخبثاء على السواء، فإن من الضروري بيان حقيقة أنه يندر أن نجد دولة في العالم ليس فيها صراع أجنحة، على اختلاف الأشكال والمسميّات، فقد يكون صراع أجنحة داخل الحزب الحاكم، أو داخل العائلة المالكة أو الحاكمة (على أساس أن ليس كل كل عائلة مالكة هي بالضرورة حاكمة كما في، على سبيل المثال، المملكة المتحدة)، أو داخل الفريق الإنقلابي الواحد، مع أن عصر الإنقلابات العسكرية قد شارف على نهايته، رغم حنين الشعوب المقهورة لمثل هذه التغييرات الدراماتيكية كونها قد تحمل فرجاً حتى وإن كان وهمياً.

وفيما يبدو، فإن صراع الأجنحة من الأمراض المزمنة التي لا تنجو دولة منه طالما تضاربت المصالح، ووجد من يغذي الصراع سواء من (الحاشية) أو المقرّبين من رؤوس الأجنحة، أو من قوى خارجية. ولكن صراع الأجنحة في السعودية، رغم أوجه الشبه بينه وبين صراعات أجنحة في دول العالم، يبدو مختلفاً بل وفريداً أحياناً، لماذا؟ لأن..

ـ صراع الأجنحة في المملكة بدأ مع ولادة الدولة، والسبب في ذلك أن كل جناح يتعاطى أمر الدولة كما لو أنها عقار خاص، يتوارثه الأبناء عن الآباء، ويرى كل جناح بأن له حقاً إن أعطيه وإلا ركب أعجاز الإبل. ولذلك، فإن صراع الأجنحة في العائلة المالكة مرتبط تكوينياً بنزعة التمّلك لدى كل جناح حيال الدولة، والجميع يتصرّف على أساس أن الآخرين، أي المواطنين، ليسوا أكثر من مجرد رعيّة تابعة ملحقة، لا يجوز لها أن تطلّع على شؤون الملك، لأنها بذلك تتدخّل فيما لا يعنيها، وتدسّ أنفها في غير أمورها.

ـ إن صراع الأجنحة في المملكة يكاد يكتسب صفة الثبات، فمنذ أكثر من ثلاثة عقود، والناس ووسائل الاعلام لا تعرف صراعاً على السلطة إلا بين جناحي الملك عبد الله (منذ كان رئيساً للحرس الوطني ثم ولياً للعهد) والجناح السديري (أو ما كان يعرف سابقاً بالسديريين السبعة). صحيح أن عدد المتصارعين تقلّص خصوصاً في الجانب السديري، وصار محصوراً بين ثلاثة (الأمير سلطان، والأمير نايف، والأمير سلمان)، إلا أن الثلاثة أورثوا أبناءهم تركة صراع قابلة للتوظيف في صراع أجنحة مستقبلية، ويمكن تخيّل كيف تكون علاقة على سبيل المثال الأمراء متعب بن عبد الله، وخالد بن سلطان، ومحمد بن نايف، وفهد بن سلمان، فضلاً عن الأمراء الآخرين من أبناء الأمراء الكبار أو أبناء الملك فهد مثل محمد بن فهد، وعبد العزيز بن فهد، وأبناء فيصل (خالد وتركي وسعود)، ومن بقي من أعضاء الجيل الأول (أصغرهم سنّاً الأمير مقرن بن عبد العزيز رئيس الاستخبارات العامة)..ولكن سيبقى الصراع في قادم السنوات بين نفس الأجنحة، على مستوى الأبناء.

ولكن ما هو متوقّع في المرحلة المقبلة، والتي نقترب من بدايتها بوتيرة متسارعة أن يكون صراع الأجنحة ليس بطابع ثنائي، بل بطابع متعدّد، وقد يستقطب أجنحة جديدة كانت مهمّشة في السابق، أو أخرى تخشى أن يطالها التهميش في لحظة ما، أو لشعورها بأن لها حقاً مكافئاً للأجنحة الأخرى فتخوض الصراع على هذا الأساس. في نهاية المطاف، ستتسع رقعة صراع الأجنحة دون ريب، وستعكس نفسها على خارطة التحالفات الداخلية والخارجية (إقليمياً ودولياً).

ـ من وجهة نظر واقعية، لا يبدو مشهد صراع الأجنحة في المرحلة المقبلة سهلاً ولا سلساً، وأن صراع الأبناء القريبين من مرحلة التأسيس يختلف تماماً عن صراع الجيل الثالث الذي ورث السلطة دون عناء، أو إحساس بعناء من سبق، ولا يبدو أن الأبناء الذين أسرفوا حد السفه في الانغماس في الملذات يدركون ما يجب عليهم فعله كيما يؤجّلوا قدر مملكتهم، أي انفراط عقدها، وتناثر أجزائها.

إذاً، فإن صراع الأجنحة في السعودية متوارث كتوارث السلطة نفسها، ولا نجد له مثيلاً في دول أخرى، تعيش صراعات أجنحة ولكن لا على قاعدة نقل الصراع من الجيل السابق الى الجيل اللاحق، إلا إذا كان هناك صلة وثيقة بين الجيلين.

ـ كانت العائلة المالكة تحرص في السابق على الحيلولة دون تحوّل صراع الأجنحة الى فوضى تؤول الى انفلات السيطرة على الحكم، فكانت تبقي قبضتها محكمة على مصادر المعلومات، وحتى الذين كانوا يتبرّمون من سلوك إخوانهم، أو يجهرون بتذّمرهم من بعض القرارات (كما في موقف الأمير طلال بن عبد العزيز من تعيين الملك عبد الله الأمير نايف نائباً ثانياً لمجلس الوزراء)، ما يلبث أن يكفّروا عن ذنب الجهر بالسوء، ويتمسّكوا بالمبدأ الجامع (الملك لآل سعود). لا ننسى أيضاً أن اقتصار صراع الأجنحة على طرفين يجعل إمكانية السيطرة على مصادر التسريب سهلة، ولكن الصعوبة تكمن في حال إتّسعت دائرة صراع الأجنحة وصار عشرات الأبناء داخل حلبة التنافس على السلطة، فكيف سينجح الأبناء في لجم مصادر المعلومات، إن لم تدخل الأخيرة كعامل جديد في صراع الأجنحة، ولكن تحت قيادة الأبناء.

من الواضح، أن الشكوك حول مدّة بقاء العليلين (الملك وولي العهد) على قيد الحياة، قد أشعلت بصورة مبكرة صراع أجنحة في عباءة العائلة المالكة، حيث يخوض الأبناء من الجيل الثالث في حياة آبائهم جولة تدريبية على صراع الأجنحة..وما يثير حقاً، أن الآباء لم يتخلوا عن مواقعهم، وخصوصاً الأمير نايف، بانتظار حسم مواقع مأمولة، فمن أدمن المؤامرات لا يأمن لأحد حتى لو كان إبنه المدلّل، وقد قيل قديماً (الملك عقيم).

الصفحة السابقة