ملف

العلاقات السعودية الروسية وإرث الحجاز المُحتلّ

(1-2)

نشأت العلاقات السوفياتية ـ السعودية صدفة! فقد احتل السعوديون الحجاز ووجدوا الروس هناك يبادرون فيهنؤون! وبعد ثلاثة عشر عاماً، وبعد فشل الملك السعودي في (بيع) الوجود الروسي في الحجاز مقابل مساعدات بريطانية، تمّ قطع العلاقات بين البلدين عام 1938 لتعود العلاقات من جديد بعد نصف قرن تقريباً أواخر الثمانينيات وبعد تفكك الإتحاد السوفياتي نفسه. ومنذئذ وحتى بداية سبتمبر 2003 لم تكن العلاقات بين جدة وموسكو متميزة بل كانت أقلّ من عاديّة، فهل هذا المختصر المبسط للعلاقات يمكن أن يتحوّل الى تحالف استراتيجي بين البلدين؟ وهل يفيد في حماية النظام السعودي الذي بدأ يترنّح بسبب المشاكل البنيوية ذات الإنعكاسات شديدة الخطر، والتهديدات الغربية الخارجية؟

الحجاز، كان محور النشاط السياسي بين موسكو والرياض. في هذا البحث الوثائقي استعراض للعلاقات السوفياتية السعودية بين عامي 1926-1938.

الروس يُهنئون

سقطت جدّة تحت وطأة الإحتلال في يناير 1926، ودخلها ابن سعود فوجد أن هناك تمثيلا دبلوماسيا رسميا راسخا منذ فترة طويلة، ووجد مؤسسات قائمة بالفعل، وسفارات وقنصليات وما أشبه. فرأى الملك السعودي أن يحتفظ بكل المؤسسات الهاشمية، وبكامل التنظيم الإداري في الحجاز، بما في ذلك العلاقات الخارجية مع كل من أقام علاقات مع الأشراف ممن لهم قنصليات في جدة، ومن بينها القنصلية الروسية.

لم تقلق القنصلية الروسية عبد العزيز ابن سعود حين دخل جدة واحتلّها، بل على العكس، كان القنصل السوفياتي أول من نقل اعتراف حكومته به ملكا على الحجاز في السادس عشر من فبراير 1926، طالبا في نفس الوقت أن يبقى هذا الاعتراف مكتوماً حتى تقدم بريطانيا اعترافها رسميا به! فالسوفيات الثوريون والتقدميون لا يريدون من خلال اعترافهم هذا أن يبدو في أعين أصدقائهم ومؤيديهم في العالم بمظهر من يسارع إلى مصافحة ملك رجعي استبدادي ثيوقراطي. وحتى مارس 1926، فإن الملك السعودي لم يحصل إلا على اعتراف شفوي كحاكم للحجاز من القنصلين الفرنسي الإيطالي.

ومهما كان السبب، فإن استغراب البريطانيين لم يعادله شدة إلا غضب الملك عبد العزيز، الذي أطلع أصدقاءه البريطانيين على الاعتراف الروسي وعلى الطلب الذي رافقه، ثم سارع إلى نشره في جريدة (أم القرى)، الصحيفة الوحيدة والرسمية التي خلفها الشريف حسين وابنه علي بعد رحيلهما، وذلك في 3/8/1344هـ الموافق 16/2/1926م، رغم طلب كريم حاكيموف، الممثل الروسي، عدم النشر. حسب أم القرى، قالت رسالة الإعتراف الروسية من حاكيموف: (إستنادا إلى أمر حكومتي.. لي الشرف بأن أعلم جلالتكم بأن حكومة الجمهورية السوفياتية، عملا بالمبدأ الأساسي المتعلق باستقلال وحرية الأمم، واحتراما لإرادة شعب الحجاز التي عبر عنها في بيعته لجلالتكم ملكا على الحجاز، تعترف بجلالتكم ملكا على الحجاز، وسلطانا على نجد وملحقاتها. وبناء على ذلك، تعتبر الحكومة السوفياتية نفسها أنها تقيم علاقات دبلوماسية طبيعية مع حكومة جلالتكم).

في أول قضية بعد احتلال جدة جاء أنه في بداية شهر فبراير 1926م، انزعج البريطانيون من تقارير وردتهم حول شخص تركي بعثته حكومته لليمن، يقول الإنجليز أنه يهدف إشعال الفتنة فيه ضد الإنجليز، وأن هذا التركي سيحاول إقناع ابن سعود بأن يشعل الأزمة في عدن ضد البريطانيين للتغطية على هجوم متوقع سيشنه الأتراك على الموصل في العراق.. وتقول وثائق الإنجليز بأن الشخص لتركي ويدعى (راغب بيك) على اتصال بحاكيموف القنصل الروسي في جدة، ومن خلال الرسائل مع تشيكيرن. وأخيرا يتبين أن راغب مكلف بترحيل الموظفين الأتراك من اليمن ليس إلا.

لقد بدأ التحرك البريطاني مبكراً مستهدفاً وبصورة مباشرة اقتلاع القنصلية الروسية بالدعايات والإشاعات والتلميحات لابن سعود بأن يضيق على الروس لأنهم يثيرون الدعايات ضد البريطانيين، أو لأنهم يلوثون عقول الحجاج بالعقيدة الشيوعية!

في 15/3/1927 نشرت صحيفة أم القرى الرسمية بلاغاً جاء فيه نفي لأخبار عن نشاطات شيوعية بين الحجاج! نشرتها صحف مصرية على علاقة بالإنجليز، وقال البلاغ أن تلك الأخبار عارية عن الصحة وأن النشاطات الشيوعية (غير موجودة في أي جزء من أجزاء الحجاز) وأن حكومة الحجاز (السعودية!) كتبت إلى الحكومة الهولندية، تطلب إجراء التحقيق للتعرف على مصدر هذه الإشاعات الكاذبة. وقد تلقت حكومة الحجاز رد القنصل الهولندي بعد إجراء التحقيق المناسب، وهو ينكر الأمر كله، ويبين أنه لا المفوضية الهولندية في مصر، ولا أي فرد من عناصرها، قدم تقريرا بهذا المعنى. وقد علق مائير، القائم بأعمال القنصل البريطاني في جدة على البلاغ السعودي بأنه (إنذار للروس، وطمأنة للدول الكبرى الأخرى. ويمكن النظر إليه على أنه إنذار للروس).

في حج عام 1927 أخّر حاكيموف، الممثل الروسي في جدة إجازته السنوية بسبب موسم الحج، حيث كان مؤملاً أن تأتي أعداد كبيرة من الحجاج الروس، قيل في البداية عشرة آلاف حاج، ثم خفض الرقم الى أربعة آلاف ثم ألفان! الأمر الذي جعل الممثل منزعجاً من حكومته التي خذلته. كان مخططا أن يكون هناك معرض روسي تجاري، وقبل أن تصل سفينة الحجاج الروسية، قدم القناصل البريطاني والهولندي والمصري إلى وزير الخارجية السعودي احتجاجات شديدة اللهجة محذرة من النشاط الشيوعي! فأكد لهم وزير الخارجية فيصل بأن الأفكار الشيوعية لن تنتشر بين الحجاج، ووعد بأن يفرض مراقبة شديدة ودقيقة للغاية. حتى السفينة التجارية الروسية التي حملت معرضاً للبضائع الروسية، رفضت سلطات الجمارك السعودية السماح لها بإنزال نحو مائة صندوق من البضائع دون تفتيشها.

ولأن المسألة لا تعدو مبالغة بريطانية ضد منافسة الروس، كتب القنصل البريطاني الجديد حينها (ستونهيور بيرد) الى رؤسائه في 1/8/1927 (ليس هناك من سبب للاعتقاد بأن الحجاج الروس الأربعمائة قد نجحوا في إدخال أية دعاية بولشفية، أو أنهم حتى قاموا بمجرد محاولة في هذا السبيل، وما أطلق عليه اسم: المعرض التجاري.. لم يكن ناجحا، فقد عرضت فيه نماذج من المنتجات الروسية بالذات، مثل السماور والكافيار، إلا أن معظم المعروضات كانت تباع في السوق العامة.. مئات الياردات من الأقمشة التي لا يمكن أن تباع في هذا الوقت من السنة، وكميات هائلة من الدقيق التي لاقت رواجا فوريا).

السلطات البريطانية والهولندية تعتبر أي نشاط معادٍ للإحتلال البريطاني عملاً شيوعياً، وكل من يحرض على الثورة ضد الإحتلال شيوعياً حتى وإن جاء على ظهر مراكب السفن للحج! والشيوعية في تلك الأيام مثل حكاية الإرهاب هذه الإيام، تلبّس كلّ من يعادي الإحتلال والعدوان. لقد تم القبض في حج 1927 على تسعة جاويين في جدة قيل أنهم شيوعيون! اقرأ ما كتبه ستونهيور مبالغاً حول الأمر: (أحدث اعتقال الشيوعيين العتاة ـ راجندا تانجسي، ومحمود صالح مردم، ومعهما سبعة آخرون ـ اهتماماً بالغاً ومثيراً يوم تم الاعتقال في 4/يونيو/1927م، وقد ثبت أنهم كانوا ينشرون الأفكار التحريضية بين مواطنيهم، حتى أنهم حاولوا إقامة مطبعة خاصة بهم لتسهيل نشر الدعاية الشيوعية)!

في أغسطس 1928م غادر حاكيموف جدة متوجها إلى موسكو، وليس في نيته العودة إلى جدة. والسبب كما يقول زميله البريطاني: (إن تردده في الاستمرار بعمله أمر ممكن فهمه بسهولة، فهو من مواطني سيبيريا، ولم يكن يملك اللياقة الصحية لتحمل الطقس هنا، كما فقد إبنا صغيرا من أبنائه في جدة، وإضافة إلى ذلك فقد كان حاكيموف يبدو غير قادر أن ينجز عملا ما باعتدال: فهو إما أن يسكر حتى يصل إلى حالة الإنهيار العصبي، أو يمتنع نهائيا عن تناول المسكرات. ما عدا ذلك.. كان حاكيموف شخصا لطيف المعشر، مرحا، وسيُفتقد حضوره في جدة)!

هل يمكن بيع الوجود الروسي في جدة؟

توصل الملك عبد العزيز إلى قناعة مفادها أن الإنجليز راغبون في وضع حد للوجود السوفياتي في الحجاز، وقرر بناء على ذلك، أن يبيع هذا الوجود إلى بريطانيا! أرسل مستشاره الشخصي حافظ وهبة (وهو مصري الأصل) إلى القاهرة لمقابلة اللورد لويد المندوب السامي البريطاني في مصر، وعرض عليه العمل معاً لكسر شوكة النشاط الروسي في الحجاز.. سُرّ البريطانيون كثيرا لهذا العرض، وبدأوا يعدون العدة لإرسال كشوف سرية بأسماء من كانوا يقومون بمثل هذه النشاطات (البولشفية المعادية لبريطانيا) إلى ابن سعود كي يتولى تصفيتهم. تقول وثيقة بريطانية مؤرخة في 19/1/1928 (ألمح حافظ إلى أن ابن سعود ربما يكون مستعدا لأن يبعد كل النفوذ البولشفي من الحجاز مقابل اتفاق مرض، للحيلولة دون تنامي النفوذ الإيطالي في اليمن).

لقد كان النشاط الروسي وهماً متضخماً في أذهان الإنجليز، فأراد الملك السعودي البارع في لعبة السياسية أن يبيعهم ذلك الوهم، فما هو الثمن؟ لقد كتب ابن سعود رسالة الى لويد ألمح فيها الى العروض التجارية المغرية الروسية، وكأنه أراد القول بأنه سيرفضها إذا ما حصل على دعم بريطاني. هذا ما فهمه مسؤول قسم السعودية في الخارجية البريطانية، فالملك (على استعداد فعلي للحد من نشاطات البولشفيك التجارية، ولمقاومة الدعاية البولشفية في ممتلكاته، مقابل مساعدات يتلقاها من الحكومة البريطانية).

ورأى وزير الدولة البريطاني، بأنه لا يتوقع إلا القليل من الخطر على المصالح البريطانية، نتيجة التغلغل البولشفي في شبه الجزيرة العربية، إلا أن الفرص التي يتيحها موسم الحج لتسريب الدعاية المضادة لبريطانيا بين الحجاج، هي مصدر خطر حقيقي، كما أن هذه الفرص تشكل خطرا على ابن سعود نفسه. ولم يشك الوزير في قدرة ابن سعود على كبح جماح النشاطات البولشفية في أراضيه، إذا ما وجد أن القيام بمثل هذا الإجراء سيكون في صالحه. كان الرأي الأولي لدى الخارجية البريطانية يفيد بلا ممانعة من جهة (أن يعرض على ابن سعود شكلاً من أشكال التسهيلات التجارية والمالية، خاصة فيما يتعلق بالإمدادات العسكرية، والتي ستشكل إغراءاً إضافياً بالنسبة له).

في خضم النقاشات حول ثمن القضاء على الوجود الدبلوماسي الروسي، قال بعض السياسيين البريطانيين أن ما يفعله الملك تجاه الروس هو رد جميل لما فعلته الحكومة البريطانية لابن سعود ودعمه في إقامة مملكته، وهذا ما قاله وهبة للورد لويد. لكن القنصل في جدة كتب تحليلاً وأرسله في 9/4/1928 قال فيه: (أرى أن الملك ابن سعود يحاول جاهدا أن يجني ثمارا كبيرة من موقفه تجاه البولشفية، وذلك بخلق الانطباع بأن الإجراءات الحازمة والقوية التي اتخذتها حكومة الحجاز مؤخراً.. إنما تمت خدمة للمصالح البريطانية، ورغم أنه مما لا شك فيه أن الإجراء وتوقيته كانت تحدوه رغبة بعدم القيام بعمل يتعارض مباشرة مع مصالح بريطانيا.. رغم هذا فإن للملك أسبابه القوية والكافية الخاصة به للقيام بهذا الإجراء). من هذه الأسباب ما يتعلق بتجار جدة: (إن التجار الحجازيين، والذين يمارسون نفوذا كبيرا بالفعل، نتيجة استعدادهم ـ وإلى حد كبير ـ لدعم خزينة جلالته الفارغة تقريبا وقت الحاجة، يقيمون مكاتبهم الرئيسية في بومباي غالبا.. ولهذا فإنهم سيفقدون الكثير إذا ما تحول خط سير التجارة من الهند إلى أي بلد آخر. ثم إن محاولة السوفيات إدخال سلع مثل الدقيق والسكر بأسعار تنافس تلك التي تباع بها المستوردات الهندية، قد قوبلت بأشد المعارضة من جانب التجار المحليين، وقد عزز من معارضة هؤلاء.. كون أهم شخصية بينهم هو حاكم جدّة نفسه).

أما السبب الثاني فيتعلق بموسم الحج نفسه: (ربما يبدو للوهلة الأولى أن تلوث الحجاج بالدعاية الشيوعية خطر يجب أن يقلق حكومات الهند، وجزر الهند الشرقية الهولندية، وماليزيا، ومصر، أكثر مما يقلق ابن سعود نفسه.. إلا أن مجرد الشك في أن يكون الحجاج قد تشربوا سم العقائد والأفكار الشيوعية سيكون كافيا ليبرر سحب الحكومات المتضررة للموافقات والدعم الخاص الذي تقدمه للحج، وقد أكدت مرارا في تذكير وزير خارجية الحجاز بهذا الأمر، وأنا على قناعة بأن الملك متيقظ لمخاطر تلاشي شعبية الحج، إذ ليس فقط يعتمد ازدهار الحجاز على موسم الحج، ولكن وجود الحجاز بحد ذاته يعتمد عليه أيضا). وفي ختام تقريره يوضح بيرد أن: (الممثل السوفياتي لا يخفي خيبة أمله للنتائج الهزيلة التي تحصل عليها مفوضيته من إقامتها في الحجاز. كما أن آخر محاولات وجهود السوفيات لكسب الود والنفوذ عن طريق إدخال وتوزيع المواد الغذائية الرخيصة، قد قوبلت بنفس الصد الحاسم والقاطع).

ويعترف بيرد بأن (الوصول إلى الحجاج هو أصعب مما يبدو بكثير.. فمنذ لحظة وصولهم إلى جدة، يدخلون كل حسب جنسيته.. تحت إشراف المطوفين أو وكلائهم، ولا يستطيع أي شخص من جنسية أخرى أن ينضم إلى غير مجموعته، كما أن أي محاولة يقوم بها أي شخص غير مخول لزيارة تلك المجموعات من الحجاج، ستنكشف في مكة على الفور، حيث تكون عملية الرصد والمراقبة الدقيقة سهلة، نتيجة تجميع كل الحجاج في منازل قريبة من الجامع. ومع هذا، قد تحاول المفوضية السوفياتية بالطبع، اتباع طرق أخرى غير تسميم عقول الحجاج، للمساهمة في إقلاق راحة وسلام العالم)!

في هذه الأثناء ورد خبر بأن بأن الحكومة السوفياتية تقترح إرسال كمية كبيرة من البترول والدقيق والسكر والمواد التموينية الأخرى إلى جدة خلال موسم الحج لتوزيعها مجانا على الحجاج، وذلك لدعم جهود الدعاية، وإضافة إلى ذلك فقد تم الإعداد لإرسال بعثة من اختصاصيّي الدعاية، اختيروا خصيصا، مع هذه المواد التموينية للعمل بين الحجاج. أرسلت هذه المعلومات الى ستونهيور بيرد في جدة في 21/2/1928 ليتخذ اللازم. رد بيرد من جدة في 6/ 3/ 1928م قال فيها: (أعتقد أن السلطات المحلية يمكن الوثوق بها بأن تقوم بوضع العراقيل في عجلات الخطة السوفياتية، سواء فيما يتعلق بالتوزيع المجاني للمؤن الغذائية، أو بإنزال غير المرغوب فيهم في جدة. فيما يتعلق بتوزيع المؤن.. فإن احتمالات السماح بذلك قليلة أو معدومة، لأنه يتعارض مع أرباح القائمقام، والذي يعد أكبر تاجر هنا.. إضافة إلى كونه حاكم جدّة. وفيما يتعلق بنزول اختصاصيي الدعاية إلى الشاطئ، فقد أكد لي الدملوجي ـ مسؤول الخارجية ـ في حديث سري خاص، أنه إذا ما أمكن معرفة أي شيء محدد ضد أي روسي، فإنه لن يسمح له بالنزول من السفينة. والحكومة هنا في موقف قوي جدا بالفعل، فيما يتعلق بالرعايا السوفيات). ويضيف بيرد بأنه سيذكر الدملوجي بوعده إذا ما اقتربت الباخرة الروسية، وأنه سيهدده بمنع الحجاج الهولنديين والبريطانيين (أي الهنود والأندونيسيين).

وفي الجملة كان رأي القنصل بيرد أن (لا داعي للخروج عن سياستنا بأن نقدم لابن سعود أي مكافأة خاصة بالمقابل، إن استعداد الهند لحجب تشجيعها الناس من أداء فريضة الحج، يحتمل أن يكون أقوى عامل حث خارجي للحكومة الحجازية على إيقاف مثل تلك الدعاية في الحجاز). لكن وزير الخارجية حين سمع وجهات النظر كلها، رجح أن الإغراءات الكثيرة التي تقدم لابن سعود قد تتغلب على علاقاته الودية مع بريطانيا.

لقد رأى الملك السعودي التعاطي مع الملف السوفياتي بشكل مبهم وغامض، فهو لا يريد أن يبدو وكأنه يهدد به لاستحصال دعم بريطاني مالي، ولا يريد أن ينهي الوجود الروسي بلا ثمن، كما لا يريد أن يكون شديد الصراحة والإلحاح في الطلب، بل اعتمد حسب ما قيل على الكرم البريطاني، ولكن الإنجليز البخلاء هم الذين دفعوا ابن سعود دفعاً ليعلن ما يريده بالتحديد.

التقى فؤاد حمزة، القائم بأعمال وزير الخارجية السعودية بالقنصل البريطاني في جدة، وأوضح السياسة التي يتبناها السعوديون تجاه الحكومة السوفياتية ودوافعها. تتلخص رؤية السعوديين حينها ـ كما يشير بيرد في رسالة منه الى رؤسائه في 9/2/1929م ـ بأن (الملك يدرك تماما أن الحجاز يمكن أن يكون بسهولة مركزا للدعاية المضادة لبريطانيا من قبل المعتمدين السوفيات، الذين قد يحاولون زرع أفكارهم وآرائهم في عقول الهنود من الحجاج، وبناء على ذلك تلقت حكومته تعليمات صارمة لمراقبة تحركات المعتمدين، والتأكد من أنه لا تجري أية دعاية ضد بريطانيا العظمى). ورأى فؤاد حمزة بأن من مصلحة بريطانيا وابن سعود مراقبة النشاط السوفياتي بعناية كبيرة، كما طمأن بيرد بأنه ليس هناك ما يخشى على هذا الصعيد. ولكنه استدرك بأن الحكومة السوفياتية طورت مخططا أكثر مكرا ودهاء لكسب ود الشعب والحجاج في الحجاز، ولتقويض المصالح البريطانية، وذلك بإرسالها إلى الحجاز شحنات من المنتجات الزراعية والسكر والدقيق وغير ذلك، لبيعها بأسعار أقل بكثير من تلك المتداولة في السوق للسلع المشابهة والمستوردة من الهند. وأضاف بأنه (حتى الآن يقوم الملك ابن سعود بوضع كل العراقيل الممكنة في طريق تفريع وبيع البضائع السوفياتية في الحجاز، وآخر مثل على ذلك هو حادثة الباخرة السوفياتية كوميونيست التي وصلت إلى جدة وهي محملة ببضائع كثيرة.. فقد غادرت جدة دون أن يسمح لها بتفريع كيس واحدة).

وتابع فؤاد حمزة، أنه من وجهة نظر الملك السعودي فإنه (كان يتصرف بهذا الشكل ضد مصلحة البلد التجارية، بمنعه استيراد السلع الرخيصة، كما كان يعرض نفسه لانتقادات الحجاج الذين كانوا يطالبون بدفع أسعار أعلى ثمنا للمنتجات الهندية. لقد كان هدف الملك الوحيد من اتباع هذه السياسة، رغبته في أن لا يفعل شيئا قد يضر بالمصالح البريطانية بأي صورة من الصور.. وفي نفس الوقت لم يكن الملك مرتاح الضمير، لأنه بعمله هذا إنما يسبب خسارة مادية لشعبه بالذات).

وهنا بالضبط قال فؤاد بأن إخلاص وولاء الملك للصداقة المديدة مع بريطانيا العظمى تتطلب دليلاً (على تقدير الحكومة البريطانية لهذا الموقف. وذلك بالتعويض عن الخسارة المادية التي تسببها سياسته للبلاد). وحين سأل بيرد فؤاد حمزة عن الشكل الذي تقدر به بريطانيا ابن سعود (أجاب فؤاد بأن الملك يترك ذلك لكرم الحكومة البريطانية، وعبر عن رغبته في تحاشي أي مظهر من مظاهر المساومة، ولكنه يتمنى ان تكون الحكومة البريطانية مدركة تماما بأن سياسته الحالية التي يتبعها خدمة لمصالح بريطانيا العظمى إنما تعود بالربح على الحكومة البريطانية وبالخسارة عليه، وهو ـ أي الملك ـ على يقين من أن الحكومة البريطانية ستدرك عدالة مطلبه بأن يعدل التوازن حتى يستطيع البرهنة لشعبه بأن بعض الفائدة قد عادت عليهم من رهانه على صداقته لبريطانيا).

ومارس بيرد مزيداً من الضغط على فؤاد حمزة ليحدد بصورة أكبر ما يطلبه الملك (قال إنه يعتقد بأن عقد معاهدة تجارية، يكون فيها ميزان الفائدة في مصلحة الحجاز، سيفي بالمطلوب، إلا أن الملك كان يرغب بأن يأتي الاقتراح من جانب الحكومة البريطانية). لم يجب بيرد بسوى وضع آراء الملك أمام مسؤوليه لتقرير ما يفعلونه.

وإذا كان فؤاد حمزة قد طلب عقد اتفاقية تجارية لصالح ابن سعود كثمن لتصفية الوجود الروسي، فإن حافظ وهبة طلب إعادة راتب الدعم السنوي الذي كان يبلغ نحو 60 ألف جنيه استرليني. لقد طلب اللورد لويد من القاهرة من حافظ وهبة أن يحدد بالضبط ما يريده الملك السعودي ثمناً لإنهاء الوجود الروسي في الحجاز، وقد تلقّى لويد ردّاً وصفه في رسالة منه الى أوستن تشامبرلن في خارجية لندن في 22/3/1928، بأنه ردّ قصير ومبهم. وكان حافظ وهبة قد أسرّ لمسؤول الإستخبارات في السفارة البريطانية وبصراحة كاملة بأن (ما يريده ابن سعود هو راتب دعم شهري أو سنوي، وأن وضع الملك ضمن واقع الأمور الحالي في شبه الجزيرة العربية يزداد صعوبة، ثم يشرح حافظ الأمر بأن البدو وقبائل نجد يعيشون على الغزو والاقتتال، ولكن هذا انتهى بعد سيطرة الملك على معظم البلاد، ولم يعد مسموحا له أن يهاجم الدول شمالا أو شرقا أو جنوبا، لأن كل هذه الدول واقعة تحت الانتداب أو الاحتلال البريطاني المباشرين.. وهكذا لا بد من فعل شيء لإرضاء العناصر القبلية الجائعة وغير الخاضعة للقوانين.. إن أكثر ما يبقي القبائل خاضعة للنظام هو الهدايا والكرم السخي.. ومن سوء الحظ فإن موارد ابن سعود المالية ضحلة وضئيلة، ومما لا شك فيه أنه يواجه ضائقة مالية كبيرة، ثم أضاف الشيخ منهيا حديثه، بأن راتب الدعم السابق الذي كان يدفع لابن سعود، لن يكلف الحكومة البريطانية وحكومات الانتداب، إلا أقل من النفقات التي يستلزمها نقل القوات والطائرات والسيارات المدرعة وغير ذلك من الإجراءات الدفاعية ضد قبائل نجد الجامحة، والتي يواجه ابن سعود حاليا مصاعب كبيرة في التحكم فيها وضبطها). لكن وهبة (لم يُعطَ ـ بالطبع ـ أية تشجيعات بحيث يتوقع أن تجدد بريطانيا دفع راتب الدعم لابن سعود).

خلال هذه الفترة مرض حافظ وهبة وأجريت له عملية جراحية في القاهرة، وفي بدايات عام 1929م عاود الإتصال حول الموضوع، وجاء برسالة من الملك الى اللورد لويد المندوب السامي البريطاني في القاهرة، تطالب بتسهيلات ومعاهدة تجارية. نص رسالة ابن سعود (26/6/1347هـ) واضحة صريحة يقول فيها: (إن العديد من الدول الأجنبية منهمكة في الحجاز لطرد التجارة البريطانية وتأمين أسواقنا لصالح تجارتها، وأعظم هذه الدول نشاطاً هم السوفيات.. وكما كنّا قد أعلمناكم في العام الماضي، حاولنا دحر نشاطاتهم.. ومنعهم من تحقيق أهدافهم، على أمل أن تعقد حكومة بريطانيا معنا معاهدة تجارية، بحيث تحصل حكومتنا وشعبنا على بعض المزايا مقابل مقاومتهما للنشاطات السوفياتية، إلا أن الحكومة البريطانية لم تُعْر القضية أي انتباه، ولم تدخل في أية مشاورات معنا. وفي هذا العام.. عاد السوفيات إلى الهجوم، ولا هدف لهم إلا طرد البضائع البريطانية، والحلول محلها ببضائعهم، ليس فقط في الحجاز ولكن في اليمن أيضا، وربما وراء وأبعد من ذلك، ولقد قاومناهم حتى الآن). وأضاف الملك: (نود أن نعرف بكل صراحة ووضوح، ما هو الثمن الذي ستكون الحكومة البريطانية على استعداد لمنحه لنا مقابل حمايتنا للتجارة البريطانية في بلادنا، ومقابل عرقلتنا لتجارة الأقطار الأخرى، وخاصة السوفيات؟ إذا كانت الحكومة البريطانية مهتمة بهذه القضية، فإننا نطلب أن تشرع في مفاوضات معنا.. وإذا لم تكن القضية تهمها كثيرا، فإننا لا نرغب في إزعاجها بأي أمر، إلا إذا كان ذا أهمية بالنسبة لها).

رأى اللورد لويد صعوبة في عقد معاهدة خاصة بابن سعود لا تثير الدول الأخرى بمزاياها الخاصة. واحتمل لويد أن يكون الملك السعودي يريد أمراً آخر له علاقات بثورة الإخوان وضد الأردن والعراق الهاشميين، وهو ربما يبحث عن دعم وتعاطف بريطاني على شكل راتب دعم وأسلحة وذخائر أو الحدّ من نشاطات الأشراف. لكن رسالة ابن سعود رغم وضوحها وجدت غامضة الى حد ما أيضاً، فلربما ـ كما يقول لويد ـ كان الملك يحاول اكتشاف إمكانيات تحالف مع الإنجليز أكثر شمولاً. وحين ناقش لويد مع وهبة رسالة الملك في 3 يناير 1928 والمصاعب التي تواجه أية اتفاقية تجارية تقوم على التمييز بين دولة وأخرى، طلب منه (أن يحاول جاهداً في التأكد وبدقّة أكبر، مما يدور بخلد الملك ابن سعود).

أيدت الخارجية البريطانية رأي لويد، وطالبت بإيضاحات أكبر من الملك السعودي عمّا يريده. لكن أحد المسؤولين في الخارجية البريطانية أيد تفضيلاً للسعوديين في معاهدة تجارية تستطيع مجرد (التأمين) ضد أية محاولات روسيّة للحصول على معاهدة مع الحجاز تكون في صالح السوفيات. وقد رأى وزير الخارجية البريطانية أوستن تشامبرلين أنه ليس هناك ضرورة للرد على رسالة ابن سعود إلى أن يحصل حافظ وهبة على معلومات إضافية حول الطلب السعودي، وسأل عن رأي وزارة المستعمرات التي ردّ وزيرها المستر اميري بأن إحياء فكرة راتب الدعم ليست مفيدة، واقترح رداً (يطمئن ابن سعود الآن، بأنه إذا ما أخذ بمهمة معالجة الوضع على عاتقه، فسيسر حكومة جلالة الملك البريطاني بأن تتعاون معه، بأن تزوده بكل المعلومات التي يمكن أن تتوفر لديها حول وجود العملاء البولشفيك، أو الأشخاص ذوي الآراء البولشفية المعلنة والمتوجهين إلى الحجاز تحت قناع الحجاج. ونقترح أنه لكي يتخذ هذا العرض أهمية أكبر، يمكن أن يقدم مرفقا باقتراح عقد معاهدة تجارية مع الحجاز).

لم يؤيد وزير الخارجية مفردة تزويد ابن سعود بأسماء الشيوعيين حتى يقوم بتصفيتهم! لأن الملك السعودي غير مهتم بالأسماء وإنما بالحصول على المال أو عقد معاهدة تجارية، ثم إن هناك خطر تسريب الأسماء الى القنصلية السوفياتية عبر مستشاري ابن سعود.

الإنجليز: لا لتعيين سفير سوفياتي في جدة

تضخم الخطر السوفياتي في الحجاز في أذهان المسؤولين في خارجية لندن، ومارسوا أقصى ما لديهم من وسائل لإنهاء الوجود الروسي في الحجاز، ولكنهم ـ ونظراً لبخلهم ـ لم يحققوا مبتغاهم إلا متأخرين. ووصل التدخل الإنجليزي الى حدّ محاولة منع تعيين سفير سوفياتي جديد خلفاً لحاكيموف. ففي شهر مارس 1928م، وصلت معلومات سرية إلى الخارجية في لندن، تفيد بأن الروس يريدون تعيين (ليون إلكونين) قنصلاً لهم في جدّة، يحلّ محلّ حاكيموف، وعلى الفور أوصلت معلومات عن السفير الجديد الى ابن سعود عبر القنصل بيرد في الخامس من مارس 1928م، مرفقة بطلب الى القنصل بأن يضغط على الحكومة السعودية لتمنع بقوة قبول اعتماده، وأن يحذر ابن سعود من قبول ذلك.

أبلغ بيرد مسؤول الشؤون الخارجية السعودية بالموقف، وحذره بأن الحكومة البريطانية وكذلك المصرية (التي تديرها بريطانيا!) ستنظر بعين التخوف والقلق من تعيين الكونين. ثم قدّم بيرد مذكرة مكتوبة جاء فيها: (لي الشرف بأن أؤكد مضمون الحديث الذي أجريته مع سعادتكم، ومع مساعد وزير الخارجية، حول موضوع ليون إلكونين. لقد كان هذا الشخص عضواً في عصابة شيوعية في القاهرة، وقد أمضى فترة في السجن في مصر، حيث أطلق سراحه عام 1927م. وقد علمنا من مصادر موثوقة بأن الكونين سيعين في المعتمدية السوفياتية في جدّة. كما تلقيت تعليمات من حكومة جلالة الملك (البريطاني) بأن أنقل هذه المعلومات إلى سعادتكم، وأن أبين بأن حكومة جلالة الملك، وحكومة مصر، تنظران إلى هذا التعيين بعين التخوف والقلق).

أحدثت الرسالة استياء لدى بعض مستشاري ابن سعود، ولكن الملك لم يبد أي شيء من ذلك.. بل بعث بوزير الخارجية ـ العراقي الأصل ـ عبد الله الدملوجي، ليتفاهم مع القنصل حول موضوع رسالته وما أحدثته من استياء، نظرا لأن الإنجليز يريدون أن يفرضوا إرادتهم على شعب الحجاز، فأنكر القنصل أن يكون الهدف هو فرض الإرادة!. وبعد اللقاء كتب الدملوجي رسالة ردّ إلى القنصل، بعد ان تفاهم معه على صيغتها!

يشرح القنصل بيرد ذلك في رسالة كتبها لرؤسائه في 2/6/1928، حيث جاء: (حضر الدكتور الدملوجي لمقابلتي في 21/5/ 1928، وأخبرني بأن مذكرتي قد تداولها مستشارو الملك بحضوره، وأنها أثارت قدراً لا بأس به من الاستياء. عبّرت عن دهشة كبيرة، لأنني لم أستطع أن أدرك ما هو وجه الاستياء في هذه الحالة. رد الدملوجي بالقول: إن الجملة الأخيرة يمكن فهمها على أنها أوامر إلى حكومة الحجاز بأن ترفض استقبال الكونين. ثم قرأ علي بيرد صيغة الرد المقترحة، والتي تؤكد حق الحكومة الحجازية، بأن تسمح لالكونين بالنزول، وأن تطرده فقط إذا كانت تصرفاته تبرر مثل ذلك الإجراء. قلت له إن إصدار الأوامر إلى حكومة الحجاز، أمر غير وارد. كل ما في الأمر أن الكونين شخص غير مرغوب فيه، ومن ثم فإنه من الواجبات البديهية على حكومة صديقة أن تحذر ابن سعود من الأخطار المحتملة نتيجة وجوده في الحجاز؛ وأن جملة: إن حكومة جلالة الملك تنظر بتخوف، إنما تستعمل في ظروف مشابهة في مذكرة توجه إلى أية قوة عظمى، وإنني عاجز عن فهم كيفية إمكان تحذير ودّي من بريطانيا أن يفسر كما يدّعي أنها قد فسر به، كمحاولة لفرض اتخاذ إجراء محدد أو معين. رد الدملوجي قائلا: إن الحجاز أمة في ريعان الشباب، ذات هضم ضعيف، وأن المذكرة التي لا شك أن فرنسا أو إيطاليا تستطيع هضمها بسهولة، هي أقسى من أن تهضمه معدة الحجازيين. رجوت الدكتور الدملوجي إلا يكون بهذه الدرجة المفرطة من الحساسية). إقتنع الدملوجي بحجج بيرد ووعد بمناقشة موضوع الكونين مرة أخرى مع مستشاري الملك قبل أن يبعث برده.

أما الردّ السعودي فوصفه بيرد بأن لا يعني إلا القليل، وربما لا يعني شيئاً. فمذكرة الردّ السعودية وصفت صياغتها بأنها (شاذّة وغير متّزنة) فقط لأنها لم تستجب للضغط البريطاني. ومع هذا قال بيرد بتحدٍّ: (إنني واثق تمام الثقة بأن حكومة الحجاز سترفض السماح لهذا العتي غير المرغوب فيه، أو لأي سيء سمعة آخر، أن يشغل منصبا في الحجاز). نصّ الرد السعودي كان مؤرخاً في 25/5/1928، وجاء فيه: (حول موضوع الروسي المدعو ليون إلكونين، لي الشرف بأن أبلغ سعادتكم بأنني قرأت مذكرتكم المذكورة أعلاه، وإنني أشكر سعادتكم لتقديم مثل هذه المعلومات. إلا أن حكومتي لا ترى من المناسب في الوقت الحالي، أن تتخذ أي إجراء ضد الرجل المذكور حتى يتوفر البرهان ـ حين يأتي إلى جدة ـ على أنه يستخدم موقعه الرسمي لأغراض غير قانونية).

وكان القنصل بيرد، وحين علم بقرب وصول سفينتين سوفياتيتين الى جدة، رأى من المناسب أن يذكر الدملوجي بتعهده بطرد ومنع أي سفينة روسية أو أفراد غير مرغوب فيهم من القدوم إلى جدّة. ولكن تبين أن إلكونين لم يكن على ظهر أي من السفينتين اللتين حملتا حجاجاً وأفرغت أكياساً من الدقيق والسكر، في وقت استعد فيه حاكيموف لمغادرة جدّة. المذهل في كلّ هذا، أن معلومات الإنجليز تبيّن خطؤها، وأن الشخص المعيّن مكان حاكيموف هو ناصر توراكولوف الذي لم تتوفر معلومات عنه لدى الإنجليز.

إن الحساسية السعودية كما اكتشفها بيرد، لم تكن إلاّ لدى بعض مستشاري الملك العرب الذين كانوا أكثر قومية من الملك السعودي نفسه، كفؤاد حمزة. ورأى بيرد أن بعضاً من مستشاري الملك دائبو البحث عن مبرر للهجوم على بريطانيا بحجة استقلال الحجاز، وعلى حرية التصرف بشأنه. ثقة الإنجليز كانت مطلقة في صداقة وولاء ابن سعود لهم، ورغم علمهم التام بأن المستشارين الذين يحوطونه، حتى ولو كانوا يرغبون وبشكل مطلق في إقامة علاقات مع الروس، فإن هؤلاء لن يؤثروا على قراراته. كان الإنجليز يتابعون بدقة الصراع بين مستشاري الملك، وتأثير ذلك على الوجود السوفياتي في الحجاز، مع أن كل المستشارين يؤمنون بشكل مطلق بالعلاقات مع بريطانيا وتوثيق الصلة بها؛ ولكن كان هناك بعض الشك في يوسف ياسين وفؤاد حمزة في أنهما يدفعان الملك لتوثيق العلاقات مع روسيا. ولذا تجد أن استقالة الدملوجي الموالي الأكبر للإنجليز ترتبط مباشرة بالعلاقة مع الروس، بسبب صعود نجم من سُمّوا بالعصبة السورية.

أما المصري حافظ وهبة، الذي بدأ نجمه يأفل لصالح السوريين فقد فتح قلبه لأحد موظفي الممثلية البريطانية في 10/9/1928، وعبر عن رأيه بأن النفوذ السوري بالغ الضرر والإساءة لابن سعود والحجاز، وهو يعتقد أن المستشارين السوريين يمارسان الضغط على ابن سعود كي يعقد معاهدات مع روسيا السوفياتية، ومع تركيا.. وهي معاهدات يعتبرها الشيخ حافظ عديمة الجدوى والفائدة بالنسبة للحجاز، ومقدر لها أن تعزل وتبعد الحكومة البريطانية.

تضخيم الخطر الشيوعي في الحجاز

هل هناك خطر سوفياتي يستحق كل هذه الضجة البريطانية؟!

يبدو أن القنصل البريطاني في جدة كان على دراية تامة بأبعاد الوجود السوفياتي في الحجاز ونشاطاته، ولذا كانت تقاريره أقرب إلى الحقائق من ملاحظات المسؤولين القابعين في لندن، والتي تتسم بالمبالغات الفجة، والتي تصور الوجود السوفياتي وكأنه بعبع كبير ومخيف. الإستثناء من كل هذا، هو لـ ج. رندل، أحد العاملين في الخارجية، القسم السعودي. ولأن القنصل البريطاني في جدة كان أكثر قربا من الأحداث في الجزيرة العربية، لذا ترى أن الكثير من تقاريره تحاول أن تهدئ من مخاوف المسؤولين في خارجية لندن تجاه الخطر الروسي، وفي أحيان كثيرة يرد فيها على المبالغات في التقارير التي تصل إلى هناك.

حين وقعت ثورة الإخوان عام 1928، حاول كبير المعتمدين البريطانيين في عمّان الربط بينها وبين الروس، وكأن الثورة الإخوانية ثورة شيوعية! وقد سأل هذا بيرد في جدة: هل تستطيع تأكيد الخبر القائل بأن المعتمد السوفياتي في جدة على اتصال مستمر بابن سعود عن طريق المراسلة، وأن نشاطاته الحالية ليست معدومة الصلة بالوضع بين العراق ونجد، والذي تأثر بسبب هجوم (الإخوان) الذين يشكلون العمود الفقري لجيش ابن سعود على الحدود العراقية.

وفهم بيرد جهل صاحبه فرد في 9 أبريل 1928: (إن كل المعلومات التي بحوزتي تميل إلى إثبات أن المعتمد السوفياتي بعيد كل البعد عن ودّ ابن سعود الذي ـ من جملة الأسباب العديدة ـ عبّر عن استيائه لكون عامل مناجم سابق هو الذي يقوم بدور المعتمد الدبلوماسي)! وأضاف: (لا أعتقد أن للبولشفيك أي تأثير على ابن سعود؛ فأهدافهم المعلنة وغير المعلنة تتعارض تعارضا مباشرا مع مصالح الملك والبلاد. أما أن يكون حاكيموف على علاقة بابن سعود عن طريق المراسلة.. فأمر محتمل، والمعتمدون الأجانب يخاطبون الملك مباشرة عن طريق المراسلة حول القضايا الهامة، وليس وزارة الخارجية، التي تنحصر مهامها ـ خاصة حين يكون الملك في الحجاز ـ حصراً شبه كامل في قضايا روتينية. فإن يكون المعتمد السوفياتي على علاقة مراسلة بابن سعود.. فذلك لا يقدم دليلا على أن موضوع المراسلة غير مناسب، وأنا لا أعتقد شخصيا بأن الأحداث التي وقعت مؤخراً في نجد ـ ثورة الإخوان ـ لها أي علاقة من قريب أو بعيد بالدعاية ونفوذ السوفياتيين). أيد ج. رندل بيرد ليثبت الرأي القائل (بأن الدعاية السوفياتية في الحجاز ليست مخيفة بالقدر الذي صورت به حتى الآن).

وقبل هذا في مايو 1928، التقى القنصل بيرد بكابتن سفينة بريطاني كان هو الآخر مشبع بالمخاوف من النفوذ السوفياتي وأعدّ تقريراً بذلك! فبيّن بيرد ما وصفه بالمبالغات الكبيرة خاصة وأن (كل عناصر المعتمدية السوفياتية في جدة لا يتجاوزون الستة، بمن فيهم الطبيب. أقررت بأن مخاوفه من احتمال تلوث الحجاج بالدعاية السوفياتية أمر طبيعي، ولو أنه وللعديد من الأسباب أقل خطورة مما يبدو).

مدير مخابرات حكومة الهند، الدكتور (بيتري) بعث في السادس من ديسمبر 1928م، تقريرا سريا عن النشاطات المبالغ فيها والمزعومة في الحجاز من قبل السوفيات، بعثه إلى القنصل بيرد في جدة، يطلب منه إبداء رأيه حوله. فكتب إليه القنصل بيرد رسالة بتاريخ 24 فبراير 1929م ردا لا يختلف عن آرائه التي أبداها سابقا، وقال إنه (لم يحصل أي سبب يدفعني إلى تعديل آرائي). وأضاف: (ستدركون أنني لا أرى أن السوفيات سيحصلون على موطئ قدم في هذه البلاد يمكن أن يضر بالمصالح البريطانية، فالحكومة الحجازية لا مصلحة لها.. كما لا مصلحة لنا تماما، في رؤية مكة تتحول إلى مركز للتآمر البولشفي).

ثم يحدد بيرد مصدر الخطر، في المطوفين الذين وصفهم بـ (الأوغاد) و(الأنذال) و(عديمي الضمير) و(المجردين من كل قيمة أخلاقية)؟! يبرر بيرد أوصافه غير المتزنة هذه (لأنهم يعملون تحت ستار الدين لاستغلال موسم الحج والحجاج لإرضاء أطماعهم وبأقصى طاقتهم). فإذا كان ذلك صحيحا، فهل استغلالهم للحجاج يضر مصالح الإنجليز؟!

الصحيح أن الحجاج الهنود حملوا قضيتهم الى الحجاج الآخرين للتعريف بها وتبيان مساوئ الإستعمار البريطاني. هذا هو كما يبدو سبب تحامل بيرد ضدهم. يقول: (إن الكثير من الحديث المعادي لبريطانيا وللغرب، يجري تداوله من قبل الحجاج الهنود، الذين يحملون آراء غير مرغوبة). لكنه ينبه الى المبالغات التي ترسم صورة صارخة الألوان تكفي لإعطاء انطباع خاطئ. وأوضح بيرد أن بعض الأسماء الهنود التي ذكرتها الإستخبارات لم تكن تتآمر مع ابن سعود ضد بريطانيا، وإنما هم رسل الملك يحاولون جاهدين أن يتقربوا من الأشخاص الذين يدافعون عن قضية ابن سعود في الهند قبل أي شيء آخر.. وهم بذلك يجتذبون أعدادا إضافية من الحجاج، وبالتالي عائدات أكبر إلى الحجاز. وحقق بيرد في الإسماء التي وردت من الهند فاكتشف أن ليس هناك ما يدل على قيام أي منهم بأية نشاطات يمكن الاعتراض عليها خلال موسم الحج الحالي.

إذن أين هو الخطر؟ يتابع بيرد: (أن خطر الوضع لا يكمن في الآراء التخريبية التي قد تنتشر بين جماهير الحجاج في الحجاز بواسطة المعتمدين السوفيات.. ولا من أبناء بلادهم، ولا من الأحاديث المعادية لبريطانيا والتي يتداولها بعض السياسيين غير المرغوب فيهم، وإنما من النشاطات التي يمكن أن يمارسها المطوفون. فمرشدو الحجاج هؤلاء هم في معظمهم من الأوغاد والأنذال، عديمي الضمير والمجردين من كل قيمة أخلاقية، والذين يعملون تحت ستار الدين لاستغلال موسم الحج والحجاج لإرضاء أطماعهم وبأقصى طاقتهم. وقد أدت الأنظمة الدقيقة والشديدة، المعمول بها في الحجاز، إلى إنضاب مواردهم تقريبا من العائدات والأرباح.. وقد يحاولون ـ نتيجة ذلك ـ البحث عن وسيلة لزيادة دخلهم من المصادر السوفياتية)!

ويوصي بيرد: (حين يزور ـ المطوفون ـ الهند بعد موسم الحج ليدوروا ويجولوا بحثا عن حجاج الموسم القادم، فإنه يتوجب أن تراقب تحركاتهم بحرص وعناية كبيرة جداً. من الواضح جدا أنه يستحيل ـ نظراً للطبيعة الدينية للحج ـ منع غير المرغوب فيهم من الهنود من زيارة الحجاز، كما لا يمكن ـ إلا في حالات غير اعتيادية ـ منع المطوفين من زيارة الهند.. ويستحيل أيضا على هذه المعتمدية تتبّع عن قرب تحركات جميع المشبوهين. إن نتائج أية دعاية ضد بريطانيا في الحجاز، أو أية نشاطات غير مرغوب فيها قد يقوم بها المطوفون، يمكن الحكم عليها أفضل حكم في الهند نفسها، حيث يمكن مراقبة غير المرغوب فيهم من العائدين، وكذلك الجوّالين الباحثين عن حجاج مراقبة دقيقة محكمة. فإذا ثبت نتيجة هذا الأشراف.. وهذه المراقبة، أن الحجاز يستخدم فعلا كمركز للدعاية المضادة لبريطانيا، فإنه يمكن عندها الاتصال رسميا بحكومة الحجاز بهدف اتخاذ إجراءات قوية، والتي تكون الحكومة السعودية ملزمة باتخاذها، بموجب المادة الثانية من معاهدة جدّة).

أيّاً يكن موقف المستشارين كما موقف البريطانيين، فإننا كلما حاولنا أن نفهم من أين يكمن الخطر على المصالح البريطانية في الخليج والحجاز من قبل الروس، فإننا نعجز عن تحديده، بل إن المسؤولين البريطانيين الكبار عاجزون عن تحديده أيضا.. ربما لسبب واحد، هو أنه ليس هناك خطر أساسا، وبالتالي فالحديث عنه مجرد ثرثرة وخيال وتخوف زائد عن حدّه.

جدل حول الثمن: صفقة السلاح المستعمل

في وثيقة بريطانية مؤرخة في 23/5/1929 وحملت عنوان

(تقديم المساعدات لابن سعود مقابل سياسته المعادية للبولشفيك)، كتب المستر غلندور جب من وزارة الخارجية مذكرة هامة حول الوجود الروسي في جدة تناول فيها القضية حاضرا ومستقبلا، وتأثيرها على العلاقات مع ابن سعود والروس. جاء فيها: (باستثناء إبلاغنا لابن سعود أننا على استعداد لأن نعقد معه معاهدة تجارية، فإننا لم نتمكن من الاهتداء إلى أيّ رد بالمقابل يكون مغرياً له بحيث نعرضه عليه. لا بدّ أن نتذكر أنه بمجرد أن يدرك أن المعاهدة المقترحة لن تكون إلاّ شيئاً شبيهاً بالمعاهدة البولندية/ الهندية، فإنه لن يعتبر حتى هذه المعاهدة شيئا ذا قيمة وذا بال، أما راتب الدعم ـ وهو ما يفضله جلالته بدون شك ـ فإنه غير وارد بالمرة). وأضاف: (أعتقد أن علينا أن ننظر بجدية واهتمام فيما إذا كان ابن سعود يلعب علينا، وفي هذه الحالة نستطيع الرد على لعبته بالاستمرار في الموقف الحالي الذي نتبعه، وبالتالي نقترح معاهدة لا تضر أبدا في نهاية المطاف، وهناك فرصة حقيقية في احتمال:

أ ـ سماحه للبولشفيك في أن يبيعوا شحنات سفنهم في جدّة وفي مناطق أخرى.

ب ـ عقده معاهدة تجارية أكيدة معهم على غرار تلك التي عقدها الإمام يحيى إمام اليمن.

جـ ـ إطلاق يد العملاء البولشفيك والمحرضين في الحجاز، حيث يمكن أن يكونوا في وضع يستطيعون فيه تلويث الهند والشرق عن طريق تضليل وإفساد الحجاج القادمين إلى مكة).

وتابع: (من الصعب أن يكون المرء جازماً في أي هذه الاحتمالات.. دونما دليل يستند إليه. صحيح أن سياسة ابن سعود التي يمارسها مؤخراً ـ وبكُلّيّتها ـ إنما هي مبنية على العلاقات الجيدة معنا؛ وتنفيذا لهذه السياسية، تحاشى الصدام مع أعدائه التقليديين في شرق الأردن والعراق، وقضى على ثورة خطيرة قام بها رجال قبائله ـ ثورة الإخوان ـ واستخدام ملاحين جويين بريطانيين لإعادة تنظيم قوته الجوية، فاستحق ـ بصورة عامة ـ استياء القوميين المسلمين الشديد في الهند وغيرها. ونحن من جهتنا، قدمنا له ما استطعنا من المساعدات والدعم المعنوي، واعترفنا بلقبه الجديد كملك، وكذلك اعترفنا بحقه في ضمّ عسير إلى دولته. ونحن الآن نستعد لمواجهة رعاياه المتمردين في الكويت من العجمان. كلانا يستفيد ـ إذن ـ من العلاقات الودية، وإن أي إساءة لهذه العلاقات.. ستكون أيضا مصدر ضرر متبادل. وإضافة إلى ذلك.. فإن أية مبادرة للتقرب من البولشفيك قد يقوم بها ابن سعود، ستعني ـ بكل بساطة ـ إنقلاباً في السياسة التي ظل يتبعها حتى الآن).

ومضى جب في تقييمه للإحتمالات فقال: (نحن نعلم: أنه سيكون في مصلحة ابن سعود الشخصية والآنية ـ ولكن ليس في مصلحة غالبية تجار جدة ـ أن يسمح للبولشفيك بإنزال بضائعهم في الحجاز. وأن السوفيات يقومون في هذه اللحظة بجهود حثيثة لعقد معاهدة تجارية معه، يبدو أنهم يعلقون أهمية كبيرة عليها. ومن الواضح أيضا أن أية معاهدة مع الاتحاد السوفياتي ـ بغض النظر عن مزاياها وفوائدها التجارية ـ سيكون من آثارها دعم وزيادة هيبة ابن سعود بين كل العناصر المعادية لبريطانيا في الشرق الأوسط، ويمكن الافتراض حينها بأن شبه الجزيرة العربية بدأت تصبح أكثر استقلالا، وأن النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط قد تلاشى. من الممكن أن يجد ابن سعود ـ بعد عقد مثل هذه المعاهدة إذا تمت ـ صعوبة في ممارسة تلك المراقبة الدقيقة والحازمة للمعتمدين البولشفيك، وهي المراقبة التي ما زال يمارسها حتى الآن).

ورأى جب أنه من غير الحكمة إسقاط مثل هذه الإحتمالات، وأوصى بالإحتياط ضدها إن أمكن (بتقديم شيء ما لابن سعود، يكون أكثر إغراء من مجرد اتفاقية تافهة، ومن استمرار نياتنا الحسنة تجاهه). وأضاف بأن الملك في أمس الحاجة الى الأسلحة والذخائر (كي يستخدمها ضد قبائل العجمان المتمردة) وأوصى بأن لا تستخدم مسألة الأسلحة مقابل مكافحة السوفيات فذلك يخلق الإنطباع (بأننا نتخلى عن ابن سعود وقت الشدّة. بل علينا أن نبذل كل جهد مستطاع لإيصال الأسلحة إلى ميناء العقير بأقل تأخير ممكن. لكن لا بد أن نتذكر بأن حكومة الهند تطالب ابن سعود حالياً بدفع ما لا يقل عن 34 ألف جنيه ثمناً لألفي بندقية مستعملة، ولمليون طلقة ذخيرة. إن هذا الثمن باهظ، يُطالب به شخص مقابل مواد مستعملة، ربما لا يكون بالإمكان التخلص منها بأي طريقة أخرى، فكيف بشخص نحن تواقون لمساعدته).

واقترح جب اللعب على هذا الدين، بالتنازل عنه وهناك احتمال قوي بأن يقبل ابن سعود ذلك، وحتى لو لم يقبل أن يكون ذلك ثمناً لبيع الروس، فإن حكومة الهند يجب أن تتخلى عن دينها أو جزء منه، على أن يدفع ابن سعود نفقات المواصلات فقط. أو أن تسلم حكومة الهند ألف بندقية من مخازن العتاد في فلسطين مقابل ما أعطته ابن سعود. وإذا ما تمت الموافقة على هذا الإقتراح، رأى جب أن يبلغ ابن سعود شفوياً وفي أذنه برسالة تفيد بأن (الحكومة البريطانية يسرّها أن تكون مصدر عون ومساعدة لجلالته، من أجل صداقتهما الطويلة، وأنها قد أعطت إشارة البرهان عن حسن نواياها، بالتنازل عن مبلغ كبير من المال.. ولكن، وكما يدرك جلالته، فإن الحكومة البريطانية، لا تستطيع أن تضمن تدفق مثل هذه المساعدات في المستقبل القريب إذا ما دخل في علاقة وطيدة مع أية دولة أخرى، أو إذا ما قدم التسهيلات التجارية لأية دولة كبرى أخرى.. بما يسبب ذلك من ضرر على التجارة البريطانية، أو الهندية/ البريطانية في الحجاز).

هذه المذكرة.. بل هذا التقييم الشامل الذي قدمه غلندور جب جهد ذكي حصيف، ورغم الحجج الجيدة التي قدمتها، رفضت لأسباب بريطانية بحتة. ج. رندل في مكتب وزير الخارجية البريطاني يؤيد ما قاله جب، ويقول: (إذا استطعنا تقديم بادرة سخية في هذا الوقت، فإن ذلك سيكون تصرفا خير النتائج، وسيمثل قطعا لشوط لا بأس به، على طريق إعطاء ابن سعود الرد المقابل لسياسته المعادية للروس). ورغم اعتقاده بأن سعر السلاح المصدر لابن سعود غال، إلا أنه خشي من مساءلة في البرلمان البريطاني إن تم التنازل عن الدين، وكأنه إعادة لراتب الدعم القديم الذي قطع عام 1924. كما خشي رندل من إثارة الرأي العام الهندوسي أو الإسلامي المعادي بقوة للوهابية. وتابع (إنني لا أستطيع أن أتصور كيف تستطيع الحكومة أن تتعهد بتقديم هذا المبلغ عشية الانتخابات، وأن تتوقع موافقة البرلمان). ورغم موافقته بشكل كامل لمذكرة جب، فإنه وصل الى النتيجة المرّة: (لا أستطيع إلا الاعتراف ولو مترددا، بأن هذه الاقتراح الذي يطرحه المستر جب هو اقتراح غير عملي). وأيد وزير الخارجية الأمر، بأن الإقتراح غير عملي رغم حصافة المقترح، ووعد بأن يسأل حكومة الهند ما إذا كان يمكنها أن تقدم امتيازاً من نوع ما للملك السعودي.

الصفحة السابقة