جيش الوهابية التكفيري لكل المسلمين

تكفير الأمراء السعوديين للمجتمعات الإسلامية قاطبة

سيرة التكفير السعودي

عبدالحميد قدس

جرت العادة أن تكون تهمة التشدّد الديني من نصيب علماء الدين في المدرسة الوهابية، وزادها رسوخاً تحميل الأمراء لحلفائهم ـ العلماء التهمة كلما رفعت إليهم شكاوى حول بيانات تكفيرية صادرة عن بعض علماء المؤسسة الدينية الرسمية أو حتى رجال دين محسوبين على المدرسة الوهابية. في المقابل، يسدل ستار سميك على دور أمراء آل سعود في زرع وتشجيع النزعة التكفيرية لدى أتباع المذهب الوهابي. وبسبب كثافة النصوص الدينية المنسوبة لعلماء المذهب، من ثم انفصال الأيديولوجيا عن السياسة، في تقسيم السلطة، بالنسبة للأمراء بعد قيام الدولة السعودية، فيما يتمسّك العلماء بالتواشج المصيري بين العقيدة والسياسة، تراجعت أهمية البحث في دور الأمراء السعوديين في تعميم ثقافة التكفير بوصفها جزءً جوهرياً في مشروعهم السياسي، القائم على الغزو.

وقد كان واضحاً، أن أمراء آل سعود ومنذ بداية التحالف مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كانوا يجرّدون الحملات بموجب فتاوى تكفير سكان القرى والمناطق المستهدفة بالغزو ـ الجهاد. بل إن التحالف التاريخي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود، أمير الدرعية وقتذاك، قام على قاعدة تكفير المجتمعات وإعلان الجهاد ضدها. ونقرأ في فقرة من نصّ الاتفاق: قال الأمير محمد بن سعود للشيخ محمد بن عبد الوهاب وهو في الدرعية: (يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه. وابشر بالنصرة لك ولما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد..)(1).

فالموقف العقدي لدى الأمير محمد بن سعود من المجتمعات المجاورة كان شديد الوضوح، ما جعله يعاهد على النصرة والإمتثال لأوامر الجهاد. فكان يبعث الرسائل والرسل الى المناطق يطلب من ولاتها وأهلها الدخول في المعتقد الجديد وإلا فإن عليهم انتظار (جيوش التوحيد)، التي باتت على أهبة الاستعداد لتلقي أوامر بالغزو لنيل المغنم.

إن أول ما يلفت الإنتباه في رسائل الأمراء الى زعماء القبائل، وقادة المناطق والحكومات أنهم لا يفتتحونها بالتحية الإسلامية (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، ما يبطن موقفاً عقدياً كونهم لا يؤمنون بإسلام من يخاطبونهم. على العكس، غالباً ما تكون العبارات موجّهة مثل طلب الهداية (هداه الله لما يحبه ويرضاه) وأشباهها، على خلاف الرسائل التي يبعث بها الأمراء الى أهل دعوتهم التي يصفونهم بـ (المسلمين) ويبدأونهم بالسلام، ويوجّهون لهم نصائح خاصة، بما يشبه (الثقافة الخاصة).

في رسالة عبد العزيز بن محمد بن سعود (1745ـ 1818) الى أهل فارس وتركيا ثمة ايحاءات رسولية لافتة تبدأ من السطور الأولى كقوله (فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله الا هو، وهو للحمد أهل، ونسأله أن يصلي ويسلم على حبيبه من خلقه..)، ليبدأ الفرز على قاعدة (نحن في مقابل هم) قبل أن يشرع في تقديم شرح لمعتقدات الوهابية (أما الذي نحن عليه، وهو الذي ندعو إليه من خالفنا: أنا نعتقد أن العبادة حق لله على عبيده، وليس لأحد من عبيده في ذلك شيء، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فلا يجوز لأحد أن يدعو غير الله لجلب نفع أو دفع ضر، وإن كان نبياً أو رسولاً أو ملكاً أو ولياً..).

وبعد سرد لمعتقداته في التوسل، والشفاعة، والذبح والتوكل، والنذر يقول (وهذا هو سبب عداوة الناس لنا، وبغضهم إيانا، لما أخلصنا العبادة لله وحده ونهينا عن دعوة غير الله ولوازمها من البدع المضلة، والمنكرات المغوية، فلأجل ذلك رمونا بالعظائم، وحاربونا، ونقلونا عند السلاطين والحكام، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله فنصرنا الله عليهم، وأورثنا أرضهم وديارهم، وأموالهم، وذلك سنة الله وعادته مع المرسلين وأتباعهم الى يوم القيامة). وفي ردّه على تهمة التكفير ضد الوهابية وحملها الناس عليهم (ونحن لا نكفّر إلا من عرف التوحيد، وسبّه وسماه دين الخوارج، وعرف الشرك وأحبه، وأحب أهله، ودعا إليه وحضّ الناس عليه بعد ما قامت عليه الحجة وإن لم يفعل الشرك أو فعل الشرك وسماه التوسل بالصالحين بعدما عرف أن الله حرمه..)(2).

وله رسالة أخرى بعث بها الى أهل المخلاف السليماني (جنوب السعودية) يذكر فيها دافعه لكتابة الرسالة (فالموجب لهذه الرسالة أن الشريف أحمد قدم علينا فرأى ما نحن عليه، وتحقق صحة ذلك لديه، فبعد ذلك التمس منا أن نكتب به الاشتباه، لتعرفوا دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه). ما يلفت في رسالته أنه وصم من كان قبلهم بالشرك (فلما منَّ الله علينا بمعرفة ذلك وعرفنا أنه دين الرسل اتبعناه ودعونا الناس إليه، وإلا فنحن قبل ذلك على ما عليه غالب الناس من الشرك بالله، من عبادة أهل القبور، والاستغاثة بهم، والتقرّب الى الله بالذبح لهم، وطلب الحاجات منهم، مع ما ينضم إلى ذلك من فعل الفواحش والمنكرات وارتكاب الأمور المحرمات وترك الصلوات وترك شعائر الاسلام حتى أظهر الله الحق بعد خفائه، وأحيا أثره بعد عفائه على يد شيخ الاسلام، فهدى الله تعالى به من شاء من الأنام، وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب أحسن الله له في آخرته المآب، فأبرز لنا ماهو الحق والصواب من كتاب الله المجيد..فحين كشف لنا الأمر وعرفنا ما نحن عليه من الشرك والكفر بالنصوص القاطعة والأدلة الساطعة..وعرفنا أن ما نحن عليه، وما كنا ندين به أولاً، أنه الشرك الأكبر..اذا عرفتم هذا فاعلموا رحمكم الله تعالى أن الذي ندين الله به، هو اخلاص العبادة لله وحده، ونفي الشرك، وإقام الصلاة في الجماعة، وغير ذلك من أركان الاسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..)(3).

وبعث الأمير عبد العزيز بن محمد الى سليمان باشا الكبير والي بغداد العثماني رسالة مصحوبة بنسخة من كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب (التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) وطلب من الوالي أن يجمع علماء بغداد للنظر في الكتاب واعتناق مبادىء الدعوة السلفية. إلا أن جواب الوالي جاء شديداً حين قال:(بعد أن طالعناه وفهمنا فحواه وجدناه كتاباً جامعاً لشتات من المسائل مشتملاً على عدة رسائل لكنه قد جمع فيه بين غث وثمين وقوي ووهين ووجدنا أحواله أحوال من عرف من الشريعة شطراً ولم يمعن فيها نظراً ولا قرأ على أحد ممن يهديه الى النهج القويم ويدله ويوقفه على العلوم النافعة التي هي الصراط المسقيم)(4).

ولما وصل الجواب سلبياً الى الأمير عبد العزيز وجّه الحملات العسكرية ضد جنوب العراق. ففي عام 1203/1788 أرسل قوات بقيادة إبنه سعود الذي فاجأ قبائل المنتفق في مكان يعرف بالروضتين (بين المطلاع وصفوان) فكانت هذه الحملة هي أول حملة سعودية تدخل حدود العراق)(5).

في سنة 1799 حج سعود الى مكة لأول مرة على رأس أربعة آلاف من أتباعه المسلّحين، وتكرر هذا العمل سنة 1800. وحتى وقت قريب كان طريق الحج من بغداد والبحرين الى مكة عبر نجد ممنوعاً على الشيعة الذي ينظر اليهم الوهابيون بأنهم كفرة لمعارضتهم السنة(6).

وفي سنة 1800 زحف سعود على رأس عشرين ألف رجل الى الفرات وفي 29 نيسان هاجم كربلاء وأعمل السيف في رقاب كل الذكور من سكانها ونبش قبر الحسين وعاد محمّلاً بالغنائم. ويعلّق ديكسون (وكان نجاح هذا الهجوم، بإسم الاصلاح الديني، على مدينة ضمن خراج السلطان، مبعثاً للرعب والدهشة في جميع أنحاء العالم الاسلامي)(7).

في عهد سعود بن عبد العزيز (1745 ـ 1818) نقرأ في رسالته الى الكتخدا علي بك نائب والي بغداد من قبل العثمانيين، بدأها بمجموعة من الآيات القرآنية التي تحذّر من الكفر والشرك والضلال، ويقول (وأمثال هذا في القرآن كثير، كل ذلك في النهي عن الشرك وتقبيحه، وبيان بطلانه، والتبرؤ منه واجب قبل التوحيد..)، ثم أسهب في شرح معنى لا إله الا الله وأحال الى الحديث النبوي المشهور (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤثوا الزكاة)، ثم يوجّه كلاماً شديد اللهجه الى الكتخدا ويقول (أما دعواك أنك على حق فمعاذ الله ووعودك باطلة، ومن أكذب الكذب. وكل من له عقل صحيح يشهد ببطلان قبولك، وافترائك وكذبك...إن قلت إنكم لم تعبدوا غير الله ولم ترضوا بذلك ولم تأمروا به الناس فأفعالكم تبطل أقوالكم ظاهراً وباطناً..)

ويمضي في قدح معتقده قائلاً (وإن قلت أيها المبطل: إن الذي أنتم عليه، هو الذي أمر الله به ورسوله، فقد كذبت وافتريت على الله ورسوله، وكابرت بالكفر والضلال..)، ولم يتردد في تنسيب فرعون وابو جهل له كقوله (وذهبت الى ما ذهب إليه أخوك فرعون (وذهبت إلى ما ذهب إليه أخوك أبو جهل..).

وفي ردّه على مقاتلة المسلمين بدعوى أنهم كفّار قال (فهذا أمر ما نتعذّر عنه، ولم نستخف فيه، ونزيد في ذلك إن شاء الله، ونوصي به أبناءنا، ومن بعدنا، وأبناؤنا يوصون به أبناءهم من بعدهم، كما قال الصحابي: على الجهاد ما بقينا أبداً.

ونزغم أنوف الكفار ونسقك دماءهم ونغنم أموالهم بحول الله وقوته ونفعل ذلك اتباعاً لا ابتداعاً.

ولا لنا دأب الا الجهاد، ولا لنا مأمل إلا من أموال الكفار.

وأما ما ذكرت: من مسكننا في أوطان مسليمة الكذاب فالأماكن لا تقدس أحداً ولا تكفره، وأحب البقاع الى الله وأشرفها عنده مكة، التي خرج منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي فيها إخوانك أبو جهل، وأبو لهب، ولم يكونوا مسلمين.

ونحن نرجو الله أن يبدّل ذلك في أوطانكم سريعاً، ونحن نزيل منها الباطل، ونثبت فيها الحق إن شاء الله..

وقولك إنا أخذنا كربلاء، وذبحنا أهلها، وأخذنا أموالها، فالحمد لله رب العالمين، ولا نتعذر من ذلك ونقول (وللكافرين أمثالها).

وما ذكرت من جهة الحرمين الشريفين، الحمد لله على فضله وكرمه، حمداً كثيراً كما ينبغي أن يحمد وعز جلاله، لما كان أهل الحرمين آبين عن الاسلام، وممتنعين عن الانقياد لأمر الله ورسوله، ومقيمين على مثل ما أنت عليه اليوم من الشرك والضلال والفساد، وجب علينا الجهاد بحمد لله فيما يزيل ذلك عن حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم.. فلما ضاق بهم الحال، وقطعنا عليهم السبل، ثم بعد ذلك فاؤوا ورجعوا، وانقادوا الى أمر الله ورسوله، وأذعنوا للإسلام وأقرّوا به، وهدمنا الأوثان، وأثبتنا فيها عبادة الرحمن، وأقمنا فيها الفرائض، ونفينا عنها كل قبيح مما حرم الله.. وأرجو أن تموت على ملتك النصرانية، وتكون من خنازير النار إن شاء الله.. فإن أردت النجاة وسلامة الملك فأنا أدعوك الى الإسلام، كما قال صلى الله عليه وسلم لهرقل ملك الروم (إسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)(8).

نقرأ أيضاً في كتاب الأمان الذي قدّمه سعود بن عبد العزيز الى وفد الشريف عبد المعين جاء فيه: من سعود بن عبد العزيز إلى كافة أهل مكة والعلماء والأغاوات وقاضي السلطان:

السلام على من اتبّع الهدى، أما بعد:

فأنتم جيران وسكان حرمه آمنون بأمنه، إنما ندعوكم لدين الله ورسوله: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون). فأنتم في وجه الله، ووجه أمير المسلمين سعود بن عبد العزيز، وأميركم عبد المعين بن مساعد، فاسمعوا له وأطيعوا ما أطاع الله والسلام(9).

وكما هو ظاهر في نص الكتاب، أن الأمير سعود صنّف أهالي مكة وعلمائها في خانة النصارى، ودعاهم بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب، بحسب نصّ الآية القرآنية.

وفي رسالة للأمير سعود بن عبد العزيز الى سليمان باشا والي الشام بتاريخ 14 ذي القعدة 1225هـ (أما بعد..فقد وصل إلينا كتابكم، وفهمنا ما تضمنه خطابكم، وما ذكرتم من أن كتابنا المرسل إلى يوسف باشا، على غير ما أمر الله به ورسوله من الخطاب للمسلمين بمخاطبة الكفار والمشركين، وأن هذا حال الضالين وأسوة الجاهلين..

فنقول في الجواب عن ذلك بأننا متبعون ما أمر الله به رسوله، وعباده المؤمنين، بقوله تعالى (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي أحسن).. ومن النصح لهم بيان الحق لهم بتذكير عالمهم، وتعليم جاهلهم، وجهاد مبطلهم، أولاً بالحجة والبيان، وثانياً بالسيف والسنان، حتى يلتزموا دين الله القويم ويسلكوا صراطه المستقيم، ويبعدوا عن مشابهة أصحاب الحجيم وذلك أن من (تشبّه بقوم فهو منهم)..ومن تلبيس إبليش، ومكيدته لكل جاهل خسيس، أن يظن إنما ذم الله به اليهود والنصارى والمشركين لا يتناول من شابههم من هذه الأمة..ومن أنكر وقوع الشرك والكفر في هذه الأمة فقد خرق الإجماع، وسلك طريق الغي والابتداع ولسنا بحمد الله نتبع المتشابه من التنزيل ولا نخالف ما عليه أئمة السنة من التأويل، فإن الآيات التي استددلنا بها على كفر المشرك وقتاله، هي من الآيات المحكمات في بابها لا من المتشابهات..

وأما قولكم: فإنا لله الحمد، على الفطرة الاسلامية، والاعتقادات الصحيحة، ولم نزل بحمده تعالى عليها، عليها نحيا، وعليها نموت..فنقول: غاض الوفاء وفاض الجور وانفرجت مسافة الخلف بين القول والعمل، وليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمنى، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن، أنا مسلم، أنا من أهل السنة والجماعة، وهو من أعداء الاسلام وأهله، منابذ لهم بقوله وفعله لم يصر بذلك مؤمناً، ولا مسلماً، ولا من أهل السنة والجماعة ظن ويكون كفره مثل اليهود..فشعائر الكفر بالله، والشرك به هي الظاهرة عندكم..وأما إن دمتم على حالكم هذه، ولم تتوبوا من الشرك الذي أنتم عليه، وتلتزموا دين الله، الذي بعث الله به رسوله، وتتركوا الشرك والبدع والمحدثات، لم نزل نقالتكم حتى تراجعوا دين الله القويم، وتسلكوا صراطه المستقيم كما أمرنا الله بذلك..(10)

ومن الواضح أن استنكار سليمان باشا يتمحور حول العقل التكفيري لدى سعود، حين طالبه بتغيير طريقة توجيه الخطابات الى الولاة في الدولة العثمانية، الذي جاءت مكاتباته لهم بوصفهم كفّاراً وليسوا مسلمين، فأطنب الأمير سعود في شرح خلفية موقفه هذا من وجهة عقدية.

رسائل آل سعود.. تكفير غير الوهابية

على العكس من رسائل الأمراء الى غير الوهابيين، نلحظ في رسائل سعود الى أهل دعوته أسلوباً مختلفاً، حيث يلتزم بمقتضيات التخاطب بين المسلمين. ففي رسالة وعظية له الى عامة المسلمين، في إشارة الى معتنقي الوهابية دون سواهم كما هو فحوى الرسالة وإشاراتها، وهي بمثابة توجيه داخلي للأتباع، يعنوّن الرسالة بقوله (من سعود إلى من يراه من المسلمين..)، ويفتتح رسالته بقوله (سلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ويقول (والله سبحانه وتعالى منّ علينا بدين الإسلام..). وتدور الرسالة حول تغيّب كثيرين من أتباع المذهب الوهابي عن صلاة الجماعة، وعبّر عن امتعاضه بما يشبه اليأس (والنصائح كثرت، ولا أراها تثمر في كثير من الناس..)،وذكّرهم بأنه بسبب الدين حصلوا على خير الدنيا (وأعطاكم به فوق ما تؤملون، وصرف به عنكم جميع ما تكرهون..). ثم تحدّث عن تدابير جديدة لإلزام أنصاره المشاركة في صلاة الجماعة، بوصفها أحد أشكال الانضباط والطاعة لللسلطة. وقال (وأنا ملزم كل أمير، وكل مطوع، وكل صاحب دين، يخاف الله ويرجوه، ويأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، يقوم على الناس في حجميع ما ذكرنا من المسائل التي ذكر، وغيرها من جميع المنكرات، ويقومون على الناس في تعلم دينهم، وأداء ما فرض الله عليهم..وكل أهل بلد يجعلون عنهم نسخة، فإذا جرى مبايعة فيشرفون عليها مطوع البلاد، ويكتب المطوع على المبايعة.

وأنا آمر هؤلاء الذين معهم الورقة يختارون من كل أهل بلد ثلاثة أهل دين، وأنا ملزمهم بتتيع التجار والفلاح في مسألة المبايعة، ومن فعل شيئاً مما بيننا في هذه الورقة، فيبينون للأمير، فإن كان الأمير ما قام وأدب، وأدبت الفاعل، وهذه أمور وخيمة، وخطرها كبير في الدنيا والآخر، ولا والله ما حملني على هذا إلا المشحة بكم، والخوف من الله عليكم وعليّ..)(11).

وفي رسالة أخرى الى عامة المسلمين من أتباعه يشدّد فيها على إقامةمة صلاة الجماعة، وأداء الزكاة باعتبارهما تمظهرين للولاء للسلطة، يقول عن الصلاة (وللصلاة شروط وأركان وواجبات وسنن لا تتم الصلاة على الوجه المشرّع إلا بها، وترون فعل كثير من الناس في الصلاة وعدم المحافظة عليها، وتضييع الجماعة أمر عظيم..) فيما يقول عن الزكاة (وصار أناس كثير، أهل أموال، لا يزكون، ويدّعون أنه ما عندهم شيء، وهم كاذبون، وقد يكون أن الله ينزعه عنهم، ويقال وجبت ويحرمونه في الدنيا..ومن النتاس من يؤدي القليل من الكثير، ومنهم من يجعل زكاته وقاية لماله من النوائب وغيرها) ويلفت سعود الى أهمية الزكاة في توفير الدعم للحملات العسكرية (وترى الممشى (أي الغزو) يبغي من يعتد له بكل آلة، وأعظمها وأهمها الزهبة (أي العدة) وما يحتاج إليه صاحب الحرب من الاستعداد الذي أمر الله به..)(12).

في رسالة سعود بن عبد العزيز الى عامة المسلمين، وكل ما جاء بهذا العنوان عني به أتباع المذهب الوهابي دون سواهم، حيث يبدأهم بالسلام والدعاء، قبل أن يشرع بتقديم توجيه داخلي، حين يلحظ التهاون في الالتزام بصلاة الجماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الزكاة، أو الجهاد (وأنا أخاف عليّ وعليكم خوفاً شديداً من عدم العمل، ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك بعض الأمر خوفاً من أمر يجب عليكم، فتقع به مضرة، وأنتم خابرون، أني ملزم الأمير يقوم على الناس في أمور دينهم، من حيث الجملة من تعلم وتعليم، ويقوم على الناس في قمع من جرى منه شيء يستوجب إن كان الأدب فيه حكم شرعي، أو حد، لزمه الإمضاء وإن كان أدباً غير أدب يعهده على قدر ما يردع أرباب المعاصي..)، وفي الجهاد يقول (والقومة في الجهاد من إتمام السلع والسلاح الطيب، والرجال الطيبين، والقومة على الخيل وتمام آلاتها.

وكذلك الجهاد الداخلي، من رهن الزهبة، والبناء على البلدان وغير ذلك، وأنتم خابرون أني ملزم كل من يخاف الله ويرجوه القومة مع الأمير بهذا كله(13).

ونلحظ هنا تأكيده الدائم على العناصر المرتبطة بالبنية التنظيمية للحركة الوهابية وبمشروعها السياسي، مثل صلاة الجماعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والزكاة والجهاد، ولا يخفى ما تحمله هذه الفرائض من مضامين سياسية ذات طابع جمعي.

وفي رسالته الى عموم المسلمين (من أهل دعوته) يوصيهم بالالتزام بحضور الصلاة في الجوامع، ويطالبهم بالاقلاع عن الذنوب والاستغفار منها. وفي خاتمة الرسالة كتب (وكل إمام مسجد يقرأ الكتاب على جماعته ويكتب صدقتهم وورقة المسجد يعطاها إمام المسجد..)(14).

وفي رسالة سعود بن عبد العزيز الى أهل الدرعية جاء (من سعود من عبد العزيز إلى الأخوان من أهل الدرعية سلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، يذكّرهم فيها بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقول (ولا يستقيم دين ويعبد الله على مراده إلا بالجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ويذكّرهم (وأنتم اليوم أسقطتم عن أنفسكم هذه الفريضة، بسبب المداهنة وطلب رضا وجوه الخلق، وعدم الإيمان بالجزاء، والذي له دين ويؤمن بالله واليوم الآخر..

ثم يقول: (والذي أحاذر عليكم اليوم، معصيتكم الله في عدم إنكار المنكر، وعدم الغضب لله، وعلى طول هذه المدة ما بلغني من خاص أو عام، قام لله أو أنكر منكراً، أو رفع لي خبر بخلاف أحد، ولا دريتم أنكم خنتم العهد الذي أخذ منكم..فيكون عندكم معلوماً أن الله موجب على كل مؤمن بالله واليوم الآخر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يناظر وجه خاص ولا عام، والأمر الذي تحبون رفعه إلي، وأدبه يصدر مني، ارفعوه إليّ، وقوموا بهذه الفريضة، وأدوها على الوجه المرضي، وأنا أبغى أتتبع كل من يتهم بالدين والذين ما يتبين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في دقائق الأمور وجلائلها، أنا أؤدبه على الخيانة بالعهد، وإسقاط هذه الفريضة..وأنا خاص على الناس ومعيّن عليهم، وأنا ملزم على كل من له دين العمل بما ذكرت، والذي يقول ما هو من حسبة أهل الدين، ولا له نصيب من الخير، نعرف ممشاه (أي سلوكه) بسكوته، وعدم الإنكار، ولنا فيه رأي، يدبرنا الله عليه إن شاء الله تعالى).

ووجّه لهم نقداً لاذعاً لأنهم لم يقوموا بالدعوة الى العقيدة السلفية وقال (بلادكم يأتيها أفقية (من يجوبون الآفاق) من كل مكان وجهة، ويروح أكثرهم ما نعرف أن أحداً واجههم، يدعوهم للإسلام ويبين لهم التوحيد من الشرك، ويبين لهم الكفر من الاسلام..)(15).

تلمح الرسائل السابقة الى أن ثمة خطاباً خاصاً موجّه لجماعة خاصة، هي المكلّفة بإنجاز المهمة الدينية والقاعدة الشعبية التي يتوقف عليها نجاح المشروع السياسي، ولذلك فهو يخصّها بتوجيهات عقدية ذات طبيعة محددة. في المقابل، تفشي رسائل أخرى حقيقة الموقف العقدي من المجتمعات المستهدّفة بها. فحين بعث الأمير سعود برسالة إلى أهل المدينة كافة خاطبهم بقول (سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوكم بدعوة الإسلام، كما قال تعالى:(إن الدين عند الله الإسلام)، (ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). وأنتم خابرون من أحوالكم عندنا أننا نودكم لأجل مجاورتكم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نريد بأمر يضركم، ويضيق عليكم، وهؤلاء أهالي بيت الله وحرمه، ويوم انقادوا إلينا ما (شافوا) منا إلا الإكرام، ونحن قادمون عليكم لزيارة حرم الرسول، فإن أجبتم إلى الإسلام، فإنكم بأمان الله، ووجهي وذمتي على جميع التعدي لا على دم ومال(16). هل ثمة ماهو أشد وضوحاً في رؤية سعود العقدية إزاء أهالي المدينة الذي يخاطبهم بدعوة الاسلام (فإن أجبتم الى الاسلام، فإنكم بأمان الله).

وعلى المنوال نفسه، تأتي رسالته الى أهل نجران عرض فيها ما هو عليه من معتقد ثم قال (هذا صفة ما نحن عليه وما ندعو الناس إليه، فمن أجاب وعمل بما ذكرناه، فهو أخونا المسلم، حرام الدم والمال، ومن أبى قاتلناه، حتى يدين بما ذكرناه)(17).

ينسحب الأمر أيضاً على المجتمعات المسلمة في الخارج، ففي رسالة سعود بن عبد العزيز الى يوسف باشا والي الشام جاء فيها (أما بعد، فإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، كما قال النبي (أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين)..فإن هداك الله فخير يهيأ لك، وتفوز بسعادة الدنيا والآخرة، ولا نلزمكم إلا ما أوجب الله عليكم، وشهدتم أنه الحق ولا ننهاكم إلا عما حرّم الله عليكم وشهدتم أنه الباطل، فإن أشكل عليكم الأمر وطلبتم المناظرة جاءكم منا مطاوعة، وناظرناكم، وإلا تقبلون علينا مطاوعتكم، والمناظرة عندنا، فإن أبيتم إلا الكفر بالله، واخترتم الضلال على الهدى، نقول كما قال جل جلاله (وإن تولّوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم)(18).

وهناك رسائل أخرى بعث بها أمراء الدولة السعودية الأولى والثانية الى ولاة وسكّان بلاد الشام والعراق وتركيا وشمال أفريقيا، وتتفق جميعها على دعوة واحدة إما القبول طائعين بالمذهب الوهابي أو السيف.

لم يخب الملك عبد العزيز، مؤسس الدولة السعودية الثالثة، عن إعادة إحياء إرث التكفير، الذي نظر إليه كمحرّض فعال لأنصاره على الغزو وجني الغنائم. وبالرغم من أنه نأى في بداية حركته عن التوسّل بالعامل الديني، ولكنه حين أراد استيعاب جيش الاخوان العقائدي أوحى لهم بأنه إمام لهم، ومرشدهم الديني فأطاعوه. واقتفى سيرة آبائه وأجداده في مراسلة الولاة والعلماء ووجهاء المناطق يخيّرهم بين الإنضواء في الدعوة الوهابية أو القتل.

في رسالة بعث بها عبد العزيز الى الشيخين أبو اليسار الدمشقي، وناصر الدين الحجازي، في تعليقه على ردّهما على عبد القادر الاسكندراني، حملت ـ الرسالة ـ عبارات رسولية، تنطوي على رؤية عقدية من المجتمعات القائمة في زمن عبد العزيز نفسه، حيث وصّف الجماعة السلفية بأنها (تذب عن دين المرسلين، وتحمي حماه عن زيغ الزائغين، وشبه المارقين والملحدين)، ثم يأخذ التوصيف منحى أكثر تخصيصاً (ولم يوجد في أزمان متطاولة، من ينهى عن ذلك، ويحذر عنها، خارجياً، قد أتى بمذهب لا يعرف، لأنهم لا يعرفون إلا ما ألفته طباعهم، وسكنت إليه قلوبهم، وما وجدوا عليه أسلافهم، وآباءهم، من الكفر، والشرك، والبدع والمنكرات الفظيعة..). وختم الرسالة بقوله (ومن حسن توفيق الله لكم: أن أقامكم في آخر هذا الزمان دعاة إلى الحق، وحجة على الخلق، فاشكروه على ذلك، واعملوا: أن من أقامه الله هذا المقام، لا بد أن يتسلط عليه الأعداء بالأذى والامتحان، فليقتد بمن سلف من الأنبياء والمرسلين، ومن على طريقتهم من الأئمة المهديين، ولا يثنيه ذلك عن الدعوة الى الله..) ثم قدّم لهم هدية عبارة عن كتاب (الهدية السنية) للشيخ سليمان بن سمحان، وقال عن الكتاب بأنه (بيان ما نحن ومشائخنا عليه، من الطريقة المحمدية، والعقيدة السلفية، ليتبين لكم: حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو إليه، نحن وسلفنا الماضون..)(19)

ودوّن جون فيلبي حواراً أجراه مع الملك عبد العزيز في صيف 1918 حول موقفه الديني من النصارى وسكّان الحجاز. سأله فيلبي عن موقفه من النصارى. فردّ عليه (إذا قدّمت أنت الإنجليزي إبنتك لي كزوجة، سأتزوجها..ولكني لا أتزوج إبنة الشريف، ولا بنات أهل مكّة ولا غيرهم من المسلمين الذين نعتبرهم مشركين..)(20)

تؤكّد هذا الموقف رسائل عبد العزيز الى أهل الحجاز بعد احتلاله لمناطقهم، حيث يصفه بـ (الفتح) بما تحمل من دلالة تاريخية ودينية. ففي بلاغ عام بعثه عبد العزيز الى أهل الحجاز جاء فيه (وأهنئكم وأهنىء نفسي بما منّ الله علينا وعليكم من هذا الفتح، الذي أزال الله به الشر..)، وقال أيضاً (ولما منّ الله بما منّ، من هذا الفتح السلمي الذي كنا ننتظره ونتوخاه..)(21). وفي بلاغ عام آخر من عبد العزيز في 22 جمادى الثانية سنة 1344 الموافق 7 يناير 1926 جاء فيه:(ولقد بذلت النفس والنفيس في سبيل تطهير هذه الديار المقدّسة إلى أن يسّر الله الكريم بفضله فتح البلاد..)(22).

نقل أمين الريحاني حواراً دار بينه وبين عبد العزيز بن سعود، ومن بين ما سأله: هل ترون أن من الواجب الديني محاربة المشركين حتى يدخلوا في دين التوحيد؟

فأجاب ـ أي عبد العزيز ـ على الفور: لا، لا. وضرب الأرض ضربتين بعصاه ثم قال: هذا الحسا، عندنا هناك أكثر من ثلاثين ألفاً من أهل الشيعة وهم يعيشون آمنين لا يتعرض لهم أحد. ثم أعاد الريحاني طرح السؤال بصيغة أخرى: هل ترون من الواجب الديني..وهل ترون من الواجب السياسي أن تحاربوا المشركين حتى يدينوا؟ فأجابني قائلاً: السياسة غير الدين، ولكننا أهل نجد لا نبغى شيئاً لا يحلله الدين. فإذا حلل الدين ما نبغيه فالسياسة التي نتخذها لتحقيقه محللة. وإذا عجزت السياسة فالحرب، وكل شيء في الحرب يجوز(23).

وينقل ديكسون تفاصيل سجال افتراضي دار بين قادة الاخوان، سلطان بن بجاد وفيصل الدويش، مع ابن سعود بعد قراره وقف الجهاد ومن ذلك:

ياعبد العزيز، أنت كإمام كنت تدعو الى الجهاد ضد الكفار والمشركين. ولطالما دعوت وكررت الدعوة الى أن العراق كدولة شيعية يجب أن يدمّر، وأن كل ما يؤخذ من أهله حلال. ولطالما ردّدت قول القرآن الكريم لإثبات أن كل الأعمال التي يقوم بها المؤمنون ضد الكفّار والمشركين يجب أن يكافأوا عليها. والآن، وبأمر من الانكليز الكفار أنفسهم، تدعونا نحن فرسانك المختارين سيف الاسلام، إلى إعادة ما أخذناه لأنك تعتبر ما فعلناه خطأ. فإما أن تكون أنت دجال منافق تحب ذاتك وتبحث عن منفعتك، وإما أن يكون القرآن كتاباً غير صحيح(24).

وكان عبد العزيز قد أجبر في سنة 1918 جميع البدو في نجد، باستثناء عجمان، أن يعتنقوا الاخوانية، وأن يعترفوا به إماماً عليهم. ولكي يضمن ولاء تلك القبائل وبقاءها تحت سيطرته، استدعى ابن سعود الزعماء الوهابيين الى الرياض لإصدار فتوى تقضى بأن يقوم المؤمنون من الاخوان ببناء القرى والمدى، وأن يتعاطوا الزراعة، لأن ذلك فريضة من الوجهة الدينية(25).

وكانت نهاية الاخوان على يد الحكومة البريطانية وليس إبن سعود، فهي من تكفّلت بتأمين كل ظروف النصر العسكري على جيش الاخوان، فأبقت العراق والكويت على الحياد، ووضعت قوة كبيرة على حدود الكويت الجنوبية، وأجبرت الثوار على الاستسلام، ولولا ذلك لما تمكن عبد العزيز من سحق حركة الاخوان، ولكان البيت السعودي قصة مأساوية في التاريخ.

يقول ديكسون: وبانهيار الثورة ووفاة فيصل الدويش يمكن القول إن مذهب الاخوان الحماسي قد ولّى الى غير رجعة. وكان ابن سعود يعرف ذلك، فلم يكن يرغب في إشعال النار مرة أخرى، فمذهب الاخوان القائم على الدين والتعصّب، أخطر من أن يكون لعبة في يديه. لقد أخطأ مرة ولن يعيدها(26).

من الملاحظات المثيرة للدهشة، أن الطريقة التي كشف عنها عبد العزيز بعد سحق حركة الاخوان واعتقال قادتها، وانكشاف ارتباطاتها الواضحة مع الانجليز، أحدثت ردود فعل لافتة. يصف ديكسون ذلك بالقول:

(ومع مرور الزمن لم يعد البدو يطلقون على ابن سعود لقب الإمام لا سيما في الشمال والشمال الشرقي من صحراء الدهانة (الدهناء) في شمال شرق الجزيرة العربية. وأصبح يعرف بعد ذلك بالوهابي وخاصة بين أولئك الذين ثاروا ضده، كصفة للتحقير أكثر من أي شيء آخر. وصاحب ذلك أيضاً اختفاء بعض التقاليد الشعبية والعادات التي تحمل دلالات معينة ورمزية خاصة بالاخون مثل لبس الكوفية البيضاء. يقول ديكسون أن الكوفية البيضاء التي كانت رمزاً(للأخ) الصالح لم تعد ترى إلا نادراً. فقد عاد معظم مطير ورشايده وعوازم وعجمان وشمر الى العقال القديم. أما الذين ظلموا يعتمرون الكوفية البيضاء فقد كانوا يفعلون ذلك وألسنتهم في وجناتهم أو للحصول على خدمة من الملك)(27).

مع قيام الدولة السعودية بدأت تختفي لهجة التكفير على المستوى السياسي، وإن بقيت حاضرة في الأدبيات العقدية الوهابية. فقد تخلى الملوك السعوديون عن لهجة التكفير، بل تبنوا خطاباً دينياً عاماً، كما يظهر في خطاباتهم:

ـ نقرأ في خطاب الأمير سعود نيابة عن والده عبد العزيز في المأدبة الكبرى بالقصر الملكي ضمّت وفوداً من حجاج بيت الله الحرام في ذي الحجة سنة 1366هـ جاء فيه: (المسلمون إخواننا إينما حلوا ونزلوا..)(28). ولكن لم يتخلى آل سعود عن تذكير رعاياهم ـ ضحاياهم بكيفية نشأة الدولة، ففي خطاب سعود في حفل المأدبة الشعبية بالقصر الملكي ذكّر الحضور من الحجازيين بالتعاون (على النهوض بهذا الملك، الذي أسسناه بسيوفنا)، قال ذلك بعد انتشار منشورات تطالب بحرية الحجاز(29).

ـ وفي كلمة له لحجاج بيت الله الحرام في ذي الحجة 1371 خاطب الحجاج بـ (إخواني المسلمين)(30). وأعاد ذلك في الخطابات اللاحقة.

ـ وفي كلمته الى أهالي مكة خاطبهم الملك سعود (أبنائي أهل البلاد المقدّسة الكرام..) وقال (إن عواطف الإخلاص والولاء التي انبعثت من أعماق قلوبكم.. كان لها أبلغ الأثر في نفسي، وفي نفوس أفراد الأسرة، وكانت لنا أعظم سلوى..)(31).

ـ وفي بيان الملك سعود الى أهالي المنطقة الشرقية في يناير 1954 جاء فيه (وقد أثلج صدري، وسر خاطري، ما لمست فيكم، أفراداً وجماعات من صدق الإخلاص، وعمق الولاء، وكريم المشاعر..)(32).

وهكذا حلّت السياسة مكان الأيديولوجيا، وتوقّف الأمراء السعوديون عن توظيف العقيدة في العلاقة مع المحكومين، وصار الحديث عن وطن ودولة بدلاً من دين وأمة.

ولئن تمسّك العلماء بالموقف العقدي من المجتمع، فإن الأمراء لم يكن بمقدورهم بعد نشوء دولتهم أن يقذفوا محكوميهم بالتكفير لأن ذلك على خلاف مع منطق الدولة واستقرارها وتماسكها.

ولكن ثمة لهجة خاصة يستعملها الأمراء مع العلماء، تؤكد على ثوابت التحالف التاريخي بين آل الشيخ وآل سعود. في كلمة الملك سعود الى العلماء في مايو 1959 يوصيهم فيها قائلاً (فسيروا واحملوا مشاعل الدين، لتنيروا للعالم طريق الهداية كما فعل أجدادنا الكرام، وبدوري أسير أمامكم وخلفكم، وأحميكم بقوة من عند الله، ثم بسيفي حيث إنكم أنتم دعاة الدين وحملة لوائه، فلا تخشوا في أحكامكم غير الله.. ولو لم يبذل آباؤنا وأجدادنا أرواحهم في سبيله لما وجدنا أنفسنا في هذه النعم..)(33).


المصادر

(1) د. عبد الفتاح حسن أبو عليه، محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى، دار المريخ للنشر، الرياض، الطبعة الثانية 1991، ص ص 20 ـ 21
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، مجموعة رسائل علماء نجد الأعلام من عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب الى عصرنا هذا، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، الطبعة السابعة 2004، الجزء الاول، ص 258 ـ 264
(3) الدرر السنية، المصدرالسابق، الجزء الأول ص 265 ـ 268
(4) سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، كتاب (التوضيح عن تتوحيد الخلاق في جواب أهل العراق)، وتذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، طبع القاهرة، 1901/1319، ص ص 15 ـ 16
(5) د. عبد الفتاح أبو علية، محاضرات في تاريخ الدولة السعودية، مصدر سابق ص 49
(6) هـ.ر.ب. ديكسون، الكويت وجاراتها، دار صحارى للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الاولى 1990، الجزء الأول، ص 105
(7) ديكسون، الكويت وجاراتها، المصدر السابق، ج1 ص 105
(8) الدرر السنيّة في الأجوبة النجدية، الجزء التاسع، القسم الثاني من كتاب الجهاد وأول كتاب حكم المرتد، ص ص 264 ـ 289
(9)د. عبد الفتاح حسن أبو عليّة، محاضرات في تاريخ الدولة السعودية الأولى 1744 ـ 1818، مصدر سابق، ص 60
(10) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، مصدر سابق، ج1 ص ص 287 ـ 313
(11) د. منير العجلاني، تاريخ البلاد العربية السعودية ..عهد الإمام سعود الكبير، دار النفائس، بيروت، 1983، الجزء الثالث ص 241 ـ 245
(12) منير العجلاني، المصدر السابق، الجزء الثالث، ص 250 ـ 258
(13) الدرر السنيّة في الأجوبة النجدية، المجلد الرابع عشر، كتاب النصائح، ص 28
(14) د. منير العجلاني، تاريخ البلاد العربية السعودية، عهد الامام سعود الكبير، الجزء الثالث، مصدر سابق ص 262 ـ 264
(15) د. منير العجلاني، تاريخ البلاد العربية السعودية، المصدر السابق، الجزء الثالث، ص 259 ـ 261
(16) د. منير العجلاني، المصدر السابق، الجزء الثالث، ص 269
(17) جريدة أم القرى العدد 388 الصادر في 14 محرم 1351هـ/20 مايو 1932
(18) د. منير العجلاني، تاريخ البلاد العربية السعودية..عهد الامام سعود الكبير، مصدر سابق، الجزء الثالث ص 210 ـ 211، نقلاً عن أحمد جودت باشا، تاريخ جودت، تحقيق عبد اللطيف بن محمد الحميد، مؤسسة الرسالة
(19) الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، بيروت الطبعة السابعة 2004، الجزء الأول ص ص 593 ـ595
(20) محمد جلال كشك، السعوديون والحل الاسلامي، تكساس 1982، ص 608
(21) جريدة أم القرى، العدد 52 بتاريخ 11 جمادى الثانية 1344هـ/27 ديسمبر 1925
(22) جريدة أم القرى، العدد 54، الصادر في 23 جمادى الثانية 1344هـ/8 يناير 1926
(23) أمين الريحاني، ملوك العرب، دار الجيل، بيروت، الطبعة الثامنة، ص ص 584 ـ 585
(24)هـ.ر.ب. ديكسون، الكويت وجاراتها، مصدر سابق، الجزء الاول ص 314
(25) ديكسون، الكويت وجاراتها، الجزء الاول ص 248
(26) المصدر السابق، الجزء الأول، ص ص 342 ـ343
(27) المصدر السابق، الجزء الاول ص 344
(28) جريدة (أم القرى) العدد 1182 في 16 ذي الحجة 1366هـ، الموافق 31 أكتوبر 1947
(29)أم القرى العدد 1184، الأول من محرم 1367هـ/14 نوفمبر 1947
(30) أم القرى العدد 1427 بتاريخ 9 ذي الحجة 1371 الموافق 29 أغسطس 1952
(31) أم القرى العدد 1491 في 20 ربيع الأول 1373، الموافق 27 نوفمبر 1953
(32) أم القرى العدد 1499 في 17 جمادى الأولى 1373هـ/22 يناير 1954
(33) أم القرى، العدد 1767 في 29 شوال 1378 الموافق 8 مايو 1959

الصفحة السابقة