تجارة العبيد في الحجاز


(1855-1962م)


1 من 2


قبل خمسين عاماً أُلغي الرق مطلقاً بقرار رسمي. هذا تطواف تاريخي سريع يبدأ
من عام 1855م وينتهي بعد لحظة اعلان الغاء الرق في المملكة السعودية بقليل


محمود عبدالغني صباغ


محمود عبدالغني صباغ

في عام 1855م أصدرت الدولة العثمانية مرسوماً بقضي بمنع بيع الرقيق في جميع الأراضي الخاضعة لسيادتها. وطلب كامل باشا والي الحجاز العُثماني المقيم في جدة، من قائم مقامه في مكة، أن يجمع دلّالي الرقيق، ويخبرهم بالاجراءات الجديدة، بمقتضى أوامر الباب العالي.

يصف أحمد زيني دحلان، مؤرخ مكة المعاصر لتلك الفترة، في (خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام) تسلسل الأحداث بعد ذلك الاجتماع بشئ من الايجاز: فلما علم الأهالي في مكة صاروا من ذلك في انزعاج واضطراب، وصاروا يقولون: (كيف يمنع بيع الرقيق الذي أجازه الشارع؟).. وتنادوا بالجهاد، واجتمع طلبة العلم في بيت رئيس العلماء ومفتي الأحناف، الشيخ جمال شيخ وطلبوا اليه ألا يرضخ لما يخالف الشرع وان ينتقل معهم الى دار القاضي ليمنع صدور ذلك الأمر، فلما مشت جموعهم في الشوارع انضم اليها الجمهور ونادوا بالثورة واشتبكوا مع الاتراك في قتال عنيف وامتد القتال الى المسجد الحرام، فقُتل فيه عدة أشخاص من الفريقين، فلما انتهت الاخبار الى الشريف عبدالمطلب بالطائف غضب للأمر وجمع جموعه من القبائل لاعانة الأهالي في مكة ضد الترك، فخف الاتراك الى جدة وتحصّنوا بها، واعلن كامل باشا ان المراسيم السلطانية قد وصلت اليه بعزل عبدالمطلب وتولية الشريف محمد بن عبدالمعين بن عون.

يجب ان نُخضِع رواية الدحلان الكلاسيكية تلك لشئ من التفكيك.

كانت الدولة العثمانية خارجة لتوها من حرب القرم مع روسيا، يقف الى جانبها حلفاؤها الجُدد البريطانيون والفرنسيون، الذين ضغطوا عليها لالغاء تجارة الرقيق على أراضيها ولاتخاذ بعض الاصلاحات فيما يخص حقوق الأقليّات. ولاذت النخبة العثمانية التي كانت تميل نفوسها الى الاصلاح بتلك التوجّهات الدولية، فبلورت شروطها في فرامانات اصلاحيّة أبطلت في احداها ممارسة الرقيق.

وكان النفوذ الاوروبي في الحجاز والبحر الأحمر يشهد تصاعداً منذ توقيع اتفاقية التجارة العثمانية - البريطانية عام 1838م.. وما صاحبها من تنامي لمشاعر العداء المحلية ضد التجار والرعايا الانجليز القادمين حديثاً لمزاحمتهم في ميناء جدة. تزامن ذلك أيضاً مع نفوذ شركة الهند البريطانية وارهاصات شروق شمس الراج البريطاني على شبه القارة الهنديّة واخضاع عدن للسيطرة البريطانية عام 1839م، وما رافقه من بدء ترتيبات منح امتيازات للحجاج الهنود الذين باتوا يحملون الرعويّة البريطانية، ويحظون اثر ذلك بعناية غير مسبوقة من قبل القنصلية البريطانية في جدة.. وهي امتيازات خاصة شملت مجالات الصحة والرسوم الجمركيّة والكورنتينات والتنقل. خدش ذلك مشاعر الوطنيين وكراماتهم في مدن الحجاز وبواديه.

هكذا كانت نغمة التوجس من الأوروبيين في أوجها لدى المحليين. ولما كان كامل باشا، والي الحجاز، اقرب لأفكار النخبة العثمانية المستنيرة، أشاع ضده أمير مكة العشائري، الشريف عبدالمطلب، بانه موالٍ للنصارى، يريد بذلك الطعن في هيبته والتقليل من شعبيته.

كان عبدالمطلب – قبيل اندلاع فتنة منع الرقيق في مكة – قد تورط في حادثة مقتل نقيب السادة العلويين في مكة السيّد اسحاق بن عقيل بصورة بشعة – كون الأخير كان حليفاً لرجال السلطنة، خصوم الشريف في مكة، في صراعه الدائم والمفتوح على السلطة. وأدرك عبدالمطلب، الذي تحصّن في اطراف الطائف، حضن الحجاز العشائري، فاراً من مواجهة جنود الوالي، دنو صدور مرسوم اعفائه من شرافة الحجاز، فوثب الى استغلال موجة العداء الشعبية التي انفلتت من عقالها مع صدور قرار منع بيع الرقيق، وتماهى مع غارات المضار، فأجج في نيران الفتنة بما اتفق مع مصالحه.

لم يكن عبدالمطلب مدفوعاً بايمان أيديولوجي في تبنيه لمطالب الغوغاء بالشارع المكّي قدر ما نُظر دوماً لموقفه على انه استغلال سياسي وتوظيف ذرائعي. وبالمثل، لم تكن عوامل اندلاع الفتنة في الشارع بريئة خالصاً. لقد أجبر عبدالمطلب، بإيعاز من دلاّلي الرقيق في مكة وتجار جدة، علماء مكة الى اصدار فتوى تناهض قرار الغاء تجارة العبيد. ثم قاد مناوشات عسكرية ضد الحامية العسكرية التركيّة، قبل ان يتقهقر ويتحصّن في صفوف المقاومة طيلة سبع أشهر.

انتهت الأزمة لاحقاً بالقاء القبض على عبدالمطلب من قبل السلطات العثمانية ونفيه الى سالونيك باليونان، لكن قرار الغاء الرقيق في ولاية الحجاز كان قد جُمّد الى أجلٍ غير معلوم.

كان الحجاز يخضع حينها لفضاء المحيط الهندي الكبير، وهو فضاء ثقافي وحضاري ممتد جغرافياً، تشد أطرافه المتباعدة حركة التجارة البحرية المنطلقة من البحر الأحمر الى تخوم الصين. وقبل صعود أفكار الدولة القومية عالمياً، اشترك الحجاز، مع مصر وسواحل السودان والقرن الافريقي وتنزانيا وكيبتاون، وسواحل تهامة واليمن وحضرموت ومسقط مع غرب القارة الهندية وسنغافورة وأرخبيل ملاوي (أندونسيا وماليزيا) وأجزاء من تايلاند والصين، في وحدة ثقافية وبشرية كان ابرز معالمها الانتماء للمذهب الشافعي، الأشد في التأصيل الفقهي – والأكثر تساهلاً – مع عادة شراء العبيد، وفي (اجتهادات) ورُخص التسرّي بالجواري.

الحجاز، الفقير يومها ومنعدم الموارد الذاتية، والذي كان يلمّلم شظايا شخصيته الحضارية، يريد استئناف دوره واستعلان موقفه من جديد في حركة التاريخ.. كانت سموم العوائد القديمة قد اجتاحت بنيته الذهنية فيما لا يزال هو يقاوم للخروج من وهنه الناتج من رزحه تحت وطأة غفلات الأبويّة وأوهام التقليد.

لقد سوّرت متاعب الزمان وتوابع المحن بسورها السميك على العقول التي تَلِفت ازاء التقاط اي حجة او شرعة ضداً على الواقع السائد للعوائد الكسيفة.

ومرّ عقدان ساكنان ويزيد منذ تمرد عبدالمطلب، واحداثه لفتنة مكة. وفي العاشر من يناير 1877م، نشرت التايمز اللندنية خبراً من جدة عن رجل أسود عشريني سبح الى البارجة فاون المرابطة على ساحل جدة طالباً تخليصه من ربقة العمل مع النوخذة الذي يملكه.. فما كان من قائد البارجة، الكوماندور وارتن، الا تسليمه الى القائم بالأعمال في قنصلية جدة، السيّد أوزوالد، الذي سلّمه بدوره الى الوالي التركي، ممثل السلطات العثمانية المحلية في جدة.

استشاط غضباً من مضمون الخبر المنشور في التايمز كل من السادة جوزف كووبر وادموند ستورج من جمعية مكافحة العبيد، وارسلا برقية عاجلة من مقر الجمعية في 27 نيو- بورد ستريت بلندن الى قنصلية جدة، يخبرانهما بأنه كان الأدعى الالتزام من قبلهم بقوانين اتفاقية العاشر من اغسطس 1876م الخاصة بعدم تسليم العبيد اللاجئين لسلطات بلدانهم.

واضطر السيّد أوزوالد ازاء التساؤلات الحقوقية والصحافية الى فتح تحقيق رسمي خلص الى الآتي: الرجل اللاجئ الى البارجة، اسمه مرجان، وهو نوبي، اُختطف عن طريق البربر عبر مجرى النيل الى ميناء القصير ومنها هُرّب مع مجموعة أخرى من العبيد الى جدة، حتى بيع الى احد ملاّك القوارب الشراعية في جدة؛ اسمه ابراهيم عجلان، الذي سخّره لأعمال التحميل ومساعدة الركاب في سنبوكه. واعترف مرجان ان مالكه كان يُحسن معاملته ولم يكن يضربه قط. ولكنه كان يشتكي من تعرض جسده للبرودة حيث لا تكفيه ملابسه الخفيفة. ولأجل ذلك لجأ – عفوياً - للبارجة. واعتبر اوزوالد، في تقريره المرفوع، انه حيث لم تكن هناك اتفاقية بيّنية ملزمة فيما يخص العبيد اللاجئين فقد تم تسليمه للوالي التركي، الذي اعاده بدوره لمالكه بعد انتفاء دعوى اساءة المعاملة.

كانت محاولة مرجان أولى حوادث لجوء العبيد الى الجهات القنصلية البريطانية في جدة.. وهي وان مرت دون تدخل جوهري، فانها ستشكّل نقطة تحوّل في طريقة عمل الجهات القنصلية الأجنبية ازاء العبيد اللاجئين فيما بعد كما سنرى.

كانت تجارة العبيد مزدهرة بين ضفّتي البحر الاحمر: في انطلاقها من موانئ تاجورة (جيبوتي) وزيلع (الصومال) وبربرة ومصوّع (ارتريا) الى موانئ البحر الاحمر الآسيوية. وضمت تجارة العبيد الى جزيرة العرب عناصر افريقية عدة من ارتريا والصومال وجيبوتي واثيوبيا يدخلون عبر موانئ جدة والحُديدة والمخا، وقوقاز وجاويين يأتون في مواسم الحج، ونساء هندوس من بومباي ونساء من فارس وزنجبار يأتون عبر قنطرة جُزر كمران (بالبحر الاحمر).. بعضهم للاحتياج المحلي والآخر يجري اعادة تصديره شمالاً الى تركيا ومصر.

وبدت تجارة العبيد متجذرة حينها بشكل يتعذر معها مجرد التفكير في اجتثاثها، حد ان نائب القنصل البريطاني في جدة، مستر وايلد قد كتب في مذكرته التوضيحية الى الخارجية البريطانية في 1877م بان (ممارسة الرق في الحجاز غدت مؤسسة معقدة حيث انها تمارَس منذ عهد النبّوة، وان التدخل بين العبيد وملاّكهم انما هو مسألة شديدة الصعوبة).. لكنه عاد واستدرك بأن عبيد جدة يجري معاملتهم بشكل انساني وخال من الاهانات ونادرا ما تسجل ضد ملّاكهم اي شكاوي.

وصير الى مبادرات تنظيمية كان مُلهمها الأول الحد من نشاط تهريب الرقيق المتفاقم.

في الأول من ابريل 1877م، رُصد على قارب “قونيه” الذي يملكه عيسى بن خليفة من تجار سواحل الخليج، ستة عبيد كان يجري تهريبهم للحجاز من قِبل وكيله سلطان بن حارب. وفطنت حينها السلطات البريطانية، الى حِيَل التهريب عند تجار الخليج ومتعهدي النقل البحري فيه. ورأىَ ماكدونالد، نائب الادميرال، (ان غياب قوائم المسافرين الهنود للحج وعدم طباعة اسم الراكب على التذكرة سبب في رواج تجارة العبيد بين رعايا الهند والحجاز).

وفي الحادي والعشرين من مارس 1877م اصدر الكوماندور كلايتون المقيم في مسقط الى نائب الادميرال ماكدونالد، يخبره ان عدداً كبيراً من العبيد يجري تهريبهم سنوياً من سواحل الخليج العربي الى الحجاز في مواسم الحج. وشرعت القنصلية البريطانية في الزام وكلاء شركات البواخر والقوارب في جدة، التي تتعامل مع حجاج الهنود وسواحل الخليج، على كتابة اسماء الركاب على التذاكر وتقييدهم في قوائم دخول.

وظلّت اكبر مسارات جلب العبيد لجدة تلك التي تأتي بالمخطوفين من اثيوبيا عبر وكلاء عرب مستقرون في موانئ تاجورة وزيلع ومصوّع ومنها عبر البحر الاحمر الى ميناء الحُديدة ومنها الى جدة واسواق مكة في مواسم الحج. وقدّر الكوماندور بويز في السويس في 3 يوليو 1877م عدد من جرى تهريبه من اثيوبيا – وحدها - الى ميناء الحديدة بثلاثين ألف عبد فقط في عام 1876م. كان العبيد يصلون للميناء ويباعون عبر وكلاء ومن يفيض يجري نقله الى مكة والطائف وينبع والمدينة دون اعتراض من السلطات التركية. ويقدّر عدد الذين يستهلكهم او يُعيد تصديرهم سوق جدة سنوياً من عشر آلاف الى خمسة عشر ألف عبد.

كانت جدة، درّة موانئ اقليم الحجاز، مركزاً رئيسياً لوصول العبيد، فيما كانت مكة، عاصمة الاقليم، مركزاً لاعادة تصديره، اضطراداً مع حركة مواسم الحج. وكان العبيد ينزلون على موانئ الحديدة وجدة وينبع على التوالي.. وحين سأل الكوماندور باوليت، الذي زار جدة لتفقد احوالها في يناير 1878م الوالي التركي في جدة، ان كان مينائيّ الليث والقنفذة يُستخدمان ايضاً لتهريب العبيد، اجاب بالنفي لان البدو سيسرقونهم فور رسوّهم. وكان البدو يقتنون عبيدهم من جدة بالشراء.

لم يخل بيت في مكة والمدينة وجدة من العبيد والجواري، الذين يُستخدمون للعمل كسقائيين للمياه وعمال يدويين وقراريّة (عمال بناء) ومرافقين وباعة في الدكاكين ومديرين ومحاسبين وصيادين، ناهيك عن القيام بالأعباء المنزلية. والنساء هن جاريات وسريات للمُلاك الذين لا يستطيعون تحمل تكلفة الزواج الرسمي، بحسب تعاليم المذهب الشافعي، وهن ايضا سراري للأثرياء والمترفين الباحثين عن التسليّة.

وكان كثير من العبيد في سوق مكة يعودون لرعويّة بريطانيا او رعويّة الهند الشرقية الهولندية. وأغلب الرق الهولنديون ينتمون لجماعات: البورنيو، والسيليبس او من جزر نياز - وكلها في اندونوسيا الحالية - وهم يُرسلون اول مرّة الى مصر، ومنها في مواسم الحج الى الحجاز. وكثير منهم يُسترقون في قصور أمراء مصر. وكان من ضمن العبيد الاثيوبيين المجلوبين للحجاز مسيحيون بالولادة، كما رُصد جواري في مكة من هندوستان.

عقدت مصر مع بريطانيا اتفاقية في الرابع من اغسطس 1877م لالغاء الاسترقاق والنخاسة في جميع انحاء القطر المصري، ومنحت الاتفاقية البريطانيين حق توقيف السفن المصرية للتفتيش عن العبيد. وتأثرت تجارة الرقيق في ميناء الحديدة مع القوانين الجديدة، وتفاعلت السلطات التركية في البحر الاحمر ببطء، وشرعت الى توفير قارب تجديف صغير في ميناء جدة للمراقبة الا انه لم يكن ذي اي تأثير. وشرعت القنصليات الاجنبية في جدة في تحرير العبيد اللاجئين اليها وترحيلهم الى ديارهم الأصليّة – لكن هذا تسبب في اندلاع فتنة بين اوساط القبائل.

يومها حدثت فتنة في اطراف مكة، واختل الأمن في الطرقات خصوصاً في طريق جدة-المدينة المنورة، ومع شهر رمضان، الموافق يوليو 1883م، خرج بعض المتمردين من قبائل زبيد وبشر ومعبد وسليم، والثلاث الاوائل بطون مسروحية تنتمي لقبيلة حرب، “خرجوا في طريق جدة، وصاروا ينهبون الحمل الذي يمر بهم” بحسب احمد زيني دحلان في خلاصة الكلام.

وحين همّوا الى الاعتداء على القنصليات الأجنبية في جدة، تصدّى لهم الشريف عون الرفيق، وقاتلهم حتى تقهقروا الى عسفان، فأدركهم وأوقع بهم حتى اطاعوا له، وساقوا جملة من المبررات التي دعتهم الى اشعال الفتنة، كان في صدارتها (أن النصارى يأخذون رقيقهم، ويطلقونهم من أيديهم ويرفعون الرق عنه، حتى عصي عليهم عبيدهم) بحسب دحلان.

بات ظاهراً ان يلجأ الرقيق الهارب الى القنصليات الاجنبية في جدة ويحتمون بها للحصول على شهادات الحرية. وكانت القنصليات تمنحهم شهادات حرية دون الرجوع الى ولاية الحجاز او انتظار اوراقها الرسمية. ويحتوي الارشيف العثماني تفاصيل قصة عبد هارب توجه الى استانبول في اغسطس 1889م مع افراد اسرته بعد حصوله على ورقة الحرية من القنصلية الايطالية في جدة دون موافقة الولاية.

ونادى القنصل الانجليزي في جدة الأهالي صراحة باطلاق سراح عبيدهم في نوفمبر 1891م. وكانت السلطات العثمانية تشعر بالضيق ازاء ذلك التدخل السافر في شئونها الداخليّة. وتوجست اسطانبول من اهتمام بريطانيا المتزايد بالحجاز، كونه كان يخالف مصالحها اقليمياً.

عاد عثمان نوري باشا واليا للحجاز في فترة ثانية في منتصف 1892م.. لكن عداءه الشخصي القديم مع الشريف عون الرفيق لم يلبث الاّ واندلع من جديد، محوره السيطرة على الحكم، وظاهره قضية الرقيق. واُنتدب احمد راتب باشا من قبل السلطان عبدالحميد للتحقيق حاملاً معه تعليمات تتلخص في اربع مهام، أولها: التحقيق في تمرد القبائل في الحجاز بسبب اعتراضهم على فرار عبيدهم.

رشا عون الرفيق، راتب باشا بستة آلاف جنيه ذهباً وضِعت في صرّة وسلمّت له لحظة وصوله في ميناء جدة، يؤكد الأفندي محمد نصيف ان الأخير قام بعدها جنيهاً جنيهاً. وكتب راتب باشا تقريرا يؤيد فيه الشريف، ويبرئ ساحته ضداً على الوالي، الذي حمّل اللائمة عليه. اجتمع راتب باشا ببعض شيوخ القبائل بوساطة من الشريف عون بن ناصر الذي انتدبه لأجل ذلك، ولما التئموا احتموا باسم جناب السلطان ورموا بعقلهم واشمغتهم على الأرض حسب العادات العربية مطالبين بالعفو، واعتبروا ان تمردهم كان احتجاجاً على فرار عبيدهم، وتراخي عثمان نوري المنحاز للاجئين والمدفوع الى رفع الرق عنهم.

دكة الرقيق؛ مؤسسة تجارة العبيد المكيّة

احد العبيد الصبية، يرتدي الزي المكّي، يحمل مولوداً لأحد أثرياء مكة (تصوير سنوك)

لما استفحل امر الدراويش المهديون واستولوا على الأقطار السودانية في مطلع 1885م، الغوا قرارات غوردن باشا واعادوا تجارة الرق الى افظع مما كانت عليه، فتدفق الى الحجاز، عبر عصابات سودانية محليّة، موجات ضخمة من الرقيق السوداني. وبات نشاط تهريب الرقيق من ميناء سواكن يجري في العلن، وعبر مجموعات ضخمة تتجاوز الألفيّ شخص مع كل حمولة بحرية.

وكما ازدهرت تجارة الرقيق والجواري في الحجاز، ازدهر معها نشاط شراء الحجاج العبيد لاعتاقهم، واعادة حرياتهم اليهم. وغصت مدن الحجاز بالأرقاء العتقاء، بل ان مدينة كاملة في جوار المدينة المنورة، وهي خيبر، قد تألّفت حصراً من الارقاء السابقين. وبرزت في مكة مؤسسة دكّة الرقيق، وكانت سوقاً للعبيد في اطراف سوق سويقة، على مقربة من باب الدريبة، يقوم عليها شيوخ التجارة، وملحقة بأحواش مفتوحة غير كبيرة يحبس فيها الرقيق في المساء.

وكانت مراسم البيع تجري بحضور شاهديّن، وتُسجّل في اوراق مجلوبة ومُصدقة من المحكمة الشرعية. ويصف المستشرق الهولندي سنوك هوروخرنيه الذي مكث في مكة عام 1884م، أجواء ومناخات بيع العبيد والجواري في دكّة الرقيق بالقول: (ازاء الجدار تقف الفتيات والنساء من الجواري على الدكّة، والكبار منهن لا يرتدين سوى حجاب خفيف، ويقف أمامهن على الأرضيّة الرقيق الذكور، وفي بهو القاعة يلعب مجموعة من العبيد الصبيّة. ويجلّس الدلالون على مركازهم ويتبادلون أطراف الحديث سوية او مع بضاعتهم من الرقيق).

فيما يصف طقوس الشراء: (واذا اهتّم زبون بصبي أسود صغير، يقوم الدلاّل المخصص بمناداته، ويطلب منه الكشف للزبون عن شعره، واقدامه، وبقية أطرافه؛ ويجبّر الصبي على فتح فمه واستعراض لسانه واسنانه، فيما يقوم الدلّال باستعراض مواهبه للزبون المهتّم). واذا جاء المشتري لابتياع جارية فحصها فحصاً دقيقاً من قمة رأسها الى أخمص قدميها كما تُفحص البهائم. فاذا تحقق من لباقتها ولياقتها سامها من البائع.

ويقوم المشترون عادة بعدة اختبارات للرقيق قبل اتمام عملية الشراء. فيسألونهم ان كانوا يتحدثون العربية، ويسألونهم بعض الأسئلة الشخصيّة.. ثم يقومون بالكشف عن علامات الاصابة بالجدري، ويبحثون في اجسادهم عن ختم (جدرّي خالص) تنويهاً عن تلقيحهم ضد الجدري – واللقاح كان يُمنح في الحجاز، مشفوعاً بشهادات اعتماد مختومة من مفتي الشافعيّة في مكة، ولكن قلّما كانت تمنح هذه الشهادات للعبيد. واذا ظلّ في نفس الزبون قليل من الشك، فانه يصطحب العبد الذي ينوي شراؤه لفحصه عند طبيب مقابل عائد مادي، او يقوم بصلاة (الاستخارة).. اما اذا كان يعمل بالرمل والندر، فهو يذهب لشيخ الرمل ليقرأ طالعه قبل اتمام صفقة الشراء. وأخيراً يسأل السيّد الجديد عبده: (هل انت راضٍ؟).. ومن خلال الاجابة، حتى لو جاءت بالسلب، يدرك الرجال بفراستهم فرص نجاح العلاقة الجديدة من عدمها.

ووقف الضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين الذي زار مكة متخفياً في عام 1898م على اجواء دكّة الرقيق، ووصفها بالمحفل الرهيب. يقول دولتشين: (وعندما زرت هذا السوق، كان هناك زهاء 80 شخصاً معظمهم شابات حبشيّات مع اثنتين او ثلاث منهم اطفال رضع، وجميعهن مزيّنات ومصفوفات فرقاً على دواوين طويلة؛ وكان هناك مقعدان يجلس عليهما كادحون راشدون من الزنوج، لابسون بعناية ومقصوصو الشعر.. يشرف على البيع تاجر عربي نشيط راح يمدح بصوت مدو مزايا بضاعته). وخلص دولتشين الى ان ما رآه قد ترك في نفسه انطباعاً كئيباً ومُرهقاً جداً.

لكن المستشرق هوروخرونيّه، الاعتذاري للشرق وممارساته وأخلاقه، اعتبر ان الرحّالة الأوروبيين الذين يحكمون على تجارة العبيد في الحجاز باستعلاء وبفرض تام لقيّمهم انما يجافون الواقع ويغلّبون نظرتهم السطحية والمستعجلة للأمور. (وأسفاً فإن غالب المستشرقين ينقلون لنا ملاحظات سطحيّة عن ممارسات الرقيق في مكة)، يقول هوروخرونيه. ويرى أنه لا يمكن ان يشتري احد في اسواق مكة اي عبد ذكر دون ارادته، لكن هذا الشرط يجري التسامح معه مع الرقيق الاناث والجواري. وان الرقيق اذا استشعر سوء المعاملة فانه يصرّ على بيعه حتى يرضخ مالكه، فيعيد تسليمه الى دكّة الرقيق. لكن ذلك كان يجري دون غطاء قانوني.

ويقول هوروخرونيه: (لا تبدو على الرقيق في البيوت اي علائم للحزن او السخط، وهم لا يسكبون دمعة واحدة على تقييد حرياتهم. لكنهم يبدأون في الاعتراض اذا ما تم اساءة معاملتهم حتى ينالون فرصة أخرى للبيع لمالك آخر). أما اذا اخطأ العبد فان عقوبة الضرب على أسفل قدميه في انتظاره. يصف هوروخرونيّه ذلك المشهد كما شاهده في احد حارات جدة: (يضجع العبد على بطنه، ويرفع قدميه للسماء، فيما ينزل المالك او احد رجاله بعصا ـ الفَلَكَة ـ على اسفل قدميّه، فيما يصرخ العبد معلناً التوبة، وطالباً العفو بإسم الرسول). لكن هوروخرونيه يستدرك ان هذه العقوبة هي نفسها التي يستخدمها أهالي الحجاز ازاء ابنائهم المشاغبين، نافياً اي شبهة تمييز. ويخلص المستشرق الى تسامح المجتمع المكّي واحترامه للعبيد.. كون العديد من الجواري، انما يصبحن أمهات لمكيين، فيما يعقب العبيد الذكور أسيادهم في مهنهم ومكاناتهم الاجتماعية، بل ويحملون ألقابهم العائليّة.

ويضرب هوروخرونيه مثلاً بأحد (كُباريّة) مكة، ممن ينحدر من عائلة أرستقراطية مكيّة عملت في الافتاء، في وصف المعاملة فائقة الاحسان التي يتعامل بها العبيد في الحجاز، فيشير الى تعامله شديد التهذيب حد التدليل لمرافقه المملوك، في احد الغدوات التي كان يحرص على لقائه فيها بشكل دوري ابّان مكوثه في مكة – واغلب الظن ان المقصود هو صديقه الحميم السيّد عبدالله الزواوي، مفتي الشافعية في مكة.

ويذهب هوروخرونيه، الذي كان يحكم على المظاهر بشكل نسبي، ان (عبيد) مكة هم في حقيقة الأمر الموازون للخدم والمساعدين الشخصيين في اوروبا (المتحضّرة). ويكاد يُفرط في اعجابه بالتعامل الأفضل الذي يحظى به العبيد في بيوت مكة. فهو يعلن رفضه للأحكام القاسيّة التي يُصدرها بعض المستشرقين الاوروبيين في عجالة ضد ظاهرة العبيد في الشرق، معتبراً انها مؤسسة متجذرة اجتماعياً، ولها أصولها القرآنية، التي يصعب الغاءها بجرّة قلم، او بمطالب نزقة من الغربيين. لكنه اعتبر ان اسوء الممارسات البغيضة التي تترافق مع تجارة العبيد، والتي لا يمكن التسامح ازاءها اطلاقاً، هي ظاهرة (الخصي) لفئة الأغوات الذين يحق لهم الدخول في مجالس النساء الارستقراطيّات، او اؤلئك الذين يعملون في فِراشة الحرم المكّي الشريف.

ولم يُخف هوروخرونيه بغضه لممارسات اختطاف الأطفال في افريقيا وبيعهم في اسواق الجزيرة العربية، لكنه اعتبر ان السؤال الجوهري يتعلق بنوعية الخطاب المعقول الذي يجدر بالغربيين استخدامه بما يساعد على القضاء على الظاهرة من جذورها، لا مفاقمتها من خلال اعلان العداء لها اعلاميا وسياسيا والترصد لممارسيها. وهو يضرب مثالاً بالسياسات الأوروبية المتخذة في القرن الافريقي لمكافحة تهريب الرقيق: (لقد اجبرت الجلاّبين ـ اي مهربي العبيد ـ على اتخاد مسارات أبعد وأكثر وعورة، تصل الى اثني عشر ساعة من المشي على الأقدام للوصول الى الشاطئ، وهو ما يعزز من فرص الوفيات بين الاطفال. ان سياسات محاربة الرقيق، لم تقلّص من اعداد المهربّين، لكنها فاقمت من اعداد الوفيّات)، يقول هوروخرونيه، الذي وجد في المقابل السياسات العربية في الحجاز اكثر انسانيّة. وخلص هوروخرونيه الى ان تجارة العبيد ستنتفي بالتنميّة البشريّة الحقيقية للمجتمعات الافريقية الفقيرة والمعوزة (لأنها ستعلي وقتها من قيمة الحياة للأفراد)، وهو ما كان يراه مفقوداً في أبجديات الخطاب الاوروبي الذي اعتبر انه يريد معالجة المسألة بالارجاف والتهمة وفرض سياقاته المختلفة بشكل متعسف.

الدستور العثماني الحديث: انتصار مؤقت للحريّات

بعد اعادة صدور الدستور العثماني في عام 1908م، وصعود الاتحاديين للحكم في الاستانة (اسطنبول)، تشددت السلطات ازاء تجارة العبيد في ولاية الحجاز، امتثالا لبنود الدستور. وصدر فرمان، نُشر في صحيفة تقويم الوقائع (Taqvim-i Veqayi) في الثلاثين من اكتوبر 1909م بالتأكيد على منع تجارة العبيد والتأكيد على حريتهم اياً كان لونهم او جنسهم – بحسب الدستور – وان اي مخالفة لذلك يُعد بمثابة جريمة يُعاقب عليها القانون. لكن مع عام 1910م يفيد تقرير للخارجية البريطانية بأن تجارة العبيد في الحجاز كانت لا تزال رائجة – وان بإستتار - خوفاً من التشديد الحكومي الأخير. ويسمّي التقرير اسماء التجار الذين يعملون في تجارة العبيد في ميناء جدة، كان أبرزهم؛ سعيد قاسم الصعيدي، ووكلائه: باسودان الحضرمي، والصافي الحضرمي.


1 - ما بعد الثورة العربية؛ الشريف وتجارة العبيد:


عام 1918م: صورة لافريقية تقيم في بيت الخصف خارج سور جدة (تصوير تشارلز وينكلسين)

عادت التجارة للازدهار من جديد مع قيام الثورة العربية الكبرى التي انطلقت من مكة في 1916م ضد الاتحاديين. لكن الشريف حسين، ملك الحجاز وقائد الثورة، سيقوم بعد اقل من ثلاث سنوات – في عام 1919م - باغلاق سوق العبيد الشهير في مكة الذي يحمل اسم (دكّة الرقيق)، وفي البدء في التضييق على نشاط التهريب. وبزغت ازاء الترتيبات المحلية واغلاق اسواق ودكك الرقيق بدائل مبتكرة لبيع وتسويق العبيد في مدن الحجاز. كان العبيد بعد هبوطهم لأرض الميناء يوزَعون على منازل الدلالين في جدة الذين يقومون بدورهم ببيعهم سراً، لا في سوق او مزاد علني، وانما بالدلالة المباشرة. وارتفع سعر العبد الذكر مع حلول عام 1921م في جدة الى ستين جنيهاً استرلينياً. اما العبدة المؤهلة بالقيام بأعباء المنزل فوصل سعرها الى مائة جنيه استرليني.

ومع ديسمبر 1921م عادت تجارة العبيد لسابق عهدها مع تراخي السلطات. ويفيد تقرير المايجور مارشال، قُنصل بريطانيا، الذي بعثه الى قيادة البحر الاحمر في بورسودان، بأنه لم تعد للحكومة الحجازية الهاشمية القُدرة على السيطرة على تجارة العبيد، ولا مُلاحقة المهربين، حد ان بعض رجال الجُمرك الفاسدين يُقدِمون بين فينة وأخرى على تلقي رسوم جمركيّة رسمية على شحنات العبيد، وآخرها شحنة قادمة من اليمن محمّلة بعشرين جارية حبشية – تماماً مثل الايام الخوالي قبل الدستور العثماني!

وبيع الشاب عثمان آدم -16 سنة- من قِبل آدم عبدالله البرناوي في جدة الذي كان قد احضره من سواكن للعمل معه ثم حينما تقاعس باعه بـ 44 جنيهاً. وتم البيع بواسطة الشيخ محمد جبركاني احد شيوخ البرنو، فيما كان الدلّال الشيخ ادريس مالك الذي تحصّل على عمولة البيع ومقدارها أربع جنيهات.

كان من وجهاء الجاليات الافارقية المستقرّة في مكة من يتوسط ويعمل دلالاً في بيع العبيد المجلوبين من افريقية، وكثيراً ما كانوا يتخذون اساليب المراوغة والحيلة. وفي موسم حج عام 1921م، اُختطف عبد مرافق لأحد ميسورات السودان وتدعى عيشة يوسف. اختطفه منها في جدة احمد محمد ابوبكر. وحين ارادت استعادته توسطت لدى شيخ البرنو في مكة محمد فونتامي الذي افادها بوفاة مالِك العبد، وان العبد اصبح من الآن ملكا للشريف ودفع لها تعويضا. وذهبت عيشة الى المدينة المنورة وتزوجت فيها، وحين عادت الى جدة وجدت عبدها السابق قد سُلّم من الفونتامي الى شيخ آخر للبرنو تمهيدا لبيعه لمصلحة الأول.

وفي رسالة من نائب القنصل في جدة للقيادة في بورتسودان بتاريخ 10 يناير 1922م، تفيد بوصول اعداد كبيرة من الاطفال الاثيوبيين المخطوفين للحجاز، وبشكل يومي. ورُصد في الأول من يناير وصول 37 طفلاً، وفي الثاني من يناير 45 طفلاً، وفي الرابع من يناير 5 اطفال.. وصلوا جميعا من ميناء تاجورة في الصومال الفرنسية (جيبوتي)، حيث تم شحنهم بالسنابيك الى ميدي في اليمن عبر شيخ ميناء ميدي الشيخ عبدالمطلق، وفي ميناء حبل عبر الشيخ سعيد بن مساعد، احد وسطاء تجار عبيد الدنقلة بين سواحل ارتريا وتجار الحجاز.

في جدة.. كان يستقبل الاطفال المهربين السيد عبدالحميد ابن عبدالمطلوب بعد ان ترسو سنابيكهم في الرويس او جنوب جدة حيث مقبرة النصارى، خارج السور. وكان تهريب العبيد ممنوعاً رسميا، لكن يجري غض البصر عنه مقابل رشوة مقدارها 3 جنيهات ونصف عن العبد. وفي الحالات القليلة التي يجري اخطار السلطات بالعمليات وتقوم بمداهمتها، يجري اعتقال المتورطين عبر شرطة جدة المحلية. وكان شيوخ تجارة العبيد في ميناء تاجورة – وهي احد مقاطعات جيبوتي الست: علي احمد، حسن محمد، داود خنبشي وجرّات العبلي.

فزع الصحفي العربي/ الامريكي أمين الريحاني ابان زيارته للحجاز وعسير في انحاء عام 1922م من تفشي داء العبودية.. فكتب وهو في تهامة تغلفه مشاعر الاحباط: (كنت أؤمل، على فرض وجود الرقيق والنخاسة، ان تكون الحكومة ناهضة للأمر متعقبة المجرمين، ساعية في محق هذه التجارة المستنكرة، الأثيمة، فوجدتها في الحجاز وعسير نائمة - وا اسفآه - او متناومة، او عاجزة. بل وجدت الحكومة أحيانا حليفة الرعاع).

والى جانب دكّة الرقيق في سويقة، كان هناك دكك للرقيق في كل من المدينة والطائف، وسوق للرقيق في جدة على بعد خمسين مترا من دار القنصلية البريطانية. فيما كان سوق عرد في تهامة احد اعظم اسواق الرقيق، وكان سوق ميدي مركزاً لتصدير العبيد الى عقبة اليمن والعسير وجدة. يقول امين الريحاني: (واذا اراد أحد السادة الأدارسة شراء جارية حسناء يجئ الى ميدي فلا تضل خطاه ومناه). ووجد بشئ من الأسف (ان في الحجاز من يحللون ويحبذون النخاسة ومنهم من يأسف انها غير مستمرة ويلعن المراقبة البريطانية).

في التاسع من مايو 1922م اخبر السير اوليفانت من الخارجية البريطانية الشريف حسين ان حكومة الملكة لن تدخل في اتفاقية ثنائية مع دولته ما لم تشدد القبضة ضد تجارة العبيد. وفي رسالة من قائد البارجة كورنفلاور الى الشريف الحسين في 22 يونيو 1922م، نجده يدعوه للتعاون في الغاء العبيد من جديد. الشريف الحسين ابدى امتعاضه من النظام الحالي للرق ولكنه كان يبرر بأنه كزعيم اسلامي يصعب عليه الغاء ما تجذر في الثقافة الاجتماعية للحجاز من شيوخ البادية وأعيان الحضر – فهو يكتفي بألا يُنكر ولا يؤيد. يقول المايجور مارشال، قنصل بريطانيا، انسجاماً مع تبريرات الحسين، بأنه يجب ان تكتفي حكومة بريطانيا بانتزاع ادانة أخلاقية من الحسين للرق. واعتبر المايجور مارشال في رسالة الى الخارجية البريطانية في 29 مايو 1922م، انه ليس من الموضوعية الحكم الأخلاقي ضد الشريف ازاء ثقافة تجذرت في التربة الحجازية والعربية لقرون.

وكان من الاوروبيين في جدة من تورط في تلك الممارسة. فالقنصل الايطالي استقدم عبدة من ارتريا، وطبيب هولندي معروف يقيم في جدة اشترى جارية حبشية في نوفمبر 1921م مقابل سبعين جنيهاً ذهبياً استرلينياً. وتعاونت السلطات المحلية في الحجاز مع الطلبات البريطانية لتحرير رعاياها – يعود ذلك لنشاط وزير خارجية الحجاز، الشيخ فؤاد الخطيب. وكان القنصل البريطاني يرسل بأسماء وجوازات من يعتقد انهم تجار للعبيد، للخارجية الحجازية التي كانت ترد على الاستفسارات بشكل فوري.

في السادس والعشرين من ديسمبر 1922م، اشتبه القنصل بخمس تجار يحملون الجواز الحجازي من اصول حبشية كانوا في اتجاههم عبر ميناء جدة الى عدن: سراج بن بكر، عربو بن محمد، محمد وحمزة بن ثاني، وعلي بن عبدالله – وكلهم في عقد الثلاثينات، ولكنه عاد وأكد انه لا يملك اي دليل ادانة ضدهم. وكان كثير من مهربي العبيد في تلك الفترة أحباش يحملون جوازات سفر حجازية يحصلون عليها بالحيلة او بالرشوة، مثل علي بن عبدالله الحبشي، حامل جواز حجازي رقم 11/1060 بتاريخ 26-6-1341هـ؛ وصالح بن ابراهيم الحبَشي، حامل جواز حجازي رقم 3/237 بتاريخ 14/1/1342هـ. واسمه الأصلي صالح ابراهيم تراب، والده ابراهيم تراب، حبشي يحمل الجنسية الفرنسية، من كبار تجار العبيد في تاجورة.

وكان صالح قد هرّب الى جدة في يونيو/ يوليو 1923م، مائة وثلاثين عبداً، منهم ستين امرأة، تتراوح اعمارهن ما بين 10 و 25 سنة، عبر سنبوك (فتح الخير) الذي يملكه علي محمد من خوخة اليمانية، حيث استلم شُحنتهم احد اخوته الصغار في جبل الشِحر باليمن، وانتقل بها صعوداً على ظهور الجمال الى جدة حيث التقاه اخوه صالح ووالده ابراهيم الذي التحق بهما من ميناء مصوّع. وقد بيع عبيد ابراهيم تراب المجلوبون الى جدة بأربعين الى سبعين جنيهاً للفرد.

السلطات الفرنسية حاولت الحد من التجارة البغيضة المنطلقة من سواحلها. وقبض على المُهرب ادريس بن عبدو الحبشي، حامل جواز حجازي رقم 2/200 بتاريخ 11 المحرم 1342هـ، حال وصوله الى ميناء جيبوتي، وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات مع خمسة تجار أحباش آخرين يحملون جوازات حجازية كان من ضمنهم صالح تراب الذي تلقى حكماً بالحبس مدته ثلاث سنوات. وفي مايو 1923م، لاذ آدم بن يحيى من أهل الفاشر الى القنصلية البريطانية.

جاء آدم لمكة في 1917م وهو لايزال طفل حر تم خطفه من بلاده، وبيع الى رئيس شرطة مكة منصور بن زاهر، وظل يعمل في خدمته ست سنوات، وحينما طلب منه اعتاقه او بيعه، باعه على احد شيوخ حجاج الجاوا من المكيين، ثم استرده واخبره بانه سيبيعه لشخص اكثر وجاهة على أمل اعتاقه. وفي غضون ذلك التحق به في مكة عمه عبدالله بن محمد، والشيخ جبريل وكلاهما من وجهاء الفاشر، سعياً منهما لضمانه واثبات أصوله الحرة. وفي السادس والعشرين من مايو 1923م، قدّم وزير خارجية الحجاز فؤاد الخطيب اعتذاره للحكومة البريطانية واعتمد اخلاء سبيل آدم للسودان على الفور.

القنصل البريطاني بولارد: عهد من الترصد لمقتني الرقيق

عُيّن ريدر بولارد قنصلاً ومعتمداً بريطانياً في جدة في يونيو 1923م وبقي معتمداً حتى حصار السعوديين لجدة، قبل ان يترك منصبه لنائبه المستر جوردان، قبل سقوط جدة بأشهر معدودة في يد جيوش ابن سعود. كان بولارد سادس معتمد قنصلي رفيع يجري تعيينه في الحجاز بعيد اندلاع الثورة العربية الكبرى التي تحالف فيها شريف مكة مع البريطانيين.. ولم يكن بولارد مثل القناصل المخضرمين الذين جرى تعيينهم عقب الثورة مباشرة، من امثال الكولونيل سيريل ويلسون، الذين عبّروا عن تجربة طويلة وعميقة في فهم الذهنية الشرقية واحترام مطامح العرب وتطلعاتهم. بولارد، على النقيض، كشف عن موقف عدائي اتسم دوماً بالصلف والتكبر الاستعماري.

اشتهر بولارد بمعاندته لمطامح الشريف السياسية حتى اتسعت الهوة بينهما، واتخذ من حوادث اقتناء وانتهاك معاملة العبيد مدخلاً واسعاً لملاحقة الشريف واعوانه وكبار التجار في الحجاز، وان كان من الانصاف ان نذكر ان كثيراً من مواقفه اتسمت - ولو ظاهرياً - بالإنسانية. لاحقاً في مذكراته التي حملت عنوان: (الجِمال يجب ان ترحلThe Camels Must Go)، اعترف بأن الوضع بين الحسين وبريطانيا (كان مثالاً من امثلة العداء بين الشرق والغرب. وهو عداء كثيرا ما ينشأ بسبب ان كل طرف من الطرفين ينظر الى الأمور من وجهة نظر مختلفة).

وتُظهر وثائق الخارجية البريطانيّة، ان بولارد انتظر عاماً كاملاً قبل ان يتبنى النبرة الضارية ضد اقتناء الحجازيين للعبيد.. يعود ذلك لموقف الشريف حسين المتعنّت ازاء توقيع الاتفاقية البريطانية - الحجازية الذي كان يتطور بشكل طردي. كان الشريف حسين يشعر بابتزاز البريطانيين له في تسييسهم لموضوع الرقيق على اراضيه، واضطر الى مواجهة ما لمس بأنه استغلال سياسي لموضوع الرقيق من قبل البريطانيين، بتسييس مُضاد. وفي حادثة شهيرة، أمر فوراً باعتاق عبد سوداني فقط حينما كان بائعه المتورط سوداني آخر يحمل الرعويّة البريطانية، يريد بذلك خلق انطباع للبريطانيين بأن ممن يمارس تجارة العبيد أيضا هم ممن ينضوون تحت رعويتهم، وان ذلك لا يقف على رعايا الحجاز.

ولربما نجح الشريف في خلق ذلك الانطباع، الى حد ان القنصل بولارد في رسالة منه الى رمزي ماكدونالد، وزير الخارجية البريطاني ـ ورئيس الوزراء البريطاني فيما بعد ـ وفي الحادي عشر من يونيو 1924، أقرّ بأن الرعايا البريطانيين من هنود مكة يمارسون بيع وشراء العبيد في مكة وجدة مثل الرعايا الحجازيين تماماً، وهو يستأذن منه استدعائهم جميعا من مكة فرداً فرداً للتبيّن ما ان كان من يعمل في دورهم عبيد ارقاء حقاً ام مجرد عمال أحرار يعملون بالأجرة.

بولارد اقترح بدوره ان تمنح التابعيات الحجازية، للمطالبين بها من المهاجرين الهنود القدامى في مكة، دون ندم او تردد، كونهم قد استعرقوا في الحجاز بما يكفي، وانصهروا في تركيبة المجتمع الحجازي حتى انهم باتوا يمارسون أغاليظهم الاجتماعية ذاتها، بحسب تعبيره.

وبدأ الحسين، مع معاندة البريطانيين له في مطالبه بتسويات عادلة في كل من سورية وفلسطين، بالتعنت ازاء قبول القنصليات الأجنبية لأي لاجئين من العبيد. وفي احدى المراسلات بين حكومتيّ الحجاز والخارجية البريطانية كانت تعترض الأخيرة على الرسوم الجمركية المفروضة على العبيد في ميناء جدة، فجاء الرد في جهة أخرى تماماً حول ضرورة تقديم تسوية عادلة في سورية ضد الانتداب الفرنسي.

وخفت نشاط لجوء العبيد الفاريّن من ملاّكهم الى القنصليات الأجنبية، لتشدد السلطات الحجازية ازاء ذلك. لكن في الخامس من اغسطس 1924م لجأت امرأة تدعى (مؤمنة) مع ابنتها الصغيرة وهي من اهل السودان الانجليزية الى دار الاعتماد البريطاني (القنصلية) في جدة تطلب تحريرها وترحيلها الى وطنها – خارقة بذلك السكون الطويل. ومؤمنة كانت قد وصلت الى مكة قبل عام عن طريق بائعها في جدة محمد باعقومة وهو سوداني. فارسل بولارد الى الشريف حسين في مكة في 13 اغسطس لاصدار اوامره الى قائم مقامه في جدة لتحريرها.

باعقومة كان قد فلت من الاعتقال في جيبوتي الفرنسية وعاد الى جدة من جديد حيث قبض عليه في قضية بيع امرأة اخرى، حتى ان القنصل البريطاني عبر عن استيائه من تراخي الفرنسيين في ضبط سواحلهم في رسالة امعتاض وجّهها الى القنصل المؤقت الفرنسي في جدة السيد كلال وهو من اصل جزائري. فارسلت الخارجية الفرنسية من باريس رسالة الى السفير البريطاني في باريس في 23 سبتمبر 1924م للتفاهم المشترك حول التعاون بين قنصلية البلدين في جدة للحد من تجارة العبيد.

كان الحسين في أواخر عهده حاسماً في منع قبول القنصليّات الأجنبية في جدة لأي حالة لجوء من الرقيق، مع وعود صارمة منه بملاحقة المهربّين. ونحن كلما اقتربنا من لحظة تنحي الحسين عن العرش ورحيله الى المنفى نلمس ازدياد حساسيته ازاء القضايا (السيادية). يقول بولارد الذي عاصر آخر ستة عشر شهراً للشريف حسين وهو في العرش، كمعتمد قنصلي في جدة: (طيلة ستة عشر شهراً قبل تنحي الشريف حسين، فقط امرأة واحدة لجأت للقنصلية بطفلها ـ وهي مؤمنة السودانية – البقية كانوا يرتعبون من الحسين ومن قبضته الحديدية وكانوا لايجرؤون على الاقتراب منا).

واخذت قضية اختطاف فتاتين جاويّتين مسيحيتين وتهريبهما لمكة أبعاداً دولية. الفتاتان كانتا في طريقهما الروتيني لأحد جزائر ارخبيل الملايو، لكن سمساراً حضرمياً اعترض طريقهما واختطفهما الى سنغافورة ومنها الى مكة، حيث بيعتا بمقابل 500 جنيه استرليني للفتاة، لندرة الجاريات الجاويات آنذاك وشدة الطلب عليهن. ووصلت الفتاتان، كما تشير وثائق الخارجية البريطانية، الى نفر من آل شيبي، وان كنّا لا نعلم بالبيع ام بالاهداء – وآل الشيبي من اقدم عائلات مكة وأكثرها وجاهة بعد عائلة الشريف. وحينما وصل الأمر للسفارة الهولندية اخطرت بدورها فؤاد الخطيب، وزير الخارجية الحجازي، الذي اصيب بانهيار عصبي جرّاء ذلك الخبر، كونه يأتي في وقت حرج على الدبلوماسية الحجازية التي كانت تواجه خطراً حدودياً عسكرياً سعوديا محدقاً يشي بزوال دولتها. ومرر الخطيب الخبر بطريقته للشريف حسين، وكان الخطيب يريد تخفيض الخسائر الدولية، فاستشاط الشريف غضباً واعتذر بحرارة للهولنديين وامر باطلاق الفتاتين وبتوبيخ المتورط من آل الشيبي بشكل معلن وصارم، لرغبته في اظهار ان عدالته تنسحب على الجميع.

وبعد تنازل الشريف حسين، ورحيله الى المنفى، تقاطر العبيد الى مبنى القنصلية البريطانية في جدة طلباً للعتق والترحيل الى بلادهم الأصلية. يؤكد بولارد في وثيقته التي حررها من 16 صفحة الى وزير الخارجية البريطاني: (لحظة رحيل الحسين الى منفاه بميناء العقبة تقاطر العبيد على القنصلية البريطانية، مع أقلية ارترية لجأت للقنصلية الايطالية).

وفي الثامن عشر من ديسمبر 1924م حررت القنصلية البريطانية فردين لجئا اليها، بعثتهما الى ارتريا عبر جيبوتي، وكانا: بشير (واسمه الحقيقي ارصوره) عمره 12 سنة، ومالكه السابق: الشريف عبدالله مهنّا، وفرج (واسمه الحقيقي عنبر عبدالله) من اهل الفاشر في الطرف البريطاني - المصري ومالكه السابق: احمد الصبحي من عربان قبيلة حرب، وقد وصل الى سواكن في 25 ديسمبر 1924م، بعد عشرين عاما قضاها في إسار العبودية.

واذا كان الشريف حسين، في آخر سنواته، قد تعامل مع دعاوى اطلاق العبيد ولجوئهم للقنصليات الأجنبية بجدة بحساسية شديدة، فاننا نلمس في المقابل نبرة اعتذارية من افراد طاقمه الوزاري والاداري المقرب. كما ونلاحظ وجود محاولات نبيلة من فؤاد باشا الخطيب وزير خارجية الحجاز، وعبدالملك الخطيب سفير (مُعتمد) الحجاز بمصر، وناجي الأصيل، سفير (مندوب) الحجاز في لندن، وأبناء الحسين؛ علي وفيصل وعبدالله، لطي ملف الرق في الحجاز.. لكن جهودهم بعثرتها أولويات أخرى منها القضية الحدودية مع ابن سعود، وشبح الحرب الذي كان يخيّم على الأجواء، وتضعضع الاوضاع الأمنية في نواحي القبائل الحجازية الساخطة على سلطة الهاشميين خارج المدن المركزية، وتأجيل توقيع الاتفاقيات بين البريطانيين والحكومة العربية الهاشمية في الحجاز نتيجة تصلّب الحسين حول بعض البنود التي كان يراها تخدش سيادته على الاراضي العربية، وتخلّ بوعوده لأهالي فلسطين وسورية.

وفي اغسطس 1924م تورطت امرأة مكيّة في قضية تهريب للرقيق تناولتها الصحافة الدولية بشئ من الاثارة. كانت تلك السيّدة المكيّة تمكث في جاوى، عند احد العائلات المحلية الميسورة التي استعانت بها لتعليم بناتها اللغة العربية وتعاليم الإسلام، وحينما همّت للعودة لمكة طلبت منها العائلة ان تصطحب معها احدى بناتها لتقضي فريضة الحج معها، لكن السيدة عند وصولها الى مكة ادعت ان الفتاة من أملاكها وعاملتها على هذا الاساس. ووصل اخو الفتاة المختطَفة للحج، وحاول سراً تهريبها لكن السلطات اوقفته في بحرة (في الطريق بين مكة وجدة) واعيدت الفتاة لمنزل سيدتها التي تمسّكت بها.

كانت صحيفة الديلي كرونكل البريطانية قد نشرت في السادس من نوفمبر 1924م، عبر مراسلها الجديد في البحر الأحمر – ومقره السويس، مستر جورج رينويك، تقريراً لافتاً تحت عنوان ساخط: (رعايا بريطانيون عبيداً للعرب).. كشف فيه عن ممارسات الخطف التي تجري في الاراضي البريطانية في آسيا وافريقيا لعبيد يُباعون في الجزيرة العربية. وذهب التقرير الى ان تلك التجارة انما (تحظى بتشجيع ملكي من الحسين.. حيث ان احد وزراء حكومته يملك وحده 14 عبداً.. بل ان الحسين، نفسه، وهو في طريقه الى منفاه اصطحب معه عبيده الأفارقة).

وارسل السيّد ناجي الأصيل الى السيد ماليت في الخارجية البريطانية، رسالة يعبّر فيها عن استيائه عما قرأه في صحيفة الدايلي كرونكل عن تجارة العبيد في الحجاز.. مؤكداً موقفه الشخصي المناهض لتجارة العبيد ومعلنا ترحيبه للتعاون مع وزير الخارجية الجديد في اضافة بند في اتفاقية الحجاز وبريطانيا تُبطل ممارسة العبودية.

لكن مكة كانت اثناء ذلك قد سقطت في يد جيوش الإخوان ضداً على حكامها الهاشميين الذين تراجعوا الى حصون جدة. وتواصلت القنصلية الهولندية مع الخارجية السعودية وممثلها آنذاك الشيخ فؤاد حمزة، الذي كان يواجه امتحانه الدولي الأول في قضية الرقيق الحجازي، فوافق على الفور على اطلاق سراح الفتاة الجاويّة لكنه امر بتسوية لمصاريف سكن ومعيشة الفتاة في مكة تُدفع لسيّدتها.

وفي عام 1924 صعد نجما: المنشي احسان الله وهو مسؤول قنصلية بريطانيا في مكة، والسيد يوسف خان من وجهاء مكة من أصول هندية، وكانا يقاومان، بكل استنارة، ممارسة الرق في مكة. ومع انتقال الحكومة الهاشمية من مكة الى جدة، وانتقال العرش من الحسين الى ابنه علي، بدأت مساعي بولارد لملاحقة ملاّك العبيد في الحجاز تأخذُ أبعاداً دولية.

ومع بدايات حصار السعوديين لجدة ارسل بولارد رسالة الى الحاكم المدني لولاية البحر الاحمر هاويل اسك، في 20 يناير 1925م، يخبره انه لن يقوم باستقبال اي من العبيد اللاجئين الى دار القنصلية على الفور كونه لايريد ان تمتليء القنصلية بالعبيد الفارين في وقت حرب مما سيعقد المساعي الدبلوماسية، لكنه في المقابل سيتقيد بما نصت عليه اتفاقية بروكسل الأخيرة في الغاء الرق، باعتاقهم واطلاقهم احراراً في جدة – ولكنه اعترف بعدم جدوى ذلك كون العبيد المعاتيق يعودون الى ملاكهم السابقين تحينا لأفضل فرصة لترك الحجاز الـى بلادنهم الأصليّة.

واعلن بولارد بأن اول مسألة سيفاتح فيها ابن سعود عند سقوط جدة هي حثّه على الغاء العبودية. لكن بولارد اعترف بضعف موقفه التفاوضي، كون التقارير الصادرة مؤخرا من جنوب افريقيا تفيد بمهازل يقيمها ابناء جلدته البيض ضد السود، لكنه قرر انه سيركّز علـى قضية الغاء الرق في الحجاز من منطلقات انسانية صرفة لا مُسيّسة.

وكان بولارد يتنبأ بسقوط جدة الحتمي في يد جيش الاخوان، وهو لم يكن يخفي بغضه للعائلة الهاشمية في الحجاز. واعترف بولارد بأن الملك الجديد علي بن الحسين، كان نظرياً اكثر تحررا وانفتاحا من والده، وبانه ضد تجارة العبيد. وكان علي، قد استهل ولايته الدستورية على ما تبقى من اراضي الحجاز، باعطاء وعود للقنصلية البريطانية تقضي بتحرير كل الرق الموجودين في الحجاز، وإبطال تجارة العبيد ومعاقبة ممارسيها، حال انتهاء الأزمة القائمة واسترداد سلطاته لعافيتها. ثم اصدر قراراً نافذاً من حكومة الحجاز الدستورية يمنح العبيد حق الجوء للقنصلية البريطانية من جديد، خلاف التصلّب الذي ابداه والده.

ومع مارس 1925م واشتداد أزمة حصار جدة، لجأت بعض عوائل الحجاز الميسورة الى مصر طلباً للسلامة واعلاناً للحياد. وارسل بولارد القنصل البريطاني في جدة الى المعتمد السامي البريطاني بالقاهرة في العاشر من ابريل يناشده بايقاف كل من يصطحب عبيده معه وبأن يرغمه بقوة القانون على اطلاق سراحهم. كان الفارون من الحجاز يذهبون الى موانئ مصر والسودان كمجموعات عائلية تضم عشرين فرداً في المعدّل يرافقها خدم شخصيّون يدخلون مصر بجوازات (خدم) – لكن بولارد كان يصّر على ان هؤلاء رقيق تم شراؤهم. واخبر القنصل الهولندي في جدة، بولارد، بأن المطوّف الحجازي المعروف، السيّد محمد نور جوخدار يصطحب معه جارية جاوية اسمها (موار) اعيد تسميتها بنعيمة وانها تعمل عنده كجارية، وأن نور جوخدار في طريقه للسويس مع عائلته. فطالب بولارد من حاكم السويس تعقبّه ومعاقبته.

وفي رد من حاكم السويس في الثاني والعشرين من ابريل 1925م الى قنصلية جدة.. أفاد بانه جرى تعقب الشيخ محمد نور جوخدار وتحديد مقر اقامته بفندق الحميدية بالسويس حيث كان يقطن مؤقتاً كلاجئ سياسي مع عائلته وخدمه ومن ضمنهم نعيمة، منذ الخامس من مارس 1925م قادمين علـى متن الباخرة الايطالية إلتريسو. لكنهم وجدوا بعد اجراء التحقيقات سلامة موقفه، ورضا نعيمة التام بأوضاعها.

وأقرّ الشيخ الجوخدار في سير التحقيقات، بأنه اشترى نعيمة كجارية قبل عامين، من تاجر الحبوب الجدّاوي مصطفى اسلام مقابل خمسين جنيها استرلينيا، ثم منحها حريتها، وقام بتوظيفها لديه للخدمة المنزلية بناء على طلبها ومقابل راتب شهري قوامه 3 ريالات مجيدية، وانه لا يعرف والديها وان كان يظن انهما يقطنان في جاوى. واقرّت نعيمة، وهي شابة في الخامسة والعشرين، بأن اسمها الفِعلي موار، وانها ولدت في جزر الهند الهولندية وانها حينما كانت في الخامسة اختطفت عبر امرأة اسمها رحمة وهي التي قامت بتهريبها الى مكة حيث مكثت معها اثني عشر عاما ثم بيعت لأخت الشريف حسين التي باعتها بدورها للتاجر مصطفى إسلام ومنه لمحمد نور جوخدار. وان اسم والدها محمد طاهر من بوقس، وهو من رعايا هولندا. وان ابن مالكها السابق كان يتسرى بها. أما محمد نور جوخدار فقد اعتقها لوجه الله وان معاملته لها انسانية ونبيلة. وأكدّت بانها حرة بشكل تام وانها لا تريد ان ترفع اي دعوى وانها ترغب في الاستمرار كعاملة مع بيت جوخدار.

وأرسل بولارد الى مُفوّض الشرطة في بومباي في 29 يونيو 1925م يطالبه بتعقب أسرة الحاج عبدالله علي رضا، قائمقام جدة، ووكيل شركتيّ البواخر: ترنر مورسون وخطوط ناسا للملاحة البحرية في جدة – التي رحلت بحراً الى بومباي، يرافقها سودانيتان وامرأة يمنية اسمها (صفرار)، وحبشيّان هما: ريحان وتحسين – يعتقد بولارد بأنهم رقيق. كما طالب بولارد في ذات الرسالة بتشديد الرقابة على عوائل التجار الحجازيين القادمين الى كراتشي وبومباي هرباً من الحرب العامة، وضرورة التأكد من ان مرافقيهم الافارقة مجرد خدم يعملون مقابل أجرة متفق عليها لا رقيق.

وفي رد من شرطة بومباي في 26 اغسطس 1925م أفادت بتحرّيها الواقعة، لكنها برأت ساحة عائلة علي رضا كون الجوازات التي حملها الخمسة المذكورون تشير الى ان وظائفهم (عمال منزل) والى اقرارهم الشخصي بذلك، كما أكد مأمور الشرطة الى صعوبة اثبات عكس ذلك في اي محكمة هندية.

وحاول سكرتير المستعمرات في سنغافورة ملاحقة تاجر الأخشاب الشهير ومتعدد الجنسيات السيّد ابراهيم عمر السقاف على خلفية بلاغات من شرطة بنانغ حول تهريبه لفتيات صينيات صغيرات من سنغافورة الى مكة. كان السيّد (الداتو) ابراهيم، اكبر ابناء السيّد عمر السقاف، يتحدر من عائلة حضرمية الأصل استعرقت بين مكة وسنغافورة، ولها اعمال تمتد على طول امتداد فضاء المحيط الهندي الكبير. والسقّاف على امتداد ثروته وجاهه كان محسناً كبيراً، ينشط في مجال تبني الفتيات الصينيات الفقيرات لتحسين شروط معيشتهن.

وفي 17 مايو 1924م، تابع سكرتير المستعمرات بلاغ اختطاف فتاتين صينيتين اسمهما مهجة ووهبة وعمريهما 16 و17 على التوالي، عبر السيد سالم بن شيخ السقاف، وثبت مع التحقيقات انهما كانتا ابنتان له وزوجه نور بنت طاهر السقاف بالتبني وانهما انتقلتا للعيش في قصر ابراهيم السقاف في المعابدة في مكة. وعبثاً حاول السكرتير اثبات انهما مسترقتان – الا انه عاد واعترف انه لا يملك اي دليل ادانة ضد السيد السقاف.

في الثاني من يونيو 1925م ارسل القنصل بولارد من داخل سور جدة رسالة الى سلطان نجد، عبدالعزيز ال سعود يطلب منه تحرير مجموعة من الحجاج النيجيرين من رعايا بريطانيا الذين كانوا في طريقهم من المدينة الى جدة سيراً على الأقدام عندما أغارت عليهم جماعة من البدو وخطفتهم واستعملتهم كعبيد في ميناء القضيمة، وانهم محتجزون الآن في قصر بين رابغ وجدة في منطقة اسمها الخريبة [بئر مبيريك] من املاك شخص اسمه عبدالله. فابدى الطرف السعودي تعاوناً في ذلك.

وهربت (زهرة) من منزل آمنة بنت محمد الفضل في 23 يوليو 1925م ولجأت الى القنصلية البريطانية في جدة وطلبت اللجوء السياسي وارسالها الى وطنها السودان/ فاشر. وقد ارسل المعتمد البريطاني رسالة بذلك في اليوم التالي الى الشيخ فؤاد الخطيب. وتسببت الحادثة في احتجاج بعض الأهالي النافذين ضد تراخي حكومة الشريف علي.

وفي السادس والعشرين من اغسطس 1925م، في أوج حصار جدة، طلب الملك علي من نائب القنصل البريطاني المستر جوردان التوقف عن استقبال اللاجئين، غير انه وعد بابطال العبودية تماماً بعد انتهاء الحرب، بيد انه لا يريد اضعاف موقفه مع التجار والمحليين في الوقت الحالي. وارسل المستر جوردان، وكان اكثر تفهماً من بولارد لوجهة نظر الملك علي، الى القيادة البريطانية في السودان مؤكداً موقف الملك علي المناهض للعبودية، انما المشروط بنظرة واقعية: (الملك علي لا تروقه مظاهر العبودية المنتشرة، لكنه ايضا اقرّ بصعوبة الغاء ذلك بشكل قاطع لتجذّر الممارسة لقرون، فيما المسألة ينبغي مباشرتها برفق وتدريج، وانه نظرا لخصوصية المسألة، فانه يريد تجّنب اصدار اي قرارات قد تضعف من شعبيته اثناء الأزمة السياسية المندلعة.. لكنه وعد بالغاء الرقيق فور استقرار الحجاز وانجلاء أزمته).

لكن الخارجية البريطانية التي كانت قد رجّحت موقفها في الحرب لصالح ابن سعود، لم تعطي بالاً لمطالب الملك علي. وفي تلغرام من الخارجية البريطانية، الى نائب القنصل أبدت الخارجية عدم اقتناعها بالمبررات التي ساقها الملك علي، وأفادت بأن القنصلية يجب ان تستمر في استقبال اللاجئين وفي ارسالهم الـى ميناء سواكن بعد تحريرهم. في سبتمبر 1925م لجأ السوداني (بلال) الى القنصلية البريطانية هارباً من مالكه الشيخ دخيل الله، والأخير تاجر مواد غذائية بشارع قابل التجاري، فوضعت القنصلية بلال في احد البواخر الراحلة لسواكن، غير ان دخيل اتهم بلالاً بسرقة صندوق جواهر منه، فطالبت الخارجية الحجازية عبر فؤاد الخطيب باعادته من الباخرة للمثول امام قاضي المحكمة الشرعية، ولكن لمماطلة المحكمة، بعد احدى عشر يوماً، من اصدار اي حكم، قام جوردان بتحدي السلطات الحجازية وترحيله الى السودان. وكتب جوردان في 14 سبتمبر شارحاً الى الخارجية البريطانية: (لقد اضحى من عادات ملاك العبيد اتهامهم بالسرقة عند فرارهم والحصول على احكام في صالحهم من المحكمة الشرعية، التي تنحاز دوما للملاّك).

كان ذلك التضعضع والارتباك المتصاعد من طرف القيادات والمؤسسات والأهالي كناية صريحة عن أفول عهد على الحجاز، وبداية عهد سياسي جديد. في 21 ديسمبر 1925م سُلمت مفاتيح جدة سِلماً الى السلطان ابن سعود، وبعدها بأيام اُعلن عن تأسيس الكيان الجديد (مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها) وهو بداية العهد السعودي على كامل أراضي الحجاز.

الصفحة السابقة