تجارة العبيد في الحجاز


(1855-1962م)


2 من 2


قبل خمسين عاماً أُلغي الرق مطلقاً بقرار رسمي. هذا تطواف تاريخي سريع يبدأ
من عام 1855م وينتهي بعد لحظة اعلان الغاء الرق في المملكة السعودية بقليل


محمود عبدالغني صباغ


محمود عبدالغني صباغ

تسارع نشاط الاعتاق بين اهالي مكة، وهناك من باع جواريه بنصف اسعارهن، حينما نزحوا الى جدة في جماعات قبيل دخول جيش الاخوان الى مكة. وهبط سعر الجاريات في دكة الرقيق في مكة من سبعين جنيهاً الى ثلاثين. وكان المطوفون يقنعون اغنياء الجاوا باعتاق العبيد المملوكين في مكة كونها مثل الصدقة الجارية. وتكرر هذا النمط قبيل سقوط جدة. ونلاحظ في نوفمبر 1925م في اوراق المحكمة الشرعية في جدة تسارع في نشاط اعتاق العبيد. فقد اعتق السيّد علي بن عثمان شطا، الذي لجأ كباقي أهل مكة الى جدة عند دخول جيوش الاخوان، في 1925م، زهرة عبدالله التي كان قد اشتراها من محامي الملك حسين في مكة الشيخ عمر، وأصدر لها حجة صادرة من محكمة جدة الشرعية، لكنها آثرت البقاء معه والعودة الى مكة مع آل شطا حينما تستقر الاوضاع فيها. وبذا تحرر كثير من العبيد بعد سفر اهل الحجاز ذعرا الـى موانئ مصر والسودان. واعتق الشيخ احمد بن محمد سعيد تاج (اخو جمال وعبدالغني تاج الدين، وآل تاج الدين من اثرياء مكة الذين يتاجرون مع سنغافوره وبتافيا)، جاريته زهرة عبدالله السوداني، وابنتها القاصر فريدة سالم، وغيرهما، كما تفيد صكوك المحكمة الشرعية.

في ذلك الوقت، كان يمكن اتلاف الصكوك الشرعية او مصادرتها بكل سهولة، فمقابل مبلغ بسيط من الرشوة كان يمكن اتلاف اي ارشيف في المحكمة الشرعية بجدة. وقد نشطت القنصلية البريطانية في ارسال المعاتيق الى بلدانهم. وفي رسالة من القنصل في 24 ديسمبر 1925م، الى السادة جلاتلي هنكي في جدة وكلاء الشركة الخديوية للملاحة، يطالبهم بتوفير تذاكر لنقل معاتيق الى سواكن: 26 شخصاً منهم: بخيتة ام مسعود، عبدالمولى بن سالم، عبدالله القصيمي، فرج لحياني، فرج الله، بلال، مبارك بن علي، ابراهيم تكروني وآخرون.

ورحب ابن سعود في حوار مع القنصل البريطاني بجدة بالتشدد ازاء منع دخول العبيد الى الاراضي الحجازية، ولكنه في المقابل اعتقد ان المنع يجب ان يجري بالتدريج، كون اي خطوة استفزاز قد تؤلب ضده قبائل الحجاز التي لا تزال تعتمد على العبيد. وأشار القنصل البريطاني للملك برصدهم لوكلاء نجديين ينشطون في تجارة العبيد في عمان والاطراف الشمالية من الخليج العربي وتوريدهم لنجد، وأبدى الملك تفهمه وتعاونه.

وفي رسالة من السير اورفالنت من الخارجية البريطانية الى القنصل البريطاني في جدة في 22 ابريل 1926م، أملى عليه سياسة بريطانيا الجديدة مع ابن سعود. وطالبه باستصدار قرارات منه بتشديد الحدود لمنع دخول العبيد المهربين للحجاز وعسير، اضافة الى منح القنصلية حق تحرير وتسفير من يلجأ اليها.. ثم كخطوة تالية اعلانه لالغاء العبيد مستعيناً ربما بفتوى من علماء مكة، وعلى نهج ما فعلت قبرص في قراراتها لالغاء الخدم المرغمين في 1879م. على اثر رسالة اورفالنت قام جوردان نائب القنصل ببعث خطاب الى الملك عبدالعزيز في 11 مايو 1926م، بذلك الامر.

وكانت سياسة ابن سعود هي عدم حرق المراحل والحرص على معاملة العبيد معاملة انسانية. وفي اول طلب رسمي للحكومة السعودية في الحجاز تقدم به نائب القنصل جوردان في 25 مايو 1926م، باعتاق المدعو عثمان موسى من اهل سواكن الذي اُختطف عام 1918م عبر الريّس عبدالخير بن الحسين، مالك السنبوك (خضرا) وبيع في ساحل ينبع لمازن بن عمر من اهل ينبع. وان عم عثمان: حسن عبدالفرج قد وصل ينبع لبحث سبل اعتاقه انما دون فائدة. وجاء في جواب الملك عبدالعزيز بعد اربعة ايام انه اصدر اوامره للسلطة المحلية في ينبع لتسليمه لعمه على الفور. وتفيد احصائات القنصلية البريطانية انه خلال شهريّ سبتمبر واغسطس من عام 1926م تم تحرير 97 شخص عبر قنصلية جدة.

معاناة مزدوجة

ليس كل من تحررهم القنصلية في جدة وتعيدهم الى ميناء سواكن تنتهي معاناتهم عند ذلك الحد. واُعتق سعيد أمان واطلق سراحه واُعيد للسودان في السابق لكنه عاد ادراجه الى القنصلية البريطانية في جدة بعد ستة اشهر يطلب اللجوء مجدداً! فحين وصل سعيد الى سواكن، بعد تحريره في المرة الأولى، عمِل معاوناً للناخوذة احمد مبارك الجهني على متن السنبوك (خضرا) من املاك محمد البربري من اهل سواكن. وفي رحلة تحمِل شحنة فحم متجهة الى جدة وبدلا من العودة مباشرة الى بورتسودان كما كان مجدولاً، انعطف السنبوك الى رابغ لتحميل بضائع ليجري تصريفها في جدة وبورتسودان على التوالي. ولكنه في الطريق توقف في قرية الرويس على مقربة من جدة فركب منها مصادفة مالك سعيد الذي فرّ منه في السابق، واسمه حامد بن قريب الجدعاني ومعه ثلاث عُربان هم: ضيف الله وحميد وحمدان، وكلهم من الجداعين. وحينما رأى الجدعاني عبده السابق، قام بارشاء النوخذة بـ 6 جنيهات استرليني مقابل تمكينه من مصير سعيد، رغم اعتراض ركاب السنبوك. وقام الجدعاني ببيعه بعيد ذلك في مكة الى مالك جديد اسمه حسن أبو النجا، من اهل مكة، الذي فرّ سعيد منه بدوره من جديد الى دار القنصلية البريطانية التي وضعته للمرة الثانية في غضون ستة أشهر على متن الباخرة المنصورة التابعة للشركة الخديوية في طريق حريته الى بورتسودان.

أفارقة الحجاز

توزع أفارقة مكة على جماعات اثنية منغلقة على نفسها منذ القرن الميلادي التاسع عشر، لكل جماعة منها شيوخها وشبكتها الاجتماعية الخاصة – تمركزت غالبيتها في منطقة البير المالح امام المنشيّة بحارة المسفلة او في حارة جرول. كان لكل جالية افريقية في مكة شيخها (كبيرها) الذي يفصل في خلافاتها بأحكام قضائية موازية، يعضده في ذلك نقيب مدجج بعصا، يقوم مقام السلطة التنفيذية. ومن المعروف مثلاً، ان من شيوخ البرنو في مكة في العشرينات الميلادية من القرن الماضي الشيخ محمد فونتامي (أو: فولاني)؛ والشيخ محمد جبركاني، فيما كان شيخ الفلاتة: الشيخ سمبو.

حجة صادرة من محكمة جدة الشرعية لصالح زهراء بنت عبدالله ومالكها السابق السيّد علي بن عثمان شطا

ساهم الرقيق من افريقيا الشرقية والسودان واثيوبيا وافريقيا الغربية (التكارنة) في اغناء التنوع الثقافي والإثني لمكة والحجاز. ومنذ عام 1885م وصف المستشرق الهولندي سنوك هوروخرونيه ملامح الحياة الاجتماعية للجاليات الافريقية/ المكيّة وكشف شيئاً من مظاهر ثقافتهم الفرعية الهجينة؛ فهم يقومون باحتفالات شعبية اسبوعية تبدأ من ظهيرة يوم الخميس وتمتد الى تباشير صباح الجمعة. وكان لهم في مكة ما اسماه هوروخرونيه بـ (الاوركسترا الافارقية): فيلعب الزنوج في مكة بآلة العود (الطنبورة) المكيّة، مرفقة بآلات الطبل، فيما يرتدي الراقصون أحزمة مشغولة بحوافر الغنم تُخرِج قرقعة أثناء الرقص والاحتكاك.. ثم يرقصون رقصة المزمار البلدي. وبين دورات الجوش يحتسي لاعبو العصا من شراب محلي مُسكر يسمّى البوظة. ثم يعودون ادراجهم للعمل مع ظهيرة يوم الجمعة. ويقول هوروخرنيه: ومأكلهم متوفر ولابأس به. وهم بعد تحريرهم يسعى الفرد منهم للعمل بالأجرة كعمال بناء او سقائي مياه، الخ. فيما اغلبهم يفضلون البقاء تحت وصاية الأسر التي خدموا فيها خصوصا اذا قرروا الزواج. ويتصدى الزنوج من ذوي المواهب الأكثر بروزاً للأعمال المنزلية، او يعملون كأمناء متاجر، ومحاسبي دكاكين تجارية.

يحبذ اثرياء مكة ملء منازلهم بالعبيد، وهؤلاء بدورهم يعيشون حياة مترفة مقارنة بغيرهم ويجري التعامل معهم كأفراد من العائلة. اما الكفؤين منهم فيتحولون تلقائياً الى مسيّري شئون التجارة للأسر التي يعملون فيها حتى يغدو (العبد) في كثير من الحالات مجرد لفظ خالٍ من اي مدلول. وأغلب عبيد المنازل يجري اطلاق سراحهم حال تجاوزهم سن العشرين، نظراً لخوف ملاّكهم من استمرار اختلاطهم كبالغين مع نساء الأسرة وجواريها، ثم ان التحرير يبقي العلاقة مستمرة انما يمنح المّلاك فسحة من الثقة مع الأفراد المُحررين. ويتنافس المعاتيق مع الرجال المكيين في كافة مجالات الحياة بنديّة متساوية. ولم تفرّق لوثة الاسترقاق بين أي طرف، كما انها لم تقف حكراً على اجناس الأفارقة والجاوى.

في 11 ابريل 1926 ارسل عيد بن سالم، احد عُربان المدينة المنورة الذين تم أسرهم في احد معارك الاخوان وتم بيعهم، برسالة (نداء) بعثها الى الوكيل القنصلي البريطاني في لنجا (على سواحل فارس) يخبره بملابسات اختطافه. فحينما حاصر جيش السلطان بن سعود المدينة المنورة، كان عيد يخدم في حامية مدائن صالح، ومع سقوطها تم تسليمه لجيش ابن سعود فنُفي الى قطر وهناك تملكه محمد بن فضال لمدة شهر، ثم اخذه في قارب لثلاثة اشهر بين جزر اللؤلؤ، وهناك حاول بيعه في جزيرة الشيخ (وهي جزيرة فارسية) لكنه هرب قبل ان يوقف في ساحل فارس ليعود ويمكث مع مالكه في نخيلو، حتى هروبه الثاني الان الى لنجا (لنجه) حيث يريد حسم امر حريته واثبات هويته. وكان عيد بن سالم قد خدم في جيش الشريف حسين النظامي منذ 1915م حين كان في سن الخامسة عشرة، وأكدّ في رسالته الى انه شخصية معروفة يمكن ان يضمنها هؤلاء السادة من اعيان المدينة: الشريف شحات، والشريف ناصر، واسعد بن طاهر، سنبل وعبدالمحسن بن طاهر سنبل. وأوضح ان عمّه هو جمعة بن شليّه واخوه هو عايض بن سالم.

وسمّت وثائق الخارجية البريطانية، في مايو 1926م، في رسالة للكولونيل بريدو، المعتمد السياسي في الخليج، اسماء تجار نجديين وحساويين يتاجرون في تهريب العبيد من سواحل الامارات الى دواخل نجد: عجيل النجدي في دبي، ومحمد القفيدي في دبي والشارقة والبريمي، وبن عتيق في الشارقة وعجمان، وعبدالله الطويل في الشارقة، ومحمد بن عبدالله النصيبي في عجمان.

ووقّعت حكومة الحجاز، تحت الادارة السعودية الجديدة، اتفاقية الغاء الرق في جنيف في سبتمبر 1926م.. لكن لحداثتها في الحجاز الذي كان يدخل مرحلة سياسية انتقالية، لم تعط الاتفاقية اي عناية، فاُهملت. وفي عام 1926م استخدمت حكومة التاج البريطاني اسطولها الرابض في مالطا لمراقبة تجارة العبيد في البحر الاحمر. كانت بريطانيا لا تزال تُحكم السيطرة على البحر الاحمر، الشريان الامبريالي الاكثر اهمية لها. ومخرت البارجة كورنفلاور (العنبر) القادمة من مالطا العباب بين عدن وجدة وبورتسودان. اما البارجة داهيلا (زهرة الأضاليا) فتركت مالطا للبحر الاحمر في 1927م.. وآبت البارجة كليماتس (الياسمينة) من ميناء بورتسودان الى مالطا عبر جزر كمران اليمانية.

كان متعهدو نقل العبيد بين ضفتي البحر الاحمر متى ما صادفوا بارجة حربية بريطانية، فانهم يوعزون في فورهم للعبيد بسرعة الاختباء، بعد ايهامهم بأن هؤلاء الرجال (البيض) انما هم من فصيل (أكلة لحوم بشر). ومن سخرية الأقدار ان البارجة كورنفلاور التي كانت تُستخدم للتفتيش عن العبيد المهرّبين في سنابيك البحر الاحمر، كانت هي من تولى نقل الشريف علي بن الحسين، آخر ملوك الحجاز الهاشميين الى منفاه الأخير في قبرص في 25 ديسمبر 1925م. وفي مايو 1927م اعترفت بريطانيا رسمياً بالحكم السعودي لمملكة الحجاز ونجد. وأصبح السير اندرو رايان، ممثلها في قنصلية جدة، أول مسؤل دبلوماسي رفيع بعد التحولات السياسية الأخيرة وصعود ابن سعود على عرش الحجاز. بعدها تم توقيع الاتفاقية البريطانية – السعودية (اتفاقية جدة)، وقد جاء في مادتها السابعة ان (يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بأن يتعاون بكل مالديه من الوسائل مع صاحب الجلالة البريطانية في القضاء على الاتجار بالرقيق).

لكن في السابع من يوليو 1927م قام السنبوك الشراعي (سلك الهوا)، الذي يملكه حاجي محمد، ويقوده الناخوذة محمد صالح الدنقلي، بنقل 75 عبد اثيوبي من أملاك التاجر احمد عمر، الذي جلبهم من جيبوتي، بالقرب من تاجورة، مورّداً اياهم الى موانئ زيلع (الصومال)، وأوبخ (جيبوتي) ومنها الى المخا (اليمن) ومن الأخيرة الى الحجاز بالتهريب. وقدرت الوثائق البريطانية انه في عام 1927م وحده تم تهريب ما بين ثلاثمائة الى اربعمائة عبد بين اثيوبيا وحدها الى موانئ الجزيرة العربية. وكانت آلية تهريب العبيد الاثيوبيين تجري كالتالي:

يُخطَف العبيد الاثيوبيون وخاصة البنات الصغار من انحاء أديس أبابا الغربية: من جماعات كافا وولغا وبني شنقول (وهؤلاء مقرّهم غرب اثيوبيا وهي منطقة تتبع شيخ الخوجلي الذي كان يفرض رسوماً ضريبية على تجار العبيد فيها) وكلهم من اصول عرقية زنجية يُسَمون باللغة الأمهرية بجماعة الشنقيلة – وهم ليسوا حاميين مثل جماعات الجلاس، فالجالاس والأمهريين هم من يخطف العبيد الزنوج ويتاجر بهم. بعدها يعبر العبيد المخطوفون في مسارات سريّة الى شمال اديس أبابا حيث اسواق العبيد في باتيس وداوا (مناطق تابعة للعيسى) ومنها يساقون الى تاجورة من خلال التُجار الدنقلة.

في تاجورة يجري تنظيم العبيد في جبل الغواد – ويفرض عليهم سلطان راهيتا ضرائب تجبى عبر شيوخ قبيلة العيسى الصومالية.. ثم يباع العبيد الى التجار العرب في جيبوتي مقابل 160 دولاراً للشخص الواحد، ثم لا يبعثون بهم من موانئ تاجورة الرئيسية مباشرة توجساً من الرقابة البحرية، فيرحلون بدلا من ذلك الى رأس دمار حيث يفرض سلطانها المحلي ضريبة اضافية عليهم. وحينما تهب الرياح الجنوبية على البحر الأحمر بين شهري نوفمبر ومارس، تنشط السنابيك وترفد سواحل جيبوتي موانئ الجزيرة العربية بأعداد من العبيد والجواري صغيرات السن.

وكان سلاطين الدناقلة في ساحل جيبوتي يتقنون صناعة النعل والسِكافة بشكل ماهر، لكنهم تورطوا الى جانب ذلك في تجارة وتسويق الجواري البغيضة. وكانت الحكومة الفرنسية في جيبوتي في فترة من الفترات تقاسم السلطان الدنقلي ارباحه من تجارة العبيد. وتحمل السنابيك في البحر الأحمر الكثير من الحصى الصغير (الصابورة) التي تستعمل كثقل الموازنة، وكانت تستخدم لتقييد ايدي العبيد.

الملك عبدالعزيز يوجّه باعتاق المدعو عثمان موسى الذي اُختطف وبيع في ساحل ينبع

في الحجاز تكون اقرب الموانئ لهم: القنفذة والليث وراس الأسود جنوب جدة، ويرسون بأعداد أكثر في الاخير، ومنها يجري تهريبهم الى اسواق جدة. وتصل اسعارهم في جدة الى ستمائة دولار. ويباع أعداد منهم للسوق المحلي، وجزء آخر يشتريه حجّاج اسطنبول والقاهرة وينقلونهم معهم الى ديارهم. أما من يبقى فيُعاد توزيعه الى المخا. وفي تلك الفترة كانت قبيلة الزرانيق البحرية جنوب الحُديدة من اكثر القبائل استهلاكاً للعبيد في الجزيرة العربية.

ولا تقف طرق التهريب على ما سبق. ومن طرق تهريب العبيد الذين يجري شراؤهم بشكل فردي: رشوة القضاة في تاجورة بخمس او عشر دولارات مقابل ان يصك لهم ورق زواج مع الفتيات فيتم تهريبهن بأوراق رسمية. وفي الضفة البحرية المقابلة من الجزيرة العربية، كان يُخطف صغار الهنود والبلوش لاستخدامهم في العمل في قوارب صيد اللؤلؤ بالبحرين والكويت. وفي 1928م كان عبدالله بن محمد دوار، في دبي، هو أكبر وكيل لبيع العبيد المجلوبين من كراتشي.

سنابيك البحر الأحمر: المتاجرة بكل شئ

كانت السنابيك في البحر الاحمر تنقل بين موانئ راس المدر وعدن والحديدة والمخا وجدة وعصب وجيبوتي بضائع مثل: السكر والتبغ والكيروسين (الجاز) والقهوة والحبوب والتمور، الى جانب العبيد. وترفرف على صواريها اعلام: مملكة الحجاز او ايطاليا اوالحكومة العربية او دولة الإمام. وفي ميناء جزيرة بريم في مدخل باب المندب كان وكلاء تجارة العبيد: شيخ سعيد وهو وكيل السنبوك (متساهل) لمالكه محمد هادي في تاجورة، ينقل الخشب والفحم. وعبيد علوي الذي اقلع لاحقاً عن تهريب العبيد وبات يعمل في صيد الاسماك بالقرب من جزر كمران. وفي جيبوتي الشيخ ابراهيم صالح ومعه عشرون رجلاً مسلّحاً. وكان يسيطر على ساحل تاجورة: الشيخ محمد قاسم الدنقلي والشيخ عبده داود الدنقلي.

وفي عام 1928م تنقّل وكيل بريطاني سري بين مقاهي جيبوتي المرصوصة على الميناء واعطانا صورة عن الحياة الاجتماعية لنواخذة السنابيك فيها.. وذكر من كبار النواخذة في حينه:

ابوخليل، وهو مالك وناخوذة سنبوك (صاح الله) في جيبوتي وعليه علم ايطالي.. ومثله محمد شحيم، وهو دنقلي، كان ناخوذة لأحد السفن الفرنسية لكنه يملك الان سنبوكاً اسمه (زاحف) وعليه علم عربي – وهو ينقل العبيد احيانا.. وعلوي حكمي وسنبوكه اسمه (الهبوب) وعلمه عربي.. وأحمد سيموح كان وكيلاً تجارياً في الميناء، يعمل لصالح الشيخ العيسى الثاني والشيخ ابوبكر الثالث وهما رجلان مُسلحان يعملان في تجارة السلاح والعبيد، ويحتكران التجارة الذاهبة لميناء الطائف اليمني التاريخي (في حدود الحديدة وهو غير مدينة الطائف الحجازية)، عند رجل محلي هناك اسمه احمد فتياني وهو شيخ الطائف. وهناك سنبوك (المايل) للناخوذة عمر سعيد الوحيش ويعمل مع تجار تاجورة وزعماء العفر (الدناقلة).

الثلاثينات الميلادية: انقلاب في الوعي وتبدل قيمي

تشير احصائات لجوء العبيد لدار الاعتماد البريطاني في جدة الى تناقصها الحاد بعد حصار جدة وصعود الفترة السعودية في الحجاز. ومن لجوء اربعين رجلاً وامرأة في عام 1926م الى دار القنصلية، لم يلجأ سوى سبع عشر رجلاً وامرأة في عام 1931م، بقي منهم خمسة في الحجاز بعد تحريرهم. وان لم تنتفي تجارة العبيد بعد، فإنها خفتت بشكل ملحوظ. وحملت الثلاثينات للحجاز – والتي سبقها عقدان دراميّان شهد فيهما الحجاز انقلابين في دار الخلافة وثورة كبرى في مكة، وحرباً عالمية، وأخرى حدودية، وفترتيّ حصار، وجوائح وبائية، وتمردات قبلية شتّى – حملت، عكس كل ذلك: استقراراً مطلقاً، انتعش فيه الميناء، وتماسك فيه موسم الحج، فانفتح الأهليون بشكل هائل على العالم وروح العصر.

يقول بوند، السفير البريطاني في جدة في رسالة للخارجية البريطانية في السادس من مارس 1930م: (لقد تقلّصت نسبة العبيد في جدة في السنوات الأخيرة بشكل مطرد، هذا يعود الى كون كثير من التجار المعروفين انفتحوا على روح العصر وباتوا يمارسون أشكال تجارة اكثر عصرية وملائمة قانونيا وقطعوا مع الاشكال التقليدية). في تلك الفترة ضعف ارسال العبيد المهربين الى الحجاز عبر ميناء جدة وموانئها القريبة كما سبق.. مقابل ازدياد نشاط التهريب عن طريق البر من بلاد الشحر والمكلا في اليمن.. او من يجري اختطافه او بيعه أصالة في موسم الحج. وسجّل شيخ الدلالّين، القيّم على دكة الرقيق بأطراف سوق سويقة، في مكة ألف عملية بيع في عام 1930م، لكنه عاد وسجّل مائة عملية بيع فقط بعد ثلاث سنوات في عام 1933م. وفي المدينة المنورة اُغلقت الدكّة، وخرجت عن الخدمة، حيث لم تسجّل سوى عشر عمليات بيع في عام 1933م.

وشهدت الثلاثينات، اقتحاماً مُفاجئاً للتقنيات الحديثة (التكنولوجيا) – ما ادى الى انقلاب في الوعي وتبدل قيّمي حاد خصوصاً في ذهنيّة وعادات البادية الحجازية. ان احد الاسباب الجوهرية لتقلّص استهلاك العبيد بشكل كاسح في البادية الحجازية، هو إدخال النقل بالسيارات في موسم الحج والغاء نظام (الكوشان) – وهي رسوم الطريق التي كان يدفعها الجمّالة للشريف كنوع من الضريبة المحليّة (ويدفع الأهليون، مُمثلون في طبقات المطوفين ضريبة مماثلة). لقد ضرب ذلك التحوّل، الهيكل الاقتصادي للبادية الحجازية، خصوصاً لدى قبيلتيّ الحوازم والأحامدة، في صميمه وقوّض مراكز قوته وشبكة علاقاته القديمة. وأدى انخفاض الطلب في النقل التقليدي على الجمال والشقادف الى تقليص الطلب بين شيوخ الجمّالة والمخرّجين للعبيد الذين كانوا يستعينون بهم سابقاً في اعباء وتجهيزات قوافل الحجيج وتسييرها.

بريطانيا والسعودية: أزمة دبلوماسية

في الرابع والعشرين من ديسمبر 1931م سلّم احد العبيد، ويُدعى بخيت، نفسه لدار السفارة البريطانية في جدة طالباً تحريره وارساله الى بلاده في بورتسودان. لكن هذا تسبب في اندلاع فتيل أزمة دبلوماسية بين البلدين. كان بخيت قد اُهدي، كما جرت العادة العشائرية حينها، من ابن مساعد (امير حائل) الى الملك. لكنه لم ينخرط حقيقةً في القصر الملكي، وظل في مقابل ذلك يخدم في دار الوزير عبدالله السليمان في مكة. واجاب الشيخ حافظ وهبة، من الطرف السعودي، في التاسع عشر من يناير 1932م ان بخيت هو احد عبيد القصر الملكي الذين لا تشملهم اتفاقية جدة. كان وهبة يشير الى الفقرة (أ) من المادة السابعة من اتفاقية عام 1927م. وكان في مفاوضات اتفاقية جدة مع السير جلبرت كلايتون ان اُستثني عبيد القصر الملكي كونهم في حقيقة الأمر اما جنود او خدم خاصين.

وكان بخيت قد فرّ مع عبد آخر يدعى هارون، من بيت عبدالله السليمان للسفارة البريطانية مطالبان بتسفيرهما الى بورتسودان. كان هارون قد خطف في موسم حج العام الماضي وتم بيعه. اما بخيت فقد ادّعى انه خطف وهو طفل من جيبوتي وتم بيعه صغيرا في الحجاز عبر سوداني اسمه محمد وهو في السادسة. ثم خطف من جماعة من البدو فيما كان يلعب خارج سور جدة في الكندرة، واخذوه الى اليمن حيث بيع من جديد لأحمد بن غصين الذي عاد به الى مكة وبيع مجدداً الى سيّد جديد هو شاكر ابوجمال (من أشراف مكة) حيث مكث معه خمس سنوات ثم بعث به مع عائلته للمدينة فيما بقي هو في مكة وحينما سقطت المدينة في يد السعوديين أخذه ابن مساعد في حائل وبعد سنوات من ذلك بعث به الى بن سليمان حيث امضى 18 شهرا قبل ان يهرب من بيت اخيه حمد السليمان الى السفارة البريطانية.

عبيد في قارب بحري (سنبوك)

وفي 26 ديسمبر طالبت النيابة العامة في الحجاز باعادة السفارة البريطانية في جدة لبخيت وتسليمه الى نائب قائمقام جدة السيد علي طه رضوان. وأرسل فؤاد حمزة، من الخارجية السعودية، رسالة في 29 يناير، الى السفير اندرو رايان يخبره بأن المسألة باتت مسألة مبدأ، وان الحكومة السعودية لا ترضخ من منطلق سيادي لرغبة البريطانيين في اي شأن خارج عن اتفاقية جدة 1927م. في ذات اليوم كان اندرو رايان قد بعث ببخيت على متن السفينة بينزانس. بعدها، في الثالث من فبراير، اصدرت السلطات السعودية قرارا مشدداً بأنه لا يحق للسفارة البريطانية تسفير اي شخص على اي قارب سوى بموافقة مسبقة من أمير جدة الذي يصدر وحده تأشيرات الخروج، اما ان كان عبداً لاجئاً تم تحريره فيستلزم موافقة خطية من امير جدة قبل ترحيله.

كان بعض اؤلئك العبيد ـ عبيد القصور الملكيّة ـ يحظون بامتيازات تفوق تلك الممنوحة لدى الأعيان والأهليين. وكان الملك يقرّب اليه افراداً منهم. وكان (مواليد) القصور يحظون برعاية كبيرة، بل ان بعضهم يتكبّر على المواطنين ويمارس اضطهاداً ممنهجاً ضدهم، حتى أن نكتة محلية شاعت في العشرينات الميلادية في الدوائر القنصليّة بجدة وصلت الى نائب القنصل البريطاني تقول بأنه يجب نقل جميع التكارنة للجزيرة العربية لتتحسن احوالهم المعيشية – لكن القنصل، في تقاريره، استهجنها وأنكرها، وان لم ينكر أصلها!

وتمتع حِلوان، احد عبيد القصر الملكي بحظوة وثقة هائلة وكان قائداً عسكرياً لاحد ألوية جيش جلالة الملك التي شاركت في الحرب على ابن رفادة عام 1931م. ومحمد عبدالقادر محمد فلاتة، تم بيعه صغيراً على كذا بيت في مكة ثم امتلكه الأمير سعود ولي العهد الذي اعتقه في يونيو 1938م، لكنه آثر البقاء عنده، فتزوج وتسلّك في الحرس الخاص لقصر ولي العهد. ولوجود أفارقة ملحقون بالحراسة الأميرية الخاصة جذور عشائرية قديمة في الجزيرة العربية. لقد منَح قانون الولايات العثماني أمير مكة حق تشكيل حرسه النظامي الخاص فكوّنه في عام 1872م من مجموعتين: البياشة، وهم من اهل وادي بيشة بعسير، ومن التكارنة، واغلبهم من العبيد المعتقين القاطنين في مكة من اصول نيجيرية وكونغولية.. وقد انحصرت مهتهم اول الامر في تأمين سلامة القوافل بين جدة ومكة، وبين مكة والطائف، ثم شكلّوا نواة جيش الشريف النظامي.

في عام 1944م اصيب القيّمون على فندق وولدورف استوريا في نييورك بصدمة كبيرة عندما أحضر الأمير فيصل معه مرافقه الافريقي مرزوق، اثناء زيارته الرسمية، وكانت صدمتهم اكبر عندما أصرّ الأمير على أن يأكل مرزوق معه، كما هي عادته، ذلك لأن هذا كان يقتضي السماح له بدخول قاعة المآدب الشهيرة (ويدجوود روم) التي لم يكن يسمح لزنجي أبداً ان يدخلها.

وبرز في الاربعينات الميلادية نفر قليل من اعيان جدة، كانوا رقيقاً في اصولهم.. حتى انه كان من النادر ان تجد اي عائلة تجارية دون ان تجد تميز احد افرداها بلون اسمر، يحمل اسمها ويعمل في ادارة بيتها التجاري. وكان المعتنون بالكعبة واعمال المسجد النبوي عبيداً (أغوات) طائلي الثراء والمتانة الوقفية وواسعي الوجاهة الاجتماعية في الحرمين الشريفين. وقدرَ السير رايان، قنصل بريطانيا في جدة، عدد عبيد القصر الملكي بحوالي ثلاث آلاف نفر؛ القليل منهم بالاقتناء، فيما غالبيتهم بالاهداء او مولدون.

وكان تجار الرق، انطلاقاً من العوائد العشائرية البالية، يهدون الملك العبيد بكثير من الحماسة طمعاً في التعويضات الملكية السخية.. ولكن قبضة الوزير عبدالله السليمان الصارمة، وسياسته المتقشفة والحريصة على المال العام وعلى عدم تكبيد الموازنة اية مصاريف اضافية في سنوات التقشف، رشّدت الكثير من حماستهم فيما بعد، وساهمت في ابطال تلك العادة.

آخر تُجار ووكلاء العبيد في جدة

كان من اشهر دلاّلي الجواري في جدة: باسترة أفندي، وأبوالسعود. وفي رسالة من اسماعيل افندي حول العبيد في التاسع من مارس 1933م من مقتنيات الخارجية البريطانية، عدّد اسماء كبار وكلاء العبيد في جدة، مزودة بهويّاتهم الجهوية: (كبار وكلاء العبيد في جدة: حسن العمودي ـ حضرمي، وأحمد بن سيف ـ من بدو الحجاز، وشمعون بن عمر ـ صومالي/ ايطالي، واحمد الحنبولي ـ جدّاوي، وأبو زيدان ـ جّداوي، والليّاتي ـ جدّاوي). وبات العبيد يرسون مباشرة في ميناء جدة، عكس السابق حينما كانوا ينزلون في النزلة اليمانية حيث يقيم الوكيل ابن سيف. وتقمّص اسماعيل افندي مع صديق جدّاوي دور الراغب في الشراء ليراقب اوضاعهم: (كانوا في اقبية احد البيوت، حيث الجو خانقاً والروائح لا تكاد تطاق والدكّة كان فيها رجال ونساء مختلطون). وآخر مقر لبيع العبيد في جدة كان في منطقة حوش الهواشم – داخل سور المدينة القديم.

صورة للتاجر ابن غراب في الدوحة في الوثائق البريطانية

السيّد علي العطاس، وهو أخ السيّد حسين العطاس من تجار وأعيان جدة.. هو أحد أهم مكافحي تجارة العبيد في ساحل جيبوتي. كان العطاس قد اخبر نائب القنصل البريطاني في جيبوتي بتحركات تجارة العبيد الأخيرة، وكان يعتبر ان من لا يُخطئه ضميره بحمل العبيد والمتاجرة بالبشر سيقع في كل محظور آخر. وكان الشيخ محمد بابو احد شيوخ دنقلة ومحتكر تجارة العبيد في ساحل جيبوتي في عام 1934م، قد فرض على جميع السنابيك المغادرة مينائي تاجورة و أوبخ بحمولات العبيد الى ميدي او جيزان ان تجلب معها في ايابها حمولات سلاح. فكانت السنابيك تتظاهر بنقل الخشب والفحم لكنها تقايض حقيقةً العبيد بالسلاح.

وفي احصاء لعام 1931م.. قُدر عدد العبيد في السعودية بأربعين ألفا، وُزعت جغرافيا كالتالي:

مكة: ثلاثة الاف.

جدة: ألف.

رابغ: خمسمائة.

الوجه وينبع والطائف والمدينة وشمال الحجاز: خمسمائة.

القنفذة، ميناء البرك، جيزان وعسير: عشرة آلاف.

بادية الحجاز: خمسة آلاف.

الرياض وبادية نجد وخصوصا واحات الاحساء والبريمي: عشرون ألفاً.

وانحصرت اجناس العبيد في هذه الفترة بين سودانيين او اثيوبيين حاميين او تكارنة.. ونساء يمنيات. وعند اهالي الحجاز كان يوجد نفر قليل من جواري وعبيد جاويين وهنود وسوريين وماليزيين. وفي عام 1932م رفض قاضٍ من محكمة مكة الشرعية منح صك اعتاق لعبد تم تحريره كون الحكومة قد اخطرته بعدم القيام بذلك لأي عبد عمره يزيد عن العشرين عاما. وفي 22 فبراير 1934م.. اُرسل السير ماكسويل من قِبل لجنة الرقيق بعصبة الأمم واصدر تقريرا عن حالة العبيد بين افريقيا والجزيرة العربية. وفي ذات الفترة نشطت البوارج الحربية البريطانية في تفتيش السنابيك في المياة الدولية بالبحر الاحمر بحثاً عن العبيد. وقبضت على 56 عبداً في 1931م، و35 عبداً في 1932م، و35 عبداً في 1933م.

في اكتوبر 1936م خطت السلطات السعودية أكبر خطوة فيما يخص الحد من الاتجار بالرقيق في الجزيرة العربية. فقد صدر في الثاني من اكتوبر 1936م، المرسوم المعروف بـ: تعليمات بشأن الاتجار بالرقيق، من ستة عشر مادة. وحظر المرسوم ادخال الارقاء الى السعودية عبر البحر او البر (ما لم يبرز جالب الرقيق وثيقة حكومية رسمية تخوّله بذلك).. كما حظر استرقاق الأحرار. والمرسوم- وان لم يلغ ممارسة الرقيق، الا انه اعترف بها كظاهرة ونظمها وجعل للعمل فيها وكيلاً او سمساراً برخصة رسمية. اما من يخالف تلك التعليمات تنذره الحكومة بعقوبة حبس لمدة لا تزيد عن سنة. لكن هذه القرارات وما جلبته من محاسن على نفسيات الرقيق، ترتب عليها مساوئ جديدة، اذ ازداد اصرار الملاك على ابقاء عبيدهم للندرة الحاصلة في الأسواق فنتج عن ذلك تقلص مطرد لنشاط العتق. لذلك استمرت تجارة العبيد وتهريبهم بشكل مُستتر.

كان جابر احمد من اهل كسلا في السودان في أسر العبودية في الحجاز حتى حرر في عام 1927م.. وحينما عاد للحج بعد عشر سنوات في 1937م رصده مالكه السابق الحسين بن علي الحارثي من أشراف المضيق، واثر مشادة وقعت بينهما أصر الأخير على استعادته، فعصى لكنه ألحقه بحاشيته بالقوة. فارسلت القنصلية البريطانية من السفير بولارد للأمير فيصل نائب الملك تطالبه باطلاق سراحه في الثاني عشر من يونيو 1938م، فنال حريته وعاد ادراجه على احدى سفن شركة جلالتي هنكي الى ميناء سواكن.

وفي يونيو 1936م باع علي بريمة ياسين وزوجته ست الأهل في مكة، آمنة التي ادعيا انها ابنتهما، ثم رحلا برا لليمن ومنها للفاشر. تُركت آمنة عند الشيخ حسن زيني وهو رجل طاعن في السن، الذي سلمها بدوره لابن ناصر تاجر الرقيق النجدي في مكة الذي عرضها على كذا منزل فنزلت عند بيت السادة آل المرغني الذي كان يخلو من الذكور، واشترتها سيدة ومكثت معها عاماً كاملاً ولكنها مرضت فاضطرت الى بيعها لتذهب للعلاج في مصر، فاشتراها محمد الشيبي بـ 35 جنيهاً ذهبياً استرلينياً، وقبل شراءها عرضها على سيدة قابلة اكدت انها لم تنجب من قبل، وظلت عنده ثلاث سنوات دون ان يُعاشرها. ثم عادت لسيدتها القديمة في بيت الميرغني لانها كانت تحسن معاملتها وهناك وجدها القنصل البريطاني واستدعاها وارسلها الى السودان.

ومع عام 1943م خفت نشاط شراء الجواري، واصبح التسري يمارس بعيداً عن أعين الزوجات اللاتي بِتن مع الانفتاح على العالم يرفضن على أزواجهن ذلك النمط الشاذ من الممارسة الجنسيّة. وكان آخر ثلاثة وكلاء للعبيد في مكة في يدهم كل التجارة: وكان آخر المسيّطرين عليها بحسب وثائق الخارجية البريطانية: ميمش، والقرّعا، وبن ناصر، والأخيران نجديّان. وصعد افراد من نجد في دلالة العبيد في مكة، كون بوصلة جلب الجواري الى مكة باتت تتجه شرقاً، حيث تجلب الجواري من التجار النجديين عبر واحة البريمي والساحل الغربي للخليج: بلوشيات وفارسيات بدلاً من الأجناس المعتادة الافارقة والاحباش والجاوا.

ومن ابرز التجار النجديين في سواحل الخليج: عبدالله بن سالم بن غراب، ومبارك وعبدالعزيز الدليمي، وعلي بن موفي الودعاني، وسليمان بن موسى، وعبدالله بن خفره، وعبدالله بن غانم العوار وهذا الاخير كان اصبعه الاوسط في يده اليمنى مقطوعا وكان يبيع الجاريات في الدوحة. وحينما قُبض عليه في سبتمبر 1952م حلف أيمانا مغلظة انه ترك التجارة منذ خمسة عشر عاما وانه يعمل الان في الزراعة وان المشتبه به هو عبدالله بن غانم القطري وهو شخص آخر ولكن تبين لاحقا ان كلاهما يعمل في تلك التجارة.

وطالب السفير السير تروت في ديسمبر 1947م، من يوسف ياسين من الخارجية السعودية، بملاحقة المتورطين في تجارة الرق في البحر الاحمر، وانزال اشد العقوبات عليهم، وكانوا: احمد ابوصالحه في ميناء البرك (عسير)، بن سيف في الرويس، وحسن العمودي في جدة. وفي 1948 قبضت السلطات السعودية على احمد علي ابوصالحة وهو يُهرّب العبيد سراً من مصوّع الى ميناء البرك في عسير.

ومن تجار العبيد في الرياض حينها بحسب الوثائق البريطانية: ابن غراب المري، وجابو بن حضفه وبن عبدربه، وهم يحضرون الجواري عبر حمد البوشامس من دبي او مسقط الى كبار المستهلكين في الاحساء والرياض. وكان كبير التجار في سوق الرياض اسمه عبدالله بن مروان. في الرياض كانت الجارية الجميلة تباع بسبعة عشر الف ريال، والمتوسطة الجمال تباع بسبعة الى ثمانية آلاف. ومع عام 1948م خفت اهتمام السعوديين باقتناء العبيد الذكور.

بيان الغاء الرق في 6 نوفمبر 1962م

وفي الخمسينات الميلادية تلاشت تجارة العبيد، وانقشعت مظاهر العبودية تقريبا عن جدة، فيما بقيت في الرياض ومكة والمدينة، وان حُصرت في الجاريات المجلوبات من حضرموت واليمن والبلوشيات المجلوبات من السواحل المسقطية والسواحل المتصالحة. فلم تعد تأتي الافريقيات، من موانئ جيبوتي والصومال، كما في السابق. وفي السادس والعشرين من نوفمبر 1952م ارسل يوسف ياسين، من الخارجية السعودية، خطاباً لبيلهام يخبره ان الحكومة السعودية ترغب في اخطارها عن اي رعايا سعوديين يرحلون الى امارات الخليج بحثاً عن عبيدهم الفارين. وان الحكومة السعودية لا تريد التهاون في هذا. وفي نوفمبر 1953م ارسل السفير الفرنسي في جدة قائمة بمن يشتبه بهم بنقل العبيد الى ساحل جدة وذكر منهم: أحمدو بوبوي وهو سنغالي مقيم في جدة، والشيخ عبدو بجني من النيجر يقيم في جدة، والشيخ عبدالله البحيري من كبار حارة اليمن في جدة وهو من شيوخ الدلالين. واتبعها بقائمة لدلالين اقسم يقيناً بأنهم يبيعون الجواري مباشرة للقصور والمتنفذين والميسورين، وهم: عمر كِندي – سنغالي في مكة، حاج محمد عمر فتاي – سنغالي في جدة، تيرنو يوروبا – سنغالي في جدة، احمدو تديان ديو في جدة، حاج بلي – سنغالي في مكة، محمد طاهر – من الطوارق يقيم في السودان ويتاجر في جدة، ومحسن – وهو نيجيري موظف في شركة باكر الامريكية في جدة.

وقُبض على محمد حسين وهو يتاجر في كربلاء والنجف وكان يجمع خمسين فتاة صغيرة ليحضرهن للرياض وقد حكم عليه في العراق عام 1955م بالسجن عشر اعوام. وضرب الكساد سوق الرياض حيث كان يتعيّن على كل تاجر عبيد ربط سبع الى ثماني من العبيد خلفه والمشي بهم، فيما كانت دكة الرقيق في مكة تحتضر وتعيش آخر أيامها.

ضغوط دوليّة ومحلية

لم يكن عقد الخمسينات رحيماً على سمعة وصورة السعودية دولياً، كما كانت مهمة الدبلوماسية السعودية لترطيب الاجواء وتحسين صورة البلاد مُضاعفة. وفي عام 1953م قامت حملة تلفزيونية وصحافية كبرى في فرنسا على قانون الرقيق في السعودية. كما اشتدّت ضرواة دعوات الخارج -والداخل- على الحكومة لحسم ملف العبيد وطي صفحته للأبد. واستوعبت الحكومة المعاتيق الحديثين في مكة او المستقرين فيها بعد موسم الحج من جاليات التكارنة وفرضت عليهم دفع رسوم اقامة سنوية.. وقام الأمن العام منذ 25 ابريل 1952م بتنظيم المسألة بشكل أكثر مرونة.

وصعد مطلب الغاء نظام الرق منذ الخمسينات الميلادية عند الحركات القومية والوطنية الشعبية الداخلية. وفي ميثاق جبهة التحرير الوطني العربية الصادر عام 1961م، نلاحظ حضوراً مركزياً لمسألة الغاء نظام الرقيق وتحرير الارقاء كأحد مطالب برنامج الاصلاح – كان ذلك ذروة حراك وطني سابق امتد لأكثر من عشر سنوات اجتر ذات المطلب. وفي السادس من نوفمبر 1962م اصدر الأمير فيصل بن عبدالعزيز، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء السعودي، برنامجه الاصلاحي المعروف بـ (النقاط العشر).. الذي قضت نقطته العاشرة بالغاء الرق مطلقاً، وتحرير جميع الأرقاء وتعويض مُلاكهم. وصار الناس في ارتباك. فالقرار كان يكتنف طرق تطبيقه الكثير من الغموض – والنقاط العشر كانت مُغلفة بلغة عمومية غير حاسمة.

وكتب صالح محمد جمال في جريدة الندوة المكيّة في السادس والعشرين من نوفمبر 1962م مُنتقداً: (كثير من الارقاء ينتظرون ان يُبادر مسترقوهم بتحريرهم واعلان ذلك لهم تنفيذا لقرار الحكومة الا ان احدا لم يحرك ساكنا، ويبدو انهم ينتظرون ان تاتي اليهم الحكومة لتدفع لهم التعويض سلفا.. ان تلك الفقرة الموجزة في البيان الوزاري عن الغاء الرق اصبحت في حاجة الى مذكرة ايضاحية مستعجلة يجري اعلانها للطريقة التي يجب ان يتم تنفيذ التحرير).

واستجاب مجلس الوزراء للتساؤلات التي انطوى عليها مقال جمال وغيره، وأصدر قراره رقم (4305) الصادر في التاسع من يناير من عام 1963م، مبيناً الطريقة التي سيتم بها التعويض، مفوضاً وزارة الداخلية الى اشعار المواطنين الذين كانوا يمتلكون رقيقاً بالتقدم بطلبات التعويض مصحوبة بالوثائق والصكوك الشرعية الى اللجان المختصة. واعتمد مجلس الوزراء السعودي مبلغ خمسة ملايين ريال سعودي، كدفعة أولى لتعويضات الرقيق. وشُكّلت لجان تعويض المّلاك الشهر التالي في 26 مدينة سعودية: من جدة ومكة والقنفذة الى الدمام والحساء، ومن الجوف والقريّات الى بيشة وجيزان، مروراً بالرياض والحوطة وبريدة وشقراء!

وكان الرقيق قبل البيان الايضاحي ينفرون اجتهاداً الى الديوان الملكي في الرياض يطلبون اوراق تحريرهم ومن ثم يعودون الى ملاّكهم يقدمونها لهم ويخيّرونهم بين اطلاق سراحهم لوجه الله وبين رغبتهم في طلب تعويض من الحكومة. وبادر الشيخ علي طايع – من أثرياء محلة شِعب عامر في مكة، وهو جد الشاعر محمد حسن فقي لأمه، فاعتق وحده مائة رقبة ما بين جارية وعبد. وقام مساعد السديري بعتق جميع عبيده البالغ عددهم 17 شخصاً بين ذكر وانثى، وسجّل ذلك في محكمة تبوك. وحرر وزير الداخلية فهد بن عبدالعزيز جميع الارقاء التابعين له وقدم لكل منهم صكاً بتحريره؛ كما قام اللواء علي جميل، وحرمه في مكة، بتحرير كافة الارقاء لديهم.

وهكذا انطوت الصفحة رغماً عن ممانعة أعداد من ملاّك العبيد في بعض القصور والمزارع والحقول والنجوع والبيوت.. وارسل كيندي رسائل تهنئة الى الامير فيصل ولي العهد يشكره ضمنا على الغاء الرق، ويعلن عن عصر جديد في العلاقات الامريكية والسعودية. فرد عليه الأمير فيصل في الحادي عشر من يناير 1963م قائلاً: (ان القضايا الأصلية لشعوب هذه المنطقة: رفع مستوى السكان واستغلال كافة طاقاتهم وزيادة دخلهم القومي وتزويدهم بمؤسسات ديموقراطية للحكم يستطيعون في ظلها التعبير عن ذاتهم وأمانيهم وآمالهم في حرّية بناءة).

الصفحة السابقة