الشيخ يماني و (موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة)

حلمي لم يتحقـّق كاملاً بإصدار الموسوعة!

عمر المالكي

بعد سنوات عديدة من الجهود الشاقة، بدأت بواكير (موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة) بالصدور، حيث صدر في القاهرة
مؤخراً عن (مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي) المجلد الأول من الموسوعة الفريدة في نوعها. وقد عكس إصدار الجزء الأول حجم الجهد الهائل لإخراج الموسوعة، والتي شارك فيها عشرات من الباحثين والأساتذة والمختصين، والتي يتوقع أن تصل أجزاؤها الى ما يقرب من عشرين مجلداً.

المجلد الأول من الموسوعة لم يغطّ بالكامل حرف الألف، ويقع في 655 صفحة. واختير غلاف الموسوعة ليكون على شكل رقعة وقد كتب عليها إسم (موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة) بالخط المكي الذي كان سائداً في الحجاز ودوّن به القرآن الكريم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين. ويخلو الخط المكي من الإعجام والتشكيل، وينعدم فيه النقط، وهو خط فيه تعويج الى يمنة اليد وأعلى الأصابع، وفي شكله انضجاع يسير.

من جهته قدّم الشيخ أحمد زكي يماني، الرئيس والمشرف العام على الموسوعة، الموسوعة الى قرّائها موضحاً بواعثه من ذلك، فوضح في بداية تقديمه ميزتان للحضارة الإسلامية أولها أنها حضارة تشمل حقولاً متنوعة، وثانيها أنها الحضارة الوحيدة التي يُعرف تاريخ مولدها، حيث ولدت الحضارة الإسلامية من مكة المكرمة وترعرعت في المدينة المنورة ثم انطلقت شمالاً وشرقاً وغرباً واشتد عودها، فأصبحت شجرة باسقة أصلها ثابت في مكة والمدينة، وفروعها شملت معظم أرجاء المعمورة، بمختلف أنواع العلوم والمعارف.

وأوضح الشيخ يماني أن شرف الإنتماء الى هاتين المقدستين قد رتّب عليه مسؤولية تجاههما. يقول: (لقد أكرمني الله بشرف الإنتماء الى مكة المكرمة التي قال تعالى فيها: 'إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمينب.. ففيها ولدتُ وبشعابها تجوّلتُ، وفي مسجدها الحرام درستُ، حين كانت جامعة فريدة، كما وصفها المؤرخون، ومنهم بعض المستشرقين؛ وبذلك أصبح حبّي لمكّة نابعاً من القلب ومن العقل). وتابع: (ولي شرف الإنتماء الى المدينة المنورة التي قال تعالى فيها: 'وقل ربّ ادخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراب من جانب الأم. وكلما توغّلتُ في دراسة العهد النبوي، وعهد الخلافة الراشدة، كلما زاد إحساسي بفضل هذه المدينة على الحضارة الإسلامية، بل وعلى العالم أجمع، وعلى البشرية جمعاء. كل ذلك غرس عندي حلماً أن يكون لهاتين المدينتين موسوعة تبرز أدوارهما العلمية والثقافية عبر القرون، فهما أصل حضارة الإسلام، ومنبع نورها الذي أضاء المعمورة. فقد كان للمسجد الحرام، والمسجد النبوي دور مهم وحيوي في دعم المسيرة العلمية الإسلامية، حتى بعد أن انتقلت حواضر الدول الإسلامية الى دمشق فبغداد فالقاهرة والأستانة، وغيرها).

هل يتحقق الحلم؟

يقول الشيخ يماني (لم يكن تحقيق ذلك الحلم الجميل ممكناً حينما كنتُ عضواً في مجلس الوزراء السعودي، ولكني كنتُ أبوح به كلّما سنحت فرصة للحديث عنه. وحين زرتُ مكتبة جامعة الملك عبدالعزيز بجدة في 28 صفر 1398هـ الموافق 6 فبراير 1978، وكنتُ أحمل عباءة وزارة البترول والثروة المعدنية، انفردتُ بإبني وصديقي الأستاذ الدكتور عباس صالح طاشكندي ـ وكان آنذاك عميداً لشؤون المكتبات والمعلومات ـ انفردت به في قسم المخطوطات، وقلت له: إنه من الواجب أن يكون لمكة والمدينة موسوعة، ويشاء الله تعالى أن يمنحه بعد ذلك شرف القيام بقيادة هذه الموسوعة).

وأضاف: (ولما شاء الله أن أتخلّى عن عباءة البترول الرسمية، بدأتُ أسلك الطريق الذي يحقق أحلامي المختلفة، ومنها المخطوطات الإسلامية التي تحمل قصة الحضارة الإسلامية في عصورها المختلفة. وكنت، وأنا أضع عباءة البترول المذكورة، أزور المكتبات التي توجد فيها تلك المخطوطات، في أسطنبول، والقاهرة، وسراييفو، والفاتيكان، وبقية المكتبات التي تتناثر في رفوفها تلك المخطوطات، فأنشأتُ 'مؤسسة الفرقان للتراث الإسلاميب وأنا أعلمُ أنها بأهدافها لن تحقق لي حلمي في موسوعة مكة والمدينة).

بيد أن الشيخ حمد الجاسر ـ علامة الجزيرة ـ وكان عضواً في مجلس مؤسسة الفرقان، ألقى في افتتاح المؤتمر الأول للمؤسسة سنة 1411هـ/ 1990م خطاباً أكد فيه ـ كما يقول الشيخ يماني ـ على ضرورة الإهتمام بهاتين المدينتين المقدستين، وأهاب بمؤسسة الفرقان أن تعنى بذلك الجانب. ويتابع الشيخ يماني القول: (أثار خطابه، رحمه الله، في نفسي الشجون، وتساءلت: كيف لي أن أحقق حلم الموسوعة الذي راودني عشرات السنين؟ فتجوّلت أزور بعض مراكز الموسوعات، أو ألتقي برؤسائها؛ وتأكدتُ أن مؤسسة الفرقان ليست الجهة التي يمكن لها أن تحقق حلمي بالرغم من أنني سجّلت ذلك الحلم في محاضر جلساتها في سنتها الأولى).

خطوات تحقيق الحلم

رأى الشيخ يماني أن (القيام بالعمل الموسوعي فن خاص، له منهجيته وطرقه، ويتطلّب بنية أساسية، ومنهجية في إعداد المداخل وتقنينها، وأدوات كثيرة تشكل الأساس لنجاح العمل واستمراره. فإذا كانت الموسوعة لمدينة خضعت المنهجية لأساليب خاصة تختلف عن المناهج الخاصة بالموسوعات العامة، أو الموضوعية، ولا نعرف موسوعات شملت مدناً إلا موسوعة باريس، وهي حديثة نسبياً، ولا ترقى في تاريخ العلوم والمعرفة الى مرتبة مكة والمدينة، من حيث الأبعاد التاريخية والحضارية). وأضاف: (وكنتُ كلما زاد بحثي عن وسيلة لتحقيق حلمي لموسوعة مكة والمدينة، أحسستُ بالإحباط، حتى ذكر لي الأستاذ السيد محسن باروم ـ وذلك في سنة 1415هـ/ 1994م ـ أن مجموعة من العلماء والباحثين من أبناء مكة المكرمة، تحت قيادة أخي الأستاذ الدكتور عبدالوهاب أبي سليمان يبحثون إمكانية إصدار موسوعة لمكة المكرمة، فسارعت بالإتصال بقائد المجموعة، واجتمعت به وببعضهم لمناقشة الفكرة وإمكانية تنفيذها. وبدأت الخطوة الأولى بإنشاء فرع لمؤسسة الفرقان يختص بإصدار الموسوعة، يقوم أول ما يقوم بتوثيق التراث العلمي والحضاري الشامل لمكة والمدينة، وحفظه للأجيال القادمة في صورة يسهل للباحثين والدارسين الرجوع إليه، مستعينين بالأساليب التقنية والتجهيزات الحديثة. وقمنا بتشكيل اللجان في المدن الإسلامية التي تحتفظ بوثائق عن المدينتين المقدستين، مثل: إسطنبول، والقاهرة، وجامعة ليدن بهولندا، وجمعنا كمّاً هائلاً من المؤلفات، والوثائق التاريخية، والصور الفوتوغرافية، والخرائط والتسجيلات الصوتية، وشجعنا الباحثين من مخلتف الجنسيات على إجراء الدراسات العلمية التي تتناول جميع الجوانب المتعلقة بالمدينتين المقدستين عبر التاريخ).

تجهيز أعمال الموسوعة

بعد ذلك ـ وكما يشير الشيخ يماني ـ بدئ بالإعداد والتجهيز لأعمال الموسوعة، فعقدت عدة اجتماعات تمهيدية، نوقشت فيها الخطوط العامة للعمل، وتم إعداد مخطط مبدئي للمداخل التي ستدرج في الموسوعة، كما تم اعتماد أربعة محاور للإعداد:

الأول ـ يختص بإعداد الموسوعة ومداخلها والمادة العلمية الخاصة بكل مدخل، والوسائل الإيضاحية المناسبة، ووضع برنامج عمل يتضمن الخطة الزمنية للتنفيذ.

الثاني ـ دعوة الباحثين المهتمين بالدراسة المتعلقة بالمدينتين المقدستين لتقديم مؤلفاتهم وبحوثهم التي لم تنشر بعد، ليتم تحكيمها ونشرها، إذا تمّ قبولها، ضمن إصدارات الموسوعة.

الثالث ـ تحديد عدد من الموضوعات المهمة المتعلقة بمكة والمدينة، والإتصال بالباحثين المختصين في تلك المجالات لتنفيذ الدراسات المطلوبة وإعدادها للنشر.

الرابع ـ تقديم الخدمات والمواد العلمية والمعلومات للباحثين والدارسين، دعماً وتشجيعاً للبحث العلمي، وحفاظاً على التراث العلمي والحضاري للمدينتين المقدستين.

بعد ذلك تمّ تكوين (مجلس المستشارين) للموسوعة لوضع السياسة العامة والخطوط الرئيسية لعمل الموسوعة، وإقرار ميزانيتها السنوية، واعتماد برنامج العمل، وتوصيات اللجان العلمية، وسياسات النشر والتأليف. أيضاً تم تأسيس المجلس العلمي الذي يضم خبراء أكفاء ومتخصصين لهم باع طويل في المجالات العلمية الرئيسية المختلفة، ويكون مسؤولاً عن تنفيذ قرارات مجلس المستشارين، ووضع الأهداف والمعايير، وإصدار الأدلة والأدوات، ووضع الضوابط والأسس الكفيلة بتوحيد المصطلحات والمدلولات، والمنهجية البحثية المتبعة في أعمال الموسوعة كافة، والمواصفات الموحدة الخاصة بالنشر، وأسلوب الصياغة والتحرير والتدقيق اللغوي والإملائي. كما يقوم المجلس العلمي بالإشراف على اللجان العلمية، والمجموعات البحثية المتخصصة لتنفيذ الأعمال العلمية كل في مجال اختصاصه.

أما الإدارة التنفيذية للموسوعة فكانت مهمتها تنفيذ قرارات مجلس المستشارين، والتنسيق والتعاون مع المجلس العلمي، وتقديم الخدمات العلمية والفنية والتقنية والتسهيلات اللازمة للباحثين، وكذلك متابعة تنفيذ خطة العمل وفق البرنامج الزمني المحدد، ورفع تقارير دورية مرحلية لمجلس المستشارين عما تم إنجازه من أعمال. وقد ضمت الإدارة التنفيذية فريقاً من الإداريين والفنيين المتخصصين، وجهازاً للخدمات المساعدة، مع فريق مسؤول عن مركز المعلومات، ووحدة النشر، وتجهيز المطبوعات. وقد ساهم الأستاذ الدكتور عباس طاشكندي في جميع الأعمال التحضيرية، ثم تولى رسمياً قيادة الإدارة التنفيذية، ابتداءً من ربيع الأول 1421هـ. لم تتم التشكيلة الإدارية إلا بعد اجتماعات مكثفة من أهمها اجتماع اسطنبول، الذي قرر فيه أن تضم الموسوعة المدينة المنورة اضافة الى مكة المكرمة، وقد حضر الإجتماع ذاك رؤساء الموسوعات المعروفة عالمياً، مع كبار الخبراء والمختصين الذين أصبحوا فيما بعد أعضاء في مجلس المستشارين.

بعض الحلم تحقق والبقية تأتي!

لقد استغرقت الأعمال التحضيرية للموسوعة زمناً طويلاً، في وقت كانت فيه مؤسسة الفرقان تصدر العديد من الكتب والدراسات، وها هي الموسوعة تعطي أول نتاجها. لكن الشيخ يماني يرى أن طموحه لم يتحقق كاملاً، وأن أمامه تأسيس معهد لأبحاث مكة المكرمة والمدينة. يقول: (لن يقف طموحنا عند إصدار الموسوعة بمجلداتها العديدة، أو فتح نافذة لها في جهاز الإنترنت، فمشروعنا يمتد الى الأجيال القادمة، وسوف ينشأ بإذن الله معهد لأبحاث مكة المكرمة والمدينة المنورة، يزود الباحثين والمختصين بالكم الهائل من المعلومات التي جمعناها، لتكون عوناً لهم في إجراء أبحاث إضافية، مستعينين بالمكتبة الفريدة التي تكونت عن المدينتين المقدستين، ومركز المعلومات الآلي، مع قاعة محاضرات يرتادها المهتمون بمكة والمدينة ويحاضر فيها من شاء من العلماء والباحثين).



الصفحة السابقة