وداعـاً مـكّـة!

محمد فلالي

لم يتبق إلا القليل من مكة.. التراث والتاريخ والعبق الديني.

بيت السيد علوي مالكي في حارة النقا

لقد امتحنها الله امتحانات شتّى كان أشدّها سيطرة صنفين من البشر أتيا على روحها: جماعة بدوية قبليّة جاهلة لا تفهم معنى الحضارة، يرافقها مجموعة أخرى متطرفة في غاية الجهل الديني ترى تدمير الماضي (توحيداً) دينياً، فاجتمع الخليط ليقوم بتدمير منهجي منظم أتى على كل تراث المسلمين في الأراضي المقدسة.

حتى المنازل التاريخية القديمة، التي يعرف أصحابها أنها قائمة على بيوت عدد من الصحابة والتابعين، لم تسلم.

وآخر السلسلة هي تدمير حارات مكة، والتي تمثّل البقيّة الباقية التي تشعر المسلم بأن هذه الأرض ليست غابة مسلّحة وفنادق يسيطر عليها الأمراء الكبار، واستثمارات تدرّ المليارات على القبلية الطائفية النجدية المعادية لروح الإسلام.

مكّة ليست بناءً بل روحاً يحاول أعداء الله من الوهابية وآل سعود إطفاءه.

ومكّة ليست واحة (كفر) كما يصوّرها مشايخ الجهل الوهابية مثل شيخهم ابن عتيق، بل واحة (فكر) ودين. لن يقضى على فكرها ودينها، ويستبدل بأفكار جهلة متطرفين، يقتلون الناس ويدمرون التراث بحجة الشرك بالله، فيما يعبدون هم آل سعود الذين هم عبيد للأميركان.

مكّة نزفت كثيراً.. العديد من حاراتها جرى تدميرها في الفترة القريبة الماضية، تدميراً شاملاً لا يصدّق عاقل أنه يحدث في معقل الإسلام الأول.

منزل الشيخ يماني التاريخي بحارة الباب هل يهدم؟

أنى توجهت في الدنيا ستجد أن المدن التاريخية تحتفظ بحاراتها القديمة التاريخية، وتحافظ عليها منذ قرون عديدة. حتى الدول التي عرفت بأنها معادية للمسلمين وتراثهم، وطردت أهليهم، لم تدمّر الأحياء التاريخية إلا عرضاً، وبقيت الأحياء التاريخية صامدة ومن أهم معالم المدن بل وروحها. حتى في بلد مثل أسبانيا: في غرناطة، وطليطلة، وأشبيلية، وقرطبة، تجد الأحياء القديمة باقية تشهد على عظمة الإسلام، وتاريخ العرب المندثر في تلك الديار.

أما في معقل الإسلام الأول، فلا ترى غير المساجد التاريخية المهدّمة، وإلا المقابر التي بعثرت قبورها، وإلا الجبال التي دمرت بالمتفجرات، وإلا معالم تاريخ الإسلام والسيرة ومنازل الصحابة والتابعين وغير ذلك الكثير قد فنيت وعفى عليها الزمن.

لم يكف الوهابيين ذلك.. لا بدّ من الإجهاز على ما تبقى من روح، بحجّة أو بأخرى. لا بد من استنبات الغابات المسلّحة بدلاً عن بيوت التراث القديمة.. لا بدّ من زلزلة هويّة مجاوري بيت الله الحرام، حتى لا يعودوا كما يقول جهّال الوهابية الى الشرك، ولا يجدوا أمامهم سوى التوحيد الوهابي من جهة، وآل سعود الجفاة البعيدين عن كل خصلة دين من جهة ثانية.

في المرّة الأولى دمّروا الحارات الأساسية القريبة من الحرم، وقالوا بأنها لتوسعته، متعمدين تدمير كل شيء أمامهم له علاقة بتراث المسلمين الخالد، وكان بإمكانهم الحفاظ عليه لو أرادوا مع التوسعة. لكن الحقد لا يجري هكذا! فكانت النتيجة أن قامت فنادق (عزّوز) إبن فهد. بل أن فهد نفسه ابتنى له قصراً يطاول الحرم المكي والكعبة بيت الله. وحين وجد أن جبل أبي قبيس وساكنيه يمكن أن يشكلوا خطراً عليه، لاطلالهم عليه، أمر بهدمه، وإخراج ساكنيه منه. جاء في سيرة ابن هشام أنه وجد هذا الأثر الذي يقول: (لا تزول مكة حتى يزول أخشباها) أي جبلاها: أبي قبيس، وقعيقعان. لقد فجر ال سعود جبل أبي قبيس، وأزالوا مسجد بلال، ومحو العديد من المعالم الدينية، وبينها محل انشقاق القمر.

أزقة حارة الشامية التاريخية

الآن يعود آل سعود ووهابيّوهم ليدمروا ما تبقى بحجج تطوير المسجد الحرام، ولتعطى الأراضي منحاً للأمراء، كما فُعل في التوسعة السابقة، حين قسم فهد الأراضي على أبنائه وعائلته، فنال ابنه (عزوز) حصة الأسد، وأقام فنادقه عليها. هناك مساحات كبيرة منهوبة من الأراضي كانت بيوتاً وأراض لمواطنين، قال آل سعود أنهم صادروها من أجل التوسعة، ووضعوها تحت مسمّى (وقف المسجد الحرام) ولكن الوقف تم تأجيره لمدة (99) سنة لـ (عزوز) إيّاه. أي سرقة على المكشوف.

واليوم هناك (حارة الشاميّة) التي كانت تسمّى عاصمة مكة المكرمة، والتي حوت بيوتات علماء عديدين، جرى تدميرها نهائياً. من العوائل التي تسكن الشاميّة: عائلة الدحلان، الخياط، كتبي، المشاط، يماني، بصنوي، عرب، هلال، شيث، شطا، الزعزوع، الرمل، حكيم، نصير، قدس، كردي، مرداد، قستي، الباشا، القطب، العجيمي، القطان، آشي، عرب هاشم، إدريس، العناني.

ومن الحارات التي جرى تدميرها مؤخراً بمعاول الوهابية السعودية، حارة القرارة، والتي تسكنها عوائل مثل: شلبي، الحلواني، رجب، الغنام، الرواس، المنصوري، البغدادي، سنبل، عاشور، الجنبي، الخضري، الطيب، الفراش، التونسي، الهرساني، وغيرها من العوائل.

وأيضاً جرى تدمير حارة الباب التي تسكنها عائلة السقاف، فدعق، البار، البسيبس، الرفيع، الدباغ، الجفري، الدهلوي، الزيدان، الغزاوي، الراضي، العزوز، ناصف وغيرها.

وتقول الأنباء أن الحارة دمرت ولم يتبق سوى بيت يماني، والذي كان منزلاً لآخر ملوك الهاشميين وهو الملك علي بن الحسين، ثم أصبح منزلاً لنائب الملك السعودي على الحجاز وهو (الملك فيصل فيما بعد). وقد أراد مالك المنزل، وهو الشيخ أحمد زكي يماني تحويله الى متحف أهلي، ولكن السلطات رفضت ذلك، وأنه رفض التنازل عنه، فيما أصرّ أمراء آل سعود الكبار على هدمه بأيّة وسيلة. ويقال أن أمير مكة خالد الفيصل يحاول إقناع أعمامه خاصة سلطان بالحفاظ عليه من أجل تحويله الى قصر باسم الملك فيصل، خاصة وأنه ـ أي خالد ـ ولد فيه كما بعض إخوته.

ودمّر الوهابيون حارة النقا التي يسكنها عائلة المالكي الدينية المشهورة، وعوائل أخرى: الحوراني، الحابس، القري، البرديسي، الموصلي، المرقوشي وغيرهم.

ممرات ودرجان بحارة الشامية سويّت بالأرض

ولم يكتف الوهابيون المسعودون بهذا، بل دمروا حارة سوق الليل التي تسكنها عوائل: العنقاري، ناضرين، عاشور، سفر، عبدالمنان، القلعي، الخفاجي، الدوش، اللمفون، القاروت، المكاوي، الغمري، الشاذلي، الفطاني، العقاد، العباد، المندورة، المريعاني، وغيرها.

وتوسّع التدمير الوهابي ليشمل شعب علي بما يحتويه من أماكن وبيوت تاريخية، حتى صارت مكة وكأنه قد ضربها زلزال وهابي جديد لم يمرّ في تاريخها.

كل ذلك يتم من أجل أن يطمس الوهابيون معالم المدينة، أو ما تبقى منها، ولكي يقول آل سعود أن التاريخ بدأ بهم ولن ينتهي إلا بهم. فلا تاريخ قبل آل سعود، ولن تتعلم الأجيال القادمة شيئاً سوى معتقدات الوهابية والولاء لآل سعود.

هناك ثلاثة وجوه لما يقوم به التحالف الوهابي السعودي (النجدي).

الوجه الأول، ينظر الى موضوع التراث بكليته بنوع من الإستهزاء، سواء كان ذلك التراث له علاقة بالدين الإسلامي، أو بتاريخ المسلمين، خاصة في العصور الإسلامية الأولى. الوهابية في أصلها مؤسسة ضدّ كل شيء له علاقة بالتراث والرمزية الدينية. لكن عداءها ذاك ليس ديناً محضاً، حتى من منظورها هي، فهي ترى في تدمير التراث إضعاف للخصوم الدينيين والسياسيين في الداخل.

الوجه الثاني، ويخص آل سعود والطبقة النجدية المسيطرة على الحكم، وهي ترى أن التراث مادة سياسية، لا يمكن إضعاف أهل الحجاز بدون تفتيت قلعتهم في مكة المكرمة. ولا يمكن تذويب الهوية الحجازية إلا بالقضاء على الذاكرة الجماعية لسكانها. لا ننس أن مكة كانت الى ما قبل ثلاثة عقود تعدّ أكبر مدينة سعودية من حيث تعداد السكان، وقد تربّعت على ذلك العرش على مستوى الجزيرة العربية كلها لقرن من الزمان على الأقل.

(دحديرة) في الشاميّة ومنازل تاريخية تم تدميرها

إن تذويب الهوية الحجازية، في وقت تقوم فيه الأقليّة النجدية بتعزيز هويتها وتسويدها على مستوى الدولة والمجتمع، بما تحتويه من عناصر ثقافية ومذهبية ومناطقية وسياسية، يعني أن الحجازيين الذين أبعدوا عن السلطة وشيئاً فشيئاً يجري تجريدهم مما تبقى لهم من قوة، يراد تحقيق المزيد من إضعافهم من أجل توسعة الإحتكار النجدي للدولة وضمانها لقرن قادم على الأقل!

فهم يتصورون أنه لن يكون بإمكان أهل الحجاز المقاومة والمدافعة عن الذات التي يراد لها التكسير والتهشيم من الداخل. وإلا ماذا يهمّ النجدي العلماني أو الأمير السعودي من تراث الإسلام في مكة؟! فهؤلاء لا دين لهم، وإنما دينهم المال والسلطة وشهوة الثروة واحتكار القوة والتحكّم بخلق الله وإدامة الإستبداد على يد فئة طائشة جاهلة بكل شيء عدا استخدام القوة للحفاظ على السلطة.

الوجه الثالث، له علاقة بالإقتصاد، فالحجازيون يعتمدون في كثير من مواردهم على موسمي الحج والعمرة، وما يتعلق بهما من خدمات. وقد جرى تفكيك هذه القوة شيئاً فشيئاً، من جهة لصالح القوة الإقتصادية النجدية المدعومة من الدولة، ويأتي تدمير حارات مكّة لترسم صورة مختلفة تشبه الى حد كبير السيطرة الوهابية على المدينة المنورة. يريد آل سعود تمكين النجديين من السيطرة على مكة أرضاً واقتصاداً وتطفيش أهلها منها، ربما الى جدّة، وتسليم كل عوامل القوة الإقتصادية الى النجديين، كيما يجعلوا من الحج مورداً لهم من جهة ثانية. لهذا، مُلّكت الأراضي لنجديين وأمراء بعد أن صودرت من أهلها أو تم تعويض ملاكها عنها بأثمان بخسة، لترتفع الفنادق والشقق والأسواق التي يملكها أولئك.

إن تدمير حارات مكة يحمل هذه الوجوه الثلاثة.. فهي ليست ديناً محضاً كما يزعم الوهابيون وآل سعود. ولا يراد منه التقرّب من الله، وهو ما يريد أن يظهر به آل سعود. وإنما إنضاب قوة أهل الحجاز لصالح الهيمنة والإحتكار النجديين للسلطة، وإفقاد الخصم السياسي منها والى الأبد، في عملية تغيير ديمغرافي وسياسي واقتصادي وثقافي مذهبي شامل.

ولكنهم يريدون، ويريد الله شيئاً آخر!

الصفحة السابقة