لماذا لجأ القطّان الى بناء المكتبة؟

موضع مولد النبي الشريف هو مكتبة مكة المكرمة

هدم قبر المصطفى.. نعم هدمه شغل ذهن المؤسسة الدينية الرسمية، فمنذ بدء تهديم الآثار الاسلامية بعد اجتياح المدينتين المقدّستين عام 1804 وحتى الآن كان موضوع هدم قبر المصطفى (صلى الله عليه وسلم) في قائمة الاولويات الدينية في الأجندة الوهابية، حيث ظلّت النيّة منعقدة على تهديم قبة المسجد وإخراج قبره الشريف من المسجد ومنع الناس من الزيارة. فقد ذكر الجبرتي في تاريخه بأن الوهابيين (حاولوا أن يهدموا قبة النبي (صلى الله عليه وسلم). وأكد الباحث الانجليزي دونادلسون بأن (علماء الدين الوهابيين كانوا تواقين على تهديم القبة التي على مسجد الرسول، وإعادة بناء الحرم الشريف من دون إدخال القبر فيه..).

ويقول الشيخ ابراهيم بن سليمان الجبهان في كتابه (تبديد الظلام وتنبيه النيام، ص 389) المطبوع بإذن رئاسة البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد برئاسة المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز تحت رقم 1144/5 بتاريخ 11/7/1400هـ (وإن إدخال قبره ـ أي قبر المصطفى ـ في المسجد ــ أي المسجد النبوي ــ أشد إثماً وأعظم مخالفة) ويضيف بأن (سكوت المسلمين على بقاء هذه البنية لا يصيّرها أمراً مشروعاً).

لقد سعت الحكومة السعودية الى إرضاء الميول المتشددة لدى حليفها الديني، فقامت بعلمية اخراج تدريجي للقبر الشريف من محوّطة المسجد للحيلولة دون إثارة مشاعر المسلمين الذين يرفضون هذا الاجراء الفردي والممقوت الذي تتخذه قلة متشددة حيال نبي الاسلام وما يستحقه من تبجيل واعلاءً لشأنه الكريم. ومن أجل درء محاولات المؤسسة الدينية المتشددة الرامية الى طمس معالم النبوة كان المخلصون والحريصون من أهل الديار المقدسة يعملون ما بوسعهم من أجل احباط تلك المحاولات والحفاظ على ميراث النبوة وتراث الاسلام في هذه الديار. ومن بين تلك المحاولات السعي الى اخفاء مكان مولد النبي الكريم ابا القاسم المصطفى، حيث عقد المتشددون العزم على ازالة هذا المعلم الشريف، الأمر الذي دفع بأحد المخلصين الى كف أيدي العابثين بميراث النبوة.

فقد نشرت صحيفة البلاد في عددها الصادر في الخامس والعشرين من جمادى الأول 1370هـ ـ الموافق الرابع من مارس 1951م مقالاً بعنوان (مدرسة ومكتبة في الأماكن التاريخية) جاء فيه (تفضل حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم الملك عبد العزيز فمنح سعادة الشيخ عباس قطان الأرض البيضاء المعروفة بدار السيدة خديجة زوجة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها لإقامة مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم على أنقاض هذه الدار، كما تفضل فمنحه أيضاً المكان الذي ولد فيه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم لبناء مكتبة ضخمة يؤمها رواد العلم وطلابه..).

ويعرف مكان المكتبة تاريخياً بموضع المولد النبوي الشريف وتقع المكتبة بشارع القشاشية في شعب علي أو شعب المولد التي تسمى في الوقت الحالي بسوق الليل. وكان الشيخ عباس قطان أمين عاصمة مكة سابقاً يسعى لاقامة مكتبة عامة فاتفق مع أصهاره آل الكردى على شراء مكتبة المرحوم الشيخ ماجد كردى الشهير بالمكتبة الماجدية ونقل محتوياتها الى هذه الدار صيانة للموضع الذي ولد فيه الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه من أن يبقى معرضاً للإهمال وتكريماً له بإقامة عمل نافع للناس.

وقد نقل الطبري في كتابه (تاريخ الأمم والملوك): ولد صلى الله عليه وسلم في الدار التي تعرف بدار ابن يوسف، وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وهبها لعقيل بن أبي طالب فلم تزل في يد عقيل حتى توفي، فباعها ولده من محمد بن يوسف، أخي الحجاج بن يوسف، فبنى داره التي يقال لها دار ابن يوسف، وأدخل ذلك البيت في الدار، حتى أخرجته الخيزران فجعلته مسجداً يصلى فيه.

وذكر الأرزقي ابو الوليد (ت 250هـ) في كتابه (أخبار مكة) المواضع التي يستحب فيها الصلاة بمكة وما حوته من آثار النبوة وقال في موضع مولد النبي صلى الله عليه وسلم وهو (دار محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف كان عقيل بن ابي طالب أخذه حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وفيه وفي غيره يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع حين قيل له أين ننزل يا رسول الله؟ وهل ترك لنا عقيل من ظل؟ فلم يزل بيده وبيد ولده حتى باعه ولده من محمد يوسف فأدخله في داره التي يقال لها البيضاء وتعرف اليوم بإبن يوسف، فلم يزل ذلك البيت في الدار حتى حجّت الخيزران أم الخليفتين موسى وهارون فجعلته مسجداً يصلى فيه وأخرجته من الدار وأشرعته في الزقاق الذي في أصل تلك الدار يقال له زقاق المولد.

وقال محمد طاهر الكردي المكي في الجزء الأول من كتابه (التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم) صفحة 170 ما نصه (أن موضع ولادة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بسوق الليل، وهو شعب علي وقد بنيت فيه الآن عمارة لطيفة بناها أمين العاصمة الأسبق عباس بن يوسف القطان.. فقد بناها على حسابه الخاص لتكون مكتبة عامة.. ولما مات أتمّها إبنه الفاضل الشيخ أمين).

إن ما تظهره الحقائق التاريخية أن المسجد الذي بنته الخيزران بقي شاخصاً ولما بدأت معاول الخراب تميل عليه فكّر بعض المخلصين من أهالي مكة المكرمة ممن حرصوا على حفظ ميراث النبوة وتراث الاسلام، وكان من بينهم الشيخ عباس القطان رحمه الله الذي طلب الإذن من عبد العزيز بإقامة المكتبة الموجودة حالياً بهدف حفظ موضع المولد النبوي الشريف وبيت السيدة خديجة بحيث يستعاض بالمكتبة عن الشاهد الدال على موضع هذين الاثرين العظيمين، وما يحول في الوقت نفسه من أن تمتد أيدي العابثين فتعمل فيهما معاول الخراب والاخلال. ومن حسن صنع الشيخ القطان، فقد تم اكتشاف علامات وجدر تدل على وجود مواضع أثرية لها إشارات في المراجع التاريخية تدل على أنها آثار من العصر العباسي.

ومن خلال نظرة مسحية يظهر بأن موضع المكتبة يقع الى شرق جبلي الصفا والمروة كما تقع المكتبة في مقدمة شعب علي وفي أمام سفح جبل أبي قبيس وهي في الوقت نفسه تشرف على شارع القشاشية.

الصفحة السابقة