مناقشة حامية حول كتاب روبرت ليسي (في داخل المملكة)

مي يماني: الإصلاحات مجمّدة وبلغت درجة التعفّن

هاشم عبد الستار

هل توقّف الإصلاح في السعودية؟ السؤال المركزي الذي دارت حوله المناقشة المحمومة في مركز دراسات تشام هاوس، في العاصمة البريطانية، لندن في 30 أكتوبر الماضي، حول كتاب صدر حديثاً بعنوان (داخل المملكة: الملوك، العلماء، التحديثيون، الإرهابيون، والصراع من أجل السعودية) للمؤلف البريطاني روبرت ليسي.

طاولة النقاش ضمّت إلى جانب مؤلف الكتاب، الباحثة والأكاديمية الحجازية الدكتورة مي يماني، مؤلف كتاب (مهد الإسلام: الحجاز والبحث عن الهوية العربية)، وبرئاسة البروفسور مضاوي الرشيد، من كلية كينجز في لندن.

وحضر النقاش عدد من الباحثين والمهتّمين إلى جانب مجموعة من المسؤولين السعوديين من بينهم ابن الملك فهد، الذين استمعوا الى مناقشة غير مسبوقة في هذا المكان لعملية تشريح دقيقة لبنية النظام السعودي، ولتوجّهاته السياسية، فيما واجه مؤلف الكتاب روبرت ليسي عاصفة من التعليقات الناقدة لمضمون كتابه، أفقدته أحياناً القدرة على الدفاع عن خلاصات أوردها في بحثه.

بدأت جلسة المناقشة بتقدمة لرئيسة الجلسة البروفسورة مضاوي الرشيد التي عرّفت بكل من المؤلف ليسي والمناقشة يماني، حيث تمّ تعريف روبرت ليسي على أنه مؤّرخ بريطاني وصحافي، وأنه عاش في المملكة سنة 1979 مدة ثمانية عشر شهراً لتأليف كتابه (المملكة) الذي صدر باللغة الإنجليزية والعربية، وقد تمّ منع الكتاب من قبل الحكومة السعودية في ذلك الوقت. وأمضى الثلاث السنوات الأخيرة بين المملكة وبريطانيا لجمع مادة كتابه الجديد (داخل المملكة) من مختلف مستويات وفئات المجتمع السعودي، من المعارضين السياسيين، ومعتقلي غوانتنامو، وصولاً الى الدوائر الضيقة جداً في العائلة المالكة.

وحول المناقش، عرّفت الرشيد مي يماني بأنها أكاديمية مستقلة، وأستاذ زائر في مركز كارنيجي في الشرق الأوسط في العام 2008 وزميل زائر في معهد بروكينز في واشنطن، العاصمة، في العام 2008. وعملت زميلاً باحثاً في المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن في الفترة ما بين 1997 ـ 2007. وفي الإعوام من 1992 ـ 2000، شغلت يماني موقع زميل باحث في مركز الشرق الأوسط والشريعة الإسلامية في جامعة لندن. وفي تلك الفترة، عملت كمستشار أكاديمي في مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورج تاون، ومحاضر في الأنثروبولوجيا وعلم الإجتماع في جامعة الملك عبد العزيز، بجدة، منذ 1981 ـ 1984. ومن بين المؤلفات الصادرة للدكتورة يماني، ذكرت الرشيد كتاب (مهد الاسلام: الحجاز والبحث عن الهوية العربية) المنشور في العام 2004.

وفي التأسيس للمناقشة، ذكرت الرشيد بأن كلا المتحدّثين سيناقشان الى أي حد كانت الرياض مخلصة في رغبتها في الإصلاح والتحديث، ولفتت النظر الى أن تصاعد التطرف الديني وجهود الملك لتغيير الاتجاه يمثّلان عنواناً لموضوع المناقشة.

في ردّه على السؤال المركزي حول توقّف الإصلاحات، أجاب ليسي بأنّه لا يعتقد بان الإصلاحات توقّفت، واقترح التورخة المحددة من قبل رئيسة الجلسة للإصلاحات المرتبطة بعهد الملك عبد الله، التي تبدأ بـ 14 فبراير من هذا العام، والتي صادفت عيد الحب، وقد اكتسب هذا اليوم، حسب ليسي، أهمية إضافية كونه اليوم الذي أعلن فيه الملك عبد الله التعديل الوزاري. ويفترض ليسي أن أي تعديل يجريه القادة السياسيون يستغرق، عادة، عدة أسابيع أو عدة شهور كما في حالة أميركا. الملك عبد الله أخذ سنتين ونصف السنة لأنه جاء الى العرش في أغسطس 2005. وعلّق ليسي بأنه من غير الممكن إخضاع الإصلاح السعودي للمحاجّة بالقياس الى بلدان أخرى. وبرر ذلك بأن السعودية مجتمع محافظ، حيث يبدو من الصعوبة الإلتزام بنوع الاصلاحات الغربية في الحكومة، أو على الأقل فإن الحكومة تعتبر من الصعوبة بمكان الدفع بها للأمام وتفضّل تحاشي الصراع.

ويمضي ليسي في تبرير طول أمد الإصلاحات التي تبنّاها الملك عبد الله، بأن السبب الآخر يعود من جهة الى أنه كان الملك الفعلي، أو الحاكم الرئيس للسعودية مدة عشر سنوات قبل ذلك، وفي تلك الفترة قام بتغييرات أخرى، من أبرزها تعيين الدكتور غازي القصيبي كأول وزير للمياه، ومن ثم وزيراً العمل. ويصعّد ليسي من أهمية هذه الخطوة بتحضير ما نقله عن كثيرين حسب اعتقاده بأن القصيبي هو بمثابة رئيس وزراء غير رسمي للسعودية. ويعلّق ليسي بالقول بأنه ـ أي القصيبي، الواجهة الصلبة التي يستعملها الملك عبد الله. ونقل، من موقعه الصحافي، ما سمعه من أحدهم داخل المملكة بأن القصيبي مقرّب جداً من الملك، وأنه شخص إصلاحي. وهناك وزراء آخرون، حسب ليسي، عيّنهم الملك مثل رجل الأعمال الحجازي عبد الله علي رضا، الذي أدار مفاوضات صفقة الإنضمام لمنظمة التجارة العالمية وأصبح وزيراً للتجارة.

واصل ليسي عرض ما يعتبره خطوات إصلاحية لافتة، من بينها تعيين أول إمرأة في منصب وزير في السعودية، ولكن ليس في الحكومة وإنما في منصب نائب وزير التعليم، الدكتورة نوره الفايز، في تعليم البنات في الوزارة، وهذا، من جهة نظره، إصلاح آخر قام به الملك عبد الله في تعليم البنات، مفيداً من مأساة حريق مكة في العام 2002 لنزع هيمنة المؤسسة الدينية على تعليم النساء وربطها بوزارة التعليم.

وأسهب ليسي في استعراض ردود الفعل الدينية على تعيين الفايز، وذكر ما قامت به مجموعة من المتشدّدين في إبريل الماضي بتنظيم احتجاج في الرياض ضد تعيين الفايز، وذهبت المجموعة لمقابلة أحد أعضاء هيئة كبار العلماء، وطالبوا بإعادة تعليم البنت الى سيطرة المشايخ وعلماء الدين.

وفي حقل التعليم أيضاً، والكلام مازال للكاتب ليسي، عيّن الملك زوج إبنته وابن أخته الأمير فيصل بن عبد الله. ويقول ليسي بأنه يعرفه لسنوات عدّة، وقد قابله خلال تواجده في السعودية في عامي 79 ـ 80 من القرن الماضي، وكان يلتقيه في بيت أحد الأمراء في منتصف ليلة الجمعة من كل أسبوع، والتي تشبه إلى حد ما منتصف ليلة الأحد في لندن، ولم يكن يعلم بأنه على صلة بولي العهد حينذاك (كان مجرد فرد منا) حسب قوله. ومن أجل درء أية انطباعات أخرى، اكتفى ليسي بالإشارة الى أن جلسات منتصف الليل مع الأمراء كانت تقتصر على مشاهدة برنامج تلفزيوني تعليمي في إحدى القنوات البريطانية يدعى (من فضلك، أيها السيد)، ويبقى الجميع يشاهد هذا البرنامج حتى مطلع الفجر. ويرى ليسي رابطاً بين البرنامج التلفزيوني وقرار تعيين الأمير فيصل بن عبد الله وزيراً للتعليم في السعودية، وبأن ذلك بمثابة إعداد جيد له لتولي هذا الموقع. بل يزيد على ذلك شرحاً، إذا كانت هناك تغييرات ـ وستكون هناك تغييرات بالرغم من عدم الاعلان عن أي منها ـ فجميعها قد يعود الى تلك الليالي في مشاهدة التلفزيون!

ولم يبرح ليسي الحديث بإسهاب، وفي الغالب ضئيل الفائدة، عن الأمير فيصل بن عبد الله، حيث يقول بأن أول شيء قام به الأمير فيصل وشاهده في اليوم التالي، أنه ذهب لمقابلة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ لأن أية تغييرات في النظام التعليمي في السعودي لا بد أن تحظى بموافقة أو التغلب على معارضة المؤسسة الدينية التي ستحارب بأسنانها وأظفارها لمنع أي محاولة لتخفيف عدد المواد الدينية أو ابتكار شيء ما مثل التعليم المختلط، وهو بالتأكيد خيار في المستقبل.

ينقل ليسي عن بيان رسمي بأن المفتي بارك جهود الوزارة لجهة القيام ببعث تعليمي وتمنى للوزراء الجدد كل النجاح في أدوارهم الجديدة. وتساءل ليسي عن المدى الذي يمكن أن تسمح به المؤسسة الدينية للأمير الشاب الحيوي (كان شاباً يوم قابله ليسي قبل نحو ثلاثين عاماً)، لجهة القيام بجدول الاصلاحات الذي عمل عليه الى جانب أمير آخر، فيصل بن معمر، وهو من الموثوقين جداً لدى الملك عبد الله. وكما في حالة فيصل بن عبد الله، لم يشأ ليسي أن يضيّع فرصة مناسبة للحديث بإسهاب أيضاً عن فيصل بن معمر، الذي يدير مكتبة الملك عبد العزيز العامة، وهو من أدار الحوار الوطني، وهو عنصر آخر في عملية الإصلاح التي تعود الى إصلاحات مابعد الحادي عشر من سبتمبر، والتي جمعت الشيعة والسنة في غرفة واحدة، وجمعت الرجال والنساء لمناقشة قضايا المرأة.

ويعتقد ليسي بأن التغيير الآخر للإصلاح العلماني لم يكن في تغيير الاشخاص، ولكن تغيير وزير الصحة، وتعيين الطبيب النجم الدكتور ربيعة، الذي أصبح مشهوراً على المستوى العالمي بخبرته في عملية فصل التوائم السيامية. ويصف ليسي سعادة الملك عبد الله بهذه العمليات، حيث كان يقوم بإطلالة على المستشفى التي تجري فيها العمليات لرؤية آخر طواقم التوائم، الذين يأتون على نفقته الخاصة من كل أرجاء العالم.

من وجهة نظر ليسي، أن الإصلاحات الأكثر أهمية التي صوّبت إلى صميم ما يجب فعله في السعودية، هي إصلاح الطبيعة الدينية. وأهم تلك الخطوات الرائعة كان إقالة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان، الذي كان رئيس القضاء في السعودية وأصبح سيء الصيت في صيف 2008 حين كان هناك مسلسل ناجح في التلفزيون يدعى نور، وشأن المسلسلات الأكثر شعبية في العالم العربي تمّ إنتاج المسلسل في تركيا. وقد ساء اللحيدان ردود الفعل التي تركها المسلسل على الحياة الاجتماعية في السعودية، ودعى الى قتل مالكي الفضائيات الذين يبثّون هذا النوع من المسلمين لإفساد البلاد الاسلامية. وقد تم إرغامه لاحقاً على تقديم اعتذار موارب بخصوص موقفه. وقال بأنهم سيخضعون للقتل بعد أن تتم محاكمتهم في محكمة شرعية. وقد أثار موقفه استياءً واسعاً، وكان من المرشّحين البارزين للاختفاء من المشهد السياسي، واستدرك ليسي ليقول (لو كان الحال في بلدان أخرى، قد تتم إقالته من منصبه على الفور، ولكن قرار إبعاده استغرق نحو تسعة شهور).

ويواصل ليسي رصد التغييرات (أو الاصلاحات إن شئتم)، ومنها إقالة رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على خلفية سلسلة قضايا، احتلّت مركز الصدارة في الإعلام المحلي، حين تم إتهام الشرطة الدينية بالتعامل غير العادل مع أولئك الذين يجري اعتقالهم. ومن وجهة نظره أيضاً، فإن التغيير الأشد أهمية كان إقالة وزير العدل، وهو عضو في عائلة آل الشيخ.

ما يريد روبرت ليسي التوصّل اليه هو هنا: أن إقالة عدد من الأشخاص في بعض الوزارات والمؤسسات الرسمية الدينية والسياسية يحمل في طياته رسالة في الاصلاح والتغيير. ويفترض بأن سؤالاً كبيراً ينبعث من استعراضه السابق حول دلالة هذه التغييرات وينقل عن غازي القصيبي، الذي يعرف السلم الموسيقي حسب قوله، أن هذه التغييرات تستهدف تسريع الاصلاح التعليمي والقضائي.

ويميل ليسي للاعتقاد بأن آل الشيخ لم يتحرك بالسرعة الكافية، ونقل عن جمال خاشقجي، رئيس تحرير جريدة الوطن، والناطق بإسم خالد الفيصل وأعضاء آخرين في العائلة المالكة قوله (الناس المسؤولون الآن ليسوا هم من يطالبون بتطبيق الإصلاح، ولكنهم الناس الذين يعتقدون صدقاً بالإصلاح). ولا ينسى ليسي تذكير مستمعيه بأن إقالة الشيخ اللحيدان لم تكن نهائية، فهو مازال ضمن دائرة العلماء ويمارس دوره الديني بوصفه جزءً من هذا العالم الواقع خارج إطار التراتبيات الرسمية.

ولكن ليسي الذي يحاول رسم صورة وردية عن تغييرات يراها لافتة في عهد الملك عبد الله، لا يتردد في حشد كل الأدلة الداعمة لرؤيته. وينقل عن وزير كبير، تحاشى ذكر إسمه لعدم امتلاك الحرية للكشف عن هويته، وصفه لإصلاحات الملك عبد الله بأنها (إنقلاب)، فيما يرسم العناصر العلمانية في الحكومة خطاً في سياق استلام السلطة من المؤسسة الدينية.

يتنكّب مؤلف كتاب (من داخل المملكة) الى عنصر هام آخر في الإصلاحات إضافة الى العلماء من خارج المدرسة الحنبلية، المعروفة بكونها الأكثر تشدّداً ومحافظة، والتي ينتمي اليها الوهابيون. فالعلماء يخضعون تحت سيطرة الحنابلة ولكن هناك ثلاث مدارس أخرى، وقد قام الملك عبد الله بخطوة لافتة بتعيين، أو إعادة تعيين الشافعي عبد الوهاب أبو سليمان، وآخر حنفي، وإثنين آخرين من المذهب المالكي. فهيئة كبار العلماء تتألف الآن من 21 عضواً، من بينها سبعة عشر حنبلياً.

يحاول روبرت ليسي عقب عرضه السابق بكل الاستطرادات غير الموفّقة، أن يسبغ أهمية على مقاربته من خلال توجيه لفتة تعضيدية لنهج المراقبين الغربيين في حديثهم عن السعودية لناحية التعرّف على ما يجري في المملكة، من خلال التركيز كثيراً على من يقوم بالعمل الحقيقي في العائلة المالكة. ويسحب تلك المقاربة على العلماء أنفسهم لمعرفة من هو الفاعل الحقيقي في مؤسسة العلماء. ويعود ليسي الى عام 1962 حين شعرت العائلة المالكة بأنها غير قادرة على إزاحة الملك سعود وتعيين الملك فيصل دون سلطة المشايخ والعلماء. وحدث الشيء ذاته حين تمّت السيطرة على المسجد الحرام في العام 1979، من قبل تلامذة العلماء بقيادة جهيمان العتيبي، الذي كان وأتباعه معروفين بصورة شخصية لدى العلماء، ولهذا السبب لم يقم العلماء بتوجيه إدانة لهم. فلدى العلماء مجموعة هائلة من التوصيمات التي يمكن أن يلقوها على أولئك الذين ينحرفون، ولكنهم اختاروا أن يصفوهم فقط بـ (المجموعة المسلّحة)، لأنهم خرجوا عن تعاليم الشيخ بن باز وآخرين. وفي واقع الأمر، حين ذهبوا في الصباح لانتزاع الميكرفون من المؤّذن، كان الشيخ من بين أساتذتهم، وهذا يظهر نوع التأثير المتراوح للعلماء.

وفي العام 1990، كانت العائلة المالكة بحاجة الى سلطة العلماء لناحية تأمين السماح للقوات الأميركية بالقدوم الى السعودية، التي كانت بطبيعة الحال الأرض الرئيسية للإنقسام بين أسامة بن لادن والقاعدة من جهة وآل سعود من جهة ثانية، والذين كانوا حتى ذلك الوقت أخلاّء، كعمال مشتركين وأبطال في أفغانستان. من مجمل ذلك، يرى ليسي بأن هذه التغييرات التي قام بها الملك عبد الله في مؤسسة العلماء تبدو له في غاية الأهمية.

وقبل أن ينهي عرضه، تعرّض لما أشارت إليه البروفسورة مضاوي الرشيد حول الانتخابات، وعلّق قائلاً بأن ثمة أشياء حصلت هذا العام ما تدعو للقول بأن هناك أشياء قادمة في طريق الإصلاح. وبخصوص الانتخابات يعتقد ليسي بأن ما حصل كان أن نائب وزير البلديات والأمير المسؤول عن الانتخابات ذهب للخارج في إبريل ـ 2009 ـ. وقال ليسي بأن الأمير عقد نوع من الندوات واللقاءات في مناطق متفّرقة، وخصوصاً في الشرق، وأثار الى إحتمالية مشاركة النساء في الانتخابات. ويصف ليسي ذلك بأنه نوع من النموذج التقليدي من آل سعود، فهم يرمون حجراً في الماء ثم ينظرون الى كيف تمضي التموّجات. ويشرح ذلك بالقول بأن لقاءات الأمير لفحص إمكانية تصويت المرأة لأن الإنتخابات الأخيرة التي قامت بها الحكومة قد ألزمت نفسها الى حد ما بالسماح للنساء بالتصويت في الإنتخابات البلدية القادمة. ويعلّق على ذلك بالقول بأنه في الظاهر كان رد الفعل غير إيجابي، ولكنه يشير، من باب إبراء الذمة، بأن الشيء الذي لم يجد الفرصة للتحقّق منه هو الغضب العميق المنبعث من بعض هذه الاصلاحات.

وعرّج ليسي على الاحتفالات الأدبية هذا الربيع في السعودية والتي وصفها بأنها (مناسبات رائعة) لأن لدى الأصوليين بعض المنتديات التي يعبّرون فيها عن مشاعرهم، وأنهم توصّلوا الى أنهم في حال ذهبوا الى الاحتفال الأدبي حيث يكون هناك شعراء علمانيون وشعبيون فبإمكانهم القيام باحتجاج وجلبة. وكان هناك الكثير من المتاعب كهذه، وهناك متاعب أخرى في المدينة المنورة ذات صلة بحقوق الشيعة.

ولذلك، قررت الحكومة بأن تصويت النساء سيتسبب في متاعب كثيرة، ما دفع الى تأجيل ذلك لسنتين. ويرى ليسي بأن ذلك لن يضيف عنصراً الى مقولة توقّف الاصلاحات، لينتهي الى خلاصة بأن الإصلاح الذي يجري في السعودية على يد الملك عبد الله وحكومته يسير بالسرعة الممكنة في مجتمع محافظ جداً.

مي يماني: الاصلاحات مجمّدة

إستهلّت الدكتورة يماني مناقشتها لكتاب روبرت ليسي (في داخل المملكة)، بمقدمة إحمائية قبل أن ترفع من درجة سخونة المناظرة، ونوهّت الى المكان الذي تنطلق منه وقالت بأنه مادمنا تحت نظام ملكي مختلف في (شتام هاوس)، حيث بمقدرونا أن نملك رؤى مختلفة، فإنني أود أن أتبنى رأياً مختلفاً من روبرت ليسي.

إكتفت الدكتورة يماني بهذه المقدمة المقتضبة لتقلب المشهد الرومانسي الذي عرضه ليسي رأساً على عقب. بدأت بتكثيف النتائج التي خلصت اليها من عشرات المقالات والأبحاث والمحاضرات التي قدّمتها في السنوات الأربع الماضية حول الاصلاحات، وثبّتت حقيقة كبرى: أن الإصلاحات في السعودية مجمّدة. وشرحت ذلك بالقول أن الاصلاحات أودعت عند مستوى تجمد عميق بصورة دائمة تسدّد ثمنه الثروة النفطية. وأن هذه السياسة تقدّم إستقراراً قصير المدى بالنسبة للمملكة، ولكن جسداً مجمّداً هو قابل للكسر بسهولة، وفي حال إبقائه مجمّداً بعد إنتهاء تاريخ الصلاحية قد يصبح متعفّناً حين تتم إذابته.

وتثير يماني سؤالاً في سياق مناظرتها: ماذا يبرر حالة التجمّد هذه؟ هل هي الوهابية أم أن الوهابية الرسمية هي العقبة أمام الإصلاح؟ ومن هم أولئك الرجال المبهمون الذين يمثّلون هذا المذهب؟

وهنا تقتحم اليماني مجال الرؤية لدى روبرت ليسي لتعيد توظيف عناصره في مناظرتها. تقول يماني بأن ليسي يشرح بأن (وهابي) هو مصطلح يتم استعماله من الناقدين الأجانب، ولكنه يختار فيما بعد استعمال المصطلح في كتابه. وفي إشارة تطمينية تقول يماني بأنها تود طمأنة روبرت بأن الوهابيين النجديين أنفسهم يستعملون المصطلح نفسه هذه الأيام، وأنهم فخورون به. وتضيف يماني بأنها سمعت سعوديين يقولون (أنا وهابي ليبرالي)، و(أنا وهابي علماني). إنها، حسب وجهة نظرها، هوية وأن هذه التعبيرات يجري استعمالها غالباً في المواقع الوهابية السعودية. وكتصديق على ذلك، فإن المفتي العام السابق للمملكة الشيخ عبد العزيز بن باز قبل في فتوى مصطلح (الوهابية)، وخصوصاً في حال نشر الدعوة.

تنطلق من تلك المقدّمة لتقترب يماني مباشرة من مضامين الكتاب، الذي تصفه كقارىء يصاب بعد قراءته بالإرباك خصوصاً القارىء الأجنبي الذي يتساءل عن معنى وهابي أو سلفي. في أحيان، هم إسلاميون وبالطبع حنابلة، وقد يصنّفون تحت السنة. ولكن تتحفّظ الدكتورة يماني على هذه المقاربة وتعتبرها تبسيطاً مبالغاً للهوية وتنوّع السكان في السعودية. وتنوّه هنا الى دراستها في هذا الشأن كما جاء في كتابها (مهد الإسلام). وتمدّ يماني مساحة الإرباك الذي يصيب القارىء الى موقع الوهابيين الرسميين والإصلاح. وتتوقف هنا لتنوّه بكتاب البروفسورة مضاوي الرشيد (صراع الدولة السعودية: الأصوات الإسلامية للجيل الجديد).

وتمضي اليماني في منازلتها لتخوض صلب وظيفة المؤسسة الدينية، وتقول بأن المؤسسة الدينية الوهابية، باعتبار القائمين عليها حكّاماً مشاركين في الدولة السعودية، ليست معارضة، عموماً، للتحديث الاقتصادي: الطرق السريعة، والمباني الشاهقة، والمدن الاقتصادية الكبيرة في العالم، وخصوصاً المنشآت النفطية المتقدّمة. وفي الحقيقة، حتى الشيخ بن باز، المفتي العام السابق للمملكة، الذي اشتهر بمقولته بأن الأرض مسطّحة، ولكن روبرت ليسي يشرح بأن ابن باز ينظر إليه باعتباره عالماً منفتحاً، وأن كلام العالم الورع كان قائماً في الحقيقة على الحاجة الى المزيد من الدليل العلمي. وعليه، فإن الوهابيين الرسميين ليسوا معارضين للتقدّم الاقتصادي أو العلمي. على أية حال، فإن السيطرة الوهابية قد قيّدت بشدّة عملية الإصلاح السياسي. فقد وقف العلماء الوهابيون السعوديون من حيث المبدأ ضد الاصلاح الديمقراطي وإرجاع ذلك الى عقيدتهم في عصمة التفسيرات الوهابية للنصوص الاسلامية والبيعة للحاكم.

وتزيد يماني في توضيح هذه الإشكالية العويصة بالقول أنهم ـ أي العلماء الوهابيون ـ يفهمون التحالف المصلحي للمملكة مع الولايات المتحدة. ففي أعقاب حرب العراق وتلويح بوش براية الديمقراطية للشرق الأوسط، حتى لا تظهر وكأنها تقف وراء الدول العربية الأخرى في هذا الشأن، تم إجراء انتخابات بلدية جزئية في العام 2005. فقد كانت الانتخابات جزئية، وتحت السيطرة، وفي الأخير بلا تداعيات. إن نجاح الإسلاميين، كما تقول يماني، كان مفصّلاً بحسب المقاس من قبل النظام السعودي، بهدف تحذير الولايات المتحدة بأن الاصلاحات الانتخابية غير مرغوبة على المدى البعيد. ولذلك، تم إلغاء إنتخابات 2009.

ولكن الوهابية، كما ترى يماني، واهنة أمام الضغوط الشعبية من أجل الاصلاح. وأن التجارب الديمقراطية في بلدان مجلس التعاون الخليجي المجاورة، مثل قطر، وهي الدولة الوهابية الوحيدة في الجزيرة العربية، تقدّم نقطة مضادة. فإذا قبل الوهابيون السعوديون الإجراءات الديمقراطية، فسترغم الوهابية على تغيير مسلكياتها ومبادئها التوجيهية. في الكويت كما في البحرين، فإن مشاركة السلفيين في البرلمان جاءت فقط بعد الحصول على إذن من الشيخ عبد العزيز بن باز وخلفه الشيخ عبد العزيز آل الشيخ. فالإذن هو مؤشر على أن الوهابيين السعوديين يعارضون الديمقراطية في الداخل فقط. فقد يكونوا براغماتيين إزاء الاصلاح السياسي، ولكنه متاح لمن هم في الخارج، وليس في المملكة حيث أن سلطة النظام، في حال اعتمد مبدأ الانتخابات، ستضعف.

في المملكة، يشعل رئيسا المؤسسة الدينية الوهابية وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منصب وزير دولة، وأن موظفيها، المطاوعة، يمثلون ذراع الدولة ووحدة ضبط التجميد. وتقول يماني، بأن روبرت يصف تحرّشات المطاوعة ضد الشعب ـ وتذكر أن من بين أشياء أخرى لا يحبونها هي الزهور في عيد الحب ـ ولكن روبرت يترك روابطهم بالدولة غامضة جداً. فهل المطاوعة جزء من الحكومة؟ هل هم شرطة آداب غير مقيّدين بعقود ثابتة؟ وهل هم مستقلون عن الدولة؟ أم هم جنود مستقلون للفضيلة؟ وهل هم أقوى من آل سعود؟ وهل هم ورؤساءهم الوهابيون دولة داخل دولة؟ أم أنهم أدوات في أيدي آل سعود لضبط السكان عبر الهيئة، خصوصاً الشيعة في الشرق والاسماعيلية في الجنوب؟ وهل آل سعود قادرون أو راغبون بضبط النشاطات الوحشية للمطاوعة؟

فقط في السعودية، حسب يماني، يمثل المطاوعة يد الله وهم فوق القانون. ولكن الغضب الشعبي إزاء ممارساتهم الوحشية مؤشر على الضغط من أجل الإصلاح. ومنذ مايو 2007، شنّ المطاوعة هجوماً عدوانياً، باقتحام البيوت واعتقال أفراد لعدة أيام وتعذيب البعض وضرب آخرين حتى الموت. وكرد فعل على مطالبات مهنيين سعوديين بتقديم المطاوعة للعدالة، بارك الأمير نايف، وزير الداخلية، المطاوعة وربط مهمتهم بالحرب ضد الإرهاب.

الإصلاح أو ضد الاصلاح يفضي الى جمود غريب وهو نتاج انقسامات عميقة داخل العائلة المالكة. وتصف يماني استراتيجية الملك عبد الله بانها عبارة عن إلغاء الضغط السياسي: لتقديم مجرد امتيازات كافية لإرضاء سكان السعودية وتخفيف الضغط من أجل الإصلاح.

وقد تحدّدت معالم محاولات الاصلاح السياسي بالمقاومة، وتشمل التكتيكات الاحباطية من قبل أعضاء كبار في آل سعود. ويواجه عبد الله، رأس أكبر عائلة مالكة في العالم بتعداد 22 ألف عضواً، تعنّت عشرات من أخوانه غير الاشقاء وآلاف من أبناء عمومته وأبناء إخوته، وخصوصاً الاخوة السديريين وأبنائهم.

وبالرغم من اختلاف الآراء حول الاصلاح السياسي، فإن آل سعود متوافقون على تطبيق سياسة الخوف. في الواقع، إن كتاب روبرت ليسي توقف عند حوادث حول زوار الفجر من المباحث، الذين يقتحمون بيوت الاكاديميين والصحافيين ويسوقونهم الى السجن. يضاف الى ذلك إجراءات أخرى من قبيل إخضاع خطوط الهاتف للمراقبة الدائمة، وتسجيل المكالمات، واللواقط الخفية كجزء من الديكور الداخلي للبيوت وغرف الفنادق وبعض الصالات.

استعمل آل سعود، حسب يماني، سلطتهم لفرض حدود على المناظرات السياسية. وتشمل أساليبهم التنظيم والضبط القانونيين، والاغراءات السياسية والمالية، وفرض قيود رسمية وغير رسمية على ما يمكن مناقشته بصورة علنية. بالنسبة للأكاديميين والصحافيين، فإنهم مدركون بشدّة طبيعة الخطوط المسموح بها ومتى يكون آمناً عبورها. وحيث أن معظم المفكّرين يتلقون مرتباهم مباشرة من الدولة، فإن كسب الرزق يعتمد على قدرتهم على المناورة بين الخطوط العريضة.

عبور خطوط الرقابة قد يفضي الى مكالمة هاتفية في منتصف الليل لإسداء نصيحة حول المحاجّة الخاطئة في التحليل. ولكن إذا لم تكن المكالمات الهاتفية مؤثرة، فحينئذ يتم استعمال وسائل أشدّ قسوة، مثل الفصل من الوظيفة، أو الجلد، أو الاعتقال ـ وهي إجراءات معروفة بأنها تقنيات الضبط الناعم لوزير الداخلية.

ولكن تبريرات روبرت، حسب يماني، لتجارب الإعتقال لأصحاب الرأي المختلف تجعل المرء يرغب في أن يدخل السجن في السعودية. فالسجون السعودية، وهي ليست مثل سجون الديكتاتوريات الأخرى، هي من الدرجة الأولى، ومريحة، وتقدّم طعاماً شهياً، وتلفزيون وتسلية وحتى الحمامات مصنوعة في كاليفورنيا ـ العطلة التعليمية السعودية الممتازة. ليس من بين أي الروايات أولئك الذين جرّبوا السجن السعودي ذكروا التعذيب، والحرمان من النوم، ما يجعل المرء يتساءل عن تقرير هيومان رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية أو حتى معرفتي بتجارب السجن للمثقفين السعوديين.

وفي ختام مناظرتها الساخنة، خلصت مي يماني بعبارة (كل شيء يجب أن يتغير وعليه لا شيء سيتغير) كان قد نقلها روبرت ليسي في كتابه، وهي للروائي برنس لامبديوسا، وعنى بها أن التغيير السياسي الجاد يمكن أن يتم في سياق المحافظة على السلطة الملكية. فأسعار النفط العالية حقّقت إستقرار المملكة، ولكن التصدّعات الحاصلة تحت السطح يمكن مشاهدتها. ومن أجل منع التصدّعات من أن تصبح انهيارات، فإن النظام السعودي يجب أن يخرج الإصلاح من حالة التجمّد العميق. فإن سنتين من عملية الإذابة قد تكون طويلة جداً.

الصفحة السابقة