جدة الغارقة.. تراث مهدّد

الجزيرة العربية، خزّان تراثي بالغ الثراء، وذاكرة تاريخية تعكسها معالم كانت حتى وقت قريب شواهد على عمق النشاط الانساني، فقد مرّت الأديان كلّها من هنا، كما استوطنت حضارات بشرية عريقة مناطق كثيرة منها. وكان أولى بمن لديه هذا المخزون التراثي الغني أن يوليه إهتماماً شديداً، بل وأن يكون مصدر توجيه لكل الأديان والحضارات من باب الحفاظ على تراث البشرية، وحفظاً للوجود الحضاري الذي تمثّل الجزيرة العريبة أبرز مصادره ومحاضنه.

لقد فوجئنا بخبر نشرته وكالة (رويترز) ونقله موقع (العربية) على شبكة الانترنت بأن السعودية تأمّل في تدخل الأمم المتحدة لمساعدتها في إنقاذ مدينة جدة التاريخية القديمة المطلّة على البحر الأحمر ذات الطراز المعماري الفريد والمهدد بالإختفاء.

وفيما يناضل المعماريون الحجازيون في كف أيدي العابثين بتراث ومعالم المدن المقدّسة، بل ومعالم الحجاز التاريخي عموماً، فإن الحكومة والمتشددين العاملين بإمرتها مصرّون على تغيير معالم وهوية الحجاز التاريخي، ويقول سامي نوار الذي يقود جهود الحفاظ على تراث جدة ان المدينة القديمة في طريقها للانضمام هذا العام لقائمة التراث العالمي التي تضعها الامم المتحدة والتي تشمل بالفعل 830 موقعا من بينها ثمانية مواقع في اليمن وسلطنة عمان.

ويأمل نوار المدير العام للسياحة والثقافة بأمانة جدة أن ينجح أخيرا في تدويل المعركة التي بدأها منذ ما يزيد عن 20 عاما ليغرس إحترام التاريخ والحضارة في مجتمع يشهد حركة تحديث سريعة ولا يدقق كثيرا في مثل هذه الامور.

وقال في مقابلة مع وكالة (رويترز): (إعتدت فقط على استقبال السائحين الاجانب وربّات البيوت اللائي يشعرن بالضجر. الآن تأتي الاسر والمدارس والطلبة في السعودية لدراسة الفن المعماري والتراث. بدأ الجميع يفخر به).

وتابع (لدينا إتفاق الآن مع المديرية التعليمية في جدة لإلقاء محاضرات في المدارس عن التراث الثقافي للمدينة والقيام بجولات ومشاركة الطلبة والطالبات في تنظيف المباني القديمة والشواطيء والكورنيش).

في مدينة جدة القديمة شيدت المباني في شوارع ضيقة تربط بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب لاستغلال رياح البحر وهي مصممة لتلقي الظلال على بعضها البعض لتقلل من أثر درجة الحرارة والرطوبة الشديدة.

إنها مبانٍ مبنية من الحجارة الحمراء لها شبابيك خشبية زرقاء اللون تعرف بإسم المشربيات تعطي طابعاً مميزاً للعمارة في المدن القديمة في مصر والسودان واليمن والسعودية في المناطق الواقعة على البحر الاحمر.

وقال نوار (انه طراز معماري فريد.. ليس في السعودية فقط بل في العالم بأسره). ويضيف (أنظر كيف إستغل الإنسان المواد المتاحة لبناء مسكن يوفّر مناخاً طيباً وتبريدا طبيعياً للهواء ونوافذ طبيعية تتفق مع الثقافة والدين. إنه أفضل إستخدام للمواد لتلبية إحتياجات الانسان وثقافته).

ويتدفق مئات الالاف من الحجاج على جدة التي يقطنها مليونا نسمة وهم في طريقهم لاداء مناسك الحج في مكة. وفي الثمانينات نزح عدد كبير من السكان عن الأحياء القديمة بعدما زادت ثرواتهم وحل محلهم مهاجرون أجانب فقراء اكتظت بهم المباني في إطار نظام عشوائي للصرف الصحي. وفقد نحو عشرة بالمئة من المباني القديمة وعددها 570 نتيجة الحرائق بسبب مد الاسلاك الكهربائية.

وأصبح الان عدد كبير من المباني مهجورة وفي حالة بائسة. وتمنع لوائح جديدة هدمها أو تعليتها بما يزيد عن الحد الأقصى المسموح به وهو ستة طوابق ويمكن للبنوك أقراض أصحابها لترميمها.

وفي العام الماضي كشفت بلدية جدة عن خطة بناء مركز تجاري بينما ارتفعت المباني الشاهقة على الكورنيش لتنبيء بأن تغدو جدة في يوم من الايام مثل المدن الجديدة في الطرف الاخر من شبه الجزيرة العربية، بما يهدد هويتها التاريخية.

وقال نوار (أعتقد انهم سيشيدون مدينة مثل دبي تضم مبان مرتفعة. ستصبح جدة مدينة مختلفة في غضون عشرة أعوام). ولكن هذا التجديد للمدينة سيفضي في نهاية المطاف الى تغيير معالم مدينة تحاول الابقاء على معالمها وهويتها التاريخية قبل أن يطمسها التحديث المشوّه الذي يقوده أصحاب المشاريع التجارية من الأمراء، والمتطرّفون بمعاولهم العابثة.

الصفحة السابقة