السعوديون الأفارقة..

عنصريّة يجب أن تختفي وحقوق يجب أن تصان

لا ينسى تاريخ العربية السعودية أن أول ثلاثة قرارات تاريخية اتخذها الملك فيصل بن عبدالعزيز فور توليه الحكم عام 1964 كانت (إلغاء الرق، وتأكيد قرار تعليم البنات، وتأسيس التلفزيون). وكلها قرارات كانت تصطدم بقوة مع قوى الإستبداد السياسي والتزمت والتطرف الديني الوهابي. فيما يتعلق بالقرار الأول تذكر القصص كيف سارع ملاك العبيد خاصة من الأسرة الحاكمة في محاولات مضنية منهم لتعطيل القرار. وإزاء إصرار الملك فيصل الذي اتخذ القرار تحت ضغوط دولية وإقليمية، خاصة من قبل الناصريين على المستوى العربي، لجأ الأمراء إلى تقييد العبيد في القصور وإجبارهم على البقاء في ظروف مأساوية فظيعة، لم يجرؤ معها أحد حتى اليوم على الكشف عنها، ولكنها تسللت من أسوار القصور على شكل حكايات مريعة تشير إلى حقبة مريرة مرت بها الجزيرة العربية.

وتاريخ وجود العنصر الأفريقي في الجزيرة العربية يرجع إلى مئات السنين. وأغلب المصادر التاريخية تشير إلى أن تجارة الرقيق كانت رائجة عند العرب منذ فترة طويلة ترجع إلى ما قبل الإسلام وان كانت غير مرتبطة في تلك الفترات بلون أو عرق معين، إذ كان من بين الرقيق العنصر العربي والفارسي والرومي إضافة إلى الأفريقي، الذي اقتصر عليه الرق في فترات ما بعد استقرار الدولة الإسلامية.

مع ظهور الدولة الحديثة، ومحاربة الإمبراطورية البريطانية لتجارة الرق، وانتفاء الأسباب الشرعية لنشوئه المتمثل في أسرى وسبايا الحرب، لجأ عرب الجزيرة إلى اختطاف الأفارقة من بلدانهم عبر سواحل بحر العرب والبحر الأحمر بالتواطؤ غالبا مع متنفذين أفارقة، وبالتحايل في أحيان أخرى على الأفارقة وإيهامهم بترحيلهم للحج، ومن ثم الإيقاع بهم في شراك الرق، وكان للعمانيين إبان سيطرتهم على بحر العرب دور بالغ في هذه التجارة البغيضة. وعبر هذه البوابة جاء الوجود الأفريقي الى الجزيرة العربية.

وعلى مدى قرون ظل العنصر الأفريقي بملامحه الصارخة والمميزة يشكل عنصرا من التركيبة السكانية للجزيرة. وبعد ظهور الدولة السعودية في أوائل القرن العشرين، انقسم وجود الأفارقة إلى قسمين، القسم الأول يمثله العبيد الذين فقدوا جذورهم ولا يعرفون أصولهم، وبعد تحريرهم باتوا يعرفون بلقب (المولد) أو تمسكوا بلقب القبائل والأسر التي كانت تملكهم، والقسم الثاني الذي يمثله الأحرار من الذين جاوروا المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهؤلاء يعرفون في السعودية بـ (التكارنة) وتجد من ألقابهم (هوساوي، فلاتة، برناوي، برقاوي، زبرماوي أو تكروني) وجل هؤلاء ترجع جذورهم للدول الإسلامية في غرب أفريقيا كنيجيريا والسنغال وغينيا ومالي والنيجر وتشاد وساحل العاج وقليل منهم من غانا وبوركينا فاسو.

ومثل القسمان جزءا من مواطني العربية السعودية كأقلية سوداء يمكن أن يطلق عليها إسم (السعوديون الأفارقة). طوال تاريخهم مع الدولة السعودية ظل هؤلاء أقلية مضطهدة، تعاني من قهر اجتماعي وتهميش سياسي غير معلن ولكنه محسوس وملموس، يهمس به (التكارنة) خفية، وظل هؤلاء التكارنة أقلية صامتة لا يرتفع لها صوت، رغم أنها ملتحمة بالنسيج الاجتماعي بقوة كجزء من مكونات المجتمع السعودي لا يمكن إنكاره، ولهذه الأقلية إسهاماتها في تشكيل المجتمع السعودي إن على مستوى الصعيد الاجتماعي أو الثقافي أو الرياضي أو الإداري والتربوي والتعليمي، وان ظل إسهامها الاقتصادي محدوداً نظرا لكون غالبيتها تنتمي للطبقة المسحوقة، أو لأن الفرصة لم تتح لها للعمل الاقتصادي، لذلك يندر أن يبرز من هذه الأقلية رجال أعمال بارزون، وغالبا ما يكونون من صغار رجال الأعمال وما دون ذلك، كالشيخ أحمد باقدو الشريك في مستشفى (عرفان وباقدو) أحد أشهر مستشفيات القطاع الخاص في مدينة جدة حاليا، وبكر بن سلمان صاحب سلسلة أشهر المطاعم الشعبية في المنطقة الغربية وهي (مطاعم حراء).

ورغم التهميش الصامت من قبل الحكومة لهذه الفئة (عدم وجود أي أسود في مجلس الشورى، وعدم تقلد أي أسود مناصب وزارية)، والاحتقار المستتر من قبل الرأي العام والإعلام للسود السعوديين، إلا أنهم ظلوا يعملون وينتجون بصمت، وبلا طموحات زاعقة. فأغنوا الحياة والثقافة والأدب والرياضة، وكان لهم حضورهم القوي الذي غالبا ما يقابل بالتهميش ومحاولات الإقصاء، مما خلق لدى هؤلاء السود نزعات قوية والانزواء والعمل إما بصمت أو بخوف على نحو ما حصل مع اللواء متقاعد (محمد إبراهيم فلاتة) الذي وصل في خدماته إلى مرتبة قيادة القاعدة الجوية في المنطقة الغربية ثم أحيل إلى التقاعد في صمت أواخر الثمانينيات الميلادية، ولم يعد يذكر أو يعهد إليه منصب شرفي كما هي العادة مع أبناء القبائل أو غير ذوي الأصول الأفريقية. وفي إطار العسكرية نفسها يذكر التاريخ السري للسعوديين الأفارقة أسماء كثيرة برعت في مجالها ثم اختفت في هدوء مريب أمثال (محمد جمعة) ضابط الشرطة الشهير الذي كان له صيته في مكافحة المخدرات قبل عقدين من الزمان، وإمام برناوي (توفي قبل سبع سنوات) مؤسس النادي العسكري بالطائف والذي كان مقربا من الملك سعود، ومن أبنائه يظهر اليوم (أحمد إمام) أحد أبرز مؤسسي رياضة الكاراتيه في السعودية وهو يعمل اليوم في الاستخبارات السعودية، إضافة إلى (صالح إمام) وهو واحد من مؤسسي الحركة الكشفية في الأندية الرياضية حيث أسهم هو وطاهر سعد هوساوي في تأسيس أول فرقة كشفية خارج نطاق المدارس بنادي الوحدة بمكة عام 1971.

أما في المجال التربوي والتعليمي فقد كان للسعوديين الأفارقة إسهام بارز في هذا المجال، فتاريخ مكة لا ينسى كتّاب الشيخ (عبد الله حمدوه السناري) في ثلاثينيات القرن الماضي، إضافة إلى كوكبة هائلة من المعلمين ورجال التربية والتعليم، يأتي منهم (الشيخ عيسى فهيم) الذي كان من أوائل من رحلوا لتأسيس التعليم في قرى ومناطق عسير في الستينيات الميلادية. ويأتي أيضا اسم الدكتور عبد الله المصري (الهوساوي) أول من تخصص في علم الآثار بالسعودية وأنشأ أول إدارة لها، حتى أبعد للقطاع الخاص وأسهم في تأسيس قناة الشرق الأوسط. وكذلك الدكتور (أحمد محمد علي فلاتة) رئيس البنك الإسلامي للتنمية حاليا، الذي كان أول مدير لجامعة الملك عبد العزيز عندما كانت جامعة أهلية، وكان قاب قوسين أو أدنى من تولى وزارة المعارف (التربية والتعليم) لولا سياسة تهميش العنصر الأسود، وهنا يتذكر السعوديون الأفارقة بمرارة كيف نحته الحكومة السعودية من منصب الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بحجة أنه ليس سعودي الأصل عام 1992.

في المجال الأدبي والثقافي يتذكر السعوديون جيدا الشاعر الراحل طاهر زمخشري (1913 - 1987) حين فاز بجائزة الدولة التقديرية للأدب، حيث وقف أمام الملك فهد هاتفا وهو يلقي كلمته فقال (أنا كومة فحم سوداء - كما كانوا يطلقون علي - أقول كلمات بيضاء وأغني للحب) فضجت القاعة بالتصفيق. طاهر هذا هو أول من أصدر مجلة للأطفال في السعودية عام 1959 سماها (الروضة) لم تستمر طويلا لقلة الموارد، وكان من أوائل من أسهم في أدب الطفل حتى اشتهر بلقب (بابا طاهر)، وكان له دوره البارز الذي يغيب اليوم في تأسيس الإذاعة السعودية، وتشكل الأغنية السعودية وتبنيه لأقطابها كطلال مداح ومحمد عبده. والآخر هو عبد القدوس الأنصاري (التمبكتي) (1906 - 1983) الذي أنشأ في عام 1936 أقدم مجلة ثقافية لازالت تصدر حتى اليوم باسم (المنهل). وهناك أسماء كثيرة من هذه العرقية برزت وتبرز في مجال الأدب والثقافة ولكنها مهمشة، مثل الكاتب (عبد الله نور) الذي لم يشفع له ارتماؤه في أحضان الأسرة المالكة وصداقته الشخصية للأمير خالد الفيصل من شطبه. وهناك الناقد والمترجم البارع (فائز أبا) الذي حرم من إكمال دراساته العليا في الأدب الإنجليزي بسبب استقلاله الفكري واعتداده بنفسه وقدراته، إضافة إلى أسماء أخرى ناشئة ما زالت تتشكل.

وهنا يلحظ المراقب تغييب السود من المناصب القيادية في المؤسسات الثقافية والصحافية، فعدا طاهر زمخشري لم يتول أي أسود رئاسة التحرير عدا (أحمد محمود) الذي رأس تحرير جريدة المدينة في السبعينيات الميلادية ثم أقيل ووضع إسمه في القائمة السوداء، وتمت إقالته مرة أخرى هذا العام من منصب المدير العام لمؤسسة المدينة الصحافية بعد التشكيك في وطنيته من قبل أجهزة الدولة.

وفي ظل كلّ هذا القهر الاجتماعي لم يتوقف السعوديون الأفارقة عن الإبداع، فهناك من يبرز منهم في قطاع الطب والمحاماة والهندسة والفن والتعليم والإعلام والرياضة، إذ يشكل السعوديين السود قطاعا عريضا في الحركة الرياضية والشبابية في السعودية بل كان لهم دور ريادي في التاريخ الرياضي للسعودية. فأشهر اللاعبين في كرة القدم كانوا من الأفارقة السعوديين أمثال (سعيد غراب، وماجد عبد الله) أشهر لاعبين أنجبتهم الملاعب السعودية، إضافة إلى عشرات من نجوم كرة القدم على مر أمثال (النور موسى، وسليمان مطر الملقب بالكبش، ويوسف خميس، وأحمد نيفاوي، وأحمد جميل).. إضافة إلى أسماء أخرى برزت في ألعاب مختلفة ومنهم: عبد الرزاق معاذ الذي برز في ألعاب القوى، وهو وصل إلى عضوية اتحادي اليد والقوى، وحامد إدريس في كرة اليد، وأبناء الكنو محمد وأنس وسعد في الكرة الطائرة، أما في كرة السلة فهم العمود الفقري للأندية والمنتخبات السعودية على مر التاريخ وأشهر اللاعبين في هذا المجال (بلال سعيد، وأسعد تكروني، وعلي بكر هوساوي، ومحمد طاهر، وفيصل ملاوي، وعبد العزيز المولد، ومختار فلاتة، ومحمد السالك، ومحسن خلف).

ويلاحظ أن هؤلاء الرياضيين يقابلون باستهجان واحتقار عنيف من قبل الرأي العام والإعلام عند أدنى إخفاق يتعرض له الرياضيون، والسبب هو انتماؤهم العرقي ووضعهم الاجتماعي. تجلى ذلك في الحملة الشعواء التي شنها الإعلام الرياضي على أبرز لاعبي الكرة في الوقت الحاضر (محمد نور هوساوي) الذي شارك المنتخب السعودي في دورة كأس العالم الأخيرة، بل وصل الأمر إلى أن صرح البعض بأن سبب نكسة المنتخب في اليابان هو وجود هؤلاء اللاعبين ووصفوهم بالعبيد، حيث كان ثلثي المنتخب من السود دون تقديم أي اعتبار لهم كمواطنين.

أما في قطاع الأطباء فمن أشهر الأطباء حاليا الدكتور عبد الله فلاتة كبير جراحي المسالك البولية والكلى في مستشفى الملك فهد بجدة، والدكتور ياسين ملاوي استشاري أمراض ونظم القلب بمستشفى الملك فيصل التخصصي، والدكتور خالد هوساوي استشاري الأمراض الجلدية والتناسلية، وغيرهم من الأطباء والفنيين والممرضين في القطاع الصحي، ولكن جل هؤلاء بعيدون عن المناصب القيادية.

في مجال الفنون كان للأفارقة السعوديين إسهام لا يمكن إغفاله وإن حاول المتعصبون ذلك لدوافع لا يمكن أن تخلو من العنصرية، فالواقع يشهد بأن معظم الفنون الشعبية ذات جذور أفريقية، ويتجلى ذلك بوضوح من إيقاعاتها، وأكد كثير من الباحثين المستقلين والمنصفين أن فنون المزمار التي تنتشر في منطقة الحجاز هي أفريقية بامتياز، إضافة إلى الرقصات الشعبية كالسامري والهولو والزير وألوان أخرى متعددة. أما على صعيد الموسيقى فالساحة السعودية تعرف جيدا الملحن عمر فلاتة الشهير بعمر كدرس المتوفى قبل عام، فهو من صنع فنان السعودية الأول حاليا محمد عبده وأخذ بيده في بداياته، وقدم له أشهر ألحانه، وكان معه شريكا في هذا الدعم الشاعر (طاهر زمخشري).

أما في المجال الديني فالتاريخ لم يعد يذكر عمدا الشيخ ألفا هاشم الذي كان من أشهر علماء المسجد النبوي قبل أكثر من مائة عام، ولا الشيخ عبد الرحمن الأفريقي الذي استدعاه الملك عبد العزيز للرياض للإفادة من علمه، وغيرهما كثيرين كالشيخ عمر فلاتة، العالم الموسوعي الذي توفي قبل ثلاث سنوات، وكان من أبرز وأقدر مدرسي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والشيخ محمد ثاني الذي وصل لإمامة المسلمين في المسجد النبوي ولكنهم قصروا عليه الإمامة في صلاتي العصر والظهر.

في مجال الإعلام هناك المذيع الشهير حسين نجار (الهوساوي) الذي نال شهادة الدكتوراة وهمش حتى تقاعد، وكان أقصى منصب وصل إليه هو مدير البرنامج الثاني بإذاعة جدة، رغم كفاءته، وترشح زملاء له أقل منه كفاءة لمناصب وزارية وقيادية في الإعلام.

وفي السنوات الأخيرة وبعد انقضاء ما اصطلح على تسميته في السعودية بسنوات (الطفرة) والتي بدأت في منتصف السبعينيات واستمرت حتى منتصف الثمانينيات، أخذت تعلو على السطح النزعات العنصرية دون رقيب أو حسيب، بل أصبح الإعلام المحلي يغض الطرف عنها وزاد على ذلك فأصبح لا يتحرج في إثارتها إن كانت متعلقة بالسود، مما يؤجج مشاعر الرأي العام ضد هذه الأقلية التي ظلت طيلة تاريخها مسالمة تعمل بصمت وقناعة دون أية طموحات لمزاحمة الآخرين في الرزق والمناصب، فكل تركيزها ينصب على ما يكفل لها حدا معقولا من العيش بسلام، ولكنها رغم ذلك لم تسلم من القهر الاجتماعي الذي يرشحه المراقبون للتفاقم إن ظلت مؤسسات الدولة والنخب المتعلمة وخاصة الدينية متجاهلة إياه أو مساهمة فيه.

الأفارقة السعوديون على رغم التقدم النسبي الذي تحقق في بعض أوساطهم من حيث التعليم ما زالوا في المرتبة الأخيرة بالمقارنة مع الفئات العرقية التي يتألف منها المجتمع السعودي في مؤشرات الدخل والتعليم والعمالة والوظائف. ويمكن ملاحقة أسباب هذا التأخر إلى رواسب مرحلة الاسترقاق في ظروف تاريخية معينة، واستمرار الاستعلاء العنصري عليهم، مما يبقي على تهميش الأفارقة السعوديين على اعتبارهم في أحسن الأحوال مواطنين درجة عاشرة، فالمواطن السعودي الأسود يحمل عبء لونه أينما حل وارتحل.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة