من هو المتطرّف: المعارضة أم العائلة المالكة؟

وجود مجلات وجماعات معارضة خارج المملكة سبق للأمير نايف أن دعاها للعودة الى المملكة، مسألة طبيعية تكشف عن حقيقة ضيق هامش الحرية الداخلي في تنفيس الهموم والتوترات، كما تشير الى ضيق صدور رجال الحكم بالمختلف معهم في الرأي وعجزهم أو عدم رغبتهم في حلّ المشكلات ذات الطابع الوطني في الداخل. بعبارة أخرى، فإن السعوديين المنتشرين بين لندن وواشنطن، وبين جنيف ودمشق، وبين دول الخليج وبيروت والقاهرة، وبين كندا واستراليا، هم ليسوا من الفئة الباحثة عن لقمة عيش بالضرورة، فأكثرهم أصحاب مؤهلات وكفاءات علمية.. ولكنهم فرّوا من الواقع الداخلي لأسباب تتعلق بقدرة احتمالهم على التعايش مع الوضع الداخلي السقيم، وبغياب الإصلاح في شتى المجالات.

المعارضون بين هؤلاء على اختلاف مشاربهم، وهم في أكثرهم معارضون معتدلون (ونقصد بالإعتدال إعتماد التغيير السلمي وعدم المطالبة بأهداف راديكالية يأتي في مقدمتها: إسقاط نظام حكم العائلة المالكة) وطلاب إصلاح عجزوا عن حلّ مشكلات وطنهم ضمن البوتقة الوطنية الداخلية، ولم يأمنوا على أنفسهم البقاء بين أنياب الضباع، ولم يكن بإمكانهم الجهر بآرائهم واعتراضاتهم ضمن الهامش الضئيل من الحريات.

لهذا بات مفهوماً أن يتواجد معارضون سعوديون في الخارج، كتعبير عن استبداد النظام وضيقه بالمختلفين معه في الرأي والمنهج، شأنه شأن الأنظمة العربية الأخرى. إن وجود المعارضة في الخارج نتيجة سيئة لوضع داخلي غير صحّي، ونتيجة لفشل العائلة المالكة في الوصول الى حلول للمشاكل الوطنية وفي التفاهم مع قوى الإصلاح الداخلية. لكن بعض المقربين من أجهزة الأمن دأبوا على الطعن في المعارضين ولماذا يختارون هذا البلد أو ذاك، وهم يعلمون أن يد العائلة المالكة وضغوطها وأموالها قد تغري أنظمة عربية وإسلامية على التضحية بالمعارضين (السعوديين) وبيعهم لآل سعود.

أحد الكتاب السعوديين (سليمان العقيلي، الوطن 7/2/2003) تبرّع مدافعاً عن النظام، وبدل أن يحمد للمعارضة الإصلاحية نشاطها وضغوطها على الفراعنة في الداخل، شتمها في الجملة واختار عنواناً متحيّزاً (معارضة متطرّفة) زعم فيه أنه ''ليس من تقاليد المجتمع السعودي نشوء معارضة سياسية، سواء أكانت ذات طبيعة حزبية أم حركية أم فردية''. فهذه خصوصية جديدة لم نعلم بها، إذ لا يوجد نظام أو شخص أو جهة سياسية في هذا الكون لا توجد لها معارضة تخالفها الرأي. ومع هذا فإن السعودية لم تخل يوماً من المعارضة المنظمة في شتى بقاع المملكة، ومن مختلف التوجهات القومية والبعثية واليسارية والدينية الشيعية والسنية والسلفية إضافة الى المعارضة القبلية، ولذا فإن زعم الكاتب بأنه ''مرت عقود طويلة دون أن تتسرب إلى البلاد صفة المحازبة والتجمعات السياسية تحت أي عقيدة كانت'' أمرٌ غير صحيح.

ويرى الأستاذ العقيلي بأن ''الظروف السياسية ساهمت في الآونة الأخيرة في نشوء ما يمكن تسميته المعارضة السياسية، أو المعارضين المنشقين، الذين يعيشون خارج البلاد'' معترضاً على تواجدهم في الخارج لأنه (وهذا مجرد زعم وادّعاء لا تسنده الحقائق) ''طوال تاريخ الدولة نتبادل إختلافاتنا وآرائنا في إطار وطني داخلي، داخل المجتمع وداخل النظام السياسي ولا ننقله الى الشارع''. ليت هذا الزعم صحيحاً، إذن لما كان الوضع السياسي مجمداً حتى الآن، ولكانت قدرة أقطاب النظام على إدارة حوار داخلي قد أفضت الى حلحلة أجزاء من العقدة السياسية والإجتماعية. الحقيقة أن العائلة المالكة لم تكن تقبل المختلف ولا تقبل بمحاورته ولا تقبل حتى بـ (توبته)!! ولو لم يكن مخطئاً، ولم تعترف العائلة المالكة يوماً بأنها أخطأت بحق الوطن أو الشعب أو فئات منه، أو على الأقل قصرت في أداء واجباتها، أو فشلت في بعض سياساتها. ومثل هذه العقلية لا ترى المختلف إلا عدواً يستحق السحق، وهذا ما كانت تفعله في السجون والمعتقلات، حيث قتلت الأبرياء في السجون ومن أراد الأسماء فليراجع تقارير المنظمات الدولية الحقوقية. العائلة المالكة أدارت حواراتها بقبضة الحديد التي يرددها الأمير نايف كثيراً هذه الأيام، وأدارت النقاش الداخلي عبر الرصاص من الطائرات والرشاشات وعبر الإعتقالات. والعشرون سنة الماضية شاهدة على ذلك.

أما القول بأن ''الدولة كانت رحيمة حتى بمعارضيها في الخارج الذين رأوا الاحتجاج ذات يوم من لندن أو غيرها، فاستوعبت جزءاً منهم وسمحت بعودتهم إلى بلادهم دون اتخاذ أية إجراءات بحقهم''. فهذه الإشارة تخص المعارضة الشيعية، وقد فشلت الدولة كما هو معلوم في إدارة الحوار معها، والعائلة المالكة لم تستوعب أحداً منهم ـ على حد علمنا ـ بل أن الأكثرية عادت الى نهج المعارضة من جديد، بعدما قيل أن الحكومة أخلفت وعودها. لقد قيل للمعارضة تلك بأن هامشاً من الحرية في الوضع الداخلي يسمح بإعادة المشكلة الى الداخل، فصدّق المعارضون وعادوا، ولكن ما لبثوا أن اكتشفوا أن من يكون في الداخل يحكم بقبضة العنف لا بالحوار.

من حق الإستاذ العقيلي أن ينتقد ''الخطاب المناطقي أو الطائفي أو المذهبي أو القبلي'' حين يكون عنواناً للإختلاف، وكان عليه قبل هذا أن ينتقد خطاب السلطة الطائفي والمناطقي والمذهبي والقبلي أولاً.. فالمعارضة إفراز لممارسات السلطة، فليس عدلاً ـ كما قلنا ذات يوم في هذا المجلة ـ أن تطالب بمعارضة وطنية كاملة الأوصاف، بينما النظام السياسي يمارس نقيضها تماماً، وهو بالتالي أولى بالنقد، فممارساته لا تشجع على بروز حس وطني أو حتى معارضة وطنية، بل إنشقاقية إنفصالية. وكما أن المعارضة تتعرض للعزل في أقفاض المناطقية والطائفية كذلك هي سلطة آل سعود، فهي سلطة مناطقية طائفية، متحيزة لفكر ومصالح جماعة محددة، وليست الى مصالح الوطن بكامل شعبه. وهذا ليس أمراً ندّعيه ولا يمكن لأحدٍ أن ينفيه. إذا كنا نرغب في بروز معارضة وطنية بدون لوثات مناطقية أو طائفية، فلتتسامى الحكومة ونخبها وكتابها على منطقتهم وحزبهم الديني. نفس الإتهامات التي توجّه للمعارضة يجب أن توجه للنظام مادام يمارس ذات اللعبة، بل هو الأكثر خبرة وفذلكة فيها.

المشكلة باختصار ليست في المختلف أو المعارض، وليست في ضيق الوطن بأهله بقدر ما هي مشكلة العائلة المالكة التي تعتبر نفسها إلهاً لا يخطئ، إلهاً غير رحيم وغير حكيم، بل وغير وطني! كان يجب أن يكون العنوان: تطرّف الحكومة وليس المعارضة!

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق
إطبع الصفحة الصفحة السابقة