المستأكلون بمعزوفة ''الوحدة الوطنية''

يرى البعض أن ''وحدة الكلمة'' هي الباب المشرع لتحقيق الوحدة الوطنية!

ورأى آخرون أن ''العقيدة الصحيحة'' هي مفتاح الوحدة الوطنية!

وقسم ثالث رأوا أن ''الإلتفاف'' حول القيادة يمثل اللبنة الأساس للوحدة الوطنية!

المتاجرون بالوحدة الوطنية كثرٌ هذه الأيام، وهؤلاء المتاجرون لا يفهمون معنى الوحدة، ولا يفرقون بينها وبين الواحدية، ويضعون وحدة الكلمة مقابل تعدديتها، والعقيدة الصحيحة ضد الدين الإسلامي بمبادئه العظيمة، والقيادة السياسية السعودية مقابل الجمهور المحكوم بالطغيان والفساد.

لا نريد وحدة كلمة ومواقف مفروضة تخنق الرأي الآخر، وتلغي الإجتهاد والتعدد الفكري والثقافي. وحدة الكلمة بالشكل المطروح تتناقض مع الوحدة الوطنية ومع المصالح الوطنية. هي مجرد أداة للقمع ومبرر للواحدية الثقافية التي عانينا منها ـ في الحجاز وغيره ـ منذ أن تأسست الدولة السعودية الحديثة.

والعقيدة الصحيحة المزعومة هي التي جاءتنا بالتكفير والتفسيق والتبديع، وهي التي أفرزت لدينا العنف، وهي التي شقّت المجتمع على نفسه، وهي التي ألّبت علينا القاصي والداني، وهي التي كتمت أنفاس طلاب الإصلاح والمبدعين، وهي التي جعلت لدينا مواطنين من الدرجة الأولى والثانية والثالثة والرابعة والخامسة وحتى الثامنة، وهي التي دعمت إستبداد الحكم فصارت من مخالبه التي خمشت وجوهنا وأدمتها.

هذه العقيدة الصحيحة التي ما فتئوا يذكروننا بها، تشي بأن من لا يؤمن بها (الوهابية) هم كفرة وزنادقة، كانوا ولازالوا يستحلون باسمها دماءنا وأعراضنا وكراماتنا. هذه العقيدة الصحيحة لا يمكن أن تكون مكوّناً من مكونات الوحدة الوطنية، بل هي على العكس من ذلك أداة تشظية وتشرذم، وستكون أداة احتراب داخلي، وأداة لا تعترف بالمساواة في الدين ولا في المواطنة، حقوقها وواجباتها.

لا ليس الإلتفاف وراء القيادة السعودية أساس الوحدة الوطنية، ولا هي من ثوابت الوحدة. هي كذلك الآن في غياب إرادة الشعب وسيادته، أما حين تعود إليه حقوقه، فالشعب يكون مرجع الحكومة، ينتخبها ويزيلها، ولن يعود للشعب حقّه في ظلّ تغييب الثقافة الوطنية وأهم مفردة فيها هي المواطنة. ولذلك لا تريد العائلة المالكة الإصلاح السياسي الوطني، لأن ذلك قد يلغي أهمية وجودها كأساس للوحدة. أي وحدة هذه التي تنتهي بزوال القائمين عليها، والمستأثرين بفوائدها؟!

ألا يدعو هذا الى التشكيك في أصلها وفي وجودها وفي استمرارها؟! كثيرة هي النظم السياسية التي أُبيدت والعوائل المالكة التي أُقصيت ولم تتفتت بلادهم.. في اليمن وفي مصر والعراق وليبيا وفي غيرها من بلدان العالم، فلماذا يكون آل سعود أساس الوحدة الوطنية، وهم الذين أشعلوا وقود الحرب في المجتمع وشجعوا على تفتيته؟! إن هذا برهان بأن ما لدينا من وحدة (وطنية!) لانزال نصرخ وندّعي المحافظة عليها كدليل على أنها غير ثابتة الأساس، هذه الوحدة ضعيفة متهالكة، أريد لها ان تكون كذلك، حتى يغيب المشروع الوطني، ولا يجد المواطنون أمامهم سوى آل سعود يتمسكون بهم على مضض!

القيادة التي تحرم أبناء الوطن من حقوقهم الأوليّة، وتسعى الى تحقيرهم وامتهانهم، وتفرّق بينهم في الخدمات والعطاء، وتتوجس خيفة وحذراً منهم.. هذه ليست قيادة تؤلف الشعب من حولها، أو تجتذب اليها المواطن عن احترام وقناعة. والمواطن من جانبه لا يراها أكثر من جماعة متسلطة بوسائل التضليل والإرهاب الديني. إنه يراها قيادة محلية لا وطنيّة، ولا يمكن أن تكون ـ إن لم تغيّر من صفاتها ـ أساساً لبناء وحدة وطنية. ودليلنا على هذا أن هذه القيادة لم تنتج لنا وحدة وطنية صادقة، ولا ثقافة تسامح بين المجتمع مع أنها حكمت البلاد منذ ثمانية عقود على الأقل. كل ما أنتجته عداوات وبغضاء ومشاحنات على أسس قبلية ومناطقية ومذهبية وغيرها. وإذا ما طال بها الزمن، فإنها تستمرئ تفتيت المجتمع لتسوده الى الأبد لو كان ذلك ممكنا.

وملخص القول أن ما يعتبره البعض ثوابت وطنية: العقيدة الصحيحة، والقيادة، والوحدة الترابية للمملكة.. إنما هي ثوابت نتمنّاها وليست موجودة على أرض الواقع. الواقع يقول أن الوهابية ممثلة العقيدة الصحيحة، بثقافتها التكفيرية والعنفية لا يمكن أن تشكل الأرضية الثقافية للمشترك، بل هي تلغيه، إنها تلغي أن يكون الإسلام مشتركاً بين المواطنين، فمادام هذا كافر وذاك ملحد وثالث فاسق مبتدع، فكيف تكون هذه الثقافة أساساً توحيدياً؟!

والقيادة السعودية الفاشلة بكل المقاييس، والتي أهدرت الثروة واستباحت حمى الكرامة الوطنية، وفشلت في حماية التراب الوطني، وتعاونت مع الأجنبي لكي تستمر في الحكم، ليست هي القيادة المنشودة إن لم تصلح نفسها، ولا نظنها ستفعل ذلك.. وليست هي القيادة التي يشترك فيها كل المواطنين مادامت متفرعنة رافضة للإصلاح، وليست هي القيادة الموحدة إن لم تخرج من الخيمة (النجدية) ثقافة ومنطقة لتمثل الشارع السعودي العريض.

لهذا كلّه فإن التراب الوطني ووحدته ليسا مقدسين في مثل هذه الحالة. المقدّس هو تراب المنطقة (الإقليم) وديرة (القبيلة).

تتعرّض المملكة الآن الى مخاطر الحرب التي ستشارك فيها ضد العراق رغم أنف حكومتها، ولكن كم بيننا مستعد أن يدافع عن القيادة!! وعن التراب الوطني!! المقموع والمحروم ومواطن الدرجات الدنيا والكافر والمتهم بالعمالة للأجنبي لا يدافع ولا يستطيع أن يدافع عن وطن ومواطن الدرجة الأولى. وهذا الأخير قد لا يدافع إلاّ عن مصالحه، ويضنّ بنفسه وماله إن تطلب الأمر تضحية وطنية.

لأولئك الذين يوجهون النقد الى المعارضين متهمين إيّاهم بالشعوبية والمناطقية وغيرها نقول لهم: جدوا لنا في أنفسكم معارضة وطنية تدافع عن التيار العام، وسنلتحق بكم. أرونا النموذج الوطني الصادق في الوطنية، غير الوهابية وغير آل سعود حتى نصدّقكم.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة