إنقاذاً للوطن أو إنقاذاً للحجاز

النخبة الحجازية.. من أين وإلى أين؟

نقصد بالنخبة تلك الشريحة التي لها صوت في صناعة القرار السياسي الحالي، أو التي جرّبته من قبل وتتصدّى للشأن العام، وهي بهذا مؤثرة في صناعة القرار وإن لم تمارسه. وتضم النخبة عموماَ جمعاً مختلف الأطياف، من رجال أعمال وتجار ورجال دين وشيوخ قبائل وموجّهي الرأي وقادة الحركات السياسية أو أصحاب الفعل السياسي المطالب بالتغيير.

والحجاز.. أول من تبلورت فيه نخبة سياسية حديثة وكبيرة نسبياً ضمّت قبل الإحتلال السعودي له عدداً من المتعلمين أكاديمياً وأصحاب البيوتات العريقة تجارياً أو دينياً، ورجال دين وتجار وبعضاً من شيوخ القبائل. وكانت هذه النخبة هي التي تسيّر الحجاز من الناحية الإدارية حيث كانت المنطقة الوحيدة في الجزيرة العربية التي تمتلك مؤسسات بيروقراطية (معقّدة) بالرغم من أن الشريف حسين ـ شأنه شأن من جاء بعده من آل سعود ـ احتفظ قدر ما يستطيع بمساحة الفعل واتخاذ القرار النهائي.

بعد احتلال الحجاز، أراد الملك عبد العزيز ـ وقد نجح في ذلك ـ فصل النخبة الحجازية عن العائلة الشريفية الهاشمية وإقصائها عن الحكم تماماً بل وإبعادها عن موطنها في الحجاز. ومن جهة ثانية سعى الملك ـ وخلافاً لرأي القادة النجديين السياسيين والدينيين والقبليين/ الإخوان ـ على احتواء عناصر من النخبة الحجازية وإدماجها في السلطة الوليدة في الحجاز التي صارت مملكة. أولاً، لأن تلك النخبة لا غنى عنها في إدارة منطقة تعتبر غامضة على النجديين، ولا يمكنهم ضبط الشارع الحجازي بدون نخبته.

وثانياً، لأن الملك عبد العزيز أراد اصطفافاً عاماً من الحجازيين يواجه بها دعوات (تدويل) الأماكن المقدسة ومنع الوهابيين من السيطرة عليها، وهي دعوة جاءت من مصر ومسلمي الهند ـ قبل انفصال الباكستان عنها ـ وقد كان صوتهم عالياً ومدوّياً. وثالثاً، لأن الملك رأى أن وجود نخبة حجازية معارضة في الخارج (المنفى) يعين خصومه الهاشميين والعائلة المالكة في مصر، وقد سبّب هؤلاء صداعاً للحكم السعودي بعملهم السياسي والإعلامي، بل وانخرطوا في أعمال عسكرية انطلقت من مصر وحضرموت والأردن بإسم الحزب الوطني الحجازي، كان إحدى نتائجها ثورة حامد بن رفادة شيخ قبائل بلي والذي فشلت ثورته وقطع رأسه وأُمر الصبيان بأن يلعبوا به، كما يؤكد ذلك مستشار الملك خير الدين زركلي في كتابه (شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز)! ورابعاً، أراد الملك عبد العزيز أن يعطي إشارة الى (الإخوان) وهم قادة جيشه الذي بدأ بالتمرد، بأن لديه بدائل ولن يكون بعد احتلال الحجاز واقعاً تحت ضغطهم ونفوذهم الكلّي.

لم يكن في خلد الملك ابن سعود أن يعطي الحجازيين دوراً مهماً في إدارة مملكتهم التي قال أنها مستقلة في داخليتها وخارجيتها! بل سعى الى حكم الحجاز ومنذ الأيام الأولى عبر المستشارين وهم في معظمهم من أصول عربية وافدة للعمل معه ولا يمتلكون قواعد شعبية لا في نجد ولا في غيرها، حيث تم تعيين حافظ وهبة على رأس الإدارة الحجازية، كما ضمّ إليها عدداً آخرين قبل أن يصبح فيصل ـ إبن الملك ـ نائباً لأبيه عن الحجاز ومن تحته أولئك المستشارين يليهم النخبة الحجازية التي ترك لها تسيير شؤون البلديات والأوقاف والقضاء والتعليم وغيرها بعد أن تمّ تطعيمها بالطاقم النجدي المتشدد، وليزاح الحجازيون شيئاً فشيئاً عن مواقع القيادة بصورة سريعة وليتحول الحجاز الى ما اعتبره البعض (مزرعة) للنجديين.

بإعلان المملكة رسمياً في سبتمبر 1932، أصبح الحجازيون ومن الناحية الإسمية شركاء في إدارة المملكة، وكانت لغتهم (الوطنية) طافية واضحة، وحتى العبارات السياسية المستخدمة في ذلك الحين كانت تشي بتطور في الفكر السياسي حيث كثر استخدام عبارات (الأمة) و (الوطنية) و (والإتحاد) وحتى (الهوية). ولربما كانت بعض الشخصيات الحجازية تحلم بصناعة وطن حقيقي يتمتع فيه أفراده بالمساواة.. وطنٌ يتطور ويصل الى مصافّ الدول المجاورة التي سبقت المملكة في أدائها البيروقراطي والسياسي، خاصة تلك التي استقلت عن السلطات الإستعمارية وأنهت نظم الإنتداب في أوطانها وتمتعت بهامش واسع من الحريّة قبل أن يطبق عليها العسكر.

لكن الحجازيين بقوا مجرد موظفين في جهاز الدولة، وشيئاً فشيئاً تقلّصت سلطاتها وصلاحياتهم، وكثر المنافسون النجديون الذين أرادوا تفريغ إدارات الدولة منهم، باعتبار ان الدولة عموماً ملك للفئة الغالبة المنتصرة. في حين شكى رجال المؤسسة الدينية بأن (الحجاز) أفسد العائلة المالكة، وأبعدها عن جذورها الدينية، وخشي المشايخ الوهابيون من أن يختطف ما اعتبروه نصراً لهم على يد الحجازيين.

غير ان الملك عبد العزيز كان واعياً بحقيقة الأهداف التي كان يرجوها من دمج النخبة الحجازية في جهاز الدولة. فقد استطاعت الأخيرة أن تؤسس نواة البيروقراطية في كل المملكة، وأن تكرر تجاربها على شكل أنوية صغيرة في كل منطقة. كان يهم الملك ان تقوم الدولة، وقد قامت. وكان يهمه أن يواجه المطالب الهاشمية القادمة من العراق والأردن والتي لم تنته إلاّ بعد فناء الملكية في أواخر الخمسينات الميلادية.

واكتشف الحجازيون بأن الملك المؤسس قد نال بغيته بأقلّ الأثمان. وأنهم رغم ذلك لا يستطيعون إعادة عقارب الساعة الى الوراء. هناك شيء من السلطة يبقيهم ضمن الوحدة، وهناك خيبة أمل تنزع بهم نحو الإستقلال عن السلطة السعودية وإعادة (الدولة الغائبة). وبقي الشعور سائداً بأن احتمال تطوّر للدولة لن يأتِ إلاّ بعد غياب الملك المؤسس عن الساحة السياسية، يحدوهم الأمل بمستقبل أفضل للمملكة، يقلع بها الى غايات وطنيّة أسمى، ويطور الإحساس بالمواطنة والمساواة الى آفاق أرحب، ويفسح الحريات بمختلف أصنافها بدل الإنغلاق في الدائرة الدينية والثقافية النجدية.

ومات الملك المؤسس في نهاية 1953، ولكن الحلم تبدّد مرّة أخرى. فالملك سعود الذي يمثل الوجه التقليدي لنجد ونخبها ومطامحها ومصالحها، لم يكن يرَ غير نجد، وكان يواجه ولي عهده الذي ثبّت له قاعدة في الحجاز منذ زمن. في ذلك الوقت كانت النخبة النجدية حديثة التعليم تطالب بموقع لها في إدارة الدولة، ووقفت الى جانب سعود ضد فيصل، وأسست لها تنظيماً من نوع ما حمل إسم (نجد الفتاة) هدفه انتزاع بعض المواقع من العائلة المالكة ورجال الدين ومن نظيرتها النخبة الحجازية. ولكن النهاية جرت خلاف ما اشتهى الحجازيون رغم سيطرة فيصل، الذي لم يستطع إرضاء النخبة النجدية كاملاً، ولا النخبة الحجازية التي وقفت معه الى النهاية.

لقد ساهمت النخبة الحجازية في صناعة الدولة، وفي وضع الأسس القانونية والتنظيمة لمؤسساتها، عبر مجلس شورى الحجاز ثم عبر مجلس الوكلاء. وفي الستينات إقتحم عامل (التحديث) بفعل زيادة مداخيل النفط الفضاء السياسي لكل الجماعات والمناطق والتكتلات، وكانت النخبة الحجازية بطبعها ميّالة نحو الحسّ القومي العام، ودخل بعض أفرادها فضاء التنظيمات السياسية كوسيلة لتغيير الوضع السياسي وقطع احتكار العائلة المالكة للسلطة والحكم. وأدّى التحديث بشكل عام ـ وعكس ما هو متوقع ـ الى صراع بين النخب النجدية والحجازية حيث سعت الأولى للسيطرة على مفاصل الدولة وأهم المواقع فيها، في حين حاول بعض القادة الحجازيين وبجهد كبير المحافظة على ما تبقى لهم من دور في الدولة وجهازها الذي بدأ بالتضخّم.

عزّزت عملية التحديث الشقّ بين نجد والحجاز، وتفاقمت النقمة بين الطرفين بسبب ما أفرزه التحديث من عدم اتزان في توزيع الثروة والمواقع، فتخندق الجميع ضمن مناطقهم إما أملاً في سلطة إضافية (النجديين) أو لدفع الأضرار (الحجازيين). وحين قتل الملك فيصل بدأ مسلسل غير عادي من إقصاء الحجازيين عن مواقعهم وتهميش دورهم في مؤسسات الدولة، سواء في الجيش أو الأمن أو الوزارات الهامّة. كان الملك فهد ميّالاً ـ كما الملك سعود ـ الى قاعدة النظام النجدية، وفي عهده شهد الحسّ الوطني مذبحة حقيقية بين مختلف مناطق المملكة وفي مقدمتها المنطقة النجدية الأثيرة لديه. وبالنسبة للحجازيين فإن الضربة كانت ثلاثية الأبعاد موجعة. الأولى، ان الملك فهد وخلافاً لإخوته الآخرين من الملوك السابقين، هو الأقلّ تديّناً، ولكنه ـ ربما بسبب ذلك، وبسبب ظهور المدّ الديني في العالم الإسلامي، وتغوّل الوهابية ـ قدّم تنازلات للتيار السلفي لم يقدم عليها أحد من قبل، وبدا دور الوهابية مرفوضاً ومفروضاً في كل مدن وقرى الحجاز وغيرها من المناطق التي شهدت حالة واسعة من (توهيب) الدولة والقضاء على كل المشتركات الإسلامية بين المواطنين، بحيث أفرز عهد الملك فهد توتراً إجتماعياً بين كل الفئات الإجتماعية عبثاً يحاول الكثير من المخلصين تهدئته. وثانياً، لقد أقتحم الأمراء في عهد الملك فضاء الإقتصاد في الحجاز وجرى التعدّي بسلطان الدولة نفسها على مصالح التجار ورجال الأعمال، وجرت عمليات النهب والمصادرة من قبل الأمراء اللصوص، والشراكة بالقوة، بحيث فقدت الطبقة الإقتصادية الرفيعة في الحجاز الكثير مما في يدها. وثالثاً، على الصعيد السياسي، جرى إبعاد عدد غير قليل من النخبة البيروقراطية الحجازية عن جهاز الدولة، وصودرت مواقعهم في الوزارات الهامّة، وقد كان لإقالة الشيخ أحمد زكي يماني وهشام ناظر أثر بعيد في إشاعة الغضب الشعبي، وضرب إسفين في العلاقات النجدية الحجازية.

وفي عهد فهد بدا أن الطفرة الإقتصادية التي كانت تبقي النخبة الحجازية الى جانب الدولة قد انتهت وحلّ محلّها انهيار اقتصادي شامل لكل البنى التحتية الخدمية للدولة. وبذا فقدت الدولة (النجدية) عنصر جذبها للمناطق التي بدأت تعلن بشيء من الصراحة رغبتها وربما حلمها بالإستقلال عن الحكم النجدي، إذ ليس هناك شيء مغر لها في البقاء مع دولة تسير الى الحضيض، واقتناعاً منها بأنها (الحجاز والأحساء والقطيف) تستطيع ليس فقط العيش بدون الحكم النجدي، بل أن وضعها سيكون أفضل بكثير من الناحية السياسية والإقتصادية والإجتماعية وحتى الدينية والثقافية والعلمية إذا ما استطاعت انتراع حقها في تقرير مصيرها.

ولذا يمكن القول، بأن الدولة السعودية تعيش أحلك أيامها، وكلما تراجعت إقتصادياً، وكلما فشلت سياسياً في تحقيق الإصلاح المبتغى، وكلما أمعنت في السيطرة والإستبداد واحتواء الوهابية وتغليبها رغم أنها عنصر انشقاق في المجتمع السعودي، كلما قرب زمان رحيل الدولة وتفككها وقيام دول أخرى على أنقاضها، مثلما قامت الدولة الحالية على أنقاض دول وإمارات أخرى.

النخبة الحجازية اليوم هي المكافئ للحزب السياسي الممثل للحجاز، وهي التي تقود أهله باتجاه طموحاته ورغباته. وهذه النخبة تحتاج الى بلورة أكثر وأن تعيد تشكيل ذاتها وفق المرحلة الحالية، لكي تلعب دوراً أكثر نشاطاً في المستقبل، سواء كان إصلاحياً أم تغييراً.

إما أن يتحقق الإصلاح السياسي الوطني فتحفظ وحدة الدولة الممثلة لكل مواطنيها بالسواسية في الحقوق والواجبات، وإما أن تبقى دولة جزئية تعبر عن شريحة من السكان، وتمثلهم سياسيا وثقافياً ودينياً ومصلحياً. وحينها لا يبق أمام النخب غير النجدية إلاّ أن تفكّر في خيارات أخرى، وإنهاء الوضع الشاذّ الذي يعيشه معظم المواطنين إسماً، والأتباع والرعايا فعلاً.

هناك تحوّل راديكالي يدور في المنطقة، فإن لم نستطع أن نحقق ما نريده من إصلاحات (كسعوديين) فإننا سنكون غير ملامين إن تحركنا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه (كحجازيين). نعلم أن مناطق أخرى في المملكة تفكّر في ذات الإتجاه.. فإما أن نمارس إرادتنا الوطنية وفق أدنى حقوق المواطنة بلا تمييز ولا استئثار ولا تلاعب بالثروة والإستبداد بالقرار، وإما أن نختطّ خطاً نعيدُ فيه الحياة للدولة المضاعة على مذبح الهوية الوهابية والنجدية.

تلك هي الرسالة التي سمعها كثيرون مقربون من السلطة شفاهاً، وآن لهم أن يسمعوها علناً. فالوطنية التي يزعمونها وطنية مواطني الست والسبع درجات، والحقوق التي يتحدثون عنها لا توجد إلا عند صانع القرار الأوحد: مجموعة من الأمراء يتلاعبون بمقدرات الأمة ويقحمونها مزالق التفتيت.

نعم لوطنية صادقة لا تأتينا من أقلّ الناس إيماناً بها وأكثر المنتفعين من غيابها. لا نريد مزايدات وطنية. والنخبة الحجازية يجب أن تضطلع بدورها في هذا الظرف الحسّاس إنقاذاً للوطن، أو على الأقل إنقاذاً للذات.

الصفحة السابقة