بين الدولة المركزية والقيادة الموحدة:

هل يعجل صراع الأمراء الإصلاحات أم العكس؟

إبتداءً ليس جوهر الخلاف بين الأمراء الكبار ـ والذي نشاهده بشكل شبه علني عبر التصريحات والمواقف المتناقضة ـ يدور حول الإصلاحات السياسية التي تتطلبها الأوضاع الحالية في المملكة. فهو خلاف ـ بل هو صراع ـ دائر حول تقاسم النفوذ والحصص والسيطرة على مقاليد الدولة وأجهزتها ومؤسساتها.

وابتداءً أيضاً، ليس الخلاف بين الأمراء الكبار وليد اليوم، رغم أن تدهور الوضع الداخلي سياسياً واقتصادياً وأمنياً ساهم في بلورته وظهوره على السطح بشيء من العلنية. الخلاف الحالي بين الأمير عبد الله ولي العهد من جهة والسديريين، ممثلين في الأمراء نايف وسلطان وسلمان، قديم ولكنه تصاعد بشكل كبير بسبب أساسي هو غياب المركزية التي يمثلها الملك فهد بعد مرضه عام 1996. فالملك فهد وبما لديه من سلطات وصلاحيات واسعة كان قادراً على فرض الإنسجام بين الأجهزة المختلفة والرجال المختلفين. وبغيابه لم يعترف السديريون بالأمير عبد الله رجلاً أولاً، ورغم أن ولي العهد استطاع أن يكسب أرضاً بحكم ولايته للعهد عززت من حصته في السلطة السياسية، إلاّ أنها لم تكن كافية لفرض رؤيته السياسية والإدارية على الآخرين.

أدى غياب الملك وعجزه عن أداء صلاحياته، الى تقاسم نفوذه بين الطرفين المختلفين، حيث تفتت سلطة القرار وتشرذمت الإرادة السياسية لنظام الحكم بمجمله، وكل هذا نتج بسبب ما يمكن اعتباره تساوي النفوذ والقوى بين الجبهتين المختلفتين.

بعكس ما يبدو في ظاهره من حقيقة أن توازن صناعة القرار وتعدده أمرٌ مهم، إلا أنه في الحالة السعودية أوقع البلاد كلها في عجز وشلل تام، ليس فقط فيما يتعلق بالإصلاحات السياسية، بل في كل برامج الدولة، حيث أصبحت الأجهزة الحكومية مجرد أجهزة (تصريف أعمال) لا صانعة للإستراتيجيات، ولا قادرة على التفكير بشكل استراتيجي، او الفعل بشكل منسجم.

لا يريد الجناح السديري الإصلاحات، في ظل التنازع القائم. فقادة هذا الجناح لا يريدون أن يبدو الأمير عبد الله كفارس التغيير، بحيث يكسب أرضاً جديدة ومواقع متقدمة في الجهاز الحكومي وفي الوجدان الشعبي. وحتى لو كانت قناعتهم فعلاً باتجاه التغيير والإصلاح، فإنهم لا يريدون أن يبدو تابعين ملتحقين لولي العهد، بحيث تجعله الإصلاحات بطلاً قومياً دونهم. ولكن لو كان الملك فهد في كامل وعيه وقدراته، فلربما حسم الأمر بنفسه دون أن يهتم بآراء الآخرين، بغض النظر في أي اتجاه يكون الحسم: مع الإصلاحات السياسية أو ضدها. في هذه الحال، ستكون مخاوف الجناح السديري في غير محلّها، فالإصلاحات تنعكس بإيجابياتها على الذات وليس في صالح طرف آخر.

من هذه الزاوية يمكن النظر الى موضوع الإصلاحات في المملكة. بيد أن هناك رؤية أخرى مبنيّة على حقيقة أن الإصلاحات السياسية في الغالب لا تأتِ ولن تأتِ عبر قناعات الأمراء بها، بل هي الى الفرض (الشعبي والخارجي من جانب والتسليم بأن لا مفرّ منها من جانب الأمراء) أقرب. ولذا يمكن النظر الى الخلافات داخل العائلة المالكة وما تفرزه من عجز حكومي في حل المشكلات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والأمنية، وكذلك ما جرى من تفجيرات الرياض والإضطراب الأمني الشديد الذي تلاها، ينظر إليه على أنه إفقاد للعائلة المالكة من ذخائرها وذرائعها، وتجربة لا بدّ أن تمرّ بها لكي تصل الى القناعة النهائية بأنّ الإصلاحات أمرٌ حتمي، أو الإنهيار للدولة ولسلطة العائلة المالكة.

أصحاب هذا الرأي يعتقدون أن الحكومات المفككة أقرب الى التحول الديمقراطي من جهة قصورها وضعفها واختلاف مراكز القرار فيها. ويضيفون بأن الدول المركزية بيروقراطياً وسياسياً هي الأبعد عن التغيير والإصلاح، بل هي قرينة للديكتاتورية والإستفراد بالرأي والقرار أينما وجدت.

السؤال أين يمكن تصنيف دائرة الحكم في المملكة؟ من الناحية الظاهرية فإنها تتمتع بنظام شديد المركزية، ولكن الحديث لا يتعلق بنوعية الإدارة، بقدر ما يتعلق بصناعة القرار، وهذه أضيق من تلك. والمملكة منذ عجز الملك فهد لم تتغير المركزية فيها إدارياً، ولكنها أصبحت متعددة القرار نظراً لتعدد مراكز القوى. في هذه الحالة قد تكون مركزية القرار ضرورة ملحّة لإنتشال جهاز الدولة من الشلل وعدم الفاعلية، ولكنه قد لا يؤدي بالضرورة الى تعجيل في إتخاذ قرار الإصلاح. ومركزية صناعة القرار تؤدي الى حسم وسرعة إتخاذه، وليس تحديد إتجاهاته.

ما يمكن استخلاصه هنا أمران:

1 ـ لا شك أن الدولة السعودية شديدة المركزية، وهذا في مجمله لا يخدم التوجّه نحو الديمقراطية والإصلاح السياسي.

2 ـ إن المركزية الإدارية لا تعني بالضرورة مركزية صناعة القرار في شخص أو جماعة منسجمة، حزبية كانت أو عشائرية؛ فرغم أنها عنت ذلك بالفعل ـ حتى مرض الملك فهد الأخير ـ إلا أنها في الوقت الحالي متعددة، وهذا قد يؤدي في بعض الدول كالمملكة الى تلكؤ في اتخاذ القرار الإستراتيجي، لعدم حيازته للإجماع المطلوب بين صنّاعه.

3 ـ إذا افترضنا جدلاً أن الإصلاحات السياسية تأتي من فوق، أي بقرار من العائلة المالكة، وهو ما لا نؤمن به الى الحدّ الذي يعتقد به أصحابه.. فإن الإصلاحات السياسية قد لا تأتي إذا كانت مراكز صناعة القرار (مختلفة ومتساوية في القوة السياسية ومتعارضة في الإتجاهات) كما هي الحال في المملكة اليوم، نظراً لتعثّر تحقيق الإجماع. كما أنها لا تأتي حين يكون القرار مركزياً مضادّاً للإصلاح، كما هي الحالة قبل مرض الملك فهد. وأيضاً لا يتحقق الإصلاح من أعلى إذا كان القرار السياسي بهذا الإتجاه لا يحوز إلاّ على رضا الطرف الأضعف فحسب. وبذا تكون المراهنة شبه عقيمة على إصلاح اختياري، ولكنه قد يأتي في صورة أخرى ـ كنصف تنازل ـ إذا تصاعدت الضغوط الداخلية والخارجية وانفجرت الأزمات، وهي كثيرة قادمة.

الصفحة السابقة