بزوغ الخصوصيات وضعف الدولة

التقسيم أو الاندماج

لأسباب مختلفة تشهد السعودية انتعاشاً طاغياً ونزوعاً متوتراً الى إعادة إحضار الذات لدى الجماعات المذهبية والمناطقية والقبلية، ولعلنا نكشف عن صلة أولى، بالغة الوضوح، بين هذا الانتعاش المنفلت والضعف الجلي في بنية الدولة.

فالظهور الساطع للتنوع المذهبي والمناطقي والقبلي كما يعبّر عن نفسه في عرائض أو تظلّمات: الشيعة والاسماعيلية وأهل الحجاز، إلى جانب مجمل الكتابات التي ظهرت وبإيقاع سريع خلال أكثر من عقد حول قبائل ومناطق محددة في هذه البلاد ينتظر قرارات عاجلة وجوهرية من جانب الحكومة، ترعى فيها ضعف الدولة والتفجّرات المتنقّلة للهويات والنزوعات الخاصة، والحاجة الى غلاف عام يكبح جماح الانفلاتات غير المدركة في سياقات التحليل لما يفترض أن تكون عليه العلاجات لمثل هذه المعادلة المنقلبة، أي ضعف الدولة وقوة الجماعات المنضوية بداخلها.

أن تخطو الدولة نحو بداية صحيحة للتعامل مع التوليفة الاجتماعية والدينية والاثنية المتنوعة يتطلب إدراكاً تاماً لشروط التعامل، إذ لا يكفي فتح باب الحوار بين الجماعات الدينية، ولا يكفي أن توصل التشكيلات الايديولوجية والاجتماعية والمناطقية كلمتها الى الدوائر العليا كيما تنتهي المشكلة، بل لا يكفي مجرد الاعتراف اللفظي بالتعددية ذات الاشكال المختلفة المناطقية والاثنية والمذهبية.. إذ لابد من ترجمة لهذا الإعتراف بصورة عملية، بمعنى تصنيع إطار قادر على إستيعاب هذا التنوع ضمن بنية الدولة نفسها، أي إمتلاك الدولة آلية استيعاب سياسي لهذه التعددية واصطناع إطار يتولى مهمة تضمين تلك التعددية في سياق تطلع توحيدي عبر مدخل الشراكة السياسية والاقتصادية والثقافية.

بهذا المعنى وهذه المهمة، تكون التعددية توظيفاً لبناء الوحدة الوطنية ودولة ـ الأمة، إذ حينئذ يتحقق مفهوم الشراكة والمقاسمة، وحينئذ أيضاً يتولد الإحساس بالحاجة الى حماية (المشترك فيه)، فالجميع يناضل عندذاك من أجل درء خطر عما يشعرون بأنه لهم كمجموع وليس كجزء.

هناك ملاحظة خليقة بأن تذكر، وهي أن تفجّر النزعات الخاصة في زمن غياب مشروع عملي فاعل نحو بناء وحدة وطنية، يسحب الجميع الى مهمة أخرى تدميرية حيث يتم تحطيم بذور الأسس الخام لتشكّل الوحدة الوطنية ودولة ـ الأمة. فبزوغ التعددية بأشكالها المختلفة قد تنفلت الى سياقات أخرى، كأن تتحول الى حركات إنفصالية، فالتعددية قد تكتسي بعداً انشقاقياً فيما لو فشلت الدولة في خلق محدد وطني مبني على مبدأ الشراكة ذاك، أو حتى على مبدأ الاعتراف بهذه التعددية من الناحية القانونية ـ الدستورية والذي قد ينظر اليه المتضررون بوصفه خط رجعة او أمل بمستقبل أفضل.

في الوقت الراهن، ليست النجدية سوى أيديولوجية إنشقاقية، وبسبب هيمنتها على الدولة تعبر هذه الايديولوجية عن نفسها في هيئة نزعة تسلطية، أما المناطق الأخرى فتحمل بداخلها ثقافات إنشقاقية كرد فعل على إنشقاقية المركز. بمعنى آخر، حين يسمح للنجدي بالتعبير الكامل والمطلق عن نفسه دينياً وثقافياً وتراثياً الى جانب التعبيرات الأخرى السياسية والاقتصادية، ويحرم غيره من هذا الحق تصبح مبررات الانشقاق قوية.

إن إولى المهام التي إضطلع بها الملك عبد العزيز من أجل توطيد أركان حكمه وإرساء أساس صلب لمملكته هي تقويض الهويات وطمسها ولكن ليس من أجل تعميم هوية وطنية عامة، وإنما من أجل إحباط مصادر التهديد في دولته، ولذلك كان ثمة خوف حقيقي من أن تصل الدولة الى مرحلة تكون عاجزة عن إخماد فورة الهويات الخاصة وتؤدي الى تسلل الهزال الى بنيتها مما يودي بحتفها. ولذلك جرت النظرة دائماً الى انتعاش تلك الانتماءات الخاصة على أنه النذير المتوعد بتفكيك الدولة، وإن لم يتم إستدراك ما فشل المؤسس والخلف من بعده في تحقيقه وهو بناء الوطن والوحدة الوطنية، فإن مسار التقسيم قد يكون أسرع مما يتخيله البعض، تماماً كما هو سريع سقوط الحكومة العراقية والعاصمة بغداد.

من الخطأ الاعتقاد أن التجربة الأخيرة في الحوار الوطني تمثل نهاية تاريخ الواحدية، فهذا الحوار هو أولى الخطوات نحو فهم المشكلة ليس إلا، ويجب بعد ذلك أن تبدأ الدولة بمرحلة تعديل شامل لميزان القوى الداخلي، عبر إعادة توزيع الحصص السياسية وعبر مشروع إدماج سياسي وثقافي واقتصادي واجتماعي.

فأولئك الذين تشكّل وعيهم عن أنفسهم وعن مصدر شقائهم خلال عقود طويلة لا ينتظر منهم مغادرة مواقعهم بسهولة من أجل بارقة أمل محمّلة بالشكوك، فهؤلاء في رد فعل على النزوع الطاغي للثقافة الواحدية التي انبثقت وترعرعت في داخل نجد قاعدة السلطة والدولة، قد جمعوا رؤوس أموالهم التراثية والثقافية من أجل التحصّن إزاء الإجتياح الثقافي القادم من الوسط إستكمالاً وإلحاقاً للإجتياح العسكري.

إن الحوار يضطلع على وجه التحديد بوظيفة وساطة كلية بين الدولة والجماعات المنضوية في إطارها، ولا يجب أن ينظر إليه بوصفه حلاً حاسماً ونهائياً لمشكلة ممتدة وعميقة الجذور ومتشعّبة، فالمشكلة ليست (حوارية) بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ ينبغي التفكير في القضية او القضايا التي أراد الحوار مناقشتها والتفكير بصوت مسموع في البحث عن سبل حلها. وأن الحل يبدأ ضرورة ومنطقاً من نقطة الاقرار بالمشكلة وتشخيصها الدقيق، إذ يصبح لغواً معالجة العزل السياسي بالحوار الثقافي، أو بفتح باب التعبير عن الرأي بصورة محدودة، فهذه المعالجات الصحيحة هي مفردات في مشروع حل أشمل وقد تصلح منفردة في حل مشاكل أخرى ليس من بينها مشكلة العزل السياسي.

ثمة مغالطة فادحة تلك التي تنطوي عليها نصائح البعض بأن الاعتراف بالتنوع المذهبي وتالياً السماح له بالتعبير عن نفسه في هيئة طقوس، وممارسات ثقافية وإجتماعية يكفي بمفرده لاقفال ملف القضية. هذا النوع من النصائح ينبغي أن يقرأ في سياق مشكلات تعاني منها أقليات دينية في الغرب، وهي أقليات في الغالب مهاجرة أي من خارج النسيج الاجتماعي والتاريخي والثقافي السائد، ولا يصح بحال تشغيل هذه النصائح في مجتمعات لا تقتصر المشكلة فيها على الجانب الديني، كما لا يصلح تجريبها مع جماعات أصيلة في وجودها وثقافتها وتاريخها كالتي في السعودية. إن جذر المشكلة وجوهرها في بلادنا يمتد الى أبعاد دينية وثقافية وإجتماعية ويعمّدها البعد السياسي الذي يبدأ به الحل وبه يختتم، لأن منه بدأ الحرمان الشامل ولا شك أن نهايته ستكون بإزالته.

عوداً على بدء الحديث عن تعاظم الدور الذي تلعبه الانتماءات الخاصة في الوقت الراهن داخل الديار السعودية، فإن انقلاب المعادلة بالاستقطاب الحاد المعبّر عنه في تنامي الميول نحو إطارات الانتماء التقليدية: المذهب، الاقليم، القبيلة، في وقت تفقد فيه الدولة جزءا ضخماً من زخمها المعنوي وقدرتها على كبح الجماح، يهيء ظروفاً منذرة بالعواقب الوخيمة التي غالباً ما تشبه الى حد كبير نشوء ظواهر انشقاقية داخل الدولة كالتي حدثت في تاريخ الدولة العباسية، حين فقد الخليفة سلطته الفعلية لحساب الامارات الصغيرة الناشئة في جوف الدولة فكانت تملي على الخليفة ما يجب وما لا يجوز. وكاد أن يقع الشيء ذاته، حال تتبع نتائجه النهائية، في دول أخرى في أوروبا بوجه خاص ولا سيما في الدول الحاضنة لمجتمع غير متجانس ولكنها نجحت في صياغة نظام مرن قادر على إستيعاب التباين في الانتماءات الثقافية والاثنية والتاريخية والقومية داخل الجهاز السياسي تحديداً.

الدولة السعودية ليست إستثناءً تاريخياً، وإن كانت نشأتها تمت في ظروف دولية استثنائية، فهي تخضع لقوانين التحوّل والتبدّل بالمعنى الطبيعي والسياسي، فتطوّر الدولة غير المتكافىء مع تزايد حاجاتها قد أفضى الى إحداث إضطراب في حركتها وأدائها العام، وجاء تزايد الوعي لدى الرعايا وإرتفاع سقف التطلعات التي يحملونها كيما يخلخل أسس هذه الدولة إثر رفضها الاستجابة لقدرها الحتمي، أي للاصلاحات الجوهرية الضرورية لاعادة التوازن لحركة الدولة.

وخلافاً لما يراه الجناح المتشدد داخل العائلة المالكة بأن الزمن كفيل بتسوية مشكلات الدولة مع ضحاياها في الداخل، إستناداً على عقيدة وهم ساذجة بأن الزمن قد يحمل بداخله رسالة أمل للدولة كيما تستعيد هيبتها الممزقة وسطوتها الممرغة، فإن الزمن يواصل دفق رسائل محمّلة بالإنذارات المتواصلة بأن ثمة طريقاً سالكاً لا يمكن الحياد عنه في التعامل مع فيض التنوع المتدفق عبر هذه الدولة، ودون ذلك خطر الانحلال. في هذا الوضع الذي يؤثر في مسار الدولة الآن، أي في ظل تصاعد الانشدادات الخاصة تجد الدولة نفسها أمام خيارات حاسمة ونهائية وهناك يبدو في الأفق مفترق خطير بين الاندراج في سياق إنعزالي يواصل شق درب التقسيم والتفكيك، أي الاستمرار في نهج العزل والاقصاء والهيمنة، أو خيار الاندماج الهادف الى دعوة جميع الفرقاء المحليين للدخول في مشروع مصالحة وطنية، لجهة بناء إطار سياسي عام يتماهى فيه الجميع ويعثرون فيه على فرصتهم الضائعة، وحقوقهم المضيّعة.

لا ريب، أن مجمل الحصادات الثقافية السائدة حالياً سواء المتصل منها بالدولة ومتوالياتها ولا سيما النجدية منها بالمعنى المناطقي والمذهبي والأثني، أو الشائعة بين أتباع المذاهب وسكان المناطق وأفراد القبائل الأخرى، هي حصادات نشأت في ظل شروخات في بنية الوعي العام وفي بنية الدولة، وهي حصادات غير قابلة للاستثمار حالياً في بناء دولة الأمة أو في تشكيل وحدة وطنية، وإذا ما أريد لهذه الأهداف أن تتحقق فلابد أن تبدأ الدولة بوضع أساس الثقافة الوطنية، عبر إشاعة حرية التعبير، وفتح الحوار على أفق واسع، وإرساء دعائم المشاركة الشعبية في النشاط السياسي، وإحراز القدر المنصف من مستوى التمثيل السياسي في جهاز الحكم.

ينبّهنا علماء الاجتماع السياسي بأن الديمقراطية كفيلة بأن تخلق تمثيلاً عادلاً للجميع في الجهاز السياسي، وكفيلة أيضاً بأن تحقق ضمانات الاستقرار والبقاء للدولة، وأن الاعتراف بالتنوع يعني الادماج السياسي للجماعات المتعددة إثنياً ومذهبياً ومناطقياً داخل الحكومة، والادماج هذا من شانه تحقيق معنى المواطنة الكاملة. عكس ذلك، أن الاستبداد كفيل باشاعة الجور والاثرة بالسلطة والثروة، وتنفير أغلب الجماعات الخاسرة وخروجها من مجال تأثير الدولة، وانشدادها الى كل ما يؤكد خصوصياتها وانفصاليتها وأحياناً عدوانيتها في مقابل الدولة. هاتان الصورتان المتقابلتان تبدوان في حالة إختبار حقيقي وشيك، وعلى الدولة تحديد أي من الصورتين ترغب في خلقها.

يجب التنبيه مجدداً الى أن الاعتراف بوجود التعددية ما لم تلحقه على الفور إجراءات عملية لاستيعابه واستدراجه الى محيط الدولة ومجال عملها، يؤدي الى إعدام الدولة نفسها. ذلك أن التعددية ليست مؤطّرة بحد الوطن والأمة، بل هي تعددية تحتدم بداخلها نزوعات وميول هي في جزء كبير منها منتجات رد فعل على النزعة الواحدية الاقصائية التي صُنّعت ما قبل قيام الدولة وبعده، فهذه التعددية جرى تشويهها وحرفها عن مسارها بسبب سلوك الدولة نفسها التي أرادت أن تقضي عليها فإضطرت هذه التعددية للعمل من تحت الأرض كيما لا تخسر وجودها، وبالتالي فهذه التعددية لا تمثل في شكلها الحالي الظاهرة الثقافية الثرية التي تسود الأمم، وأن هناك حاجة من أجل إعادة تأهيل هذه التعددية عبر مشروع وطني يحمل بداخله رسائل وأهداف مختلفة من قبيل: الحريات والحقوق ذات الأبعاد الجماعية بدءا من حرية التعبير والعبادة وانتهاءً بحق تشكيل التجمعات السياسية والثقافية والنقابات، أي بمعنى آخر توفير فرص ولادة المجتمع المدني الحقيقي.

وإذا ما أريد للخصوصيات أن تترشد وتأخذ وضعها الطبيعي في المجال الثقافي المحلي، فإن خيار التمثيل السياسي والشراكة السياسية يجب النظر إليهما باعتبارهما عنصرين جوهريين في خطاب المرحلة الحالية والقادمة سعياً وراء إستكمال التجهيزات الأساسية لبناء دولة الأمة.

الصفحة السابقة