صدام النماذج في السعودية

الدولة المدنية والدولة الدينية

تخفي الفعاليات السياسية النشطة على الساحة الداخلية أجندتها السياسية، وما هية الاغراض النهائية التي تسعى إليها من أجل بلوغ مرحلة تكون فيها قد ظفرت بتنصيب نموذجها الأيديولوجي كصيغة للحكم.

أدبيات الدولة التي تظهرها عرائض، وكتابات وتصريحات الناشطين السياسيين في السعودية تشي بوجود نماذج عديدة للدولة المنشودة كما يبشّر بها هؤلاء. فمن بين هذه النماذج: الدولة القومية، الدولة الاشتراكية الأممية، الدولة الدينية، الدولة العلمانية الليبرالية، على أن حقيقة هذه التمايزات تلتقي عند مفترق نموذجين: الدولة الدينية والدولة المدنية. ويشكل هذان النموذجان مصدر الانشعاب الحقيقي بين التيارات السياسية العاملة على الساحة السعودية، والتي تسير في خطين متعاكسين نحو غايتين مختلفتين وينطلقان من إطارين فكريين متباينين، وما يجمعهما هو عنوان الصراع على الدولة. وتبدو ثمة ضرورة لبيان مصادر الافتراق بين هذين النموذجين حيث يمكن تشخيص طبيعة الجدل المحتدم بين التيارين والإتجاه الذي يأخذه.

في البعد التكويني للدولة يمكن القول بادىء بدء بأن الدولة الدينية مؤسسة على تعاقد والدولة الدينية مؤسسة على عقيدة، والأولى يشترك فيها طرفان هما الحاكم والمحكومين، أما الثانية فليس فيها سوى طرف واحد، غالباً ما يؤسس دولته على زعم التفويض الإلهي، وهو ما يشير إليه أحد الفلاسفة الفرنسيين بـ (مديونية المعنى)، حيث يكسي الحاكم سلطانه معنى من خارجه كيما يكسبه شرعية.

في حقيقة الأمر وجوهره، أن في الإفتراق عند هذا المبدأ التكويني بين التعاقد الاجتماعي والعقيدة الدينية تكمن كل الترتيبات المندرجة تحتهما، بدءا من الحقوق والوجبات وانتهاء بأغراض الدولة الكبرى.

ففي ضوء ذلك الافتراق، ندرك بأن الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدولة المدنية مؤسسة على مبدأ المواطنة، بما تقتضي المساواة بين المحكومين أما في الدولة الدينية فالحقوق مؤسسة على الالتزام الديني، وفي مثال السعودية يكون الالتزام بطريقة المذهب الرسمي والماسكين بالسلطة ومنابع الثروة. وبالتالي، فإن الحقوق في الثانية موقوفة لثلة المؤمنين الملتزمين بعقيدة دينية محددة، إذ يكون التساوي نقيض منصوصات وممليات العقيدة هذه. وها هنا على وجه التحديد، يحدث أول وأكبر تشويه للدولة حين تختلط بمدّعيات دينية تُفقِدُها أغراضها الأولى التي نشأت من أجلها.

فهذه الدولة في تجهيزاتها الأولى وضمن البيئة التي ولدت فيها وتكوّنت، كانت تحمل رسالة دنيوية أداتية تهدف الى تنظيم مصالح الجماعات وضبط روابطها وفق تلك المصالح المشتركة ودرء المفاسد الموجهة لهم في الدنيا، أما الدولة الدينية فتستحوذ على المحكومين في الدنيا عبر دعوى إعداد الخلق لمرحلة أخرى، الدار الآخرة، أي أن الدولة الدينية تحمل رسالة أخروية وليس من مهماتها أن يعيش الناس أكفّاء ينعمون بالخير الدنيوي، بل إن الدولة يجب أن تحمل الناس على الامتثال لأوامر السلطة، باعتبار أن ذلك جزءٌ من الامتثال لأوامر الشرع والدين حتى وإن جاء ذلك على حساب مصالحهم الدنيوية.

توماس هوبس توصل في مؤلفيه الشهيرين (الدولة صدر عام 1642م) و(ليفيثان صدر عام 1651) الى أن السلطة المدنية هي نتاج مجتمع دنيوي، كما عدّ المجتمع المدني حالة سياسية اجتماعية اصطناعية، نافياً عنها الصفة الدينية، وقد خصص كتابه الثاني لتوجيه نقد لاذع لفكرة (الحق الإلهي) وأطلق على الدولة القائمة على أساس دعوى الحق الآلهي بأنها (ليفيثيان)، رمز الشر في الكتاب المقدس.

ولذلك كان التفريق بين الدين والدولة في المضاجع حيث تكون مصالح المحكومين عرضة للضياع والانتهاك ذا بعد مصيري، إذ أن التقارب بينهما يكون غالباً محمّلا بنذر الاختراق للمجال الحيوي للمصالح العامة ويكون دائماً على حساب حقوق المحكومين.

ولهذه المفترقات، كانت دورات النقاش والجدل تتجه الى التفتيش عن سبل لكبح جماح الدولة وتغوّلها، ففي الوقت الذي تمثّل الدولة ضرورة تنظيمية فإنها لا تخلو من أمراض قد تصيب المتنفذين فيها والجهاز الاداري الماسك بزمامها، فقد يتجاوز طيش الدولة الى حد إختراق جدران البيت التي كان يرى جون لوك بأن سلطة الدولة تنتهي عندها. ومن هنا ظهرت فكرة (المجتمع المدني) الذي ينشأ في فضاء العلاقة بين المجتمع والدولة، ويصبح الوسيط الدائم بينهما كما يشكل في الوقت ذاته رادعاً لها، بصرف النظر عن العناوين التي تنتسب إليها.

ثمة حاجة هنا لتسليط الضوء على نقطة جديرة بالاهتمام. هناك دعوى مازلت تتردد في موائد الجدل والمنتديات الحوارية بوجود أمة عربية وإسلامية واحدة قبل وصول جحافل الاستعمار الأوروبي الى الشرق. وهؤلاء يغفلون عن حقيقة أنه لو كان هناك أمة لأنشأت دولتها ومجتمعها المدني، ولذلك فإن إنهيار الدولة الاسلامية (الأموية والعباسية والعثمانية) لم يفرز سوى كيانات مفككة، وحينئذ فإن الاستعمار حين جاء أحبط مفاعيل التوحد الكامنة في لاوعي الأمة، وشجّع مصادر الانقسام والتجزئة في ثقافتها، ولم يعد هناك سبيل، حينئذ، سوى إقتفاء أثر النموذج الأوروبي.

هذا النموذج يقضي بأن الأمة يشكّلها المجتمع المدني وليست الدولة الدينية، لا لأن الأمة تتشكل منفردة من هذا الطريق، بل لأن أوضاع الدول والمجتمعات في الوقت الراهن، تفرض نمطاً خاصاً في التوحّد. وهذا التوحد يفرض أيضاً مسافة احترازية بينه وبين الدولة، إذ أن إندياث المجتمع داخل الدولة أو إنفصاله التام عنها يفضي الى انتصار الدولة، ولكن الصحيح هو وجود علاقة تكاملية مصونة بوجود مسافة احتياطية بين المجتمع المدني والدولة من أجل تحقيق أهداف كليهما.

يلزم الإشارة هنا الى أن الدولة في بلدان عربية كثيرة، بما في ذلك السعودية أصبحت أداة تجزئة كونها أحد منتجاتها، ولذلك فإن هذه الدولة تشكّل على الدوام تهديداً للمجتمع المدني ولمشروع الأمة إجمالاً، ولذلك أيضاً تصبح مؤاخذة المناصرين لنموذج الدولة المدنية مشروعة حين ينظر الى الفعل التدميري للدولة القطرية العربية لبنى الأمة والمجتمع، وتبنّيها فكرة إعادة تأسيس الدولة على مبادىء مدنية محضة. وهذا لا يغمز في قناة الدين، فمعتنقو الايديولوجيات الوضعية تورّطوا في تجارب دموية أكثر مما تورّط به المتمسكون بالخيار الديني. وعلى حد قول المفكر الفلسطيني عزمي بشارة (أثبتت القومية انها اقل تسامحاً، وفي النظرية والتطبيق سمحت بهامش من الديمقراطية اقل مما سمح به الاسلام..).

السياسة: بين السماء والأرض

يستعلن التشابك بين نموذجي الدولة الدينية والمدنية عن نفسه من خلال تمسرح سياسي ضاري، يحاول كل طرف سحب رداء المشروعية عن الآخر، فأهل الدين يرون بأن السياسة جزء صميمي من الدين ولا يجوز لغير رجاله الولوج اليه، فيما يناضل غيرهم من أجل تحرير السياسة من القيود المفروضة عليها، وإحالتها الى مجرد شأن مدني ومجال مفتوح أمام الجميع كيما يشتغلوا بها من أجل التنافس على السلطة لغرض تحسين الأداء وضمان المصالح العامة.

وهنا ينداح النقاش حول السياسة الى موضوع جوهري وهو السيادة بعنصريها المتقابلين الشعبي والإلهي، فالسيادة الإلهية تضع الدولة في عهدة أقلية تحيط نفسها بمزاعم تمثيل السماء، وتشيع عن نفسها أساطير فوق إنسانية واستثنائية بغرض احتكار السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وترى بان ذلك ثمرة تخويل إلهي نهائي لا رجعة عنه. وعلى خلاف ذلك، السيادة الشعبية التي أسست لعبور الدولة الحديثة الى الديمقراطية. ومبدأ السيادة الشعبية هذا يعتبر أساساً جوهرياً لنشوء الديمقراطية، حيث أن أولى المنجزات التي يحققها هو إطلاق سراح السياسة من قبضة حملة المدّعيات الخاصة الدينية أو الفردية على حد سواء، وبالتالي اعتبار السلطة قضية عامة يشارك فيها جميع أعضاء المجتمع، ويناضل من أجل الوصول اليها كل من يجد في نفسه كفاءة الادارة العمومية وتحقيق مصالح الرعايا، هذا المبدأ هو نفسه الذي يجعل السياسة دنيوية محضة، وليس كما تفعل السيادة الالهية التي تمتطيها طبقة مسلّحة بمزاعم دينية وخاصة ترى في نفسها خصائص إلهية ليست في المخلوقين وتنظر الى من عداها كقطيع تائه يجب أن يساق الى حيث الرشد والهدى. وهنا تبدو المفارقة الكبرى بين نموذجي الدولة الدينية والدولة المدنية، حيث يتحقق عبر مبدأ السيادة الشعبية التساوى والحرية فيما يتحقق عبر السيادة الالهية الجور والاستبداد.

السياسة في السعودية مازالت هواية وليست حرفة، فالعمل السياسي محتكر لدى طبقة معينة وهي العائلة المالكة، وبالتالي، ومن أجل تحرير السياسة من الاحتكار والفئوية، تغدو الحاجة ملحّة من أجل إحتراف العمل السياسي وتحويله الى مهنة من خلال إنشاء الجمعيات السياسية، ذات الأهمية البالغة من أجل إرساء أساس المجتمع السياسي، الحاضنة الرئيسية لمولود الديمقراطية، حيث يجعل من ممارسة الديمقراطية أمراً ممكناً ومأموناً، فوجود جمعيات سياسية يجعل النظام الديمقراطي التمثيلي يحقق ما نظّر له هيغل حين إشترط تمثيل هذا النظام للأفرد ممثلين في جماعات، إذ أن صيغة الديمقراطية المباشرة لم تعد قابلة للتطبيق وليست مجدية في أوضاع شديدة التعقيد.

رؤية أولية لصدام النماذج السعودية

في العقد الأخير وربما يسبقه قليلاً إستعلن الإتجاهان الكبيران في السعودية: الوطني الليبرالي والديني عن نموذجين للدولة المنشودة، كمقترح تصحيحي لنموذج الدولة السعودية القائمة. فالتيار الديني السلفي أعلن عام 1992من خلال وثيقة تفصيلية بعنوان (مذكرة النصيحة) الصياغة الدينية النهائية لدولته المنشودة. المذكرة إستبطنت نقداً حاداً، وفي جوهرها، رفضاً لنموذج الدولة السعودية بأدائها الحالي، وتوحي المذكرة بأن هذا النموذج قد فقد مصداقيته بدليل أن التعديلات المقترحة بحسب مضامين المذكرة تصل الى حد إستبدال النموذج، لما فيها من مساس بجوهر الدولة السعودية وصميم تكوينها.

وفق محتويات المذكرة والموقعّة من قبل مجموعة منتخبة من الرموز الدينيين الناشطين والقياديين في التيار السلفي، فإن الدولة الدينية المنشودة تعبّر عن إتجاه أيديولوجي معين يمثّل مجتمع الموقّعين دون رعاية للأغلبية السكانية المقيمة داخل حدود الدولة السعودية الحالية. فهذه الدولة المتخيّلة لها وظائف وأهداف وأدوات خاصة ولها أيضاً رجال خاصّون يديرونها وهم الموقعّون ومن يرتضون من داخل الجماعة التي ينتمون إليها. خلاصة القول أن هذه الدولة فئوية خالصة تكون حكراً على طبقة دينية، وفي ذلك تحقيق لكل المزاعم ما فوق الانسانية/الآلهية التي تترك لهم حرية التصرف في خلق الله.

النموذج المقابل، كما عبّرت عنه وثائق التيار الوطني بشقيه الاسلامي المعتدل والليبرالي العلماني هو نموذج الدولة المدنية القائمة على أساس مبدأ المواطنة الكاملة، التي تكون مدخلاً لتحقيق التساوي بين الجميع، وتحرر السياسة من مختطفيها الكامنين بإسم الحق الالهي أو الحق الخاص/الفردي أو الفئوي، وإشاعة الحرية السياسية كأساس الديمقراطية والتعددية والمشاركة في القرار والتمثيل السياسي المتكافىء.

يفرض هذان النموذجان وجودهما بسطوة في الشارع وفي جولات الجدل السياسي، ولاشك أنهما يستقطبان إهتماماً واسعاً على المستويين المحلي والخارجي، ولربما يقترب التيار الوطني من إيصال رسالة مقنعة الى الداخل والخارج بأن تمدين الدولة، أي إحالتها الى قضية مدنية وليس دينية خيار أكثر مصداقية وتمثيلاً للاتجاه العام في السعودية في مقابل النموذج الديني في شكله السلفي الاقصائي القائم على إساس إحتكار الدولة والسلطة والمؤسس على مزاعم دينية.

الصفحة السابقة