من الكتب والمراجع التكفيرية الوهابية

الــوهــابــيــّـة: مـذهـب الـكـراهـيـة

الجزء الثاني ـ تكفير المعيّن والعموم


وبإمكان المرء تتبّع كتابات علماء المذهب منذ الأيام الأولى لنشأته حول مسألة التكفير،ينفرد المذهب الوهابي بأنه صاحب أضخم تراث تكفيري في تاريخ الإسلام، والمناظرات المتصاعدة والمغلقة داخل الدائرة الوهابية، حتى يبدو وكأن مسألة التكفير ركيزة أساسية للمذهب، ومصدر لوجوده وحيويته وتميّزه.


سعد الشريف

تاريخياً، لم ينشغل مذهب في الاسلام بمسألة التكفير تقعيداً، وشرحاً، وتطبيقاً كما انشغل المذهب الوهابي، فلا يكاد عالمٌ فيه إلاّ وله رأيٌ في التكفير، إن لم يكن فتاوى تكفيرية ضد فعل أو قول، أو شخص، أو طائفة، وأحياناً طوائف، بل تكفير أغلبية الأمة كما في رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائه وأحفاده، وكما جاء أيضاً في بعض الشروحات على كتاب (التوحيد) للشيخ محمد بن عبد الوهاب (أنظر على سبيل المثال: شرحي الشيخ الشيخ صالح الفوزان، والشيخ إبن عثيمين).

في المعجم العقدي الوهابي: التكفير المطلق هو تنزيل الحكم بالكفر على الفعل والقول (من قال كذا أو من فعل كذا كفر)، أما التكفير المعيّن فيشمل الشخص الذي فعل الكفر، وأما تكفير العموم فيشمل طائفة أو طوائف لتلبّسها بفعل/أفعال أو قول/أقوال كفرية، بحسب التفسير العقدي الوهابي.

تنطلق القراءة في تراث الكراهية الدينية لدى الوهابية من اقتفاء جذور تلك الكتابات التأسيسية للتكفير في المجال التيولوجي الوهابي. إلى جانب آراء الشيخ إبن تيمية والشيخ إبن عبد الوهاب في تكفير المعيّن، فإن كتاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين (1194 ـ 1282) مفتي الديار النجدية في زمانه الموسوم (تكفير المعيّن)، يمثّل مرجعاً رئيسياً في المجتمع الديني الوهابي. وقد بدأ في الفصل الأول من كتابه بعنوان (في التحذير من تكفير المسلمين)، ونقل بأن (ظاهرة التكفير من أوائل البدع التي ظهرت في الإسلام، على يد الخوارج..)(1). ونقل أيضاً: (ولقد نهى الإسلام عن تكفير المسلمين نهياً شديداً، وحذّر من ذلك تحذيراً عظيماً..)، وعقّب قائلاً: (فوظيفة المسلم أن يدعو إلى الله على بصيرة، ولم يؤمر أحدٌ أن يحكم على مافي سرائر الخلق..ولتعلم أخي المسلم أن خطأك في تكفير كافر خير من حكمك على مسلم بالكفر)(2).

ونقل كلاماً للشوكاني حازماً يشدّد فيه على عدم التساهل في إصدار حكم بكفر شخصٍ ما وقال ما نصّه: (فلابدّ من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه، فلا إعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ تلفّظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه..)(3). ويعتبر هذا الرأي في حدّه النظري آية في التسامح الديني، ولكن المشكلة تكمن في تطبيق المبادىء العامة على الواقع، حيث تبدو المسافة الفاصلة بين ما هو نظري وما هو عملي/ تطبيقي شاسعة، فقد يختفي التشدد في إطلاق حكم بتكفير في المستوى النظري، ولكن ما يلبث أن يصبح التسامح في التكفير ظاهراً بل متفشيّاً. ففي تعليق له على كلام إبن تيمية في عدم تكفير كثير من المتأخّرين لغلبة الجهل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بدا متشدّداً وقال بكفر مثلاً من يقوم بزيارة المشاهد المشهورة في أكثر بلاد المسلمين، واعتبرهم مشركين كفّار(4). ويعلق قائلاً: (ونحن نعلم أن من فعل ذلك ممن ينتسب إلى الاسلام أنه لم يوقعهم في ذلك إلا الجهل، فلو علموا أن ذلك يبعد عن الله غاية البعد، وأنه من الشرك الذي حرّمه الله ـ تعالى ـ لم يقدموا عليه، فكفّرهم جميع العلماء ولم يعذروهم بالجهل، لا كما يقول بعض الضالين: إن هؤلاء معذورون لأنهم جهّال..)(5). فهذا مثال واحد عن التناقض بين ماهو نظري وماهو عملي وتطبيقي.

وقد تسبّب إفراط رموز المدرسة الحنبلية والوهابية وخصوصاً الشيخ إبن تيمية والشيخ إبن عبد الوهاب في إطلاق أحكام التكفير في إحداث ردود فعل واسعة بين المسلمين من أتباع المذاهب الأخرى، حتى أصبحت وصمة (الخوارج) ملاصقة للمدرسة الوهابية، الأمر الذي دفع بعض المناصرين للوهابية لتصنيف المقالات والكتب دفاعاً عن رموز المذهب. ومن نافلة القول، أن وصمة الخارجي باتت تستعمل في الصراع الداخلي بين الوهابيين أنفسهم، فصار أتباع تنظيم القاعدة الذين يكفّرون الدولة السعودية وعلماءها هم الخوارج، بحسب بيانات هيئة كبار العلماء ومشايخ وزارة الداخلية السعودية.

ومهما يكن، شعر الوهابيون بأنّهم باتوا هدفاً لانتقادات غالبية المسلمين بسبب إسرافهم في الإستعمال المسرف لأحكام التكفير، حتى صارت آلة تظهير المشيخة هي النيل من معتقدات الآخرين وإخراجهم من دائرة الإيمان الديني. وقد كتب أحدهم ردّاً على تشنيع خصوم إبن تيمية وإبن عبد الوهاب والتابعين لهما في مسألة التكفير، وأنهم يسلكون مسلك الخوارج، ولكنه لم يغفل الموقف الأولي الذي قامت عليه العقيدة الوهابية. كتب أبو العلا الراشد: (عندما ننقل عن أهل العلم خطورة التسرّع في مسألة التكفير، والتحذير من تكفير المسلم، فلا يعني هذا اغلاق باب الردة، أو الحكم بالإسلام على من دلّ الدليل على كفره وردته، فإن الإنحراف في التكفير لا يقابل بانحراف آخر لا يقلّ خطراً عنه، وهو الإرجاء، وعدم تكفير الكافرين المجمع على كفرهم)(6).

إن الرد النمطي الذي يسوقه المنافحون عن ابن تيمية وابن عبد الوهاب أنهم لا يكفّرون دون دليل، وهذا صحيح، ولكن أي دليل؟ هم يضعون معايير خاصة في الايمان وعدم الايمان تجعل من كثير من المؤمنين خارج دائرة الإيمان وبالتالي يصح الدليل على كفرهم!

يلتزم علماء الوهابية بقول لابن تيمية في إبلاغ الحجّة كطريقة في تكفير شخص ما معيّن، إذ لا يتطلب الابلاغ فهم الحجة، (إذا كان من بلغته يفهممها لو أراد، وإنما يشترط بلوغها على وجه يمكن معه العلم..)(7). في المقابل، نقرأ كلاماً للشيخ الشوكاني ما نصّه: (إعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار)(8)

وقد صنّف الشيخ محمد بن عبد الوهاب كتاباً يشتمل على مسائل أربع وقواعد أربع يفرّق فيها بين المسلم والمشرك، فألّف (كتاب التوحيد) يقول فيه ما نصّه: (ومن نوع هذا الشرك: الإعتكاف على قبور المشهورين بالنبوّة، أو الصحبة، أو الولاية، وشدّ الرحال إلى زيارتها، لأن الناس يعرفون الرجل الصالح، وبركته، ودعاءه، فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك، فتارة: يسألونه، وتارة: يسألون الله عنده، وتارة: يصلون ويدعون الله عند قبره)(9).

من غريب الردود ما نقرأ عن نفي الشيخ محمد بن عبد الوهاب تكفيره للعموم بقوله (سبحانك هذا بهتان عظيم)(10)، ثم مايلبث في رسالة أخرى لاحقة يقول فيها: (فلما جرى في هذا الأمة، ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم...وصار ناس من الضالين: يدعون أناساً من الصالحين، في الشدّة والرخاء، مثل: عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، ودعي بن مسافر، وأمثالهم..) ثم يقول: (واعلم أن المشركين في زماننا: قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الملائكة، والأولياء، والصالحين، ويريدون شفاعتهم..)(11).

يعيب الشيخ إبن عبد الوهاب على العلماء الذين يأمرون أتباعهم بعدم تكفير شخص قال لا إله إلا الله، ويقول: (وهذا القول، تلقته العامة من علمائهم، وأنكروا ما بينه الله ورسوله، بل كفروا من صدق الله ورسوله في هذه المسألة، وقالوا: من كفر مسلماً فقد كفر، والمسلم عندهم: الذي ليس معه من الإسلام شعرة، إلا أنه يقول لا إله إلا الله)(12).

وعلّق ابن عبد الوهاب بعد نقله كلاماً للشيخ إبن تيمية في التكفير:

(وكلامه في كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة، وأما إذا بلغته الحجة حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أو تفسيق أو معصية، وصرح أيضاً أن كلامه في غير المسائل الظاهرة فقال في الرد على المتكلمين لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا قال: وهذا إن كان في المقالات الخفية فقد يقال أنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها ولكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها مثل عبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ومثل إيجابه للصلوات الخمس وتعظيم شأنها ومثل تحريم الفواحش والزنا والخمر والميسر، ثم تجد كثيرا من رؤسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين).

ثم ذكر مسألة تكفير المعين بعد بلوغ الحجة وقال: (لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة والحمد لله)(13). وقال:(فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه قد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل..)(14). وأضاف: (فلم يمنع من التكفير كونه جاهلاً). وهنا يندلع سيل الأسئلة الاستنكارية: فلمن وضع حديث (رفع عن أمتي..)؟، وماهي مصاديق آيات رفع الحرج؟، ولماذا العلماء وغيرهم لايستوون في مرتبة واحدة؟، وكيف لا يعذر الجاهل؟، وقد قال تعالى: (وما كنّا معذّبين حتى نبعث رسولا) الإسراء ـ 15، فبأي وجه نظرت إلى الآية وجدت أن الله سبحانه وتعالى لا يعذّب أحداً لجهل بدين ما لم يلق عليه الحجة، فإنما يكفُّر الكافر بعد علم، وإلا ما معنى حديث: كل إبن آدم يولد على الفطرة..الخ، وهو مصداق للآية المباركة (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله). نعم، ظهر لاحقاً إتجاه في المدرسة الوهابية ميّز بين نوعين من الجهل، الجهل داخل دائرة الاسلام والمسلمين، وجهل خارجها، وأطلق عليهم (أهل الفترات) الذين يعيشون في مناطق نائية ولم يصلهم خبر رسالة الاسلام، فيمتحنون يوم القيامة.

ابو بكر الجزائري: تكفيري كفّره وهابي مثله!

وفي رسالة بعث بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب الى الشيخ عبد اللَّه بن عيسى قاضي الدرعية وإبنه عبد الوهاب، قال: (فقد ذكر لي أحمد أنه مشكل عليكم الفُتيا بكفر هؤلاء الطواغيت مثل أولاد شمسان وأولاد إدريس، والذين يعبدونهم مثل طالب وأمثاله...)(15). وفي رسالة أخرى إلى عبد الرحمن بن ربيعة - أحد علماء ثادق - قال بعد كلام: (فمن عبد اللَّه ليلا ونهارا ثم دعا نبيا أو وليا عند قبره، فقد اتخذ إلهين اثنين ولم يشهد أن لا إله إلا اللَّه، لأن الإله هو المدعو، كما يفعل المشركون اليوم عند قبر الزبير أو عبد القادر أو غيرهم، وكما يفعل قبل هذا عند قبر زيد وغيره...)(16). وخلص الى القول بأن (وهذا الشرك الذي أذكره اليوم قد طبق مشارق الأرض ومغاربها، إلا الغرباء المذكورين في الحديث وقليل ماهم)(17).

(وإن صح عندك الإجماع على تكفير من فعل هذا أو رضيه ـ أي من جعل وسائط مع الله ـ أو جادل فيه فهذه خطوط المويس وابن اسماعيل واحمد بن يحي عندنا في إنكار هذا الدين والبراءة منه وهم الآن مجتهدون في صد الناس عنه فإن استقمت على التوحيد وتبينت فيه ودعوت الناس إليه وجاهرت بعدواة هؤلاء خصوصاً ابن يحيي لأنه من أنجسهم وأعظمهم كفراً وصبرت على الأذى في ذلك فأنت أخونا وحبيبنا وذلك محل المذاكرة في المسائل التي ذكرت..)(18).

وفي رسالة أرسلها إلى سليمان بن سحيم قاضي الرياض، خاطبه فيها قائلاً (نذكر لك أنك أنت وأباك مصرحون بالكفر والشرك والنفاق..)، ثم يقول: (أنت وأبوك لا تفهمون شهادة أن لا إله إلا الله أنا أشهد بهذا شهادة يسألني الله عنها يوم القيامة أنك لا تعرفها إلى الآن ولا أبوك..)(19). ثم يقول:

(وإنمّا كفّرنا هؤلاء الطواغيت أهل الخرج وغيرهم بالأمور التي يفعلونها هم منها أنهم يجعلون آباءهم وأجدادهم وسائط، ومنها أنهم يدعون الناس إلى الكفر، ومنها أنهم يُبغّضون عند الناس دين محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويزعمون أن أهل العارض كفروا لما قالوا لا يعبد إلا الله وغير ذلك من أنواع الكفر..)(20)

و بعث إلى أحد علماء الإحساء يقال له أحمد بن عبد الكريم، وقد شكّ في مسألة تكفير المعيّن بعد أن قرأ كلاماً لإبن تيمية، فجاءه الجواب بأن نقده نقداً جارحاً بقوله:

(إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه، وأنا أخاف عليك من قوله تعالى “ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون”، والشبهة التي دخلت عليك هذه البضيعة التي في يدك تخاف تغدي أنت وعيالك إذا تركت بلد المشركين وشاك في رزق الله، وأيضاً قرناء السوء أضلوك كما هي عادتهم، وأنت والعياذ بالله تنزل درجة درجة أول مرة في الشك، وبلد الشرك وموالاتهم والصلاة خلفهم، وبراءتك من المسلمين مداهنة لهم، ثد بعد ذلك طحت على ابن غنام وغيره، وتبرأت من ملة إبراهم، وأشهدتهم على نفسك باتباع المشركين من غير إكراه لكن خوف ومداراة..)(21).

وفيما فصّل في مسألة تكفير الأنواع لا الأعيان، فإنه بدا كما لو أنه يميل الى أشد من ذلك، ولفت ألى أنه لو مضى على طريقة صاحب (الإقناع) لشرف الدين الحجّاوي الدمشقي (لكفّرنا كثيراً من المشاهير بأعيانهم)(22)، وقد فعل ابن عبد الوهاب ذلك، حين أكّد في رسالة للأحسائي على (ردّة الفخر الرازي عن الإسلام مع كونه عند علمائكم من الأئمة الأربعة)(23).

وذكر الشيخ عبد الله وإبراهيم أبناء عبد الطيف وسليمان بن سحمان قالوا: إن أهل العلم والحديث لم يخـتلفوا في تكفير الجهمية..)(24). وسئل الشيخ عبد الله، والشيخ ابراهيم إبنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سمحان عن الجهمية؟ فأجابوا: (أما الجهمية، فالمشهور من مذهب أحمد، وعامة علماء السنة، رحمهم الله، تكفيرهم، لأن قولهم صريح في مناقضة ماجاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب..)(25)، وقال في مكان آخر (أن الامام أحمد، وأمثاله، من أهل العلم والحديث، لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة مرتدون..)(26). وختم: (وأما الإباضية في هذه الأزمان، فليسوا كفرة من أسلافهم، والذي يبلغنا أنهم على دين عبّاد القبور، وانتحلوا أموراً كفرية..ومن كان بهذه المثابة فلا شك في كفره، فلا يقول بإسلامهم إلا مصاب في عقله ودينه)(27).

ولعل أهم ما صدر في تكفير الجهمية، ما ورد في كتاب (إجماع أهل السنة النبويّة على تكفير المعطّلة الجهمية)، وهو عبارة عن مجموع يضم عدّة رسائل لكل من الشيخ العلامة إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (1280 ـ 1329هـ)، والشيخ العلامة عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ (1265 ـ 1339هـ)، والشيخ العلامة سليمان بن سحمان الفزعي الخثعمي (1266 ـ 1349هـ)، وهو يندرج في السلسلة السلفية للرسائل والكتب النجدية (5 ـ 8). وينطلق مصنّف الكتاب من أن الإسلام تعرّض لعملية تحريف في تاريخه من خلال نشر علم الكلام ومنطق اليونان، وأن من تزعم هذا المذهب هو الجهم بن صفوان الذي وصفه المصنّف بأنه (رأس الفرقة الضالة، الكافرة، الخاسرة، الجهمية)(28) وقد أخذها عن الجعد بن درهم، وكانوا يمثلون الخط الذي يقول بخلق القرآن وضد الخليفة المتوكل الذي قرّب أحمد بن حنبل وضد المعتزلة.

وقد كتب مشايخ من الوهابيين رسائل في تكفير الجهمية وتكفير من شك في كفرهم: (وأنهم ضلال زنادقة، وأن الصلاة لا تجوز خلف من لا يكفّر الجهمية، وأن هذا هو مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه..)(29).

من بين الرسائل المدرجة في الكتاب، رسالة بعنوان (كشف الأوهام والإلتباس عن تشبيه بعض الأغبياء من الناس) للشيخ سليمان بن سمحان الفزعي الخثعمي، غاية ما أراد إثباته من كل المناقشات التي دارت حول تكفير الجهمية واختلاف العلماء حول تكفيرهم بالمطلق، أن كفرهم لا مراء وجدال فيه، وأنَّ من لم يكفّرهم أو يشك في كفرهم فهو كافر: (لا خلاف بين العلماء في الجهمية مطلقاً، بل قد ذكر شيخ الاسلام في بعض أجوبته تكفير الإمام أحمد للجهمية، وذكر كلام السلف في تكفيرهم وإخراجهم من الثلاث والسبعين فرقة، وغلّظ القول فيهم، وذكر الروايتين في تكفير من لم يكفّرهم..)(30). وشمل الحكم الأباضية (فأباضية أهل هذا الزمان على ما بلغنا جهمية، عبّاد قبور، ليسوا على مذاهب أسلافهم الماضين..)(31).

وحين واجه إشكالية أن ليس كل جمهور أهل السنة والجماعة تكفّر الجهمية، ردّ الخثعمي بالقول:

(فالجواب أن يقال لهذا الغبي الجاهل: قد ذكر أهل العلم بأن من لم يكفّر المشركين، أو شكَّ في كفرهم فهو كافر، كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نواقض الإسلام العشرة: (الثالث: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم فهو كافر)(32).

ومن الناحية التاريخية، كانت للجهمية باشتقاقاتها الإعتزالية العقلانية حيثية شعبية وازنة ومكانة لدى السلطان، بدليل أن فتاوى الحنبلية بوجوب إعادة الصلاة وراء إمام جهمي: (وقد صرّح الإمام أحمد فيما نقل عنه إبنه عبد الله وغيره أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها، وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين إذا كان لهم شوكة ودولة..)(33).

التكفير للجهمية شمل غيرهم أيضاً: (وبهذا كفّروا من يقول القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وأن الله ليس على العرش..وهم عند كثير من السلف مثل: ابن المبارك، ويوسف بن أسباط، وطائفة من أصحاب أحمد ليسوا من الثلاث وسبعين فرقة التي افترقت عليها الأمة)(34). وانسحب الحكم على من سواهم مثل (الجهال المقلدين لهم من المتكلمين وغيرهم، ممن دخل عليه شيء من كلام الجهمية من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، من طوائف أهل البدع الذين أحسنوا الظن بمن قلدوه، ممن نزع إلى مذهب الجهمية..)(35).

نشير إلى أن هناك من نقد كتاب (إجماع أهل السنة النبوية على تكفير المعطلة الجهمية)، واعتبره مليء بالمجازفات والإطلاقات، وقد اشتغل أبي محمود عماد الدين الفرج على وضع كتاب بهذا الشأن في موقع (جنوب مصر السلفية) الذي يشرف عليه، وقدّم فيه بعضاً مما ورد في الكتاب من مواطن الإنتقاد، (وهي كثيرة) حسب قوله، ولكن اكتفى ببعضها (لدلالتها على غيرها). ومن بين ما ذكره (أن في الدرر ـ للشوكاني ـ إطلاقات لا تنبغي)، ويرى الفرج بأن الجهمية ثلاث فرق: المعتزلة، والصفاتية، والجهمية التي تثبت الأسماء مجازاً ولذلك أشكل على من قال بكفرهم كأعيان بل انتقد القول (أن من لم يكفّر الجهمية بأعيانهم فهو كافر).

مثال آخر، إبن حجر الهيتمي الذي قال الشيخ سليمان بن سمحان في كتابه (البيان المبدي لشناعة القول المجدي)(36) عنه ما نصّه:

(إن هذا الرجل ممن أعمى الله بصيرته، وأضله على علم، وقد انقدحت في قلبه الشبهات، وصادف قلباً خالياً، فهو لا يقبل إلا ما لفقوا من الترهات، وما فاض من غيض ذوي الحسد والحقد والتمويهات، بما لا يجدي عد ذوي العقول السليمة والألباب الزاكية المستقيمة).

وقال أيضاً في كتابه (الصواعق المرسلة الشهابية ص 277)، (وابن حجر المكي ـ عامله الله بعدله ـ من الغالين في الصالحين، ومن الثالبين لأئمة المسلمين.. ومن كانت هذه حاله، وهو أقواله فحقيق أن لا يلتفت إليه). بل تجد في كتب الجنابلة والوهابية أوصافاً ترميه بالضلال والإبتداع والجفاء والتعصب والقبورية والجهل والغلو(37).

وبصورة عامة، فإن الرؤية الكونية للوهابية تقول: إن كل بلد لا يقام فيه أحكام الاسلام تعتبر من وجه بلد كفر، وكل مسلم لا يقدر على إظهار دينه ولا يهاجر فحكمه حكم أهل بلده، أي كفّار (فحكمه حكمهم في الظاهر)(38).

وقد صدر حكم بكفر بلدان بعينها، لأنها مسكونة بطائفة تفعل الكفر. على سبيل المثال:

(إذا كان يعلم أن جهمية دبي وأبي ظبي ونحوهم شر فرقة، وأن الجهمي رديء المذاهب، ويعلم أن من في هذه البلدتين من المسلمين عصاة ظالمون لأنفسهم، ويعلم أن الخوارج من أهل البدع المارقين بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم كلاب النار، وأنهم دانوا بشر المذاهب، وأنهم قد جاءوا بأعظم فرية فما هذا التحامل والتجازف في مسبة من عاداهم وأبغضهم وحذر عن مجالستهم وأغلظ في ذلك..)(39).

وقد حكم علماء الوهابية على (جهمية دبي وأبي ظبي وأباضية أهل الساحل وجهميته) بالكفر (فهؤلاء قد بلغتهم الدعوة، وقامت عليهم الحجة، وقد وقعت المخاصمة والمجادلة بينهم وبين من هناك من طلبة العلم وراسلوا المشايخ..الخ)(40). وقد أفتى الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ والشيخ سيمان بن سمحان الفزعي الخثعمي بما نصّه (لا تصح إمامة من لا يكفّر الجهمية والقبوريين أو يشك في تكفيرهم..)(41).

وسئل الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ عن الكفر في وقت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فأجاب بما نصّه:

(واعلم أن أهل نجد باديتهم وحاضرتهم، قبل دعوة شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، مجدد ما اندرس من معالم الإسلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه، في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، قد اشتدت غربة الإسلام فيما بينهم، واستحكمت، وعمّ الشر وطمّ، وفشا الشرك، وشاع الكفر وذاع، في القرى والأمصار، والبادية والحاضرة، وصارت عبادة الطواغيت والأوثان، ديناً يدينون به...)(42).

الفوزان: التنظير للتكفير

تأصيل التكفير

إتفقت كلمة علماء الوهابية من المؤسس ونزولاً الى المتأخرين بأن الإقرار بالشهادتين لا تنفع وليس مانعاً من التكفير(43). وأن عصمة الدم والمال إنما تتحقق (بوجوب الإتيان بالتوحيد، والتزام أحكامه مع الإنخلاع من الشرك، والبراءة من أهله)(44). ولذلك فإن الحقيقة التي يلزم الإذعان لها (أن عامة الكفّار والمشركين من عهد نوح إلى وقتنا هذا جهلوا وتأوّلوا، وأهل الحلول والإتحاد كابن عربي وابن الفارض والتلمساني وغيرهم من الصوفية تأولوا، وعباد القبور والمشركون الذين هم محل النزاع تأولوا..)(45).

يقول معدّ كتاب (فتاوى الأئمة النجدية):

(لقد ظن فريق من المنافحين، عن المشركين وإسلامهم المزيف: أن رخصة الخطأ، تدرأ حكم الكفر عمّن وقع في الشرك جاهلاً، ولم يدر هؤلاء أن لازم هذا الأمر، الهوي في مستنقع عدم تكفير طوائف من الكفّار والزنادقة، قد أجمعت الأمة على كفرها، وكفر من شك في كفرها، ولم يلتزموه تعذر عليهم أن يقيموا فرقاً بين ما التزموه، وما لم يلتزموه)(46).

ولذلك يقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والقاضي عبد العزيز قاضي الدرعية، ومن حوله من العلماء ما نصّه: (من لم يدخل في دين الإسلام، بل أدركته دعوة الشيخ ـ أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ وهو على كفره، كعبدة الأوثان، فحكمه حكم الكافر الأصلي، لأنا لا نقول: الأصل لإسلامهم، والكفر طارىء عليهم..)(47).

وهو رأي يستظل بآراء لأبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بأن من مات من أهل الشرك قبل بلوغ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب يحكم عليه بحسب ظاهره (أنه مات على الكفر، فلا يدعى له، ولا يضحّى له، ولا يتصدّق عليه)(48). وفي نصّ آخر (من بلغته دعوتنا إلى توحيد الله، والعمل بفرائض الله، وأبى أن يدخل في ذلك، وأقام على الشرك بالله، وترك فرائض الإسلام، فهذا نكفّره ونقاتله، ونشّن عليه الغارة بل بداره..)، بل استدلوا بغارة النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وغزا أهل مكة بلا إنذار ولا دعوة، وأباحوا بذلك الغارة على أهل اليمن وتهامة والحرمين والشام والعراق (ومثل هؤلاء لا تجب دعوتهم قبل القتال)(49).

وفي تكفير المعيّن، ما رواه الشيخ عبد الله عن إجماع العلماء على تكفير بشير المريسي، وهو رجل معيّن، وكذلك الجهم بن صفوان، والجعد بن درهم، وكذلك نصير الدين الطوسي والذي تسبغ عليه المدرسة الوهابية وصفاً ازدرائياً وتسميّه (نصير الشرك) والتلمساني، وابن سبعين، والفارابي، أئمة الملاحدة، وأهل الوحدة، وأبي معشر البلخي، وغيرهم)(50).

ما يجدر الالتفات إليه، أن المفتي السابق، الشيخ عبد العزيز بن باز، يعتبر في نظر الخط الوهابي الأشد تطرفاً، غير ملتزم بالخط الأصلي للوهابية. وقد بان ذلك في تفريقه بين جاهل بلغته الرسالة فأنكرها، وجاهل لم يصله نبأها، فالأول يكفّر والثاني يرجى أمره إلى يوم القيامة فيُمتَحَن، وهذا ما لم يقله الشيخ إبن عبد الوهاب ولا أبناءه وأحفاده من بعده. ولعل هنا لفتة دقيقة، فقد جبل الأبناء والأحفاد على متابعة ما ورثوه عن أبيهم، بخلاف من هم من غير بيته فهم أكثر تحرراً ونقداً. وقد كتب أحدهم سبب الإختلاف مع الشيخ بن باز وقال: (أن عقيدته نظرية لا تطبّق على الواقع). وقد سئل الشيخ بن باز عن تكفير المعيّن، فأجاب: إذا أتى بمكفّر يكفّر، وضرب مثالاً (أن عباد القبور كما يسميهم كفّار، واليهود كفّار والنصارى كفّار ولكن عند القتل يستتابون، فإن تابوا ولا قتلوا)، حجته في ذلك أن القرآن قد بلغهم!

ولكن في جواب للجنة الدائمة للإفتاء كلاماً آخر حول الشهادتين:

(أن الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يسمع به ولم يتمكن من السماع دون تفريط ـ وهذا على فرض وجوده في الكون ـ أنه لا يُحكم عليه بالضلال والشرك وأنه معذور بجهله)، ويقول: (ولايوجد فرق بين جهال اليهود والنصارى وبين مشركي العرب والعجم من المنتسبين للإسلام زوراً وبهتاناً..).

حول طائفتي (الخوارج والمرجئة)، يقول الشيخ عبدالله أبا بطين:

(وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلّت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره، وتعدى بآخرين فكفّروا من حكم الكتاب والسنة والإجماع بأنه مسلم، فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين ومحنته من تينك البليتين!!)(51).

يؤصّل الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء والاستاذ بالمعهد العالي للقضاء بالرياض الى ذلك في كتابه (الإرشاد الى صحيح الإعتقاد، والرد على أهل الشرك والإلحاد)، والكتاب في الأصل (حلقات أذيعت من إذاعة القرآن الكريم في المملكة العربية السعودية)(52). يقول:

(يجب اختيار الكتب الصحيحة السليمة، التي ألفت على مذهب السلف الصالح وأهل السنة والجماعة، والمطابقة للكتاب والسنة، فتقرر على الطلاب، وتستبعد الكتب المخالفة لمنهج السلف، ككتب الأشاعرة والمعتزلة والجهمية وسائر الفرق الضالة عن منهج السلف)(53).

ومن مصاديق الشرك، حسب الفوزان: (ومن هذا طاعة الحكام والرؤساء في تحكيم القوانين الوضعية المخالفة للأحكام الشرعية في تحليل الحرام كإباحة الربا والزنى وشرب الخمر، ومساواة المرأة للرجل في الميراث، وإباحة السفور والاختلاط، أو تحريم الحلال كمنع تعدد الزوجات...وما أشبه ذلك من تغيير أحكام الله، واستبدالها بالقوانين الشيطانية، فمن وافقهم على ذلك ورضي به واستحسنه فهو مشرك كافر والعياذ بالله)(54). وكذلك تقليد الفقهاء باتباع أقوالهم المخالفة للأدلة.

من مظاهر موالاة الكفّار: (الإقامة في بلادهم وعدم الانتقال منها الى بلد المسلمين لأجل الفرار بالدين، لأن الهجرة بهذا المعنى ولهذا الغرض واجبة على المسلم لأن إقامته في بلاد الكفر تدل على موالاة الكافرين، ومن هنا حرّم الله إقامة المسلم بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة)(55). بل حتى سفر السياحة الى بلاد الكفار هو من مظاهر موالاة الكفار(56).

ومن مظاهر موالاة الكفار أيضاً (الاستعانة بهم)، ولكن بعد استقدام القوات الأميركية للدفاع عن آل سعود في حرب الخليج الثانية في أغسطس 1990، وضع هامش تحت هذه العبارة ليسجَّل إستثناء (في غير حال الضرورة)(57). (ومن هذا ما وقع في هذا الزمان من استقدام الكفار الى بلاد المسلمين (بلاد الحرمين الشريفين)، وجعلهم عمالاً وسائقين ومستخدمين ومربين في البيوت، وخلطهم مع العوائل، أو خلطهم مع المسلمين في بلادهم)(58). ما يلفت هنا أن بلاد المسلمين تنطبق فقط على بلاد الحرمين الشريفين!!

وفي كتاب (هل المسلم ملزم باتبّاع مذهب معيّن من المذاهب الأربعة؟!) للمدرس بالمسجد الحرام محمد سلطان المعصومي الخجندي المكي، وهو عبارة عن جواب لسؤال من مسلمي طوكيو وأوساكا في اليابان، رفعوه إليه في شهر المحرم سنة 1357هجرية وهو في الوقت نفسه شبه رد على كتاب (الإجتهاد والمجتهدون) حسب ما جاء في مقدمة الكتاب. يقول:

(وأما اتباع مذهب من هذه المذاهب الأربعة أو غيرها، فليس بواجب ولا مندوب، وليس على المسلم أن يلتزم واحداً منها بعينه، بل من التزم واحداً منها بعينه في كل مسائله فهو متعصب مخطىء مقلد تقليداً أعمى!! وهو ممن فرقوا دينهم وصاروا شيعاً)(59).

بل اعتبر المذاهب من البدع: (وهذه المذاهب أمور مبتدعة حدثت بعد القرون الثلاثة، وهذا لا شك فيه ولا شبهة وكل بدعة تعتقد ديناً وثواباً فهي ضلالة)، وقال بأن:

(بدعة المذاهب نشأ عنها افتراق الكلمة وتضليل البعض البعض حتى أفتوا بعدم جواز اقتداء الحنفي وراء الإمام الشافعي مثلاً، وإن تقوّلوا بأن أهل المذاهب الأربعة هم أهل السنة، ولكن أعمالهم تكذّبهم وتعارض قولهم وتبطله، فحدثت من هذه الباع هذه المقامات الأربع في المسجد الحرام، فتعدّدت الجماعة، وانتظر كل متمذهب جماعة مذهبه!)(60).

وقال في مكان آخر: (ولا شك أن المذهب من البدع في الدين!! وإنما أحدثه الأمراء والسلاطين لمقتضى سياساتهم أو اتباعاً لهواهم، أو حفاظاً لجاههم، أو عصبية لمشايخهم، كما هو معلوم لكل من طالع التواريخ!!)(61). فهل ينسحب ذلك على الوهابية مثلاً التي تعتبر اليوم أبرز مصداق لكلام الشيخ المعصومي؟!

تكفير الأغلبية السكانية في السعودية

تمثّل المواجهة العقدية بين علماء الوهابية والمكوّنات المذهبية الإسلامية الأخرى في المملكة إختباراً جديّاً لإمكانية التعايش بين المعتقدات في هذا البلد، ليس فقط لما تمثّله تلك المكوّنات من رمزية دينية وإجتماعية في مناطقها على وجه الخصوص، وكذلك وسط محيطاتها العقدية الكبرى خارج المملكة عموماً، ولكن لأن الطريقة التي أديرت بها المواجهة تميط اللثام عن طبيعة الخصومة والمديات التي يمكن أن تصل إليها حين توضع الخلافات المذهبية كمحك في العلاقة بين طرفين متباينين، لذلك فإن اختيار التعايش بين المعتقدات في هذا البلد يضع جدارة الدولة ومشروعيتها على المحك الدائم.

الحملة الوهابية التكفيرية ضد المذاهب الأخرى في المملكة تعود الى بداية التحالف السعودي ـ الوهابي في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي. فالدولة السعودية تحكم أغلبية كافرة، من وجهة النظر العقدية الوهابية وتتمثّل في (المالكية والصوفية في الحجاز، والإسماعيلية في الجنوب، والشيعة الإثني عشرية في الشرق).

الوهابية تكفر السيد علوي المالكي

ومن أبرز تلك المواجهات العقدية التي جرت في المملكة تلك التي تعرّض لها العالم الحجازي الراحل السيّد محمد علوي المالكي، الذي نال من التشنيع والتوصيم ما فاق حدود الأخلاق وأدب الإختلاف. فقد كتب الشيخ سفر الحوالي سنة 1412هـ/1991، وهو العام الذي برز فيه التيار الصحوي في السعودية، وبدأ يفصح فيه بصورة سافرة وصادمة عن مواقفه العقدية والسياسية إزاء القوى والأطراف الأخرى. وكان من بين ما صنّفه الحوالي كتابٌ بعنوان (مجدد ملة عمرو بن لحى وداعية الشرك في هذا الزمان) في إشارة الى المفتي الحجازي الراحل السيد محمد علوي المالكي. يقول الحوالي في مقدمة الكتاب: (ظهر منذ أشهر في بلد الله الحرام وغيرها من البلاد كتاب لداعية الشرك في هذا الزمان ومجدد ملة عمرو إبن لحي المدعو (محمد بن علوي المالكي) أسماه “شفاء الفؤاد بزيارة خير العباد” طبعته ونشرته وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات”(62). ثم يقول (وقد تلقّف أهل البدع ومروجو الضلالة ودعاة الشرك والخرافة هذا الكتاب فنشروه على العامة ولبسوا به على الناس، وتحمسوا في نظرهم، للأخذ بالثأر ورد الاعتبار لمؤلفه بعد أن هتك الله ستره وفضح أمره)(63). ويختم بالقول (أظهرت رؤوس الوثنية والشرك والبدعة والضلالة رؤوسها من كل ناحية وتوجّهت سهامهم وسهام من يناصرهم من المنافقين إلى أهل السنة ورموهم عن قوس واحدة..)(64).

وكانت هيئة كبار العلماء في السعودية قد أصدرت بياناً وصفت فيه السيد محمد علوي المالكي بالضال، ونصّ قرارُ الهيئة المرقَّم 86 في 11 ذي القعدة لعام 1401هـ في الدورة السادسة عشرة المنعقدة بالطائف في شوال عام 1400 هـ:

(نظر مجلس هيئة كبار العلماء فيما عرضه سماحة الرئيس العام لادارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد، مما بلغه من أن لمحمد علوي مالكي نشاطاً كبيراً متزايداً في نشر البدع والخرافات، والدعوة الى الضلال والوثنية، وأنه يؤلّف الكتب ويتّصل بالناس، ويقوم بالأسفار من أجل تلك الأمور، واطلع على كتابه الذخائر المحمدية، وكتابه الصلوات المأثورة، وكتابه أدعية وصلوات، كما استمع الى الرسالة الواردة الى سماحة الرئيس العام لادارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد، من مصر، وكان مما تضمنته:

(وقد ظهر في الأيام الأخيرة طريقة صوفية في شكلها لكنها في مضمونها من أضلّ ما عرفناه من الطرق القائمة الآن، وإن كانت ملّة الكفر واحدة.

وقد قامت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء بقراءة كتابيه المذكورين اللذين اعترف أنها له ومن إعداده وتأليفه، وجمع الأمور الشركية والبدعية التي فيها وإعداد ما ينبغي أن يوجّه له، ويطلب منه أن يذيعه بصوته، وبعث له عن طريق معالي الرئيس العام لشئون الحرمين الشريفين بكتاب سماحة الرئيس العام رقم 2788 وتاريخ 12 ذي القعدة سنة 1400هـ، فامتنع عن تنفيذ ما رآه المجلس، وكتب رسالة ضمنها رأيه، ووردت الى سماحة الرئيس العام لادارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد مشفوعةً بكتاب معالي الرئيس العام لشئون الحرمين الشريفين، رقم 2053|19 وتاريخ 26/12/1400هـ.

وجاء في كتاب معاليه أنه اجتمع بالمذكور مرتين، وعرض عليه خطاب سماحة الشيخ عبد العزيز، وما كتبه المشائخ، ولكنه أبدى تمنعاً عما اقترحوه، وأنه حاول اقناعه ولم يقبل، وكتب إجابة عما طلب منه مضمونها التصريح بعدم الموافقة على إعلان توبته).

وفي الدورة السابعة عشرة المنعقدة في شهر رجب عام 1401 هـ، في مدينة الرياض، نظر المجلس في الموضوع وناقش الموقف الذي اتخذه حيال ما طلب منه ورأى أن يحاط ولاة الأمور بحاله والخطوات التي اتخذت لدفع ضرره وكف أذاه عن المسلمين، وأعدّت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء بياناً يشتمل على جملة من الأمور الشركية والبدعية الموجودة في كتابه الذخائر المحمدية.

وفي الدورة الثامنة عشرة للمجلس ـ المنعقدة في شهر شوال عام 1401 هـ ـ أعيدت مناقشة الموضوع بناء على ما بلغ المجلس من (أن شرّه في ازدياد، وأنه لا يزال ينشر بدعه وضلالاته في الداخل والخارج، فرأى أن الفساد المترتب على نشاطه كبير، حيث يتعلق بأصل عقيدة التوحيد التي بعث الله الرسل من أولهم الى آخرهم لدعوة الناس اليها، وإقامة حياتهم على أساسها، وليست أعماله وآراؤه الباطلة في أمور فرعية اجتهادية يسوغ الاختلاف فيها، وأنه يسعى الى عودة الوثنية في هذه البلاد وعبادة القبور والأنبياء، والتعلق على غير الله، ويطعن في دعوة التوحيد ويعمل على نشر الشرك والخرافات، والغلو في القبور، ويقرر هذه الأمور في كتبه ويدعو اليها في مجالسه، ويسافر من أجل الدعوة لها في الخارج).

وللمرء أن يقف على العبارات المفخّمة ذات المضمون التهويلي مثل (أنه يسعى إلى عودة الوثنية في هذه البلاد) وأنه (يسافر من أجل الدعوة لها في الخارج)، فتلك عبارات اعتادت علماء الوهابية على اطلاقها ضد الخصوم، منتهكين ما كانوا قد نفوه عن أنفسهم نظرياً، على الأقل.

أما أتباع المذهب الإسماعيلي، الذين يقطنون منطقة نجران، جنوب المملكة، فقد عانوا طويلاً من سياسات التمييز الرسمية ضدّهم بسبب إنتمائهم المذهبي. وقد صدرت أحكام من قبل علماء الوهابية في المؤسسة الدينية الرسمية بتكفير الإسماعيلية. فقد قال الشيخ صالح اللحيدان، أمام جمهور علني في آب (أغسطس) 2006 أن الإسماعيليين (ظاهرهم مسلم، لكن يبطنون الكفر). ووصفت لجنة فرعية تابعة لهيئة كبار العلماء في السعودية، مهمتها تفسير العقيدة الإسلامية والشعائر، في إبريل/نيسان 2007 الإسماعيليين بأنهم (كفار فساق فجار ملحدون زنادقة). ولم يصدف أن رد أحد من المسؤولين السعوديين على هذه التصريحات أو التبرؤ منها، أو حتى سحبها من التداول، فمازالت سارية المفعول وشائعة.

وحول الشيعة الإثني عشرية، هناك عشرات الفتاوى الصادرة بحقهم بدءاً من مؤسس المذهب الوهابي الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته (الرد على الرافضة)، ومروراً بأبنائه وأحفاده والمتحدّرين من مدرسته وصولاً إلى الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين. وقد جاء في جواب الأخير على سؤال (رقم 43) حول حكم دفع زكاة أموال أهل السنة لفقراء الشيعة، وهل تبرأ ذمة المسلم بتفريق الزكاة إذا دفعها للرافضي (أي الشيعي) الفقير أم لا؟: (لقد ذكر العلماء في مؤلفاتهم في باب أهل الزكاة أنها لا تدفع لكافر ولا لمبتدع، فالرافضة بلا شك كفار..). وقال (من دفع إليهم الزكاة فليخرج بدلها، حيث أعطاها من يستعين بها على الكفر وحرب السنة، ومن وكل في تفريق الزكاة حرم عليه أن يعطي منها رافضياً، فإن فعل لم تبرأ ذمته، وعليه أن يغرم بدلها؛ حيث لم يؤد الأمانة إلى أهلها..)(65). وفي حقيقة الأمر، أن فتاوى علماء الوهابية من الشيخ ابن عبد الوهاب وحتى اليوم تقوم على تكفير الشيعة وتضعهم في مرتبة أدنى من اليهود والنصارى، بل هناك من اعتبر حرب الشيعة أولى من حرب اليهود والنصارى.

تكفير دول وطوائف وأشخاص

لا حدود لبطش التكفير، فقد يسري على دول وطوائف وأشخاص من كل الإنتماءات، وقد يشمل المقرّبين أيضاً، ليس لأن لا قرابة في التكفير، وأن من صدق عليه فعل الكفر يجب تكفيره، ولكن حقيقة الأمر أن سهولة استعمال سلاح التكفير تجعله مشاعاً، دون رادع أو حاجز.

ما يلحظ أن الموقف الشرعي من الدول يتوافق دائماً مع طبيعة موقف الدولة السعودية منها، فإن كانت حليفة أو صديقة، تحظى بحكم البراءة الشرعية، وإن كانت خصماً فإن حكم التكفير لا شك سيطالها. وغالباً ما تصدر الأحكام في وقت تكون فيه العلاقة بين البلدين قد بلغت درجة التأزم أو القطيعة أو دخلت مرحلة حرجة. على سبيل المثال، صدر حكم بتكفير الرئيس الليبي معمر القذافي سنة 1982، وذلك عقب برنامج إذاعي بعنوان (أعداء الله) تعرّض فيه لدور علماء الوهابية في تغطية جرائم آل سعود، وثم تلاه القذافي بخطاب ألقاه في (مؤتمر الشعب العام) في آذار (مارس) 1982، جاء فيه:

(والسعودية إما أن نلتقي فيها مع ثورة أو لا نلتقي.. حتى مكة، الواجب هو تحريرها قبل أن نحج إليها! لأنها تحت العلم الأمريكي والصهيوني، وفوقها الطائرات اليهودية والأمريكية، وهي تحت سيطرت اليهود والنصارى، الطائرات الإسرائيلية تحلّق كل يوم فوق السعودية، والطائرات الأمريكية (أواكس) تحلّق فوق مكة.. والمدينة ومكة الآن جوهما مدنس!! ولو أن هناك إسلاماً حقيقياً لطهرنا وحررنا مكة والمدينة أولاً.. فتحريرهما أولى من الحج إليهما في الوقت الحاضر..والاتجاه الصحيح هو التحريض على الثورة حتى يتحرر البترول العربي من قبضة الرجعية، ومن قبضة أمريكا.. السعودية ببترولها أصبحت خطراً أكثر من إسرائيل وأمريكا على العرب).

كان رد الفعل المتوقع هو أن يأتي دينياً لأن حملة برنامج (أعداء الله) وخطابات القذافي أصابت المشروعية الدينية للنظام السعودي، فانبرت هيئة كبار العلماء للرد بتكفير القذافي نفسه. وصدرت الفتوى بتاريخ 11 جمادى الأولى 1402هـ ووصفت القذافي بأنه (ضال ملحد)، وجاء بالنص: (إن مجلس هيئة كبار العلماء وهو يستنكر تمادي هذا الدعي على الإسلام والمسلمين ليقرر ويؤكد أنه بإنكاره لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفتاءه بالحج واستهانته ببعض التعاليم الإسلامية واتجهاته الآثمة الباطلة يعتبر بذلك كافراً وضالاً مضلاً). ووقّع على البيان ستة عشر عضواً في هيئة كبار العلماء، كان من بينهم المفتي السابق الشيخ بن باز، ورئيس مجلس القضاء الأعلى السابق الشيخ صالح اللحيدان.

في سياق تكفير الدول إنتشر على موقع اليوتيوب تسجيل صوتي للشيخ صالح اللحيدان يصف فيه الدولة السورية بـ (الفاجرة الخبيثة الخطيرة الملحدة)، داعياً (للجهاد) لإسقاط الرئيس السورى بشار الأسد. وقال اللحيدان، فى تسجيل صوتى وضع على موقع (يوتيوب) في 20 نيسان (إبريل) الماضي أن (الرجل هذا نصيري.. وأبوه أخبث منه قبله..). وكما هو واضح، فإن موقف اللحيدان هنا ليس مستنداً على مقارنة بين نماذج حكم، أو دعوة لإقامة نظام ديمقراطي في سورية، بل هو محثوث بنزعة طائفية محض. فقد أسهب في الحديث عن الجذور التاريخية والمذهبية للطائفة النصيرية ونسبها إلى الفاطميين وقال بأن: (النصيرية جزء من الفاطميين الذين تقوضتهم دولتهم فى مصر، حتى مضت قرون..لا يوجد فى مصر من يقال إنه شيعى، إلا فى منتصف القرن الماضى الرابع عشر فتحت إيران مكتباً للتقريب ثم فشل). وتابع (هؤلاء النصيرية فى سوريا، هم من هذه الفرقة، شيخ الإسلام بن تيمية قال: هؤلاء أولى بالجهاد أن نجاهدهم..لما كانت الوحدة التى صارت بين مصر وسوريا فى القرن الماضي، ثم ما صلحت الوحدة بعدها تسلم حزب البعث الخبيث وكان حافظ الأسد من الضباط ثم صار ما صار).

ودعا اللحيدان الشعب السورى لمقاومة النظام السورى حتى لو ذهب ضحايا، مضيفاً:

(أرجو الله أن يوفق السوريين إلى أن يجّدوا ويجتهدوا فى مقاومة هذه الدولة الفاجرة الخبيثة الخطيرة الملحدة، أن يباغته ولو هلك من هلك منهم... يرى في مذهب مالك انه يجوز قتل الثلث ليسعد الثلثان، فلن يقتل من سوريا ثلثها إن شاء الله. نسأل الله إن يعاجل الفاجر بعقوبة ماحقة، وان تتشفى صدور المسلمين هناك..).

ما هو لافت أيضاً ما قاله اللحيدان عن سورية بأنها: (لعهد قريب أقرب شبهاً فى العادات والتقاليد من عادات الجزيرة من حجاب ونحوه). وما يلفت في كلام اللحيدان أيضاً، أنه لم يكتف بتكفير العلويين ويدعو للجهاد لإسقاط النظام، في وقت لم ينبس أحد من أمراء آل سعود بكلمة كونه تدخلاً سافراً ووقحاً في شؤون دول أخرى، بل بشّر بنموذج وهابي يراد فرضه في سورية كيما (تشفى صدور المسلمين..). ولكن ماهو أخطر في كلامه، أنها دعوة صريحة لاقتراف مجازر جماعية، بدعوى إقامة دولية سلفية. ولا ريب، أن ما قاله اللحيدان يمثّل أقصى ما يمكن أن يصل إليه الخطاب الإرهابي في شكله السادي، ومع ذلك لم نسمع أحدٌّ في الشرق أو الغرب من أدان هكذا خطاب يمثّل قمة اللامسؤولية والوحشية في عصر يراد لها زعماً أن يكون متسامحاً، تعايشياً، مسالماً.

إنفلات الخطاب الوهابي التكفيري ظهر أيضاً في في خطبة للمفتي العام للمملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، ورئيس هيئة كبار العلماء حيث شنّ في خطبة الجمعة في 29 نيسان (إبريل) الماضي، في جامع الإمام تركي بن عبد الله وسط الرياض حملة ضد الشيعة واصفاً إياهم بالقول (يا من تظاهروا بالإيمان.. نقول لهؤلاء إعلموا أن ديننا دين حق وهدى..). وأوضح أن أولئك (الذين رفضوا الإسلام..)، في إشارة الى الشيعة، ونبّه إلى أن هؤلاء يسخِّرون إعلامهم (للهجوم على الإسلام وعقيدة المسلمين وهذه الأمة وسلامتها تحت ستار موالاة آل بيت رسول الله وكل هذا كذب..). ولم يعرف حتى اللحظة سبب مباشر لتلك الخطبة الناريّة، سوى التطورات الجارية في المنطقة بعد دخول قوات درع الجزيرة الى البحرين والتوظيف الجماعي للخطاب الطائفي.

ومن غريب أحكام التكفير، ما ورد على لسان الشيخ السلفي فالح بن نافع بن فالح الحربي في شريط (المجروحون) ـ تسجيلات أهل الحديث الجزائر، حيث قال عن الشيخ أبي بكر الجزائري، وهو من المشايخ الوهابية المعروفين، يقول الحربي عنه:

(هذا رجل ما هو معروف لا بعلم ولا بمنهج، وإنما رجل واعظ ومشهور بهذا، ولكنه مايع ضايع لا يفهم الدين، ولا عنده علم، ولا عنده فقه، ولا عنده تأصيل، ولا عنده تقعيد، ولا عنده التزام بمنهج أهل السنَّة والجماعة، ودمَّر - والله حسيبه - عقيدة أهل السنّة والجماعة في تفسيره، حتى كتبـه الأخرى فيها القبورية كما في (قصص المرسلين في كتاب رب العالمين) صفحة إحدى وثلاثين يقول: (إن الله قد أكرم إسماعيل وأمه هاجر بأن دفنا في الحجر المقابل للبيت العتيق)، فالرجل عنده أباطيل، عنده أمور خطيرة جداً.. وعنده أمور خطيرة جداً في التفسير مع الأسف، فينبغي التنّبه إلى خطورة هذا الرجل خصوصا مع شهرته وسمعته).

وحين سئل عن كتبه إن كان يجوز قراءتها، أجاب الحربي: (..فالرجل خطير فيُتجنَّب هذه الأمور التي عنده، فيُنـتبِه إِليهِ ولا يُعتمد على شهرته، عنده أمـور خطيرة)..

وفي الشريط نفسه (المجروحون)، سئل الشيخ الحربي عن الداعية الإسلامي عمرو خالد، فأجاب:

(هذا عمرو خالد، هذا ضايع، ولا مع العير ولا مع النفير، هذا الإنسان له دروس وله محاضرات للنساء وفي كذا..ويتكلَّم في السيرة، يتكلم كذاك المجرم طارق السويدان، وهُمَا من الغربيين الذين درسوا في الغرب وجاءوا ولا علم عندهم، ولا عقول، ولا تأصيل، وذاك إخواني مُحترف، وهذا - الله أعلم - إيش أصله، حلِّيق، إنسان مايع ضايع).

أما الشيخ ناصر الدين الألباني، عالم الحديث الوهابي، فيقول عن علماء الأزهر:

(ويقرّب هذا حديث الدارية وهي راعية غنم، وهو مشهورٌ معروف، وإنما أذكر الشاهد منه، حينما سألها رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أين الله؟ قالت له: في السماء. لو سألت اليوم كبار شيوخ الأزهر ـ مثلاً ـ أين الله لقالوا لك: في كل مكان! بينما الجارية أجابت بأنه في السماء، وأقرّها النبي صلى الله عليه وسلم؟...لأنها أجابت على الفطرة، وكانت تعيش بما يمكن أن نسميه بتعبيرنا العصري بيئة سلفيّة، لم تتلوّث بأي بيئة سيئة)(66).

حين نضع رأي الألباني مع ما جاء في السؤال الأول من الفتوى رقم (5213) من المجلّد الثالث من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، والذي جاء فيه: كيف الرد على القائلين بأن (الله في كل مكان) تعالى عن ذلك وما حكم قائلها؟ فأجابت اللجنة بما يلي:

ج1: أولا: عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه بذاته وليس داخل العالم، بل منفصل وبائن عنه..

ثانياً: من اعتقد أن الله في كل مكان فهو من الحلولية، ويرد عليه بما تقدم من الأدلى على أن الله في جهة العلو وأنه مستوٍ على عرشه بائن من خلقه فإن انقاد لما دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع وإلاّ فهو كافر مرتد عن الإسلام)، يصبح علماء الأزهر وفق هذا الجواب كفّار ومرتدون!

ونقرأ ما يقوله الشيخ الألباني عن المفسّر والداعية الراحل الشيخ محمد متولي الشعراوي كما ورد في شريط (وقفات مع الشعراوي وكشك) للألباني:

(هل سمعت الشعراوي يبين للناس هذه الصلاة التي أمرنا بها في آيات كثيرة كمثل قوله تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين)، نصحك وجزاه الله خير هذا لا يمكن إنكاره لما سألك كيفك أنت في الصلاة؟، بتصلي ما بتصلي؟، إلى آخر ما ذكرت أنت، لكن هل بين لك كيف لك أن تصلي؟

أنا بقولك سلفاً:- لا، ليش، إذا كنت مخطأ فقولي أخطأت، لأني على مثل اليقين أنه هو وكشك وغيره لا يعرفون يصلون، هم بيصلوا لكن لا يعرفون يصلون، ليش، لأن صلاتهم حسب ماقرؤا في مذهبهم، من كان شافعياً يرفع يديه عند الركوع ومن كان حنفياً يقول لا، وهكذا والأمثلة كثيرة وكثيرة جداً، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:- (صلوا كما رأيتموني أصلي) كما أنهم لا يدندنون حول أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام، ليعرف المسلم أن يأتمر بالحديث السابق (صلوا كما رأيتموني أصلي)، لماذا؟، لأنه مشغول في تفسير القرآن وبخاصة العلوم العصرية فهو ليس متفرغاً ليصحح صلاة نفسه على السنة فضلاً على أن يتفرغ لتصحيح صلاة الآخرين).

يقول الألباني عن الشيخ الإمام الشعراوي بأنه (منحرف العقيدة ولا يعلم السنّة)، وأن الشعراوي (لا يؤخذ منه علم. أن العلم شيء والإسلوب شيء آخر). وقال أيضاً (الشعراوي من علماء الأزهر وهم بعيدون كل البعد عن السنة) و(أنه أخطأ في العقيدة)، و(أنه منحرف العقيدة)، وقال عن الراحل الشيخ عبد الحميد كشك بأنه مجرد (حواش وقصاص ولا علم عنده)، و(الذي يضجج ويزعق). وكلها مثبّتة في موقع الألباني الشخصي(67).

وقد قيل ماهو أسوأ من ذلك عن الشيخ يوسف القرضاوي الذي صدّرت بحقه كتب بعناوين صارخة مثل (إسكات الكلب العاوي يوسف بن عبد الله القرضاوي) للشيخ الوهابي مقبل الوادعي، وللألباني كلام مشهور في الشيخ القرضاوي منه (يوسف القرضاوي دراسته أزهرية وليست دراسة منهجية على الكتاب والسنة، وهو يفتى الناس بفتاوى تخالف الشريعة، وله فلسفة خطيرة جداً، إذا جاء شىء محرم فى الشرع يتخلص من التحريم..)(68).

في ضوء العرض السابق، ومازال هناك كلام كثيرٌ عن تراث التكفير في المدرسة الوهابية يلزم دراسته وإخضاعه للفحص كونه يشتمل بمجموعه على أسس الرؤية الكونية التي تستند إليها هذه المدرسة، وكذلك منطلقات التكفير العقدي لدى أنصارها، والتي تحدّد على اساسها طبيعة العلاقة التي تربطها بالآخر، غير الوهابي.


الهوامش

1 ـ الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين النجدي الحنبلي (1194 ـ 1282)، تكفير المعيّن، تقديم وتعليق راشد بن عامر الغفيلي، دار السلف الرياض، ص 13

2 ـ المصدر السابق، ص 14

3 ـ المصدر السابق، ص 18 ـ 19، عن الشوكاني في كتابه السيل الجرار، ج4، ص 578

4 ـ المصدر السابق، ص ص32 ـ 33

5 ـ المصدر السابق، ص 33

6 ـ أبي العلا راشد بن أبي العلا الراشد، ضوابط في تكفير المعيّن..عندي شيخي الاسلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب وعلماء الدعوة الإصلاحية، مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 2006 ص 11

7ـ المصدر السابق، ص 66

8 ـ الإمام الشوكاني، السيل الجرّار، دار الكتب، بيروت، المجلد الرابع، ص 578، عن موقع: www.alshawkany.net

9ـ جمع وتحقيق عبد الرحمن العاصمي النجدي، الدرر السنيّة في الأجوبة النجديّة، الطبعة السابعة، بيروت ـ 2004، الجزء الثاني كتاب التوحيد، ص 9

10 ـ الدرر السنيّة في الأجوبة النجدية، المصدر السابق، الجزء الأول العقائد، ص 63

11 ـ المصدر السابق، ص 66، 67

12 ـ الدرر السنية في الأجوبة النجدية، الجزء التاسع ـ كتاب حكم المرتد، ص 386

13 ـ الدرر السنيّة، الجزء التاسع، ص ص 405-406

14 ـ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كشف الشبهات، دار الثقافة للطباعة، بيروت، ص9

15 ـ مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، الجزء السابع، الرسائل الشخصية، ص 240

16 ـ مؤلفات الشيخ الامام محمد بن عبد الوهاب، الجزء السابع، الرسائل الشخصية، ص 166

17 ـ المصدر السابق، ص 167

18 ـ المصدر السابق، ص 167

19 ـ الرسائل الشخصية، ص 226

20 ـ المصدر السابق، ص 232

21 ـ الرسائل الشخصية، ص ص 217 ـ 217

22 ـ المصدر السابق، ص 220

23 ـ الرسائل الشخصية، مصدر سابق ص 222

24 ـ الدرر السنيّة في الأجوبة النجدية، مصدر سابق، 10/437-433

25 ـ الدرر السنية، الجزء العاشر، ص ص 429 ـ 430

26 ـ المصدر السابق،ج10، ص 430

27 ـ الدرر السنية، مصدر سابق، ج10،، ص 438

28 ـ (إجماع أهل السنة النبويّة على تكفير المعطّلة الجهمية)، جمع وتحقيق وتخريج عبد العزيز بن عبد الله الزير آل حمد، دار العاصمة للنشر والتوزيع الرياض، الطبعة الأولى، 1415هـ، ص 6

29 ـ المصدر السابق، ص 10

30 ـ المصدر السابق، ص 34

31 ـ المصدر السابق، ص 34

32 ـ المصدر السابق، ص 39

33 ـ المصدر السابق، ص 42

34 ـ المصدر السابق، ص 44

35 ـ المصدر السابق، ص ص 47

36 ـ المصدر السابق، ص 67، 68

37 ـ المصدر السابق، ص 84

38 ـ المصدر السابق، ص 95

39 ـ المصدر السابق، ص 101

40 ـ المصدر السابق، ص 113

41 ـ فتتيان تتعلّقان بتكفير الجهمية...وأن الصلاة لا تصح خلف من لا يكفر الجهمية ومسائل أخرى، لكل من الشيخ ابراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ والشيخ سليمان سمحان الفزعي الخثعمي، مضمومة في كتاب (إجماع أهل السنة على تكفير المعطّلة والجهمية..)، ص 162

42 ـ الدرر السنيّة في الأجوبة النجديّة، الجزء العاشر، حكم المرتد، ص 449

43 ـ جمعه وأعدّه، أبو يوسف مدحت بن الحسن آل فرّاج، فتاوى الأئمة النجدية حول قضايا الأمة المصيرية، الطبعة الثانية، 2007، مكتبة الرشد الرياض، الجزء الثالث ص 19

44 ـ المصدر السابق، الجزء الثالث ص 21

45 ـ المصدر السابق، الجزء الثالث ص ص 196 ـ 197

46 ـ المصدر السابق، الجزء الثالث، ص 205

47ـ المصدر السابق، الجزء الثالث، ص 227

48ـ المصدر السابق، الجزء الثالث، ص 228

49 ـ المصدر السابق، الجزء الثالث ص 228

50 ـ المصدر السابق، الجزء الثالث، ص 248

51 ـ فتاوى الأئمة النجدية، مصدر سابق، الجزء الثالث، ص 335 ـ 336

42 ـ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان، الإرشاد إلى صحيح الإعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد، ص 3

53 ـ المصدر السابق، ص 10

54 ـ المصدر السابق، ص 82

55 ـ المصدر السابق، ص 316

56 ـ المصدر السابق، ص ص 317

57 ـ المصدر السابق، ص 317

58 ـ المصدر السابق، ص 318

59 ـ المصدر، جمعية إحياء التراث الإسلامي، ص 7

60 ـ المصدر، ص 10

61 ـ المصدر، ص 38

62 ـ سفر الحوالي، مجدد ملة عمرو بن لحى وداعية الشرك في هذا الزمان، دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع ـ إسكندرية، توزيع دار القدس صنعاء اليمن، الطبعة الأولى 2000، ص 5

63 ـ المصدر السابق، ص 6

64 ـ المصدر السابق، ص 42

65ـ أنظر الموقع الرسمي للشيخ إبن جبرين، وبخصوص فتوى دفع الزكاة أنظر الرابط التالي:

http://ibn-jebreen.com/book.php?cat=6&book=67&page=3585

66ـ سلسلة قضايا عقدية، (التوحيد أولاً..يادعاة الإسلام)، العلامة محمد بن ناصر الألباني، دار الفضيلة للنشر والتوزيع، دار الهدي النبوي، الطبعة الأولى 1420هـ، ص 22

67 ـ أنظر: www.alalbany.net

انظر في الموقع نفسه: سلسلة (الهدى والنور)، شريط رقم 206، فتاوي الشعراوي تحت مسأله رقم 13، 14،15، وشريط رقم: 312، وفي موسوعه الفتاوي المسأله رقم 6، وشريط رقم 195، والمسأله في البحث في فتاوي الألباني مسأله رقم 5، وسلسلة (الهدى ولنور) ـ شريطرقم 34

68 ـ الأجوبة الألبانية على الأسئلة الأسترالية: الشريط الأول

الصفحة السابقة