الوهابية والعلاقة مع الغرب

فريد أيهم

إنشغل عدد من الباحثين في العقود الماضية على اقتفاء جذور الحركات السياسية في بلاد المشرق العربي وشمال أفريقيا وشبه القارة الهندية بالقوى الإستعمارية الغربية. وعكف كثير من الدارسين على اقتفاء الروابط الخفيّة بين الوهابية السعودية والقوى الإستعمارية الغربية منذ المرحلة المبكّرة لنشأة المذهب.

تنبّه الغرب الإستعماري، والبريطاني على وجه الخصوص، الى القوة الوهابية الصاعدة وسط الجزيرة العربية، من خلال كتابات الرحّالة أولاً ثم الجواسيس ثانياً، ثم من خلال الإتصال المباشر بهم في مرحلة لاحقة حيث جرى تثمير الوهابية السعودية في المواجهة الكبرى بين القوى الاستعمارية الغربية والدولة العثمانية، ثم في قمع حركة الاستقلال العربي التي تمثّلت في قيادة الشريف حسين والجيش العربي في الحجاز، والذي قضى على الثورة العربية الكبرى وحلم قيام الدولة العربية الموحّدة، حين رجحت كفة إبن سعود لدى الانجليز بعد أن وجدت فيه الحليف القادم في مقابل الشريف حسين أولاً، وفي مقابل مشاريع الاستقلال في المشرق العربي ثانياً.

من الملاحظات الهامة التي لم تحظَ بقدر جاد من الإهتمام أن الأدبيات الوهابية تكاد تخلو من أي موقف حيال القضايا العربية والإسلامية منذ ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحتى قيام الدولة السعودية في 1932. فقد جرت أحداث كبرى في المشرق العربي كانت جديرة بأن تحرّك العاطفة الدينية لدى الوهابية، كما حرّكت عواصم دينية في العالم الاسلامية بما فيها الأزهر والزيتونة والآستانة والنجف، فكانت البيانات تصدر تباعاً حول احتلال بعض الدول العربية من قبل قوى استعمارية، وتحرّض الشعوب على الإنضمام الى صفوف المطالبين بخروج المستعمر من بلاد المسلمين.

إذا أمكن اعتماد عام 1744، حيث بداية تاريخ التحالف السعودي الوهابي، إنطلاقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في النشاط السياسي العلني، فإنه منذاك وحتى قيام الدولة السعودية سنة 1932 لم يصدر بيان عن الشيخ ابن عبد الوهاب أو من أبنائه وأحفاده، أو بيانات جماعية صادرة عن علماء وهابيين حول قضايا تتعلق بالمسلمين المصيرية، أو ذات صلة بالقوى الاستعمارية. فقد كانت القوى الاستعمارية الهولندية والبرتغالية ثم الانجليزية والفرنسية تعيث فساداً في الشرق الإسلامي، ولم نقرأ بياناً واحداً أو انتقاداً ولو بصورة عابرة لممارسات الاستعمار بصورة عامة في أي من كتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت 1791هـ).

في عام 1798 إنطلقت الجيوش الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت باتجاه مصر بهدف تحويلها الى قاعدة استراتيجية للإمبراطورية الفرنسية في الشرق، ولم نقرأ في أي من كتابات أبناء أو أحفاد الشيخ إبن عبد الوهاب من تعرّض بنقد الحملة الفرنسية على مصر، أو دعوة المسلمين لمناصرة الشعب المصري في جهاده ضد المستعمر.

وباستعراض عاجل للإستعمار الإنجليزي في المشرق الإسلامي والخليج نجد كيف كان التجاهل غير المفهوم من قبل علماء الوهابية. فقد احتلت بريطانيا إمارات الضفة الغربية من الخليج تحت عنوان معاهدات الحماية، فكانت البحرين وقطر والكويت وصولاً الى الساحل العماني خاضعة للنفوذ البريطاني؛ وفي سنة 1820 كان الجانب الغربي من الخليج بريطانياً، ولم نعثر على بيان احتجاج من أي من علماء الوهابية على ذلك.

وحتى حين جرت أول محاولة لاحتلال بريطانيا لمصر عام 1807، لم يصدر ما يفيد باعتراض علماء الوهابية، بل إن الاحتلال الإنجليزي لمصر عقب اندلاع الثورة العرابية سنة 1882 والذي دام حتى سنة 1923 لم نجد موقفاً لعلماء الوهابية من احتلال أرض الكنانة، وكذا الحال بالنسبة للسودان أو الصومال، أو العراق التي يتباكى عليها السلفيون الوهابيون اليوم لأنها أصبحت تحت حكم الأغلبية الشيعية، فلم يصدر بيان واحد ولو عن طريق الخطأ حين دخلت القوات الإنجليزية البصرة سنة 1914، وتوالت عمليات احتلال المدن العراقية الواحدة تلو الأخرى بدءاً من البصرة عام 1914، ومروراً بالكوت سنة 1916، فبغداد 1917، والموصل سنة 1918، وبقيت بريطانيا تحكم العراق تحت الإنتداب. وحين وقعت ثورة العشرين ضد الإنجليز سنة 1920 لم يصدر بيان مناصرة من علماء الوهابية لثورة الشعب العراقي.

وبمناسبة الثورة الليبية التي يحاول الوهابيون إظهار أنهم من أشد المناصرين لها والمدافعين عن حقوق الشعب الليبي، نذكّرهم بالإحتلال الإيطالي لليبيا في أكتوبر 1911، حيث صدرت البيانات المندّدة بالغزو الايطالي والمطالبة بالجهاد ضد المستعمر دفاعاً عن بيضة الإسلام، ولم نقرأ بياناً من علماء الوهابية يندّد بالغزو الإيطالي، أو يفتي بحرمة تمكين غير المسلم من بلاد المسلمين.

ولنا في قضية فلسطين وقفة مرارة، فقد جرت ويلات على فلسطين الأرض والشعب والمقدّسات ولم يصدر ما ينبىء عن حميّة وهابية على الإسلام أو المسلمين، فقد قامت بريطانيا باحتلال فلسطين ودخلت غزّة عبر مصر بعد قتال مع القوات العثمانية (التي لم يناصرها الوهابيون لا في السلم ولا في الحرب بل اعتبروها جزءً من دولة يعتبرونها كافرة مبتدعة وهي الدولة العثمانية)، ثم احتلوا بئر السبع ويافا وفي عام 1917، دخلوا القدس، وهو العام نفسه الذي أطلق وزير الخارجية البريطانية بلفور وعده بإقامة وطن قومي لليهود، وثم أعلن الانتداب البريطاني رسمياً على فلسطين في مايو 1921، واستمر حتى قيام الدولة اليهودية سنة 1948. وقد جرت أحداث كثيرة خلال تلك الفترة من بينها ثورة 1936 والتي استمرت ثلاث سنوات متتالية، ولم يظهر ما يفيد بأن علماء الوهابية تصدّوا لمثل تلك الأحداث المأساوية الكبرى، بل إن ما قام به الملك سعود (ولي العهد حينها/ اي عام 1933) في زيارته الى فلسطين كان بهدف القضاء على الثورة، حتى خاطبه الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود:

يا ذا الأمير أمام عينك شاعرٌ/ ضمّت على الشكوى المريرة أضلُعهْ

المسجد الأقصى أجئت تزورهُ؟/ أم جئت من قبل الضياع تودّعه؟

وما جرى على فلسطين من قبل الإنجليز جرى شبيهاً له في شرق الأردن التي كانت من نصيبهم بموجب مؤتمر سان ريمو عام 1920، فأصبحت الأردن تحت الانتداب البريطاني سنة 1923، وكذا يقال عن المغرب التي لا يزال جزء منها ضمن السيادة الأسبانية في سبتة ومليلة.

أما الاستعمار الفرنسي الذي تشكّل الجزائر عنوانه الأبرز لبشاعة صوره وبسالة صورة المقاومة ضده، فقد سقطت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي منذ العام 1830 لغاية 1962، ولم يتذكّر الوهابيون علماء أو أمراء هذه المنطقة العزيزة التي تغنّى شعراء العرب ومناضلوهم وعلماؤهم ببطولة الشعب وثورته وتعلّم منها دروساً في الكفاح. وبعد احتلال الجزائر تسهّلت مهمة الإستعمار الفرنسي في تونس التي أجبرت الباي على توقع معاهدة باردو سنة 1881 ومن ثم معاهدة المرسى ولم تنل تونس إستقلالها الا سنة 1956، وهو نفس العام الذي حصلت فيه المغرب ايضاً على استقلالها.

دول عربية أخرى مثل جيبوتي وسوريا ولبنان خضعت للنفوذ الفرنسي أو الاحتلال عبر الانتداب، ولكن حين نطالع بيانات علماء الوهابية في نجد وكتبهم لا نجد موقفاً واحداً لافتاً كالذي نجده يفيض حماسة وتحريضاً على الثورة ضد الدول التي تعتبر خصوماً على خلفية طائفية كما في سوريا أو العراق أو لبنان أو البحرين ولكن بصورة مناقضة.

من يراجع الأدبيات السياسية الوهابية لا يعثر على مواقف لاهبة كالتي برزت في العقود الثلاثة الأخيرة، كما في قضية أفغانستان، أو الشيشان أو باكستان وكشمير وحتى فلسطين وسوريّة، فهي قضايا طارئة فرضها الصراع الدولي، ولأن السعودية كانت ولا تزال جزءً من لعبة الكبار خلال الحرب الباردة، فإن من الطبيعي أن تشجّع حلفائها في الداخل على الإنخراط في موضوعات الغرب، ولكن ضمن حدود رسمتها لهم. وإلا مالذي دفع علماء الوهابية وعلى نحو عاجل الى تشجيع الشباب على الهجرة والجهاد في أفغانستان، وكفلت لهم الغطاء الديني والمالي والسياسي والأمني، ولماذا لم نجد هذا النفير في موضوعات أشد خطورة وأهمية في فلسطين مثلاً؟!.

الوهابية عدو للثورات. صمتت دهراً ونطقت كفراً!

غابت كل القضايا المصيرية المطروحة إبان الفترة الاستعمارية عن سمع ونظر الوهابيين، وكل ما يقال عن مواقف تاريخية جاءت متأخرة، وأن إمعان النظر في المتأخر منها نجده متخاذلاً في جوهره، كالمواقف المتحوّلة لدى الشيخ بن باز أو من جاء بعده مثل الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، وهي مواقف تنطوي على تبريرات متسامحة في الصلح مع الكيان الاسرائيلي، الأمر الذي يضعها في سياق مبادرة الاستسلام التي قدّمها الملك عبد الله في مارس 2002، فكانت أسوأ من مبادرة الملك فهد في فاس العام 1981، أو تحريم التظاهر من أجل أهالي غزة في العدوان الاسرائيلي في ديسمبر 2008 ـ يناير 2009.

بعد هذا الإستعراض المقتضب نقترب من الصورة التي حاول محمد طعيمة أن يرسمها عن الوهابية وتاريخ التبعية للغرب، حيث ينطلق من الرؤية المحقونة بالزهو والتباهي لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل الذي قال بأن (العرب مدينون لبريطانيا، وحدها، بوجودهم كدول. نحن من خلقها). مع أن هذا القول فيه مغالطات كبيرة للغاية كون بريطانيا كانت مسؤولة عن خلق دولتين وجدا من العدم وهما الدولة العبرية والدولة السعودية، إضافة الى الدولة الأردنية. أما بقية الدول فهي عريقة كبلدان ثابتة على خرائط الدول. لكن أشهر رؤساء وزراء الإمبراطورية، التي لم تكن تغرب عنها الشمس، كان محقاً نسبياً في ما يتعلق بعرب الخليج.

يقول طعيمة، في ذاكرة تشرشل، ومن سبقوه في رسم (خرائطنا)، لعبة شعبية بريطانية يتقاتل فيها (الأسقف) و(الشيخ/رجل الدين) محمد علي، مؤسس مصر المدنية الحديثة، الذي لم يكن شيخاً بالطبع، لكنّه اللعب بالدين.

في كتابه (الإفريقية الآسيوية)، الصادر في 1956، يُثمن المفكر الجزائري الإسلامي مالك بن نبي (تفادي ثورة يوليو المصرية ما أراد الغرب أن يسجن فيه العالم الإسلامي، باستدراجه للتركيز على قضايا جانبية وإدارة الظهر للقضايا الأساسية وللتوجهات الكبرى، ليعطّل أو حتى يوقف تطور المسلمين). كانت دولة عبدالناصر نموذجاً متطوراً نسبياً لتجربة محمد علي.

ويلفت طعيمة الى أن نموذج محمد علي بقي (عفريتاً) يخشى الغرب تكراره، عبر بناء دولة مدنية قادرة على حماية ثروات شعوبها، فكان (الإستدراج) هو الوجه الثاني لـ (تديين) صراعه مع الشرق العربي. وهو، وإن حافظ على (صليبية) خطابه المحلي في صراعه مع العرب، حتى في لعب الأطفال، طوّر توظيفه للدين عربياً ليحوّله إلى (سوس داخلي) ينخر أية فرص لتقدم العرب/المسلمين. من أجل ذلك، كما يخلص طعيمة في قراءته لتجربة الاستعمار في لعبة التديين، إستحضر عدواً تاريخياً لمدنية محمد علي، أي تحالف آل سعود والوهابيين، الذين قضى والي مصر على دولتهم الأولى، وأذلّهم إبنه إبراهيم باشا بإجبارهم على سماع الموسيقى!

كانت الوهابية هي (السوس) التي رأى (خالق الخرائط) أنّها ستستدرج الشرق العربي إلى نمط فكري ديني، يُلهي شعوبه عن أي تقدم.

قبل الربيع العربي، ومنذ عقود، يعايرنا الغرب بـ (واحة الديموقراطية الوحيدة) في المنطقة، إسرائيل. وقبل سنوات، دشّن حملة ابتزاز لنظم حكمنا، شعارها الدمقرطة، بالتزامن مع حربه ضد (الإرهاب الإسلامي). قد يرد بعضنا على الغرب بأنّ إرهاب (القاعدة) صُنع في مطابخ استخباراته تحت شعار الجهاد ضد الشيوعية. وقتها كان المسؤولان عن الملف إقليمياً هما نائب رئيس مصر حسني مبارك، وولي عهد المملكة العربية السعودية عبدالله آل سعود. لكن الرعاية الغربية لـ(سوس) الإسلام أقدم تاريخياً من القاعدة.

ويمضي طعيمة في قراءة نقدية للعلاقة المجذومة بين الوهابية والاستعمار الغربي، ويضيء على نقاط التناقض بينهما، ويقول بأن من (أشيك) شعارات الدمقرطة الغربية هي (تمكين المرأة). يقول طعيمة (نحن العرب لدينا إمرأة عربية هي فاطمة الزامل السبهان القويعي، التي كانت «مُمَكنة» فعلاً قبل مائة عام، في قلب البادية، وقبل أن تمنح دول أوروبية عديدة حق التصويت لنسائها. حكمت فاطمة إمارة حائل في 1911، كوصيّة على حفيدها سعود الرشيد، الذي كان طفلاً حين قتل الأمير سعود الحمود الرشيد، تاسع حكام الإمارة في 1908. كان الطفل منفياً لدى أخواله، لكن «نظام» توارث العرش حماه، ليُستدعى ويتولى الحكم تحت وصاية خاله، ثم جده. وبعد وفاتهما بالتوالي، إختار شيوخ الإمارة جدته فاطمة وصية وحاكمة. كانت مثقفة وذات وعي سياسي متطور، ملأت الخزانة ودعمت الأمن الداخلي والعلاقات الخارجية، وتميزت كـ «قائدة للجيش النظامي ومُطورة لخطط تسليحه». أثناء وصايتها الرسمية، لم تخض أي حرب، فآل سعود، العدو الأول لحائل، وقّعوا إتفاقية ترسيم الحدود مع الإمارة في 1907، لكن سياسة فاطمة مهّدت لأكبر إنتصار لحائل على آل سعود، في صراعهما الذي يعود للقرن الثامن عشر. هكذا، بعد سنة واحدة من تسليمها الحكم نظرياً لحفيدها وعمره 15 عاماً، كانت تُلحق بالسعوديين هزيمة افتقدوها منذ 1902، عُرفت بـ (معركة جراب)، لتسترد إمارة الجوف وتوابعها. قالت المندوبة السامية البريطانية غرترود بيل بأنّه (لا أحد يكره الوهابيين والسعوديين كما فاطمة السبهان). حين قُتل الحفيد، بعد وفاة الجدة، ترك ضمن زوجاته الأميرة الفهدة، ليتزوجها في ما بعد عبد العزيز، مؤسس دولة آل سعود الثالثة، وتنجب له عبدالله، الملك الحالي، والأميرتين صيته ونوف.

كانت لإمارة حائل عاصمة ولغة وديانة رسمية، ودستور عُرفي يصف نظام حكمها بالملكي وينظم توارثه. بعد إرهاصات إمتدّت لأكثر من قرن، تأسّست رسمياً في 1834، على يد عبدالله وأخيه عبيد العلي الرشيد. وفي عصرها الذهبي 1873 ــ 1897، لم يخف حاكمها محمد العبدالله الرشيد إعجابه بتجربة محمد علي.

لا نتحدث عن كيان عابر، بل عن دولة توسعت لتضم بين 1850 و1902، المناطق ما بين جنوب دمشق وشمال نجران قرب اليمن، وما بين حدود الحجاز حتى نجد. إنتهت إمارة حائل في 1920 على مذبح (الإخوان)، الاسم الرسمي لعصابات آل سعود المُقاتلة، التي تزخر الوثائق البريطانية بقصص وحشيتها ضد مُخالفي مشروعها الديني، الوهابية، الذي تتزاحم في خطابه، ظاهرياً، شعارات عداء الغرب وديانته. كانت لندن مموّل (إخوان) آل سعود ومصدر تسليحهم.

في 1927، حلّ بن سعود عصابات الإخوان وذبح قادتها. خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين، تنافست ثلاثة مشاريع على حكم جزيرة العرب العائمة على النفط: آل رشيد/حائل، آل سعود/نجد، الهاشميون/الحجاز. وحدها العائلة السعودية كانت الأوثق ارتباطاً بالغرب، ومن عاصمته المركزية حينئذ، لندن، تأتي عطايا وأسلحة شيوخها. والعائلات كلّها ترد شرعيتها لشعارات دينية، الفارق الوحيد بينها في (مفهوم) الإسلام الذي تريد السيطرة به.

إختفت دولة آل الرشيد، وتمّ تعويض الهاشميين بـ(اختلاق) إمارة شرق الأردن كـ(كيان وظيفي)..إنحاز الغرب لبقاء وتوسع المشروع السعودي الوهابي، الأكثر عداوة لثقافته، لكنّه عملياً يستدرج المسلمين نحو مزيد من التخلف. إنحاز، خالق الخرائط، لدولة يُلهينا خطابها الديني بعداء (الغرب الصليبي)، بينما سياستها تصب في خزانة الغرب الناهب.

الوهابية وربيع العرب

لم يلتزم علماء الوهابية الصمت حيال ما جرى في تونس بل سارعوا لإدانتها وضرورة إطاعة ولي الأمر بن علي، خاصة وأن التظاهرات تسبب الفوضى والفتنة وتخدم الشيطان! ولمّا اندلعت المظاهرات في مصر عارضها علماء الوهابية والمفتي العام واعتبروها مدخلاً للفتنة، والفوضى، وتخريب المصالح وتعطيلها، وحين انتصرت ثورة الشعب المصري بطريقة لم تؤدِ الى ما ذكره العلماء لم يبارك العلماء للشعب المصري خلاصه من طاغوت أو حتى يعزّيه في شهدائه، بل ما لحظنا هو خروج الجماعات السلفية الوهابية من أوكارها في مصر لتنخرط في الثورة بعد نجاحها لجهة حصاد الثمار ومقاسمة الشعب المصري الثائر مكاسب الثورة. فإذا كان علماء الوهابية لا يؤمنون بالثورة ويعتبرونها عملاً غير صالح، لماذا أجازوا لأنصارهم في مصر بركوب موجة الثورة، وصاروا يرفعوا شعاراتها بعد تحريفها مثل (الشعب يريد تحكيم الشريعة) وأمثالها، أليست تلك انتهازية فاضحة؟

في ليبيا، التي حتى وقت قريب كان بعض مشايخ الصحوة مثل الشيخ سلمان العودة والشيخ عايض القرني يزورونها ويقبلون أعتاب حكامها، بدعوة من نظام معمر القذافي وأبنائه، ويدخلون في وساطة بين النظام والجماعة الليبية المقاتلة وهي جماعة سلفية تحمل فكر الوهابية، وبمجرد أن اندلعت الإحتجاجات الشعبية فيها حتى بدأت عملية (لي الألسن)، في محاولة لتصوير أن ما كان يجري في الماضي ليس سوى جزء من (النضال) ضد العقيد القذافي الكافر (بحسب فتوى ناصر العمر)!

لا نسمع من علماء الوهابية من يتحدث عن الثورة الشعبية في اليمن أو الثورة الشعبية في البحرين، وهما ثورتان سلميتان وللغالبية الشعبية في البلدين مطالب مشروعة ومحقّة يعبّرون عنها بطريقة سلمية وحضارية. ما يلفت أن الموقف الوهابي متطابق تماماً مع الموقف الأميركي والغربي حيال ثورتي اليمن والبحرين، حيث لا يعتبرهما الأميركيون جزءً من ربيع العرب، ولذلك يسقط المسؤولون الأميركيون ثورتي اليمن والبحرين من أحاديثهم وتصريحاتهم عن ربيع العرب.

وما يتطابق في تصريحات الوهابية والغرب هو التأييد المطلق للثورة في سورية، وهي ثورة تستحق التأييد على كل حال، ولكن ليس على سبيل الإبتزاز والإنتهازية، وإنما من أجل عيون الشعب السوري وحده وليس من أجل عيون الغرب أو مصالح فئوية وطائفية، لأن الشعب السوري، شأن الشعوب العربية الأخرى يستحق الحرية والديمقراطية ونظام عادل، ولكن هذا التأييد الوهابي النادر جداً للثورة السورية دون باقي الثورات العربية يثير شبهة كبيرة، فهو الذي يمانع حد التحريم خروج التظاهرات المؤيّدة لسكان قطاع غزّة المظلومة والباسلة إبان العدوان الاسرائيلي في العام 2008 ـ2009، مالذي يدفع به للتحريض على قتل ثلث السكان في سورية من أجل أن ينعم الثلثان، كما قال صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى السعودي السابق. ففي أي دين لله عزّ وجل أحلّ هذا السفك السفيه والمفرط للدماء، فيما شنّت كل حملات التهويل الممكنة في الداخل السعودي من أجل منع التظاهر، حتى تحوّلت الى مثابة (الخروج عن الملّة)، و(خيانة الوطن)، و(الضلال المبين عن دين سيد المرسلين)، فبأي حديث عن الثورات تؤمنون، وأنتم في غيّ الغرب سادرون؟

الصفحة السابقة