مأزق العقل الأمني الاعلامي

بلاهة التهويل في زمن الوعي

خالد شبكشي

يقال دائماً بأن الصراخ على قدر الألم، وفي الحالة السعودية يضاف إليه الفشل، واليأس، والإحباط..والتهتّك أيضاً..

هذا هو حال أقوى مؤسستين في مملكة آل سعود هذه الأيام، وهما الأمن والإعلام..فمن يراقب طريقة أداء هاتين المؤسستين يشعر وكأن الدولة فقدت توازنها، وباتت تتصرّف بحالة غريزية، وعلى أساس رد الفعل اليومي، دون حساب لأي تداعيات مستقبلية أو تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على صورة الدولة والجانب المعنوي والأخلاقي التي تحكم به..

منذ بدء الربيع العربي في أواخر العام الماضي (2010)، دخلت مملكة آل سعود مرحلة استنفار أمني وإعلامي غير مسبوق، في محاولة لتطويق أية انعكاسات للثورات العربية على الداخل. وكان الهلع الذي أصاب صانعي القرار السعودي قد دفع بهم للانتقال بالدولة الى أوضاع استثنائية دون قصد أحياناً، ولربما لسوء تقدير العواقب، وأيضاً في محاولة للهرب من استحقاقات عاجلة وآجلة. كان الاعتقاد السائد والنمطي لدى آل سعود بأن مجرد الاعلان عن تقديمات إجتماعية سيفضي الى امتصاص الإحتجاجات الكامنة والمعلنة في أرجاء هذا البلد.. حقيقة الأمر، أن عطالة العقل السياسي الذي يدير دفّة الأمور في الدولة هي المسؤول الأول عن كل ما يجري وسيجري من اتّساع لنطاق الإحتجاجات الشعبية.

لم يجد صنّاع القرار من الملك والصف الأول من الأمراء أنفسهم معنيين بالتفكير في ما يجب فعله بالنسبة لواقع سياسي يتحوّل بوتيرة متسارعة، ولابد من تطوير آليات التعامل مع المطالب الشعبية بغير النهج القديم، الذي يرى بأن المال أو الحاجات المادية المباشرة وحدها الكفيلة بإنهاء المشكلة. وهذه واحدة من مشكلات الدولة الكبرى..

لا تقتصر أزمة الدولة على صنّاع القرار فيها، بل حتى على جحفل مثقّفيها، وكتّابها، وإعلاّمييها، الذين ذهلوا بسبب الانصراف عن مواكبة التحوّلات السياسية والاجتماعية العميقة والانشغال بجمع (الشرهات) بأن وجدوا أنفسهم يفكّرون ويتصرّفون بنفس طريقة (ساداتهم)، ولذلك لجأوا الى نفس الأدوات التي لم تعد تحقق الغايات المرجّوة..

يكفي للتدليل على ذلك، أن إمبراطورية إعلامية تسيطر على مايقرب من نصف الاعلام العربي تجد نفسها اليوم عاجزة عن إقناع مواطنيها بجدوى خطابها، بل وبكل ما يصدر عنها من قرارات..في حقيقة الأمر، أن الإمبراطورية الإعلامية السعودية تفقد في بعدها السياسي كل مفعول داخلي، وينظر الناس اليها باعتبارها أداة تكريس الاستبداد والفساد، بمعنى آخر أنها خادمة للسلطة وليست للشعب. أكثر من ذلك، لم يعد ينظر الناس للاعلام السعودي على أنه من وسائل المعرفة والإتصال الجماهيري، فقد عثروا على مصادرهم الخاصة، بل صنعوها بأنفسهم، وهذا سر التباين الحاد بين الحكومة والشعب والذي سيزداد بمرور الوقت كلما انحاز إعلامها الى السلطة وضد الشعب.

من جهة ثانية، أن المؤسسة الأمنية هي الأخرى فقدت قدرتها على التخويف. فإذا كان الاعلام معنياً بصنع وترويج ثقافة الخوف وقد فشل في تحقيق هذا الهدف، فإن الجهاز الأمني، وسيلة التخويف الأقوى لم يعد كذلك، فالناس لا تستجيب بعد اليوم لمنطق العصا الذي اعتقد الأمير نايف وعصابته بأن ليس هناك سوى السيف جواباً لمن يطالب بحقوقه أو يخرج على الدولة..لقد خرج الناس وسقط منطق السيف.

في رد فعل على الحراك الشعبي الإصلاحي، تتمسّك الحكومة اليوم بنهج يقوم على:

ـ التهويل الأمني

ـ التجييش الطائفي

بالنسبة للتهويل الأمني، فإن بيانات وتصريحات رجال وزارة الداخلية والعاملين معها في الصحف المحلية يلوذون بمنطق التخوين، واستعمال عبارات ذات طابع ترويعي، من قبيل التخابر مع دولة أجنبية، أو تنظيم مرتبط بالخارج، أو العمالة لدولة أخرى معادية، وهو ما تردد بعبارات وألفاظ مختلفة ولكن هذا التهويل الأمني لم يعد يخيف أحداً، رغم أنه صدر ويصدر من مقامات دينية وسياسية وكتّاب وإعلاميين ويردد عشرات المرّات في مقالات، ومقابلات، وتصريحات، وبيانات..مشكلة النظام وزمره الإعلامية/الأمنية عدم مواكبة التحوّل الداخلي، أو أنها لا تريدون الإقرار بأن ثمة تحوّلاً عميقاً قد جرى في الخارج والداخل، وأن طريقة التخاطب مع هذا التحوّل لا تتم باعتماد ذات الأساليب الأمنية التي تحطّمت في ظل الربيع العربي..

بيانات الداخلية حول حوادث القطيف كانت تدور حول توجيه أصابع الإتّهام للخارج ـ وتحديداً لإيران، بأنها من يقف وراء الاحتجاجات فيما قد لا يتقن المشاركون في الحراك الشعبي في تلك المنطقة كلمة فارسية واحدة، وأنهم إنما خرجوا في تفاعل مع أجواء الربيع العربي. منطق الداخلية هو المنطق الذي سخرت منه شعوب تونس ومصر واليمن وسوريا والبحرين من وجود عامل خارجي، لربما نسي رجال الداخلية أن يذكروا في كتاباتهم الطرفة البائسة أن المحتّجين كانوا يتلقون وجبات (كباب إيراني) على غرار وجبات (كنتاكي) التي كانت توزّع على شباب ميدان التحرير بالقاهرة..

منطق الأمن كان مثيراً للشفقة، ولذلك فإن تصريحات المفتي العام ذات المغازي الأمنية لم تؤخذ على محمل الجد، بل هناك من اعتبرها صادرة من مكتب وزير الداخلية، لأن ليس من واجبات المفتي توجيه إتهامات بوجود روابط خارجية للمحتّجين، فهذا يتطلب تحقيقاً دقيقاً تقوم به أجهزة أمنية. والحال أن المشاركة في التهويل الأمني باتت مسوؤلية رجل الداخلية، ورجل الدين، ورجل الإعلام، ولربما موظف البلدية أيضاً..

الحميد: كاتب وإعلام مأزوم

على مستوى التجييش الطائفي، إن أول ما جرى تحضيره للرد على الاحتجاجات في المنطقة الشرقية كان إعادة استخدام الخطاب الطائفي، وهو الركن الآخر في خطاب المملكة السعودية إلى جانب التهويل الإمني..

ما شكّل صدمة لأمراء السلطة، وللإعلاميين العاملين لحسابهم ولغيرهم أيضاً، أن الخطاب الطائفي المطرّز بألفاظ التهويل لم يحقق أهدافه أيضاً، بل جاء بيان الـ 60 ناشطاً إصلاحياً الذي صدر لإدانة التصعيد الأمني في القطيف، وشجب الأحكام الغاشمة ضد الإصلاحيين، ليطيح بالخطاب الطائفي الذي أغرق الفضاء العام..

كشفت اللغة الموتورة لمقالات الصحف اليومية السعودية عن حجم الصدمة التي أصابت الحكومة، ووزارة الداخلية على وجه الخصوص..فقد مضى الزمن الذي تكون فيه اللغة الطائفية فاصلة، وقاطعة، وخاتمة، فذاك زمن قد أدبر ولا تريد الداخلية وقطعانها في الامن والاعلام (وغيرهما أيضاً) استيعاب أن كلمة الشعوب هي الحاسمة والحاكمة..وإن من ينحاز للسلطة، يفقد ليس القدرة على التأثير في الرأي العام، بل يفقد صدقيته وصداقته مع الشعب..

في استعراض المقالات التي كتبت للرد على بيان الـ 60 إصلاحياً إنكشافات مريعة، وسقوطات بالجملة. وسنحاول هنا التعرّف على مدى التهافت والإسفاف الذي بلغته الصحافة الحكومية في مواجهة الاستحقاقات العاجلة لشعب ينتفض بأشكال مختلفة..

في مقالته المثيرة (من العوامية إلى لندن!) المنشورة في جريدة (الشرق الأوسط) في 8 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، كتب طارق حميد (ضمن سلسلة مقالات استفزازية) في المقدمة ما يلي:

(تفجير أمام السفارة البريطانية في البحرين، جاء في أعقاب احتلال السفارة البريطانية بطهران، وبنفس التوقيت شهدت القطيف السعودية، مثلها مثل العوامية، أعمال تخريب، ثم شاهدنا العلم البحريني يرفع عاليا في كربلاء العراق، فما الذي يجمع بين كل ذلك؟)

نتف بإمكان الحميد والاعلام الأمني السعودي عموماً أن يجد لها رابطاً منطقياً، على طريقة سائق التاكسي الذي يشتري بندورة من مغسلة ملابس اتوماتيكية ويسلّم على بائع أحذية الذي خرج من المقهى وكل ذلك يحدث في يوم ماطر...هل ثمة رابط؟ نعم ولكن فقط في النهج الحميدي.

وبالتالي يكون الجواب على سؤال الحميد: ما يجمع بين ما ذكر هو بلاهة التحليل في زمن الوعي. فتفجير السفارة البريطانية قد ثبت افتعاله بشهادة مواطنين بريطانيين يعيشون في البحرين وكانوا في موقع الانفجار أو مرّوا به، وأن تظاهرات العوامية ليست جديدة لو كان الحميد متابعاً، فهي قد بدأت منذ آذار (مارس) الماضي، ثم ما دخل علم البحرين في كربلاء بإيران أو حتى الصين؟

نعم، ثمة منطق لا يمت للعقل بصلة، إنه المنطق الغرائزي، الذي يريد تفسير الأشياء وفق معطيات مفتعلة، لأن ليس العلم من بين أدوات هذا المنطق. كل ما يريد الحميد إثباته في مقالته هو (العامل الخارجي) في أحداث القطيف، ولابد أن يكون هذا الخارج إيرانياً، حتى تكتمل (الحبكة)، ويرتاح الضمير الأمني.

وبطبيعة الحال، فإن من ينفي الصلة بين إيران وكل احتجاج في هذا البلد من القطيف وصولاً الى جدة يكون لا وطني، وطائفياً، وعابثاً. كل الألفاظ الموتورة تجدها في مقالة الحميد، فقد غمز من قناة بيان الـ 60 وقال عنهم بأنهم (استمرار لماكينة طهران الدعائية) ومضى في تهجّمه (حتى بات لدينا لوبي إيراني بالسعودية). فقد توارى (اللوبي الصهيوني العربي) الذي ظهر إبان العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة في 2008 ـ2009، حتى صارت وزارة الخارجية الاسرائيلية تنشر مقالات الحميد وغيره على موقعها الالكتروني (وهو ما جعله من بين أسماء أخرى ضمن قائمة العار).

لفت الحميد إلى ما أسلفنا الحديث عنه، بأن الإمبراطورية الاعلامية السعودية تتهاوى اليوم، وأن الشباب الذين يمثّلون الأغلبية السكانية هم الرأي العام الحقيقي. فقد حدّد الحميد خطر بيان الـ 60 إصلاحياً في (أنهم يقومون بحملات تشويش على الرأي العام).

مقالات الحميد التي تلتزم خطّاً واحداً حتى أصبح أسيراً لنوع المقاربة الطائفية التي لا تغادر مقالاته قاطبة، فهناك تهمة معلّبة مفادها أن إيران هي المسؤولة عن كل ما يجري في العالم من ويلات (ثورات واحتجاجات أيضاً من بينها).

فمن عنوان المقالة التي يكتبها الحميد تكفي لمعرفة الخاتمة، وهذا وحده كافٍ لبيان تهافت الخطاب الإعلامي الطائفي، فقد أصدر الحميد حكماً جماعياً على ستين ناشطاً إصلاحياً بانهم (يتولون دور التشويش)، ويقولون (كلام حق يراد به باطل)، وأنهم (يد الخراب الإيرانية)، وأنهم (يساعدونها على التضليل)...

سلمان الدوسري: الإصلاحيون إنقلابيون!

يلخّص الحميد العقل السياسي والاعلامي المأزوم، الذي لم يعد يبصر الحقائق على الأرض، فمن يعود الى مقالات الحميد قبل الربيع العربي بسنوات طويلة لا يجد فرقاً واحداً بينها، الأمر الذي يكشف عن جمود بل موت الوعي الإعلامي والسياسي السعودي، الذي يتحرّك بوحي من أمر عمليات أمنية..

في اليوم نفسه، ظهرت طائفة من المقالات في الصحف المحلية للرد على بيان الـ 60، ولم تبرح اللغة المدقعة التي طغت على مقالات الحميد. تعكس تلك المقالات مسلسل انكشافات مزرية للإعلام الأمني السعودي، فقد تحوّل جحفل رجال الأعلام العاملين برهن إشارة الداخلية الى ما يشبه أوركسترا يتقاسم فيها المشاركون عزف نغم واحد بأدوات مختلفة.

ما يلفت أن إيران تحضر في المقالات ـ الردود ليس في سياق المعركة الاعلامية بين طهران والرياض، وإنما تحضر باعتباره أداة تهويل أمني وإعلامي. فلم تعد (إسرائيل) ولا (اللوبي الصهيوني) عامل تحريض وتعبئة (وهذا من عجائب الاعلام الأمني السعودي)، فقد شغلتهم إيران عن ذكر الصهيونية والاحتلال الاسرائيلي..وهذا سر آخر من انهدام الخطاب الإعلامي الأمني السعودي، فالشباب لم يعد يتحرّض لمجرد أن لغة مقالات رجال الاعلام في الداخلية هي موتورة ومشحونة بألفاظ تحريضية وطائفية. ولذلك، ليس مستغرباً أن المقالات بلغت أقصى ما يمكن أن تصل اليه من إسفاف، وتوظيف طائفي، وتجييش غرائزي، عبر تجاوز كل الخطوط الحمراء، واستعمال كل الالفاظ المتاحة في السباب والشتم، وإكالة الإتهامات (ولو كانت هناك دولة قانون لوضع رؤوساء تحرير صحف يومية وأصحاب المقالات التحريضية في المحكمة بل وخلف القضبان بتهمة الافتراء، والتحريض على الكراهية والعنف).

رئيس تحرير صحيفة (الاقتصادية) سلمان الدوسري، الذي صادقت الداخلية على تعيينه مؤخّراً، كتب مقالاً إتّهم فيه الاصلاحيين الذين وقّعوا على البيان الأخير بـ (الانقلابيين)، ووجّه إليهم تهمة التحريض على التدخل الخارجي، لمجرد أن البيان دعا الى لجنة تقصّي حقائق حول أحداث القطيف والتي راح ضحيتها خمسة قتلى برصاص الأمن، إضافة الى عدد من الجرحى أحدهم في حالة موت سريري، وقال الدوسري (لا معنى لهذه الدعوة إلا أن تكون وسيلة لتدخل أطراف خارجية). حسناً، هكذا يفهم نايف الأمر، وهكذا يجب أن تنعكس رغبته وهواجسه في مقالة الدوسري.

خالد المالك، رئيس تحرير صحيفة (الجزيرة) الصادرة بالرياض، لم يحد عن خط التهويل الأمني والتجييش الطائفي، فقد اعتبر البيان بأنه (مخل بأمن واستقرار الوطن ويمثل خروجاً على الضوابط وينم عن نوايا مسبقة ومبيتة اعتراضاً وإدانة لكل الأحكام القضائية). ووصف ما جاء في بيان الإصلاحيين بأنه (إملاءات جاءت على شكل مطالب). وهذه عقدة أخرى، فليس هناك من مطالب أصيلة في هذا البلد، فكلها أوامر من الخارج، أليس ذلك مصداقاً للإفلاس الاعلامي؟!

يوسف الكويليت، مدير تحرير صحيفة (الرياض) كشف بصراحة عن المقاربة الأمنية لبيان الإصلاحيين، وقال بأن (مبدأ الأمن يأتي فوق الأولويات الأخرى)، فقد غاب عن ذهنه وجود مطالب إصلاحية، وحراك شعبي يعود الى مطلع التسعينيات من أجل التغيير، ولا صلة لكل ما ذكر بما يحتسبه تهديداً للأمن. الكويليت لم يجد سلوة في ترسيخ مقاربته الأمنية سوى استدعاء تجاوزات (سجن أبو غريب)، و(غوانتنامو)، و(التصدي لأعمال الشغب في لندن)، و(مواجهة المتظاهرين في وول ستريت)..عدوى الحميد أصابت الكويليت في حشد معطيات متفرّقة لا يربط بينها الا مقال الكاتب وليس الواقع.

أنور عشقي، رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات الإستراتيجية والقانونية، تجاوز نبرة هدوءه في الكلام ليعكس نقيضها على الورق، حيث اعتبر موقّعي البيان حول معتقلي جدّة وحوادث القطيف بكونهم (مرجفين في الأرض). وبلغة اللواء السابق، اعتبر عشقي أمن المملكة (خطاً أحمر، لا يجب المساس به) لافتاً ـ وهنا التعالي المفتعل ـ ألى أن (أمنها من أمن الإسلام).

عشقي نزع كل مؤهّل علمي وشرعي عن أكثر الموقّعين على البيان وقال عنه بأنه (ليس لديه خبرة قانونية أو شرعية..ومعظمهم ليست لديه أهلية للخوض في هذه الأحكام)، أما الذين يحاولون المساس بسمعة وأمن المملكة فقال عنهم (إنهم إما مضللون من الخارج ومدفوعون لمآرب في نفوس من يدفعهم على ذلك، أو اعتنقوا أفكارا ومفاهيم خاطئة، مطالبا إياهم بالرجوع إلى رشدهم والحفاظ على مكتسبات المملكة). ومضى على الطريقة نفسها المحامي أحمد خالد السديري الذي اختصر الطريق على الجميع، وقال (أن أي عمل إصلاحي يرغب فيه أحد فليقدمه مباشرة إلى ولي الأمر..)..وأعاد سرد الإتهامات للإصلاحيين بالتواصل (مع جهات خارجية)، وأنهم (خائنون لوطنهم، ومن يؤيدهم خائن أيضاً). وشاركه في ذلك رئيس النادي الأدبي بجدة، أستاذ اللغة العربية بجامعة الملك عبدالعزيز الدكتور عبدالله السلمي، الذي طالب بوضع الإصلاحيين في (المصحات النفسية).

زاد مؤسس جمعية عيون جدّة المهندس جمال برهان على سيل الشتائم والإتهامات بأن خيّر الإصلاحيين بطاعة ولاة الأمر أو (الخروج والعيش في مكان يحلو له)، ونرجو ألا تكون عقدة الهوية قد دفعت به للمزايدة واخراج المكنون..

محمد عبد اللطيف آل الشيخ وتهويله الأمني، وسمر المقرن وفايرسها الطائفي، وعلي سعد الموسى وتنظيره المتعالي وغيرهم كثر ينتمون الى معسكر الاعلام الأمني، الذي افتتح حفلة الهلوسة الإعلامية بما يكشف عن الجهة المسؤولة عن إصدار أمر العمليات لكل تلك الأقلام التي ليس على سبيل المصادفة تشن في وقت محدد وموحّد هجوماً اعلامياً على جهة محدّدة، وهم موقعو البيان الإصلاحي..

في اليوم التالي، أي التاسع من كانون الأول (ديسمبر) الجاري، تواصلت الحملة بأقلام أخرى ولكن بنفس اللغة، وردّدت كما الببغاء ذات الإتهامات، حيث وصفت أهداف الموقّعين على البيان بـ (المشبوهة)، وأنها تنم عن (انتهازية سياسية)، على حد صحيفة (الوطن). فمن وصف نفسه بالقانوني رضا السمهوري اعتبر البيان (محاولة استجلاب الدعم الخارجي ضد سيادة المملكة). وانتقل من موضوع البيان الى التشكيك ليس في مطالب الإصلاح التي ذكروها في بيانهم، بل في وعي الإصلاح (هم لا يعلمون ماهية الإصلاح) على أساس (أن باب القيادة السياسية مفتوح أمام الجميع)! وتكفي العبارة الأخيرة للكشف عن فحش الوعي المأزوم.

حاول الإعلام الأمني سحب سلطته الى الواقع الافتراضي وخصوصاً شبكات التواصل الإجتماعي (فيسبوك وتويتر) والتي صوّرها البائسون على أنها (خط دفاع عن مملكة آل سعود)، ولا شك أن من يتابع ما يجري على هذه الشبكات من الأمراء سيصاب بخيبة أمل حادة للثورة الافتراضية التي اندلعت منذ شهور في الواقع الافتراضي وهي مرشّحة للإنتقال الى الواقع الواقعي.. ولكن يأبى الخادعون لساداتهم إلا تصوير ما يجري على غير حقيقته، حفاظاً على مصدر الدخل الدائم والمنقطع (الشرهات)، وإلا لو اكتشف آل سعود حقيقة مايقال عنهم في شبكات التواصل الاجتماعي لهرعوا إلى مضاجعهم، ولوضعوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا ما يقال عنهم، وغطّوا أعينهم حتى لا يروا ما كتب فيهم من نقد وتعريض..

في مقالة للصحافي في (الشرق الأوسط) محمد جزائري في 9 كانون الأول (ديسمبر) بعنوان (بيان أحداث القطيف..ولعبة الأقنعة) لم يجد مناصاً من اقتحام أو الكشف عن المخبوء حين اقترب من الخطوط الحمراء بل تجاوزها حين قارب أحداث القطيف من خلفية طائفية، فقد تجاهل قائمة الأسماء الموقّعة على البيان ماخلا محمد سعيد الطيب وتوفيق السيف (فيما كانت بقيّة الأسماء غير معروفة على الصعيد المحلي السياسي) بحسب البيان، وهذا يعكس إما جهل جزائري أو تجاهله، لأن القائمة ضمّت أسماء لامعة مثل الكاتب عبد الله فراج الشريف والأديب محمد العلي والشاعر والحقوقي علي الدميني، والأكاديمي عبد المحسن هلال، إضافة الى عشرات الكتّاب والحقوقيين والناشطين الاجتماعيين وجميعهم شاركوا في التوقيع على عرائض سابقة من بينها العريضة الشهيرة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) الصادرة في كانون الثاني (يناير) 2003. في واقع الأمر أن المجهول هو الكاتب نفسه محمد جزائري وهو غير معروف في الوسط الاعلامي، ولربما نقرأ له لأول مرة هذا المقال.

اختار جزائري الإصلاحي محمد سعيد طيب للتصويب على البيان ومحتوياته، فنال من الطيب على قاعدة ما اعتبره خلط الأوراق في البيان بين ماهو “أخلاقي” وماهو “سياسي”، ونسب جزائري الى طيب دعوته في البيان إلى عدم “اﻟهـﺮوب ﻣﻦ اﻟﻮاﻗﻊ اﻟﻤﺘﺄزم ﻓﻲ اﻟﻤﻨﻄﻘﺔ وإﻟﻘﺎء اﻟﻠﻮم ﻋﻠﻰ اﻟﺘﺄﺛيـﺮات والارﺗﺒﺎط ﺑﺎﻟﺨﺎرج، واﻟﺘﺸﻜيـﻚ ﻓﻲ اﻟﻮفاء ﻟﻠﻮطﻦ، ﺗﺤﺖ لاﻓﺘﺎت إﻗﻠيـﻤيـﺔ أو دوﻟيـﺔ”. والحال، أن ما نسبه جزائري الى طيب ليس سوى جزء من البيان الموقّع عليه من ستين شخصاً، ولكن اختيار طيب ليكون هدفاً إعلامياً يكشف عن أزمة حقيقية يعاني منها النظام السعودي، الذي يعجز الآن عن التصعيد الأمني فيسمح للإعلام الأمني بتولي إفراغ غضب النظام في هيئة كلمات غير منضبطة، ولغة غير متوازنة..

يسوء جزائري في كلام طيب تبرئة إيران من أي لعب بخيوط المسرح السياسي، والمفروض أمنياً وإعلامياً أمنياً أن تكون إيران حاضرة في التهويل على الناشطين والإصلاحيين في الداخل، لأن المطلوب من إحضار إيران في كل تحرّك داخلي هو منع التحرّك من الأساس..

محمد آل الشيخ: حملة ترويع الإصلاحيين

منهج رجال الإعلام الأمني يبدو كما لو كان مكتوباً بقلم واحد، فلو لم يكتب محمد جزائري إسمه على المقالة، ووضع إسماً آخر، وليكن طارق الحميد لما شكّ أحد في صدور المقالة عن الأخير، وكذا الحال بالنسبة لكتّاب آخرين باتوا يتقنون لغة الاعلام الأمني، طالما أن وزارة الداخلية هي المرشد الروحي والفكري (والمادي وهو الأهم) لجوقة الأقلام الخشبية..

يصبح الطيب على خطأ عظيم، طالما أنه استبعد أي دور إيراني لأحداث القطيف، ويضع جزائري هذا الخطأ في سياق خطأ استراتيجي يرتبط بقراءة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، حيث العامل الديني (جزء أصيل م محددات الحراك السياسي في المنطقة). حسناً، لماذا العامل الديني لا يحضر إلا في أحداث القطيف، ولم يحضر في الصراع مع الكيان الإسرائيلي..

أراد جزائري التلطي وراء العامل الديني لإخفاء الجنوح الطائفي، فهو حين يربط بين خروج تظاهرات في محافظة القطيف وإيران لا يتحدث في السياسة، بل يتحدث طائفياً. وكي يطرد مثل هذا الإنطباع يستحضر ما قاله الشيخ حسن الصفار في خطبته حول الثورات العربية ونهجها السلمي مستثنياً الثورة السورية، ولم يكن ذلك عن جهل، لأن استعمال السلاح في الثورة السورية بات معلوماً لكل مراقب نزيه أو منحاز، ويكفي أن عدد العسكريين القتلى في الثورة السورية يتجاوز ثلث عدد الضحايا من المدنيين، بل إن مطالبة جيفري فيلتمان، مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، المسلّحين السوريين بعدم تسليم أسلحتهم بعد الإعلان عن قبول دمشق للمبادرة العربية، دليل على أن ثمة بعداً عسكرياً في الثورة السورية، وعلى أية حال فهذا أمر بات موضع اتفاق المراقبين جميعاً..

ومع ذلك، ماعلاقة استثناء الثورة السورية من النهج السلمي بإيران، ولماذا يكون الكلام (تماه مع الطرح الإعلامي الإإيراني..). الخلط في موضوع الصفار جاء هذه المرة من جزائري الذي لا يبدو أنه لم يؤدِ (الواجبات المنزلية)، حين قال بأن (خطاب الملك عبد الله الإصلاحي) هو من فتح (باب العودة للوطن) للشيخ الصفار، والحال أن الأخير عاد في عهد الملك فهد، بعد مفاوضات جرت في لندن وبيروت بين حركة المعارضة الشيعية في الخارج وممثل عن الملك فهد في لندن وممثل عن إبنه الأمير محمد بن فهد حاكم المنطقة الشرقية، ولم يكن الأمير عبد الله على صلة بالإتفاق، بحسب ما تكشف عنه كتابات قادة الحركة الإصلاحية الشيعية.

ثمة جديد في لهجة الإعلام الأمني الرسمي هو اعتماد (حالة انكار) لكل المظالم السائدة، وتصوير البلاد وكأنها خلو من مشكلات تستدعي الإحتجاج والتظلّم، فقد صوّر جحفل الإعلام الأمني الوضع على أنه مثالي، وأن الأبواب مفتوحة أمام كل من يحمل مطلباً، أو شكوى. تساءل جزائري عن دعوى البيان بأن الحكومة السعودية (تمارس رسمياً تمييزاً طائفياً تجاه الشيعة) وتساءل (من أي جاء هذا التأكيد اذا كان لا يوجد أي تشريعات نظامية أو قانوتية في السعودية تقر بميزات طائفية على أي مستوى..). فهنا لا يبدو جزائري في حالة حياد علمي حين يتعاطى مع قضية باتت دارجة في المشاريع البحثية الأكاديمية، وليست خاضعة لهذا النوع من الأسئلة، لأن الحديث عن وجود تشريعات قانونية لإثبات أو نفي سياسة ما تتبناها العائلة المالكة يستلزم وجود دستور وقانون أعلى، والحال أن الجميع يدرك بأن هذه البلاد لا تعتمد التشريعات المكتوبة في فرض سياسات تمييزية أو قهرية، وليس هناك من دستور فاعل يمكن الرجوع إليه، فالبلاد قائمة على أساس (تعليمات شفهية)، تقوم مقام القانون، حتى بات الناس على وعي بما تعنيه عبارة (غض نظر)، التي تملك قوة القانون.

مقالة صالح الشيحي الموسومة (خلط الأوراق) في صحيفة الوطن في 9 كانون الأول (ديسمبر) الجاري بدأت بالخاتمة في توصيف البيان بأنه (جاء مخيباً للآمال ومثيراً للغرابة)، الخلط جاء بحسب الشيحي لأن الموقّعين دعوا الشباب في المنطقة إلى (عدم الانزلاق إلى أي شكل من أشكال العنف أو استخدام السلاح)، ومكمن الخلط هو في رفض (الهروب من الواقع المتأزم في المنطقة وإلقاء اللوم على التأثيرات والارتباط بالخارج والتشكيك في الولاء للوطن، تحت لافتات إقليمية أو دولية..)، وافترض ان في ذلك خلطاً وتحميل البريء الافتراضي (أي الحكومة) تهمة تأجيج الطائفية الى باقي الردود الجاهزة في صندوق الاعلام الأمني. ما يريد الشيحي إسقاطه أن خمسة شبان سقطوا في الأحداث برصاص حي، وجّه في بعضها مباشرة الى رؤوس المتظاهرين بصورة سلمية..وكما يبدو أراد كتّاب المقالات من الجميع تحميل المسؤولية للمتظاهرين في سقوط الضحايا منهم، وتحويل من استخدم الرصاص الى مجني عليه، وهذا مثير للغرابة حقاً، وحينئذ فحسب يرتفع الخلط!

الشيحي، شأن أقلام الاعلام الأمني، استحضر ماكان يقال عن العناصر المسلّحة التي تنتمي لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، حيث وصف المحتّجين بصورة سلميّة بأنهم (فئة ضالة كغيرهم من الفئات الضالة نعرف غاياتها الحقيقية..). ولم لا فإن بيان الملك في 17 آذار (مارس) الماضي، وكذلك ما كشفت عنه منظمة العفو الدولي في 22 تموز (يوليو) الماضي حول قانون مكافة الإرهاب المقترح والذي اعتبرته (أداة لخنق الإحتجاج السلمي)، وقال فيليب لوثر من المنظمة (أن مشروع القانون يشكل تهديداً لحرية التعبير في المملكة بذريعة الإرهاب) وقال (إذا ما قدّر لمشروع القانون هذا أن يقر، فسوف يمهد الطريق أمام دمغ أي تحرك بسيط ينم عن المعارضة السلمية بأنه عمل إرهابي يعرض صاحبه لانتهاكات هائلة لحقوقه الإنسانية)...كلها أدلة دامغة على أن الدولة تواجه استحقاقات السياسة بأسلحة الأمن والطائفية.

مقالات أخرى جاءت في السياق نفسه، كما في افتتاحيات الصحف اليومية (عكاظ)، و(الاقتصادية) و(اليوم) وغيرها إلى جانب مقالات من مثال (بيانات الإفك جريمة أخرى؟) لمحمد الوعيل الكاتب في جريدة (اليوم)، و(لايجهلون) لمشاري الذايدي في (الشرق الأوسط)، و(وطن لا يحتمل المزايدات) لهاشم عبده هاشم، و(وطن يجب أن نحميه) لعبد الرحمن سعد العرابي، ومقالات أخرى كتبت وسوف تكتب حول الموضوع نفسه، ولكنها تدور جميعاً في فلك الإعلام الأمني الذي يراهن كل من يشارك فيه على صدقيته وربما تاريخه أيضاً في مقابل حفنة من (الشرهات)، ولكن في نهاية المطاف إنه خطاب يخرج من حركة التاريخ ويؤكّد بأنه يسير على خطى إعلام الأنظمة السياسية التي سقطت خلال الربيع العربي.

الصفحة السابقة