إعادة تموضّع في الاكثرية

الوهابية وعقدة الأقلّية

سعد الشريف

لم تواجه الحركة الوهابية منذ نشأتها تحديّاً وجودياً كما واجهته مع بروز منافسين داخل المجال الإسلامي العام أو داخل المجال الإسلامي الخاص (أي ضمن دائرة المذاهب السنيّة). فقد نشأت كحركة تمرّد على المجتمع، بل وعلى الإسلام السائد، والذي لم تعترف به واعتبرته ناقصاً بل مشوباً بالضلالات وألوان الشرك والبدع، وقررت تغييره. ولكن بعد مرور 269 عاماً على قيام التحالف الوهابي السعودي، تشعر الوهابية اليوم بأنها بحاجة الى الاحتماء بالأغلبية السنيّة التي رفضت الاعتراف بإسلامها، وأخرجتها من مسمى (أهل السنة والجماعة)، كما أفصحت عن ذلك في شروحات كتاب (التوحيد) لمؤسس الحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

اعتقدت الوهابية بأنها سوف تحقق حلماً مستحيلاً، من خلال ثالوث التكفير والهجرة والجهاد، وسوف ترغم بقية المسلمين على اعتناق أفكارها، ولكّنها واجهت مأزق العزلة، وأصبحت بحاجة الى التماهي مع الأغلبية، للإحتماء بها، ولتوظيفها في معركتها مع خصوم آخرين، ولذلك فهي تؤكّد على نزوعين: التأكيد على مفهوم أهل السنة والجماعة وأنها جزء من هذا الفضاء الكبير، وتعميق الإنقسام المذهبي عبر تغذية الخطاب الطائفي للحيلولة دون وقوعها خارج المساحة المشتركة بين المسلمين من كل الأطياف، ولذلك حاربت فكرة التقريب بين المذاهب لأنها تستثنيها وتتجاوزها، لأن وجودها قائم على أساس تعمّق الانقسام المذهبي، تماماً كما هو النظام السعودي الذي يحقق وحدة السلطة من خلال انقسام المجتمع، وبقاء التناقضات الاجتماعية والعقدية حاضرة بقوة في ثقافة أفراده وعلاقاتهم.

لعبت الطبيعة دوراً استثنائياً لصالح الوهابية حين بدأت إجتياحاتها للمناطق الواقعة خارج مهدها النجدي، ووظّفت خيرات الطبيعة في خدمة مشاريع لا يمكن أن تديرها دون وجود المال.

اليوم، تتميّز الوهابية بأنها تملك المال، وتتوسّل الطائفية، وتدير مشاريع جهاد على نطاق كوني..

هي هكذا تعمل وسوف تبقى كضرورة وجودية..

حجم الأموال التي أنفقتها الحكومة السعودية على نشر الوهابية كان كبيراً للغاية. وبحسب ديفيد أوفهوسر، مستشار سابق في وزارة المالية الأميركية في يونيو 2004 فإن تقديرات إنفاق الحكومة السعودية على نشر المذهب الوهابي في العالم تجاوز مبلغ 75 مليار دولار، فيما قال ادوارد مورس، محلل نفطي في شركة هس لتجارة الطاقة بأن الملك فهد خصص حساباً نفطياً يقوم بموجبه بحجز مائتي ألف برميل في اليوم أي ما يعادل 1.8 مليار دولار في العام بحسب مستوى الاسعار في عقد الثمانينات، وهناك تقديرات تفيد بأن السعودية كانت تنفق ما بين مليارين ومليارين ونصف سنوياً على نشر الوهابية في العالم.

في حقيقة الأمر، أن حجم الانفاق على نشر الوهابية في السنوات الأخيرة تضاعف، وأخذ أشكالاً متنوعة، حيث يتم تخصيص كثير من الاموال لتمويل مؤسسات نشر، وصحف، وعشرات القنوات الفضائية بهدف تعميم الخطاب الطائفي، وتعزيز الانقسامات الاجتماعية والسياسية والعقدية بين المسلمين.

فبالطائفية سعت الوهابية الى اختراق المجتمعات السنيّة والمؤسسات الدينية التقليدية في العالم السنيّ وأهمها الأزهر لتحيله الى جهاز تعبوي طائفي، وهي اليوم تحاول إحتواء العالم الاسلامي السنّي عبر البوابة الطائفية، كيما تتموضع فيه، وترسّخ وجودها الطارىء. فقد كانت بحاجة الى بطاقة عبور الى العالم الاسلامي السنّي ولن يكون بغير الخطاب الطائفي وسيلة لتعريف نفسها، بوصفها حريصة زعماً على عقيدة أهل السنة والجماعة من المخالفين.

التهويل الطائفي المحمول على كميات هائلة من الأموال التي يتم سكبها في عدد من العواصم العربية والإسلامية تستهدف تمهيد السبيل للوهابية كيما تمر بهدوء، ثم تستحوذ على العقل الاسلامي السنّي. لم يكن غريباً أن يصرّح الداعية المصري والامين العام لمجلس أمناء الثورة صفوت حجازي لقناة (العربية) في 4 آذار (مارس) الجاري بأن المذهب الوهابي هو بما نصّه (من مذاهب أهل السنة والجماعة..ومن أراد نشر المذهب الحنبلي أهلاً وسهلاً..)، فيما وصم المذهب الشيعي بالكفر!

يبدو واضحاً الآن أن ثمة فورة طائفية تنطلق من مصر بعد وصول الاخوان الى السلطة، ويشارك في هذه الفورة عدد من التيارات الدينية السلفية وحتى الاخوانية المعتدلة حيث تتكثّف اللقاءات بين قيادات هذه التيارات ومشايخ وهابيين ومسؤولين سعوديين يعملون في السفارة السعودية في الرياض، ويتم طبع كتب سجالية وطائفية بأموال سعودية، الهدف منها يتركّز حول نقطة جوهرية: إعادة تأهيل الوهابية كيما تجد موقعها في العالم السني الذي انتبذته طويلاً، ورفضته عقيدة. ولذلك، فإن الوهابية تتخذ من الخلاف السني الشيعي مدخلاً ووسيلة نقل الى المجال الاسلامي السنّي.

لا غرابة، أن يتبرّع عدد من مشايخ الاخوان، والسلفيين بالنيل من المذاهب الاسلامية الأخرى والتمجيد في الوهابية، وكأنما لا يتحقق الثاني الا بالأول، أو كأن شرعنة الوهابية في العالم السنّي متوقفة على القدح والتعريض بأتباع المذاهب الاسلامية الأخرى..وتعتبر هذه ظاهرة جديدة لم تكن معروفة في تاريخ المسلمين الحديث..وما يدعو للغرابة، أن الطائفية تزداد في مصر بعد وصول الاخوان المسلمين، مع أن قائد الجماعة الشهيد الشيخ حسن البنا كان أشد الناس تمسّكاً بمبدأ التقريب بين المذاهب وكان يرفض فتح باب السجال بين المسلمين. وحتى حين سئل عن موقف الشيعة من الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، قال بالحرف (ومالو على مذهب ستنا فاطمة)، رغبة منه في درء أي خلاف يمكن أن يستغله الأعداء لإشعال الفتنة بين المسلمين. أما اليوم فيشعر المرء بأن هناك من يستجيب للغة الغرائز الطائفية، وبصراحة يخضع للغة الإغراء السعودية. وهناك من يتلقى الأموال لإطلاق تصريح، أو طباعة كتاب طائفي، أو نشر مقال ملغوم..ومن المؤسف أن ثمة لغة غريبة تسللت الى الفضاء الاعلامي والثقافي الاسلامي في أكثر من بلد عربي وإسلامي تتغذى على المال السعودي الوهابي، كل ذلك من أجل نشر ثقافة الكراهية والانقسام على قاعدة مذهبية ..

المدماك الثالث لانتشار الوهابية هو رفع لافتة الجهاد. فقد تمّ استغلال موضوع الجهاد لجهة تجنيد آلاف العناصر وتعبئة مجموعات شبابية من كل أرجاء العالم للإنضمام إلى الوهابية. فكل الذين ينخرطون في التنظيمات المسلّحة اليوم هم على صلة ما بالوهابية. فتنظيم القاعدة يعتمد الآن على أيديولوجية وهابية محضة..

والمقاتلون الذين يعملون في العراق وسوريا واليمن ومالي والصومال وباكستان هم في الأغلب وهابيون أو خاضعون تحت تأثير الوهابية..وليست القضية عقدية بحته بطبيعة الحال، فإن نفقات المقاتلين، وتحركاتهم، وتسليحهم، تتم عبر قنوات سعودية وهابية، وبدونها فلا طائفية ولا قتال..

لايزال الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) يصرّ على تجاهل مصادر تمويل الجماعات المسلّحة في العراق واليمن وسوريا ولبنان وباكستان وأفغانستان وغيرها، لأن تشخيص الجهة وتحديدها يتطلب موقفاً والموقف يفرض مسؤولية، وهذا ما لا يريد الغرب تحمّله.

في ظل هذه المتغيّرات، تجد الوهابية نفسها في حالة إنسجام نادرة مع محيطها السني الذي خاصمته ردحاً من الزمن، الأمر الذي يكشف عن حقيقة أن الوهابية لا تعيش إلا في محيط مضطّرب، وأن وجودها وانتشارها يتحققان عبر تعزيز الانقسامات بكل أشكالها..

في ضوء كل التجارب القتالية التي انخرطت فيها الوهابية كانت النتائج غالباً سلبية، هكذا الحال في أفغانستان، وباكستان، والعراق، ولبنان وفلسطين وسوريا، وحتى الشيشان وجمهوريات آسيا الوسطى وصولاً الى القارة الأفريقية. وبخلاف ما يشاع عن انتشار الإسلام في العالم نتيجة النشاطات الدعوية للوهابية، فإن التجارب الدعوية تنتهي الى فوضى وانقسام وتوتّر..

في مواجهة عقدة الأقلية التي رافقت الحركة الوهابية، والتي اعتقدت بأنها قادرة على اختراق المجال الإسلامي بفعل رسالتها التكفيرية والجهادية المدعومة بمبالغ طائلة من مداخيل النفط، فإنها لجأت الى ما يجعلها جزءً من الأغلبية الساحقة، عبر إعادة تموضع مفتعلة، ولم تكن تصريحات مشايخ الوهابية وزياراتهم الى مصر، قلب العالم الإسلامي السنيّ، والتواصل الكثيف لمسؤولين سعوديين مع شيخ الأزهر وقيادات سنيّة في مؤسستي الإفتاء والأزهر والمدارس الدينية بريئة، بل هي تستهدف بدرجة أساسية استمالة من يمكن استمالته.

التواطؤ المستهجن على الإعلاء من مقام الأزهر، بعد عقود من التجاهل والإحتقار كما تكشف بوضوح أدبيات ومراجع الوهابية، وكأن ثمة استفاقة متأخرة تدفع اليوم لتعويض الأزهر عما لحق به من أذى آل سعود والمؤسسة الوهابية بشقيها الرسمي والشعبي بعد أن تجشّمت مؤسسة الأزهر عناء رعاية مشروع التقريب بين المذاهب..لا ليس بريئة هذه الصحوة المتأخرة من قبل مشايخ الوهابية ومسؤولي السفارة السعودية في القاهرة، حتى يتقاطروا على الشخصيات الدينية في مصر، وكأنهم عثروا على ضالة فقدوها منذ أمد بعيد، أو كأن نظام حسني مبارك كان أشدّ تحصيناً لمصر من نظام الإخوان الذي فتح الباب على مصراعية أمام المارد الخارجي (القطري والسعودي..)، حتى يحقق ما لم يحقق في أي عهد مضى..

الوهابية تحاول كسر عقدة لحقت بها كونها الجماعة المذهبية الأقل في العالم الإسلامي، برغم محاولاتها الجادة كيما تخرج من هذه العقدة بطريقة الفتح..أي على طريقة فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة المكرمة، حيث يدخل الناس في دين الله أفواجاً، ولكن ما تحقق هو عكس ذلك، فالوهابية تعمل على التسلل الى العالم الإسلامي السنّي وحجز مكان لها من أجل الاستعداد للمرحلة التالية، أي مرحلة ما بعد التموقع في معادلة الإسلام السنيّ العام، بحيث تكون قادرة على استدراج المسلمين السنّة الى معركة هنا وأخرى هناك، أي محاولة اختطاف موقع القيادة من أصحابها الحقيقيين..

ما فعلته الوهابية في الآونة الأخيرة، أنها خلطت الأوراق وأثارت مناخاً موارباً وملبّداً بالهواجس والشكوك بين المسلمين، وهو ما كانت تخطط له من أجل أن تنفذ الى داخله. وفي الربيع العربي، حيث شعر النظام السعودي بأنه والأيديولوجية المشرعنة له تتعرضان للتقويض، فكان الخيار هو قيادة الثورة المضادة، التي كان من أهم وأخطر أدواتها هو إشاعة الفوضى والتحريض على الكراهية المتبادلة بين المسلمين بعضهم ببعض وبين المسلمين والمسيحيين..

الحرب في سورية التي يشارك فيها عناصر جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة تعتمد أيديولوجية وهابية، ولا صلة للنظام السوري بالدين بل وصف قبل فترة بأنه النظام العلماني الوحيد في الشرق الأوسط بعد سقوط نظامي حسني مبارك وزين العابدين بن علي، ولكن لا يمكن تعبئة الشارع وتجنيد المقاتلين لمجرد كون النظام السوري علمانياً، لأن العلمنة هي صفة للدولة الحديثة، وليس هناك من إمكانية لتعبئة المناخ الدولي ضدها، ولذلك لجأت الوهابية الى العنوان الطائفي، فأصبح التحريض سهلاً وببساطة متناهية: إنه نظام علوي يقوم بقتل المسلمين السنة. وكانت عبارة من هذا القبيل كفيلة بأن تلبّد العالم العربي والاسلامي بغيوم سوداء وتمطر دماً غزيراً، لأن ما هو مطلوب قد تحقق فتنة طائفية، تخرج الوهابية من أقليتها وتضعها في معسكر الاغلبية، خصم الأمس حليف اليوم.

الوهابية والأشاعرة.. من التكفير الى التماهي

كثافة الزيارات المبرمجمة لشخصيات دينية سعودية الى مشيخة الأزهر بعد الثورة تشي بدينامية من نوع ما، لا تمّت بصلة الى مبدأ الاعتدال، حيث لا سابق أثر في مراجعة فكرية أو فقهية تؤصّل لتحوّل جوهري في النظرة العقدية السلفية إزاء الآخر، والأزهر على وجه الخصوص..لم يصدر عن المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية في هيئاتها العليا والدنيا ما يفيد بتخلي عن الذات السلفية المغلقة أو توافق مع الفعل الانفتاحي..

بدا كما لو أن ثورة 25 يناير 2012 في مصر أبطلت المناعة الذاتية التي كانت تتمتع بها مؤسسات عريقة كانت حتى في ظل جبروت الإستبداد السياسي عصيّة على الخضوع والمقايضات الهابطة، ومن بينها مؤسسة الأزهر التي مثّلت أحد استهدافات الثورة المضادة، رغم قدم المحاولات التي قام بها التياران الاخواني والسلفي في مصر لجهة إرساء وجود سياسي وعقدي داخل البنية الطلابية والعالمية الأزهرية منذ العام 2007.

إن ما هو بيّن لنا اليوم، أن إنفتاح السعودية سياسياً ودينياً على الأزهر لا يعكس تحوّلاً في العقل السياسي أو الديني، ولا هو شكل متطوّر من الانفتاح على الآخر، فهو أشبه ما يكون بما يصفه نيتشه بالمنطيق الذي يحاول تقليد غريمه في كل شيء، في محاولة لشّله عن الحركة، وهو ما تحاول السعودية من خلال انفتاحها على الأزهر، تبديل هويته، تاريخه، خطابه، وأهدافه.. شيء واحد أثبتته السعودية، كما أثبت سقراط لنيتشه، أنها تملك قدرة فريدة على الفنتة..هي تتجه نحو الرمز لتقحمه في لعبها مع خصومها..

ثمة عوامل ساعدت السعودية على الدخول الى الأزهر من بينها: وجود عدد من علماء الأزهر في الجامعات السعودية وخضوعهم تحت تأثير المنهج السلفي، تسامح الأزهر إزاء نشاط التيار السلفي داخل الأزهر حيث تمكّن من تشكيل جماعة النور الطلابية وأصبح له حصة في هيئة التدريس الأزهرية، وهناك عامل النشر لكتب السلفية حيث أصبحت شهرة كتب الشيخ ابن تيمية وابن القيم تفوق شهرة كتب أتباع الإمام الشافعي أو الإمامين الأشعري والماتريدي..

في 9 أكتوبر 2011، استقبل شيخ الأزهر أحمد الطيب وزير الأوقاف السعودي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، وما لفت في البيان الصادر في ختام اللقاء أن مفردات غير معهودة وردت منسوبة الى مشيخة الأزهر. حيث أعلن رئيس المكتب الفني لشيخ الأزهر، حسن الشافعي أنه تم (التفاهم على علماء بين علماء أهل السنة لتقوية الموقف الإسلامي، وخاصةً بين أهل السنة والجماعة، والتصدي لأية محاولاتٍ تهدف إلى المساس بالمجتمعات الإسلامية السنية تحت أي شعارٍ مخالف). تكرار مفردة (السنّة) بطريقة تغذي ذعراً مفتعلاً، لفت الى بعض صوره عالم الاجتماع المصري سعد الدين ابراهيم في مقالته (لماذا يتصرف المسلمون السنّة كأنهم أقلية مذعورة؟) نشر في صحيفة الراية القطرية، بتاريخ 17 مارس 2007. ولكن بالنسبة للطرف السلفي السعودي، تستهدف قطيعة مع الآخر، وقطعاً مع الماضي الأزهري التقريبي، وشحن غريزة (المصارعة) في المجال الإسلامي.

وبخلاف المواقف الأكثر شيوعاً للسلفية من الأزهر، فإن الوزير آل الشيخ لم يتلعثم وهو يبوح بنقيض الرؤية العقدية السلفية بأن (السعودية وعلماءها ينظرون إلى الأزهر على أنه المرجعية الإسلامية الشامخة، وأن رمزية الأزهر لأهل السنة والجماعة لا تقبل المساس أو المزايدة على المستوى الديني والسياسي..) ولم يغفل تمرير عبارات بدلالات خاصة مبيّتة حول دور الشيخ الأزهر ومنها (محاربة كل ما يخالف الكتاب والسنة..).

في اللقاء الذي جمع شيخ الأزهر احمد الطيب وراشد الزهراني، مدير الأكاديمية الإسلامية الحقوقية بالسعودية، في 10 فبراير الجاري شدّد الطيب على (وجوب الاهتمام بتوحيد صفوف أهل السنة والجماعة حفاظاً على وحدة الأمة من كل ما يمزق نسيجها، ويشتت شملها). وكرّر الزهراني على مرجعية الأزهر وأنها قلعة (يأوي اليها جمع المسلمين في أنحاء العالم وفتاواهم وعلومهم مقدّرة عند أهل السنة والجماعة في كل مكان).

ثمة إطراء سعودي ماكر المحفوف بخديعة الاحتواء والاختراق لمؤسسة الأزهر والعبث بمنظومة إعدادته التاريخية والمعرفية

ليس بريئاً ترديد المشايخ والمسؤولين السعوديين لمقولة أن الأزهر (المرجعية العليا للمسلمين السنّة)، فيما الأدبيات السلفية تضجّ بعبارات مناقضة تماماً.

من المؤّكد أن ليس لهذا الإطراء طابع تقومي، فضلاً عن أن يكون له هدف معياري، فهو ينزع نحو فتح الطريق المغلق بين خصمين لدودين.

شيخ الأزهر أحمد الطيب لم يكن على وفاق عقدي مع السلفية السعودية، فلديه أفكار تحررية يحاربها أنصار الدعوة السلفية منها نقاب المرأة التي ينظر اليها بوصفها عادة وليست عبادة. ويرى الطيب بأن السلفيين متطرّفون فكرياً، بل له تصريح مشهور بأن (السلفيين الجدد هم خوارج العصر) وقال بأن جمهور المسلمين لم يكونوا على مذهب السلفية، وأن من يعتبر الصلاة في مساجد فيها أضرحة باطلة، أو يجب هدم القبور، وتقصير الثياب، هم ليسوا من السلف بل هم من (غلاة الحنابلة)، ووصفهم بالتساهل بالتكفير، والتجسيم، وهما (أهم صفتين في هذا المذهب)، ويقصد به من عهد الشيخ إبن تيمية وحتى عصرنا الحاضر.

ننقل هنا صورة الموقف السلفي السعودي من الأشاعرة وهو بالمناسبة ليس انتقاءً بل يمثل الموقف العقدي الأصلي. فقد كتب الشيخ عبد الرحمن بن حسن، حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رسالة لما بلغه بأن الشيخ عبد اللطيف بن مبارك، نصب في بعض مساجد الأحساء، من يتهم بمذهب الأشاعرة، من غير إذن الإمام. وقال عن الأشاعرة بأنهم (أخطوا ـ وفي نسخة أخطأوا ـ في ثلاث من أصول الدين، منها: تأويل الصفات، وهو صرفها عن حقيقتها، التي تليق بالله ـ أي القول بالتجسيم ـ، وحاصل تأويلهم: سلب صفات الكمال عن ذي الجلال. أيضاً: أخذوا ببدعة عبد الله بن كلاب في كلام الرب تعالى وتقدّس.. وأخطؤوا أيضاً في التوحيد، ولم يعرفوا من تفسير لا إله الا الله إلا أن معناها: القادر على الاختراع). ثم يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (فإذا كان العلماء في وقتنا هذا، وقبله، في كثر من الأمصار، ما يعرفون من معنى لا إله الا الله، إلا توحيد الربوبية، كمن كان كان قبلهم في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، اغتروا بقول بعض العلماء، من المتكّلمين: إن معنى لا إله الا الله القادرة على الإختراع..)، ثم يختم ويقول (فإذا كان هذا التوحيد قد خفي على أكابر العلماء، في أزمنة سلفت، فكيف لا يكون بيانه أهم الأمور، خصوصاً إذا كان الإنسان لا يصح له إسلام، ولا إيمان إلا بمعرفة هذا التوحيد...). أنظر: كتاب (الدرر السنيّة في الأجوبة النجديّة، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي، الطبعة السابعة، 2004، الجزء الأول ـ كتاب العقائد، ص ص 319 ـ 322).

ومن المعاصرين الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء والبحوث العلمية عارض في مصنّفه (مشاهير المجددين في الإسلام، ص 18)، طبع الإدارة العامة للبحوث والدعوة، الرياض، وقدّم له المفتي السابق للمملكة الشيخ عبد العزيز بن باز، والكتّاب عبارة عن ترجمة للشيخ إبن تيمية والشيخ إبن عبد الوهاب، الرأي القائل بأن الشيخ إبن تيمية أفتى بفتاوى تخالف فتاوى أئمة أهل السنة والجماعة، فقال مانصّه (وهذا من الكذب على شيخ الإسلام إبن تيمية..الخ)، ثم يستدرك الفوزان لجهة إعادة تعريف وصف (أهل السنة والجماعة) ويقول ما نصّه (اللهم إلا أن يريد هذا القائل بأهل السنة والجماعة جماعة الأشاعرة والماتريدية - فهذا اصطلاح خاطئ؛ لأن المراد بأهل السنة والجماعة حقاً من كان على طريقة الرسول وأصحابه وهم الفرقة الناجية، وهذا الوصف لا ينطبق إلا على الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم واتبع طريقهم، والأشاعرة والماتريدية خالفوا الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة في كثير من المسائل الاعتقادية وأصول الدين فلم يستحقوا أن يلقبوا بأهل السنة والجماعة وهؤلاء لم يخالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية وحده بل خالفهم عامة الأئمة والعلماء الذين ساروا على نهج السلف).

وللشيخ الفوزان رأي صريح في كتاب (التوحيد) المخصص للصف الأول من المرحلة الثانوية، والصادر عن وزارة التربية والتعليم المملكة العربية السعودية لسنة 1424هـ وصف الأشاعرة والماتريدية بالشرك، وقال عن المشركين الأوائل (ص67):(فهؤلاء المشركون هم سلف الجهمية والمعتزلة والأشاعرة). وله رأي مماثل ورد في كتابه (الإرشاد الى صحيح الإعتقاد، والرد على أهل الشرك والإلحاد)، صنّف فيه الأشاعرة والمعتزلة والجهمية في خانة الفرق الضالة.

وهذه الآراء ليست شاذة بل تمثّل الموقف العقدي الرسمي في المدرسة السلفية والوهابية على وجه الخصوص..

وقد أعدّ الباحث صلاح الدين بن أحمد الأدلبي ردّاً موسّعاً على الشيخ سفر الحوالي ونقدّه لعقائد الأشاعر وأسماه (عقائد الأشاعرة..في حوار هادىء مع شبهات المناوئين)، وقال في مقدّمته بأن الحوالي أخرج الأشاعرة من دائرة السنة وعدّهم طائفة من أهل البدع. وقال الأدلبي عنه بأنه كان (متجنيّاً على الاشاعرة بعيداً عن الروح العلمية)، ومن مظاهر ذلك: نسبة الحوالي أقوالاً للأشاعرة لم يقولوا بها ولا يذكر نصوص كلامهم من كتبهم، ولا تتعدى النصوص التي نقلها عنهم عدد أصابع اليد الواحدة. وقال الحوالي (ثم أسسوا مذهبهم وبنوه في أخطر الأصول والقضايا ، الإيمان ، القرآن ، العلو، على بيتين غير ثابتين عن شاعر نصراني). ونقل عن الحوالي قوله (فالأشاعرة ... هي أكبر فرق المرجئة الغلاة..). وقال عن الأشاعرة بأنها (مذهب بدعي..)، عمليات الترميم التي شهدها المذهب (يغذُوها المستشرقون).

الحوالي في تحديده لمسمى السنة والجماعة يتوافق مع مشايخ المذهب الوهابي وقال: إِن مصطلح أَهل السنة والجماعة يُطلق ويراد به معنيان:

المعنى الأَعم: وهو ما يقابل الشِّيعة ، ... وهذا المعنى يدخل فيه كل من سوى الشيعة كالأَشاعرة،..

المعنى الأَخص: وهو ما يقابل المبتدعة وأَهل الأهواء،...وهذا المعنى لا يدخل فيه الأَشاعرة أبداً ، بل هم خارجون عنه، وقد نصّ الإِمام أحمد وابن المديني على أنَّ من خاض في شيء من علم الكلام لا يعتبر من أَهل السنة وإِن أصاب بكلامه السنة حتى يدعَ الجدل ويسلِّم للنصوص ، فلم يشترطوا موافقة السُّنة فحسب ، بل التلقي والاستمداد منها ، ... والأشاعرة ـ كما سترى ـ تلقَّوا واستمدّوا من غير السُّنة ولم يوافقوها في النتائج ، فكيف يكونون من أَهلها؟ ).

ليس الغرض من عرض هذه الآراء إعادة إنتاج العقل السجالي المأزوم الذي يقوم على تبرئة الذات وإدانة الآخر، لأن هذا العقل أثبت بعد قرون طويلة أنه ليس سوى حلقة مفرغة، ويؤكّد الحاجة الى منهج نقدي جديد يقوم على المراجعة الذاتية وتنقية الأجواء بدلاً من تلبيدها..

لاريب أن مصالح السياسة تفسد ما ينبيه الدين، و(وهل أفسد الدين الا الملوك وأحبار سوء ورهبانها).

الغرض ببساطة، أن الجنوح العبثي اليوم نحو إحياء كل التراث السجالي بين المسلمين وإرساء كل مبررات القطيعة والإنقسام تمهيداً لفتنة عمياء تحرق الأخضر واليابس تتطلب موقفاً مسؤولاً ووقفة حق من أجل منع الإنزلاق نحو حروب دموية لا تبقي لهذه الأمة من باقية، لمجرد أن جماعة صغيرة قررت أن تفسد كل ود وأن تهدم كل بناء تأسس على جهود رموز هذه الأمة، وأن تعالج عقدتها عبر أعمال عبثية.

الصفحة السابقة