الحوار الوطني

من الأيديولوجيا الى السياسة

إن البحث في الحوار يفترض بلوغ أعلى نقطة في العلاقة بين الجماعات، مدفوعاً بحاجة كل جماعة الى ضرورة التفتيش عن خيارات تمحى فيها نقاط الصدام والمواجهة مع الجماعة الاخرى، ومن ثم تمهيد السبيل من أجل الدخول في مرحلة متطورة يسود فيها مبدأ الاعتراف بالآخر وتالياً المصلحة وينزوي فيها منطق القطيعة والاقصاء.

وغني عن القول، أن الاتفاق على (الحوار) لا يتم بناء على مقررات مكتوبة، كما لا يصدر عن بيان رسمي يوقّعه ممثلون عن الجماعات المتناحرة، وإنما يأتي بموجب قناعات تشكّلت وتبلورت خلال تاريخ طويل ممتليء بالخصومات والمنازعات، كان فيه ميزان القوى متعادلاً أو لم يتحرك حسب رغبة كل جماعة، مؤكداً على أن إصرار هذه الجماعات على التناحر والاقصاء المتبادل ليس سوى تكريساً للانقسام وتصليباً للمواقف، وتمزيقاً للمجتمع ، وتالياً خسارة الاطراف جميعاً.

وهذا بالتحديد ما شهدته العلاقة بين الجماعات الايديولوجية في السعودية قبل أن يصل بعض كبار الأقطاب الى قناعة بمشروعية الحوار وضرورته كخيار موضوعي ووحيد لتسوية الخلافات، حين تنادى جمع من رجال الفكر من مختلف المدارس الفكرية والمذهبية بدرجة أساسية الى لقاء ودي في الرياض قبل عدة أشهر. ونفترض أن العلاقة السجالية بين هذه الجماعات قد شهدت مرحلتين قبل الوصول الى المرحلة الراهنة، أي إتفاق بعض الأقطاب على ضرورة الحوار القاضي بتفعيل العقل التجريدي واقالة العواطف.

مرحلة النفي المتبادل:

وتعود جذور هذه المرحلة الى عهود غابرة، ولكنها تكرّست بعد تأسيس الدولة وتباين المواقف لدى الجماعات الايديولوجية إزاء سلوك الدولة، إذ تشكلت في ضوء هذه المواقف تيارات فكرية وسياسية متنافرة حشدت قدر استطاعتها أسلحة دفاعية وهجومية وكانت ترى بأن تحصين الذات يتم عن طريق نفي الاخر عوضاً عن الانفتاح عليه، وأصبحت التنشئة الثقافية والاجتماعية داخل التيارات المتنافرة تقوم على اساس التخوين وسلب المشروعية ومصادرة الرأي الآخر، إيماناً منها بأن حل المشكلة الخلافية إنما يتم عن طريق اقصاء هذا التيار أو ذاك، ودمج كافة الجماعات رغبة أو رهبة في بوتقة أيديولوجية موحدّة، وكانت الدولة تتبنى موقفاً مماثلاً في صهر كافة المناطق والفئات الخاضعة لسلطانها السياسي داخل جماعة واحدة.

لقد أدى الصراع الناشىء بين التيارات الدينية الى الايقاع بين الدولة والجماعات الأخرى المصنّفة مذهبياً بوصفها خارجة عن الطريق، حين وجدت الجماعة الدينية المتصلة بالدولة في الجماعات الاخرى نماذج للانحراف العقدي، وتعمل لهدم اركان الدين. وهكذا يظهر أن الثقافة الدينية السائدة بمختلف اتجاهاتها كانت ثقافة إحتجاجية نزاعية تستهدف تقويض الآخر ونقده من جهة، وتحصين الذات عن تأثيرات الخصم، ولم تصب هذه الثقافة في عملية بناء الانسان والهوية الوطنية والدينية الجامعة.

إن تراث الثقافة الاحتجاجية أو السجالية أثبت بمرور الايام أنه خاوي وعاجز عن النهوض بالمجتمع، لكونه لم يقم في الاصل على أساس نهضوي وتوحيدي وإنما بسبب ضيق الهامش الخاص بالتنوع الفكري والسياسي في الثقافة الدينية المشاعة محلياً أدى الى انشغال كافة الجماعات في تكريس حالة الانقسام والشقاق داخل المجتمع، فكانت كل جماعة ترى الصلاح والاصلاح من خلال ما تحققه على جبهة الحرب ضد خصومها من الجماعات الاخرى. ويكفي مراجعة التراث الثقافي السجالي لنجد كيف هي كتابات وتنظيرات أقطاب الجماعات الدينية، وفي كل الاحوال سلبت هذه الجماعات الواقع موضوعيته، وأصبحت تعيش واقعها الخاص المثالي غالباً ولم تفلح هذه التنظيرات في أن تقيم تجربة نهضوية وتجميعية ناجحة فضلاً عن الدعوة اليها.

لقد تحولت عقول القادة الدينيين في بلادنا الى ما يشبه بجهاز تدميري يزوّد الشارع بأفكار التشدد والتطرف، وكانت مبررات الحرب جاهزة، وبهذه الطريقة إنسلخ كل تيار عن ذاته وثقافته وشعاراته، في الوحدة الاسلامية والحوار والتنوع والتسامح مستعيناً بتراثه الفكري لتبرير ممارساته الخاطئة. وانقلب التيار الديني على التسامح الاسلامي والايمان الحر النابع من العقل المجرد، ورعاية حقوق اتباع الاديان والمذاهب الفكرية الاخرى، متزوّداً من الواقع التاريخي للمسلمين مايعبّر عن موقفه المناهض للتيارات الاخرى، حتى سادت في ثقافة هذه الجماعات فكرة تكفير المجتمع والخروج عليه بدلاً من التفكير في اصلاحه والنهوض به.

مرحلة وقف اطلاق نار غير مشروط:

كانت الجماعات الدينية والليبرالية سواء بسواء ونتيجة للمتغيرات الداخلية السياسية والاقتصادية والفكرية في نهاية عقد التسعينيات سيما بعد انكسار هيبة الدولة إثر الازمات الداخلية المعقدة في امس الحاجة الى نقد ذاتي ومراجعة حرة مجردة تزوّد الجماعات بفسحة من الوقت والجهد لتصفية العلاقة المحتقنة مع الآخر، قبل تحديد الخلل الناجم عن فشل مشروعها الخاص وتجديد مسارات التفكير والعمل بمعزل عن الانشدادات العاطفية والفكرية والانتماءات المتباينة سياسياً وايديولوجياً، وتعززت القناعة فيما بعد بضرورة التجديد والنقد الذاتي بعد أن وصل الواقع السياسي المحلي الى حافة إنهيار وشيك، حيث بدأت معالم (تفكير جديد) ينفرز في وسط الاشكال الدينية السائدة..تفكير يحمل رسالة تغيير وتسامح وحوار. فنشطت على إثر المتغيرات هذه قيادات دينية وفكرية يحدوها الامل والثقة الكبيرة في اقامة قواعد جديدة للقاء الفكري والحوار الوطني المثمر، وإستطاعت من خلال لقائها الفكري في الرياض أن تؤكد إمكانية الحوار واللقاء والتواصل بين المختلفين وأن تنجح في فرز الاشكال الدينية المتشددة داخل هذه الجماعات. نشير هنا الى أن تسيّس هذه الجماعات كان سبباً رئيسياً في الانفتاح على الفكر الآخر والجماعات الاخرى، حيث شقّت كل جماعة لنفسها مساراً جديداً في التفكير والعمل، هكذا يبدو في الكتابات المتأخرة لدى أقطاب هذه الجماعات.

ونفترض أن هذه المرحلة لم تستكمل شروطها وأغراضها بعد، فمازال هناك الشيء الكثير ينتظر من رموز الجماعات الدينية فعله من أجل إزالة مبررات الحذر المحيط باللقاء والحوار الفكري بين هذه الجماعات، وتبقى هناك مرحلتان أخريان هما:

مرحلة الاعتراف المتبادل:

تتطلب هذه المرحلة وعياً متقدما يستند على أساس حقوقي بدرجة أولى، أي الوعي بحق كل جماعة في التعبير عن نفسها بدون عسف أو حيف. فاللقاء الفكري الذي ضم الجماعات الدينية في السعودية لم يوصلها حتى اللحظة الى الاعتراف المتبادل والاقرار بحقوق كل جماعة في التعبير عن معتقداتها وأفكارها. قد يكون هناك ما يمكن وصفه بإرهاصات تحول فكري داخل هذه الجماعات بعد أن فشل كل طرف في القضاء على الطرف الآخر وتقويضه أو استقطابه، فأمام كل منهما خياران: إما الابقاء على حالة الحرب المعلنة والتي ستؤدي الى إنهاك الإطراف المختلفة، وربما تسمح بمزيد من التدهور في الاوضاع العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإما الاعتراف المتبادل والتعايش السلمي الذي يضمن لكل تيار حقه في الحياة، والتنافس والاختلاف والانتشار.

يمثل اللقاء الفكري في الرياض خطوة على طريق الاعتراف المتبادل كما أن الجلوس الى طاولة الحوار يعد قفزة هائلة في تفكير الجماعات المختلفة، فهو يعكس الى حد ما قناعة هذه الجماعات بأن الحوار يمثل الخيار الموضوعي لضمان حقوق ومصالح كافة الاطراف، الا أن مايلحظ على اللقاء الاول أنه لم يؤسس لعلاقة جديدة بمحددات واضحة وثابتة. فكان كل منها محكوماً للماضي بكل مافيه من مشاحنات وشكوك، وزاد عليها التبدلات السياسية الخارجية، التي قد تميل بكفة هذه الجماعة أو تلك، فتجعل من أي التزام بينها معوّقاً لتقدمه أو إفتئاتاً عليه.

الشراكة في الوطن.. مرحلة مرتقبة

يمثل الاعتراف المتبادل الخطوة الاولى في مسار العلاقة بين التيارات الفكرية والسياسية المتنافرة، ولكنه بالتأكيد لا يعني إنهاء القطيعة والتنافر وإنما هو تحصيل حاصل يفرضه الواقع الخارجي، ولابد من خطوة أخرى تعبّر عن إرادة هذه التيارات وحاجة كل منها الى الآخر، تأسيساً على أن مفتاح الحل لانهاء حالة القطيعة بين الجماعات يكمن في الارتقاء فوق الاختلافات العقيدية والدخول في شراكة من نوع التحالفات السياسية، على قاعدة متينة تستهدف سحب فتيل الصراع الفكري وتحفظ لكل جماعة حقها في التبشير بأفكارها سلمياً، وإشاعة مناخات حرة تحيل الخلاف والنزاع الى تنافس مثري يسمح بالانفتاح على الفكر الآخر.

فالتسوية الفكرية المطلوبة تفترض أن خصومات الجماعات الايديولوجية ليست مبتنية دائماً على أساس تمايز عقدي، وإنما دخلت عوامل الشقاق والتنافر والانطواء على الذات والمصالح السياسية عناصر جديدة أملت على كل جماعة الرفض المطلق لكل فكر ينتمي الى غيرها، بصرف النظر عن صحته وسقمه.

لا يلغي ذلك أن لكل جماعة رؤيتها الخاصة للكون والحياة والمجتمع والدولة، ولكن ليست الرؤية محكومة دائماً الى نظام عقدي ثابت. يضاف الى ذلك أن الخطاب العقدي يظل مفتقراً الى حالة من التوازن مالم يقرأ من خلال البيئة الاجتماعية والفكرية والسياسية التي نشأ فيها.

إن التوازن في قراءة الخطاب الفكري لكل جماعة كفيل بتحقيق التسوية الفكرية المطلوبة لتنتج في مرحلة لاحقة وعياً جديداً مختلفاً لمفردات الخطاب. وأن التسوية الفكرية تتطلب اعادة وعي الذات قبل الآخر من أجل الوصول الى مرحلة الشراكة المطلوبة في بناء وطن للجميع بكل أطيافه الايديولوجية والسياسية والاجتماعية.

في تقديرنا أن اللقاء الفكري بين الجماعات المختلفة يجب أن يُبنى على أساس ثوابت محددة وواضحة على النحو التالي:

أولاً: تأصيل الحقوق الاساسية والحريات العامة فكراً وممارسة

تتبدد كافة الجهود الرامية الى عقد لقاء فكري وحوار وطني مالم تتوفر الضمانات والمناخات اللازمة والضرورية كيما يثمر في نتائج حقيقة وفاعلة، بما يقتضي التأصيل الشرعي والفكري للحقوق الاساسية والحريات العامة للانسان بصرف النظر عن انتماءاته الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية.

فليس هناك خيار في التعايش السلمي والاتفاق سوى من خلال منظومة الحقوق والحريات الاساسية كما أقرّها الاسلام والمدوّنات الحقوقية الدولية مورد إتفاق المجتمع الدولي والمتطابقة غالباً مع روح الشريعة الاسلامية، والتي تؤكد على حرية الذات، وحرية الفكر والتعبير، وحرية المعتقد، ونبذ الاكراه في الدين والفكر، والتأكيد ايضاً على قيم الحرية والتعددية بكافة اشكالها، ومقارعة الصيغ والاشكال الاستبدادية في الفكر والسياسة، والاهم من ذلك مأسسة الحريات والقيم وتحويلها الى مشاريع عمل مشتركة تدافع عن حقوق الانسان وحرياته. إن من شأن اقرار الحريات العامة والحقوق الاساسية أن تكون اطاراً ثابتاً يحكم العلاقة بين الافراد والجماعات والدول فكراً، وممارسة.

ثانياً: نزع الوصاية بكافة اشكالها

سيادة المنطق الوصائي على أي جماعة دينية أو ليبرالية تظل أخطر معوّق للشراكة، إذ يرى كل طرف نفسه ممثلاً للشرعية ومانحاً لها، بما يتضمن سلباً لحقوق الآخر في العيش والتفكير والنشاط، ولا نظن أن الحالة المرضيّة هذه تقتصر على الجماعات الدينية وحدها والتي غالباً ماتجرّم بكونها مناهضة للتعدد والحرية، بل أن المنطق الوصائي نجده مسيطراً بنفس القدر على النخب القومية والعلمانية.

إن عملاً دؤوباً من أجل إرساء أساس مشترك للجماعات المختلفة بات مصيرياً الآن من أجل تجنيب الجميع مخاطر التمزق والتبدد الجماعي. إن الشراكة الوطنية تتطلب إحباط مفعول المعتقدات القديمة القائمة على أساس النبذ المتبادل وامتلاك جماعة دون غيرها الحقيقة المطلقة، فالشراكة تتطلب تفكيراً متوازناً يقبل وجود مساحة للاختلاف بين الفئات على أن هذا الاختلاف يكون داخل اطار الوحدة الوطنية، أي التنوع داخل التوحد. فالوطن الذي يضم فئات متعددة قادر على صناعة وحدة داخلية صلبة بين المختلفين إن قرر الأخيرون ذلك.

الصفحة السابقة