في مملكة الصمت والقهر

المرأة.. مصدر تهديد الأمن الوطني

سامي فطاني

قبل يوم من موعد الحملة الشعبية على شبكة الانترنت للمطالبة بقيادة المرأة للسيارة في 26 أكتوبر الماضي، أصبحت المرأة مصدر تهديد من نوع آخر.. فقد تصاعدت نبرةُ الترويع لدى الداخلية إزاء حملةِ قيادةِ السيارة، واتسعت دائرةُ المستهدفين لتشمل المغرّدين تحت طائلةِ قانونِ جرائم المعلومات الذي صُمِّم خصيّصاً ليطال أولئك الذين يعبِّرون خارجَ الرقابةِ عن آرائهم، ويرسمونَ بريشةِ الحريةِ مستقبلَ الوطنِ المتخيّلِ، المشيّدِ على قواعدِ الحريةِ، والعدلِ، والمساواةِ، والمواطنةِ الكاملة.

لغةٌ انفردت بها الداخليةُ في تعاطيها مع ملفِ الحقوق عموماً ومنها حقوقُ المرأةِ على وجه الخصوص. في عباراتٍ تنقضُ فيها المفردةُ ما يليها وما يسبقها، تبعثُ الداخليةُ رسالةَ تهديدٍ للقائمات على حملةِ قيادةِ السيارة بأنها لا تهدّدُ الناشطاتِ، ولكن تمَّ الاتصالُ بهن لطلبِ الإلتزامِ بالأنظمة، والسؤالُ هنا: وهل التهديدُ يحتملُ تفسيراً آخر غير هذا، أم أنَّ له لوناً آخر..؟!

تعضد بياناتِ الداخليةِ بما تختزنُ من تهديدٍ ووعيدٍ، عناوينُ الصحفِ المحليةِ التي جاءت مُحمَّلةً بجرعةِ ترهيبٍ هائلةٍ، وتدعو بالويلِ والثبورِ وعظائمِ الأمورِ على من يشاركَ أو يناصرَ من ذكرٍ أو أنثى في حملةِ قيادةِ المرأة للسيارة..لا خزي أقل في الوصف من أن ترى مانشيتات الصحف المحلية وهي تطري تدابير قمع السلطة للحريات العامة، وتبني تفسيرها في تحويل الحرية الى مصدر تهديد!

لم تخفي الصحفُ المحليةُ سرَ تماهيها مع السلطة، أو بالأحرى مع الداخليةِ على وجه التحديد، فتقمصّت رداءَ رجلِ الأمنِ الأول، الذي لا يدركُ من الأمنِ سوى ما يحفظُ وحدةَ السلطة وبقائِها وليس حقوقَ المجتمعِ وسعادتِه، فأنذرت بعواقبَ أمنيةٍ لقيادةِ المرأةِ للسيارةِ، وبشّرت بالفوضى الناجمةِ عن ممارسةِ هذا الحق، فيما راحَ المبشرون بالفتنةِ يهيمون في رصدِ الزلازلِ الاجتماعية قبل وقوعها، والاكتشافاتِ المبكرةِ للمؤامراتِ التي تحاك ضدَ الأمةِ وكيانِها، ودينِها من وراء جلوس المرأة في مقعد السائق بدلاً من مقعد الراكب..

لغةُ التهويلِ الأمنيِ سواءً صدرت عن الداخليةِ أم عن الصحفِ المحليةِ، وكذلك الرعبُ الدينيُ سواءً صدرَ عن إمامِ المسجدِ أو رجلِ الافتاءِ أو حتى من حارس الجامعِ، يوضعان على محكِ العلاقةِ بين السلطةِ والمجتمعِ، علاقةٌ خضعت وتخضعُ الآن لتبدّلاتٍ جوهريةٍ نتيجة إصرارِ السلطةِ على البقاءِ في مرحلةٍ زمنيةٍ استنفذت أغراضَها ومجتمعٌ يعيش ديناميةً فاعلةً تواكب لغةَ العصرِ، ويطلبُ ما أصرّت السلطةُ على رفضه منذ عقود، بما لا يتجاوز على النظامِ القيميِ للمجتمعِ، وفي الوقتِ نفسِه لا يجري استغلالُه لجهةِ رفضِ كلِ ما هو حقٌ ثابتٌ ومشروع..

إنه صراعُ إراداتٍ، يخفي تجاذبَ مشروعيات، وبين قمعِ السلطةِ وتصميمِ المجتمع على السير في خياراته تتوقف مشروعيةُ السلطةِ على الاقترابِ من إرادةِ المجتمعِ وليس على قدرةِ كسرِها..

في تاريخِ الدولِ عموماً والعلاقةِ بين السلطةِ والمجتمع، لا حديثٌ نهائيٌ عن مشروعيةٍ مكتملةِ النمو لا يكونُ الشعبُ مكوّناً رئيساً فيها، مهما بلغت قدرةُ السلطةِ على تحويلِ القوةِ الى حق، أو استعمالِها كمصدرٍ للمشروعية، ففي زمنِ الشعوبِ يصبحُ أيُ كلامٍ عن مصادرِ مشروعيةٍ متجاوزةٍ لصاحبة الحقِ الأصليِ لغواً تاماً..

في هذا اليوم، كما في 11 مارس الفين وإحدى عشر، أطلقت الدولةُ العميقةُ كلَ عفاريتها، لتخويفِ النساءِ من عواقبِ قيادةِ السيارة، الى حد الهرطقةِ في تصويرِ هذه القضية على أنها تهديدٌ للأمنِ الوطني...حسناً، إنها الدمغةُ التي تستعملها أجهزةُ التهويلِ للحيلولةِ دون بلوغِ أصحابِ الحقِ غاياتِهم النهائيةِ..

تهمةُ تهديدِ الأمنِ الوطنيِ طالت رموزَ الاصلاحِ السياسي، وروّادَ العملِ الحقوقي، ويطال اليوم المرأةُ، وكلَ من يقفُ معها في حقٍ ثابتٍ لها..إن مجردَ استعمالِ تهمةٍ من هذا القبيل كفيلٌ بكشفِ رؤيةِ أهلِ الحكم لأصلِ القضيةِ، حيث يتمُ النظرُ الى قيادةِ المرأةِ للسيارةِ، وكلِ حقوق المرأةِ السياسيةِ والاجتماعيةِ بكونها شأناً سياسياً وأن لا حلَ له الا عن طريقِ الأمنِ، وترجمةُ ذلك تتلخّصُ في القاعدةِ الأمنية الذهبية أن صمتَ الرجلِ يتحققُ بقمعِ المرأةِ، وإن مجرّد تحررِها من قيودِ مملكةِ القهرِ، يبدأُ الرجلُ مشوارَه في دربِ الحرية..

أمام كل هذا الجور والانتهاك الصارخ والسافر لحقوق الانسان، وحقوق المرأة على وجه الخصوصم، تشكو الدولة السعودية من قلةِ زادِها في صونِ حقوقِ الرعيّة، ومن كثرةِ المتآمرين عليها، بعد أن كانت الحجّةُ الواهيةُ تقوم على ما حالَ بين امتثالها لمبادىء حقوق الانسان من تعارضٍ مع رؤيتها الدينية..

مملكةُ الصمت، والقهرِ، واضطهادِ المرأة، والتمييزِ ضد مواطنيها على قاعدةٍ مذهبيةٍ ومناطقيةٍ وقبليةٍ، تشكو من تكالبِ منظماتٍ حقوقيةٍ دوليةٍ عليها..

وفيما تشبه حالتُها حالةِ إمرىءٍ أدبرت الدنيا عنه فأعارته مساوىءَ غيرِه، فباتت المملكة السعودية وكما كانت تعمل بخصومِها ممن لا يملكون المالَ ولا الاعلام تؤخَذُ بالظنّةِ والشبهة، وأصبحت في مرمى النار المباشرةِ من كل المنظماتِ الحقوقيةِ الدولية..

ومن حسنِ الصدف، في بلدٍ تزداد فيه أوضاعُ حقوقِ الانسان سوءاً، أن تتوالى الأفعالُ الحقوقيةُ في الداخلِ والخارجِ وكأنها تغذي حسَ المؤامرةِ لدى أهلِ الحكمِ في المملكة فتصبحُ حملةُ قيادةِ المرأةِ للسيارةِ مؤامرةً خارجيةً، أو بحسبِ توصيفِ أحدهم تهديداً للأمن الوطني، كما كانت حملةُ الراتب لا يكفي الحاجة الذي حازَ على رقمٍ عالميٍ متقدّم، وجاءت انتقاداتُ ممثليِ الدول الاعضاء في مجلسِ حقوق الانسان في جنيف بالتزامن مع صدور تقاريرٍ حقوقيةٍ عن منظماتٍ دوليةٍ لتفجّر المضمر من هواجسِ النظامِ من أن مؤامرةً تحاك ضد الدولةِ السعودية..

لأهل الحكم ما يبرر مخاوفِهم، ولكن للضحايا في الداخل وللمنظمات الحقوقية الدولية وكذلك للدول التي يعنيها الحفاظ على مصداقيتها تقديم كل ما ينال من حقوق الانسان وكرامته، أو يهدّد حريته ووجوده..

تعلو صرخة المنافحين عن النظام ليس لقناعة فيه بالضرورة فهم يدافعون عن امتيازات لا يمكن صونها إلا بوجوده، لكن تلك الصرخة تضيع في زحمة صرخات المقهورين، والمضطّهدين في سجون النظام...

اليوم، لا معنى صادق وحقيقي للدفاع عن القهر في المملكة، لأن وتيرة الانتهاكات لحقوق الانسان ومساحة انتشارها تجعلان من مجرد الانخراط في فرقة المتزلفين مغامرة بالصدقية والكرامة، وتصبح مهمة هؤلاء كمن يريد إثبات وجود أشعة الشمس في مكان ينهمر فيه المطر بغزارة كثيفة..

إن حالة الانكار التي يعيشها أهل الحكم في الوقت الراهن تجعل من النفي هروباً ليس من الحقائق على الأرض، بل ومن المصير الذي يخشون الوصول اليه في لحظة مباغتة.

الصفحة السابقة