دافع العنف ضد الدولة يطلق

تجديد الخطاب الديني السلفي

موضوعة تجديد الفكر الديني ليست بجديدة، فقد كانت مطروحة منذ أوائل القرن الماضي، أي منذ بدايات الاحتكاك والمواجهة بين منظومتين معرفيتين: دينية وعلمانية ليبرالية، فمنذاك إضطلعت جمهرة من علماء الدين في أرجاء العالم الاسلامي بإعادة قراءة النصوص الدينية لجهة صياغة خطاب إسلامي متوافق مع روح العصر، يدفعهم الى ذلك ما أثارته الثقافة الحديثة من إشكاليات حول قدرة الدين على تجديد نفسه وتقديم إجابات لمشكلات الحاضر والمستقبل. وقد ظلت عمليات التجديد في الفكر الديني متواصلة وممتدة من شبه القارة الهندية وحتى المغرب العربي، ولم تكن هذه العمليات مقتصرة على مدرسة فكرية واحدة، بل تكاد تستوعب أغلب المدارس الفكرية داخل المجتمع الاسلامي. وقد امتلأت المكتبة الاسلامية وبخاصة العربية بكتابات لعلماء كبار من العالم الاسلامي أمثال السيد جمال الدين الافغاني والشيخ محمد عبده، والشيخ عبد الرحمن الكواكبي، والشيخ رشيد رضا، ومحمد البهي، وحسن البنا، وغيرهم كثير. فهؤلاء جميعاً نذروا حياتهم للقيام بمهمة تجديد الفكر الاسلامي ودخلوا في مناظرات فكرية عميقة وجادة مع كبار روّاد الفكر الغربي، طمعاً في درء الشبهات عن الاسلام ورغبة في تطوير المفاهيم الدينية بما يتناسب وظروف الحياة المعاصرة.

مدرسة فكرية واحدة فحسب بقيت في منأى عن التجديد، تتمثل في المدرسة السلفية الوهابية، التي لم تشهد تلك المخاضات الاصلاحية في بقاع عديدة من الشرق، ولربما شغل هذه المدرسة الانتصار السياسي والعسكري التي كانت تحرزه في الداخل عن التفكير في تجديد ذاتها، أو لأنها لم تكن بعد قد إستشعرت الحاجة الى هذا النوع من النقد الذاتي بسبب ظروف إنحباسها وسط الجزيرة العربية، أو لأسباب أخرى عديدة ليس هنا محل ذكرها.

ما يظهر الآن أن إستنفاراً عاماً أعلنته المؤسسة الدينية الرسمية في المملكة محثوثة بدفع سياسي من أعلى من أجل البدء بعمليات تجديد في الخطاب الديني السلفي. فإضافة الى كثافة الندوات التلفزيونية، والتراجعات العلنية من قبل رموز التيار التكفيري، تعقد مؤتمرات في عدد من العواصم العربية والاسلامية حول تجديد الخطاب الديني. وكل هذه الفعاليات تأتي كممليات لتأثير أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتفجّر ظاهرة العنف في السعودية بدرجة أساسية، وتورط جماعات سلفية في أحداث التفجيرات داخل المملكة وخارجها، فقد نبّهت متواليات العنف الى أن ثمة خللاً جوهرياً في الخطاب الديني السلفي، ولابد من التفتيش عن محرّضات العنف بداخله.

النزعة المتأخرة نحو تجديد الخطاب الديني السلفي في المملكة تعبّر عن إتجاه صحيح نحو تسوية معضلة أصيلة في هذا الخطاب، إذا ما أريد ترجمتها في هيئة مراجعة نقدية جادة وعميقة في مضامين الخطاب من أجل تخضيد شوكة التطرف بداخله، أو بالأخرى نزع فتيل العنف منه، ولا تستهدف مجرد إبطاء مفعوله الآني، أو إعادة طلاء الخطاب بلون جديد ريثما تهدأ العاصفة.

حديث وزير الشؤون الاسلامية الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ عن تجديد الخطاب الديني في ندوة عقدت في بيروت في هذا الشهر يثير اللبس في مقاصد التجديد وأغراضه، فهو يقصر التجديد على الأطر، والأولويات، والآليات فيما يغفل عن قصد أو خلافه مضمون الخطاب الديني نفسه، وكأنه يلامس متغيرات الخطاب لا ثوابته، فيما يدور الجدل كله تقريباً حول مكوّنات الخطاب الرئيسية، المسؤولة عن صناعة وعي ديني متطرف. هناك ما يشير أحياناً الى اللغة الدفاعية التبريرية للخطاب السلفي يراد منها حفظ المنظومة من الاهتزاز، والنأي عن الخوض في المياه العكرة حتى لا يضطر الى التفكير في قاع الخطاب.

وفيما يبدو أن إعادة قراءة النص الديني السلفي كما تعكسها ندوات التلفزيون بمشاركة عدد من رموز المؤسسة الدينية الرسمية تميل الى الابقاء على جوهر النص ومضامينه مع تعديلات شكلية تهدف الى العبور بتمامية النص الى المرحلة القادمة دون خسائر. بكلمات أخرى، أن إنهدام معاني النص السلفي لا تعني التخلي عن نوايا مستقبلية نحو ترميمها وتفعيل العمل بها، بل ما يجري هو مجرد تأجيل عمليات الترميم.

في خلال شهر واحد ومنذ أن بدأ الحديث عن تجديد الخطاب السلفي، ظهر على شاشات التلفزيون الرسمي وشبه الرسمي رموز دينيون من المدرسة السلفية وهم يقذفون بالكفر طوائف من المسلمين وغير المسلمين، بل نادى أحدهم بإخصاء المغنين، فضلاً عن كلمات المديح التي أطلقها الشيخ سفر الحوالي على شاشة (العربية) في أسامة بن لادن، لكونه خدم الاسلام!.

إن منطلقات التجديد ودوافعه تستحق وقفة تأمل أيضاً، فالخطاب السلفي بمضامينه المتفجرة لم يتشكل قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر بأيام قلائل، ولم يترجم نفسه في هيئة شاحنات مفخّخة قبيل الثاني عشر من مايو، بل كان فعله الاجتثاثي قد بدأ قبل نشأة الدولة وبعدها ومازال الخطاب بكافة تجسيداته باقية لم تتغير. إن التنوع المذهبي والثقافي في المملكة قد جرى سحقه بفعل النزعة التنزيهية التي حملها صانعو الخطاب ووفرت السلطة السياسية الحماية له من أجل اكتساح الجماعات الأخرى ومصادرة حقها في التعبير عن نفسها.

مؤسف القول بأن التجديد يأتي على خلفية العنف ضد الدولة، ولو كانت مخاطر الخطاب السلفي موجّهة ضد المجتمع لبقي الخطاب متماسكاً ومدعوماً سياسياً، ولذلك فإن الأجزاء المراد تجديدها في الخطاب لا تمس سوى المتصل منها بالدولة وسمعتها ومكانتها وعلاقاتها الخارجية. وكنا نأمل أن تكون هذه الخطوة قد بدأت منذ سنوات حين كانت الفتاوى تصدر من أعلى رتبة في المؤسسة الدينية، وتنشر في وسائل الاعلام الحكومية، فيما كانت تمنع كتب وفعاليات دينية بذريعة مخالفة الشريعة. فكم فتوى تكفيرية صدرت ضد العالم الجليل السيد محمد علوي المالكي، ومنعت كتبه من الطباعة أو حتى الدخول الى المملكة، ثم توالى صدور فتاوى التكفير ضد آخرين من علماء ورجال فكر وقلم وثقافة وأدب.

فلماذا تبدأ الدولة الآن بالتفكير في تجديد الخطاب الديني، رغم أن مدارس فكرية عديدة قد سبقت إليه ولم تكن بحاجة الى التذكير به والدعوة اليه؟ إنه العنف وحده الذي يصيب الدولة في صميمها، ويهدّ من أركانها، فهي تدفع الآن ما كانت تقبض ثمنه فيما مضى.

الصفحة السابقة