رؤى متباينة

الاصلاح.. حدوده، ومنطلقاته، وكيف

إن الاجماع الشعبي على خيار الاصلاح بين ألوان الطيف السياسي والديني في المملكة يخفي بداخله غالباً تباينات حادة حول طبيعة الاصلاح، حدوده، وآلياته. فلكل قوة سياسية وأيديولوجية وجهتها في التغيير، ولها أجندتها في الاصلاح المنشود، وبالتالي لها إستراتيجية إصلاحية قد تتفق جزئياً أو كلياً مع غيرها.

القضية لا تقف عند حد وتيرة الاصلاح من حيث البطء والسرعة، بل تغطي وتستوعب مجمل عملية التغيير ومضامينها. هذا لا يعني أن وتيرة الاصلاح لا تمس المضمون الايديولوجي لكافة القوى السياسية والاجتماعية، بل هي تعكس الى حد ما جانباً منه، فكثير من الذين يتحدثون عن أن خطوات الاصلاح لا زالت بطيئة وغير متوافقة مع روح العصر وسرعته يصدرون عن عقيدة أن الانتقال بالدولة الى مرحلة جديدة يجب أن تتم بحسب شروط الحداثة والارتقاء، وهكذا الحال بالنسبة لأولئك الذين يريدون العودة بالدولة الى مرحلة السلف، فهم يصدرون عن عقيدة أن تصحيح مسار الدولة يجب أن يتم بحسب تمثّلها لأحكام الشريعة، وبين هاتين المفرزتين هناك إتجاه ثالث توفيقي يحاول الجمع بين أحكام الشريعة وروح العصر.

فالاتجاه التقليدي والسلفي منه بوجه التحديد ينظر الى المتغيرات بإعتبارها أمراً إعتيادياً لا يجب التوقف عنده لأنها تحصيل حاصل، وبالتالي لا يجوز الركون إليها أو التأثر بها، بل ما يجب الاعتناء به أولاً وأخيراً هو تطبيق الشريعة، تعويلاً على تصوّر خاص حول الحضارة الغربية التي كما يعتقد هذا الاتجاه قد غرقت في أزماتها الاخلاقية، وسقطت في وحل الفساد، وتحللت من القيم الانسانية. والحل في نظر هؤلاء هو بالعودة الى نموذج السلف الصالح لإرساء دولة الشرع والتي بواسطتها يمكن إنقاذ البشرية قاطبة. إن هذه الرؤية تجعل من الاصلاح متصلاً بدرجة وثيقة بما يتوافق منه مع المفهوم الديني، أي بما يقترب مع أحكام الشريعة، بقطع النظر عن ظروف الزمان والمكان وتبدّل الآليات.

ومن أجل تعزيز موقفه الاصلاحي بنزعته السلفية الشديدة، يلجأ هذا التيار للاحتجاج بالتطبيق الخاطىء للعملية الاصلاحية، وبحسب بعضهم فإن دولاً إسلامية عديدة وضعت دساتير، وأجرت إنتخابات، ولكن هذه التجارب فشلت في تطبيق الشريعة، فكانت المحصلة إنهيارات في المستوى المعيشي والخدمي وإنتشار الفقر والأمية والبطالة وسكنة المقابر وأصبح الرغيف اليومي همّاً مركزياً لدى المواطن في هذه البلدان، التي أصبحت تتسوّل المعونات الاقتصادية والمالية من الدول الكبرى (الكافرة) في مقابل التنازلات المشروطة الماسّة بالسيادة والكرامة والدين. كل ذلك يطرح سؤالاً إستنكارياً بحسب هذا التيار على النحو التالي: (ماذا نفعت تلك الدساتير والانتخابات؟!) ويجيب بالقول: لقد دمّرت كل شيء والسبب أنها إبتعدت عن تحكيم شريعة الله تعالى. فالمطلوب بحسب فحوى الاجابة أن يعاد صياغة الدولة على أسس دينية كيما يتحقق الرفاه والعدل والمساواة.

يجب القول بأن ثمة إجماعاً صلباً يستوعب حتى الأمراء على أن الخطوات الاصلاحية المعلن عنها بطيئة، ويجب أن تأخذ وتيرة متسارعة، بسبب مضامين القرارات الاصلاحية من جهة، وبسبب الاجراءات البيروقراطية الموجودة في البلاد من جهة ثانية. الا أن ما ثبت حالياً فإن موضوع الاصلاح في بعديه الشامل والجذري بات مورد إجماع شعبي، فقد إستيقظ الجميع على واقع مأزوم يصعب معه القبول بالتأجيل والتجزئة في العملية الاصلاحية، فضلاً عما تنتجه المتغيرات الاقليمية والدولية من محفزات ذات تأثير كبير في الدفع باتجاه الاصلاح السياسي.

مخاوف الاتجاه التقليدي في الدولة والمجتمع من الانتقالات الفجائية تقوم على أساس النظر الى أن التداعيات المستقبلية للتحول قد تنذر بإنفجارات كامنة في جسد الدولة الراهنة، والناشئة عن تراكمات قديمة قد تهدد بتبديد الشمل السياسي وبعثرة الوحدة المجتمعية. ولذلك، يرى هذا الاتجاه بأن التحول يجب أن يخضع لشروط وإعتبارات صارمة، أي بمعنى آخر إنها مرحلة بحاجة الى وعي خاص، مؤسس على تشخيص لأوضاع وخصوصيات الداخل دون الخضوع تحت تأثيرات الضغوط الخارجية وظروف الدول والمجتمعات المجاورة، وحتى ما يصدع به قطاع واسع من المجتمع، وذلك من أجل صياغة برنامج إصلاحي متقن يرعى فيه حدود الشرع أولاً وأخيراً.

ويحقق هذا الاتجاه المحافظ قبولاً وتجاوباً لدى الطبقة السياسية العليا لأنها تلتقي معه عند حدود الاصلاح ووتيرته، فهو يشق لها مساراً آمناً في التحول والذي لا يتطلب بأكثر مما هو عليه الحال الآن مع مراعاة بعض القيود الشرعية، وثانياً شيئاً من التنازل للحليف الديني التقليدي.

وفي داخل هذا الاتجاه هناك من يرى بأن السيرورة الاصلاحية يجب أن تتم بطريقة تكميلية أفقية، أي تطوير الآليات التي أنشأها المؤسس الملك عبد العزيز، كمصدر إلهام وإسترشاد، ومن هذه الاليات مجلس الشورى، ومجالس البلديات والتقاليد السياسية المتبعة في الماضي في العلاقة بين القيادة والشعب. وقد بالغ بعضهم الى حد الزعم بأن عبد العزيز قد أسس الارضية المناسبة للعملية الاصلاحية الشاملة ولكنها إنقطعت بموته، تعويلاً على التغييرات التي أحدثها في مجالي الاتصالات والتعليم.

هناك من يجادل بأن البلاد لم تعد قابلة بالاحتفاظ بخط سير تراكمي في التغيير، فإن الظروف الداخلية بكل تفجّراتها المعلنة والكامنة لا تمنح الزمن الكافي للدخول في عملية إصلاحية بطيئة ومتدرِّجة، فإن المشاكل الحادة التي تعصف بالمجتمع تسقط خيار الوقت، وتجعل من الانتظار والصبر من أجل تقديم حلول مقطّرة ومبتسرة وأحياناً كثيرة مخيبة للآمال رهاناً مدمّراً، خصوصاً وأن أوضاع البلاد مرشحة للتدهور والانفلات في ظل إنسداد آفاق الأمل والخروج من النفق. هذا مع ملاحظة أن الظروف السياسية الاقليمية والدولية التي لا تقل خطورة تسير في الوقت الراهن على الضد من رغبة شعوب ودول المنطقة. بمعنى آخر، إن مجمل الاوضاع الداخلية والخارجية تفرض ضغوطاً شديدة على الدولة كيما تبدأ تغييرات جوهرية بصرف النظر عن تداعياتها المستقبلية، فهي مهما بلغت من الخطورة ستكون أقل مما هي عليه المكاسب المرجوَّة من الاصلاح، إن لم تكن الاضرار المتوقعة مبالغة وخصوصاً في جانبها السياسي.

فالانشغال بهاجس الانعكاسات السلبية للاصلاح، والمخاطر الناجمة عنها ومن ثم التفكير في كيفية التحكم والسيطرة بالعملية الاصلاحية قد يفضي بمرور الوقت الى سلب إرادة القيادة السياسية، وحينئذ تكون الاخيرة غير قادرة عملياً على التحكم بالدولة نفسها. فالوهن الذي أصاب القيادة السياسية هو بفعل التردد المزمن في خوض غمار العملية الاصلاحية المتوازنة والمتوافقة مع روح العصر وحاجات المجتمع ومطالبه، وهو ذات السبب ـ أي التردد المزمن ـ الذي ساعد على بروز قوى سياسية شبه منظمة وهكذا ظهور إتجاه راديكالي يتوسل العنف طريقة في التغيير بقوة السلاح والشاحنات المفخخة.

وفي ظل غياب قيادة سياسية تحظى بالاجماع داخل العائلة المالكة، وتملك إرادة الحسم في موضوع الاصلاح السياسي، فإن ذلك يدفع بقوى أخرى للظهور وهكذا تصعيد النشاطات السياسية من أجل تكثيف الضغط نحو الاعلى لفرض الاصلاح. هذا الدفع يتوافق مع قناعة بدأت تسري في المجتمع خصوصاً بعد الاعلان عن المجلس البلدي والتعديلات الثانوية في مواد مجلس الشورى، وهي أن لا أمل في الاصلاح مرجوٌ من العائلة المالكة ولابد من البحث عن بدائل أخرى. وهناك من يزيد على الأمر بأن العائلة المالكة أصبحت غارقة في فسادها وصراعها الداخلي ما يجعلها أبعد ما تكون عن التفكير في إصلاح ذاتها فضلاً عن إصلاح الدولة.

إن الحدود المرسومة لعملية الاصلاح كما تتصورها التيارات السياسية والدينية في المملكة محكومة بتشخيص طبيعة الدولة الحالية، وشكل الحكم المأمول، وبطبيعة الحال المدى الذي تصل اليه حركة الاصلاحات. فهناك من يرى بأن الاصلاح لا يقف عند مجرد الاعلان عن إنتخابات جزئية أو تعديلات تشريعية أو حتى الاعلان عن مؤسسات جديدة. إن التجارب الحالية التي شهدتها دول عربية مجاورة في تشويه العملية الاصلاحية عبر وضع دساتير وبرلمانات صورية أسست لنموذج فريد من الدولة التسلطية التي تصادر الحريات، وتمارس أبشع أصناف القمع، والتعدي على الممتلكات، وتشجيع الفساد بكافة أشكاله، وأخيراً تحويل أجهزة الدولة الى مراكز إستزلام للرئيس والملك والأمير. إن هذا التشويه الخطير للعملية الاصلاحية، وتقويض أسسها باستعمال الاشكال والمفردات الاصلاحية نفسها لا يمكن أن يدرأه سوى توفير ضمانات حقيقية وفعلية من داخل البرنامج الاصلاحي ذاته، أي من خلال التأكيد على فصل السلطات الثلاث فصلاً حقيقياً وعملياً ومنح السلطة التشريعية (البرلمان) صلاحية تامة ومستقلة في صياغة الدستور تحدد فيه بالدقة صلاحيات رئيس الدولة، والرقابة على أداء السلطة التنفيذية، وتحرير السلطة القضائية من هيمنة السلطة التنفيذية وبوجه خاص رئيس الدولة. ولابد من التشديد هنا على بناء مؤسسات المجتمع المدني العاضدة للسلطتين التشريعية والقضائية، والسند الحقيقي لهما أمام تغوّل السلطة التنفيذية وتجاوزاتها.

إن طريق الاصلاح الحقيقي والفعلي يبدأ من خلال وضع دستور للدولة جديد تحدد فيه صلاحيات الملك والسلطة التنفيذية بصورة عامة، ويكون الشعب ممثلاً في مجلس برلمان يزاول مهمة السلطة التشريعية ويكون رقيباً على حفظ وصيانة الدستور، وتكون للسلطة القضائية إستقلالية تامة عن سلطة الملك، والسلطة التنفيذية بصورة عامة.

إن هذه التدابير الأساسية وحدها الكفيلة بوضع البلاد على سكَّة الاستقرار والسير الصحيح نحو تسوية كافة المشكلات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وبها أيضاً يمكن توفير البيئة المناسبة لاستئناف العملية التنموية الشاملة، وهكذا تحقيق العدل والمساواة وصيانة الحقوق والواجبات المشتركة بين المجتمع والسلطة.

وبإستثناء التيار الجهادي التكفيري الذي يجاهر بمنابذة الدولة، ويسعي لاستبدالها وإحلال نموذجه الديني السلفي، فإن ثمة موقفاً مطمئناً يعبّر عنه الطيف الاصلاحي العريض بكافة تياراته الليبرالية والوطنية والدينية، ينطلق من وجود آل سعود في الحكم رغم كل العيوب والتحفظات والانتقادات المعروفة لدى أفراد هذه التيارات إزاء فساد بعض أفراد العائلة المالكة، باعتبار أن الأخيرة تمثل رمز وحدة الدولة الحالية، ولكن هذا لا يمنحها إمتيازاً مفتوحاً للهيمنة على مقدرات البلاد وثرواتها. إن هذا الموقف يفترض أن يؤسس لرؤية جديدة لدى العائلة المالكة في الاصلاح بعد أن قدّم المجتمع ممثلاً في تياره الاصلاحي العريض ضماناً ببقاء العائلة المالكة على سدة الحكم.

إن مصداقية العائلة المالكة وجديتها في الشروع بالاصلاح الشامل والجذري سيما مع كثرة الوعود وهزالة مضامين القرارات الخاصة بالاصلاح أصبحت الآن على المحك، وهي تترك تأثيرات سلبية على الموقف الشعبي من الاسرة المالكة، بالنظر الى التدهور المتواصل في أوضاع السكان الاقتصادية والأمنية، وتفشي الفساد في صور شتى داخل الدولة. بكلمات أخرى، أن العائلة المالكة تفقد تدريجياً رصيدها المعنوي والرمزي ما لم تتداركه بقرار عاجل في الاصلاح يوقف مسيرة تدهور الاوضاع الداخلية ويحفظ جزءا من المكانة المتآكلة.

فمازال ثمة أمل لدى الكثيرين في أن ينبري رجل ما، وليكن ولي العهد أو نخبة من الأمراء الكبار، لاطلاق صفارة الاصلاح الشامل والجذري في هذا البلد، فالاحتقانات الشديدة والمنتشرة في الجسد لا تشفى باستعمال مجرد مطهر جروح بل لابد من علاجات جذرية وشاملة، من أجل إنقاذ الوطن برمته.

وإذا كان الحديث يدور عن وطن فالأمر هنا يستوعب تمامية المجتمع بكافة فئاته، ولابد أن يسهم في بنائه مسؤولون أكفاء منتخبون من قبل الشعب يرعون مصالح الوطن ويعملون من أجل تسوية مشكلاته الكبرى، وتقديم حلول عملية وواقعية تعين على محاربة الفساد والبطالة، وتحكيم القانون كمرجعية عليا في البلاد فوق كل الاعتبارات الخاصة.

الصفحة السابقة