مقتلة الحجاج تفجّر قضية (الولاية السياسية)

من نجدنة الحجاز الى تدويله

يحي مفتي

سقطت مكة بيد الإحتلال السعودي عام ١٩٢٤.

سقطت، وهي عاصمة مملكة الحجاز، وخرج منها الملك (الشريف) حسين الى منفاه في قبرص الى أن مات فيه، ولم يسمح له الإنجليز حتى بزيارة إبنيه في الأردن حيث ابنه عبدالله ملكا، أو في العراق حيث ابنه فيصل ملكاً هناك.

خرج الشريف حسين من الحجاز بضغط بريطاني سياسي وعسكري، وتمّ اختيار إبنه الشريف علي ملكاً من قبل النخبة الحجازية، لكنه انتقل الى جدة قبل ان تسقط مكة بساعات، وقد حوصرت جدة وأصابتها المجاعة ولم تسقط إلا في يناير ١٩٢٦، وليغادر الشريف علي بعدها ليقيم مع أخيه الملك عبدالله في الأردن.

في ١٩٢٦، هال المسلمين سيطرة الوهابيين على الأماكن المقدسة؛ فكما يكفر آل سعود ومشايخهم الوهابيون كلّ المسلمين، كان المسلمون ينظرون الى الوهابيين كمسلمين ولكن بعقيدة (الخوارج).

لكي تبقى الأماكن المقدسة تحت سيطرته، عمد الملك السعودي الى أمرين:

المفتي يبرئ آل سعود من التقصير والخطأ!

* الأول ـ أوهم الحجازيين، النخبة منهم، بأن النجديين كطاقم حاكم لن يسيطروا على الحجاز، وبالتالي فهم سيبقون مملكة وضع لهم دستورها، وعيّن نخبة منهم كأعضاء لمجلس الشورى الحجازي، ولكن تحت رئاسته كملك على الحجاز، التابعة الى الملك النجدي ابن سعود!

* الخطوة التالية كانت إسكات الرأي العام الاسلامي، خاصة مسلمي القارة الهندية (قبل ان تتمزق الى ثلاث دول: هي الهند والباكستان وبنغلاديش)؛ في مؤتمر اسلامي دعا اليه ابن سعود، لمناقشة الحجاز ومستقبله، وقد حضره مبعوثون من كل الدول الاسلامية والعربية بما فيها تركيا ومصر وايران اضافة الى أندونيسيا والهند، حيث كان صوت جمعية الخلافة هناك عالياً، بسبب تدمير آل سعود ومشايخهم للتراث الإسلامي والاعتداء على المقابر في البقيع بالمدينة المنورة، والمعلّى في مكة المكرمة.

يومها، كان الصوت المصري عالياً ضد التسلّط الوهابي على الحجاز، وكان الشيخ الظواهري، جد أيمن الظواهري زعيم القاعدة الحالي، قد ألف كتاباً من وحي اجتماعات المؤتمر، أسماه: (يهود لا حنابلة) ويقصد آل سعود والوهابيين!

كانت حجة ابن سعود، بأن (شعب الحجاز) يريده ملكاً!

وكانت حجته الثانية، أنه سيقوم على خدمة الحرمين بالتعاون مع الدول الاسلامية، وأنه سيسهل الحج (لأسباب حاجته الاقتصادية بالذات والتي تستدعي زيادة عدد الحجاج)؛ لكن السيادة والسيطرة النجدية باقية.

لم يرض المؤتمر الوفود الإسلامية، لكنها كانت أضعف من أن تجابه الحكم السعودي المدعوم بريطانياً يومها.

منذ العشرينيات الميلادية من القرن الماضي، والى ما قبل مقتلة الحجاج الأخيرة التي حدثت في منى في موسم الحج الماضي، لم تتعرّض مسألة (السيادة السعودية على الحج) لتحدّ، أو تشكيك، أو حتى نقد ذي بال.. اللهم إلاّ من قبل إيران، التي كان سهلاً على آل سعود مواجهتها، اعتماداً على المال السعودي، وعلى إثارة الحسّ الطائفي.

لماذا الحجاز مهم لآل سعود؟

لماذا السيادة على الحرمين والحجاز عامة قضية كبيرة بالنسبة لنظام الحكم النجدي الوهابي؟

الأسباب متعددة..

ابتداءً، فإن الوهابيون أقلية في العالم الإسلامي (لا يتجاوز عددهم 2% من مجموع المسلمين). والمملكة الوهابية النجدية قامت بإسم (التوحيد) وهو نسخة عقدية لا يشارك الوهابيين فيها أحدٌ من المسلمين. هذه العقيدة الوهابية، استلزمت تكفير كل المسلمين، وعلى هذا الأساس استبيح الغزو والإحتلال الوهابي، لإعادة الناس الى الدين الوهابي الصحيح (وهو هدف مشايخ الوهابية)، فيما كان هدف آل سعود: استعادة ملك الآباء والأجداد، مع أن الحجاز كما الجنوب والشرق لم يكونا ملكاً لآل سعود النجديين. كما بررت الأيديولوجية الوهابية، كل المجازر التي قام بها أتباعها بحق الحجازيين (الكفار)، وكان في قمة المجازر، مجزرة الطائف عام 1924، التي قُتل الأغلبية الساحقة من أهلها، وارتكب فيها الوهابيون ما نراه من دواعش اليوم من شناعات. فقد قتلوا مفتي الشافعية الشيخ الزواوي، وذبحوا المدنيين (بالسكاكين!)، ورموا الجثث من فوق أسطح المنازل، وغير ذلك من الجرائم التي تم توثيقها في كتب التاريخ، بما فيها كُتب المؤيدين (أمين الريحاني مثلاً). تلك المجزرة المقصودة استهدفت توفير عناء القيام بمجزرة أخرى في مكة، التي سقطت بسقوط الطائف.

استهتار بالحجاج أحياءً وأموات!

لهذا، اعتبرت السيطرة على الحرمين الشريفين، انتصاراً وهابياً مذهبياً؛ كما أنها في الوقت نفسه انتصار سياسي واقتصادي لآل سعود، ولمنطقة نجد الحاكمة.

الإنتصار المذهبي، يعني أن السيطرة على الحرمين تمنح فرصة كبيرة لفرض المذهب الوهابي ليس داخل الجزيرة العربية فحسب، بل وتساعد تلك السيطرة على نشر الفكر الوهابي الى خارجها أيضاً. لنتخيّل لو أن الحجاز ليس بيد الوهابية اليوم، هل كانت ستلقى قبولاً بهذا المعتقد والفكر المتحجر والتكفيري بين المسلمين؟

استدعى الإنتصار المذهبي الوهابي، الغاء المذاهب الاسلامية من الحجاز، الشافعية والحنفية والمالكية. وتم فرض المذهب الحنبلي بنسخته الوهابية المتعصّبة، حتى بدت وكأنها مذهب جديد لا علاقة له بالحنابلة بل بالخوارج وفكرهم. ومن سخرية القدر ان التراث السياسي والإسلامي القريب يصم الوهابيين بالخوارج، ليس فقط من معارضيهم خارج الجزيرة العربية، بل حتى شيوخ نجد لاحظوا الشبه بين فكر الخوارج وبين فكر الوهابية. بل وأكثر من ذلك، فإن آل سعود ومشايخهم رموا تهمة (الخوارج) وصفاتهم، على من عارضهم من بني جلدتهم ممن يؤمنون بالمذهب الوهابي ويعتبرون أنفسهم أكثر التصاقاً به. ونقصد بهذا ان الرياض مثلاً اتهمت جيش ابن سعود الذي أقام المجازر في الحجاز واحتلها، اتهمته وقادته بأنهم خوارج وأنهم (غلاة)! ذات التهمة القوها على جهيمان العتيبي الوهابي، ثم القيت التهمة على القاعدة فداعش، وهكذا! وطفق مشايخ الوهابية ينظرون كيف أن المنشقين عنهم من الوهابيين هم خوارج، في محاولة لتنزيه الذات!

لكن العالم الاسلامي رضخ في النهاية لسيطرة الوهابيين النجديين الخوارج على الحجاز ومقدسات المسلمين. وساعدهم في ذلك الظروف السياسية من جهة، وقيام الدولة القطرية الحديثة، التي حصرت اهتمام كل شريحة من المسلمين او العرب في محيط حدود تلك الدولة، وصار تلقائيا ان الحجاز صار جزءً من السيادة السعودية الوهابية ضمن الدولة القطرية التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتقسيم الدولة العثمانية التي ساهم آل سعود فيها بالحرب الى جانب الإنجليز، كما هو معلوم.

غير ان الرضوخ لمنطق الدولة القطرية كان مشفوعاً بقضية هامة: وهي تأمين الحج وخدمة الحجاج، والحفاظ على القدر الأدنى من حرية العبادة لكافة المسلمين الذين هم بنظر الوهابية مجرد مشركين او حتى كفرة، لا يُستثنى في ذلك لا الشيعة ولا الصوفية ولا المعتزلة والماتريدية الذين يمثلون اكثرية المسلمين اليوم. مع أن آل سعود لم يفوا بذلك، وقامت مشاكل بشأن الحج مع مصر، أدّت الى قطع العلاقات بين البلدين في الثلاثينيات، ومنع الحجاج المصريين في عهد الملك فؤاد.

لهذا فإن خدمة الحجاج وتسهيل أداء المناسك من قبل آل سعود، تمثل بوليصة تأمين لعدم طرح موضوع (تدويل الأماكن المقدسة) ووضعها تحت اشراف الدول الإسلامية.

احتكار الحج ومنافعه سعودياً

ثم إن السيطرة على الأماكن المقدسة تمثل أهمية بالغة لآل سعود ومذهبهم الوهابي في نواح أخرى:

رغم الكارثة، تطبيل بان تجربة السعودية في ادارة الحشود تدرّس للعالم!

* فشرعية النظام السعودي، ولو في محيطه النجدي الوهابي، تقوم في جزء كبير منها على خدمته للوهابية، وسيطرته على الحرمين. فالدين الوهابي مركبة للسياسة السعودية؛ كما أن السياسة تخدم الوهابية أيضاً من جهة الترويج والنشر وفرضها الدين الرسمي، كما هو معروف لدى مشايخ الوهابية أنفسهم. أي أن المنفعة متبادلة محورها الدين الوهابي، وأدواتها السيطرة على الحرمين الشريفين، وعبر ذلك يتم الترويج للوهابية المسيطرة على الحرمين، مدعومةً بمداخيل الحج في بداية الأمر، وبمداخيل النفط في وقته الحالي.

* ثم ان السيطرة على الحرمين، كما على الوهابية وتوسعة فضائها داخلياً وخارجياً، يفيد في أمرين آخرين: قمع المناطق غير النجدية، باسم الدين الوهابي الصحيح.. والاستفادة من الجانب الديني الذي يمثله الحرمان الشريفان في السياسة الخارجية السعودية وتقوية نفوذ الرياض السياسي والديني في الخارج، بين الدول او الجاليات الاسلامية.

الحج منفعة سعودية خاصة

ويبقى العامل الاقتصادي الذي يمثله الحجاز عامّة، والحرمان الشريفان ومداخيل الحج بشكل خاص. فآل سعود حين احتلوا الحجاز، كان يحدوهم الأمل في الحصول على الأموال لتمويل حكمهم، وكانوا ـ كما تشير الوثائق ـ يعبرون عن قلقهم في حال تضاءل عدد الحجاج المسلمين لأنه يؤثر سلباً على مداخيل الحج، التي تمثل رافداً اساسياً للحكم النجدي، اضافة الى الضرائب المبالغ فيها والتي فرضوها على المواطنين الشيعة في الأحساء والقطيف (المنطقة الشرقية حالياً). واليوم ورغم الإمكانات الكبيرة للدولة السعودية بسبب مداخيل النفط، فإن امراء الرياض وحاشيتهم النجدية من الأثرياء ورجال الأعمال، يحصلون على نحو خمسين مليار دولار سنوياً من الحج، فضلاً عن مليارات أخرى من مداخيل العمرة. هذه المبالغ، هي أكبر بكثير مما تزعم الرياض إنفاقه على خدمات الحجاج، وتوسعة الحرمين الشريفين، حيث تم بإسم تلك التوسعة تدمير حارات مكة التاريخية والبيوت التي سكنها الصحابة والتابعون، فضلاً عن تدمير ما تبقّى من تراث المسلمين في الحج بشكل همجي ومنهجي، حيث تم تدمير مساجد عديدة، وبيت النبي، والمقامات والأضرحة، والمواقع الأثرية الكثيرة الأخرى، بل حتى الكعبة نفسها لم تسلم من شرّهم. زد على ذلك فإن الوهابيين نسفوا حتى الجبال وحولوها الى (بزنس) بحيث اقيم مكانها العمارات والفنادق، وحولوا مكة والمدينة الى مجرد مكان استثمار بلا روح، واصبحت رحلة الحج أقرب ما تكون للأغنياء أو الأثرياء حتى.

ومن هنا، لا يمكن أن قبول زعم ال سعود ومشايخهم، بأن الحج للروحانية فقط، وأنه لا يجوز خلط الدين بالسياسة فيه، ويتهمون من يستفيد من التجمع البشري الاسلامي الأكبر في مناقشة قضايا الأمة الكثيرة، او يستخدمها منصة للدفاع عن تلك القضايا.. بأنه من الإلحاد في الدين! والمعنى المراد ايصاله هنا، هو أن لآل سعود وحدهم الحق في استخدام الحج سياسياً ومذهبياً واقتصادياً. وقد توسعوا في السنوات الأخيرة، فلم يكتفوا بمنع الأفراد من الحج ان كانوا على غير نهجهم السياسي، بل منعوا شعوب دول كعقاب سياسي من أن يؤدوا الفريضة (غزّة مثالاً، وسورياً مثالاً، واليمن في الحج الفائت مثالاً.. وهكذا). وقد سبق لآل سعود في دولتهم الأولى أن منعوا الحج الشامي والعراقي واليمني، فلم يسمحوا إلا لبضع مئات من الحجاج المغاربة فحسب، ممن هم على نهجهم السلفي او قريب من نهجهم. وقد استدعى ذلك الفعل المشين بتكفير المسلمين ومنعهم من الحج في عهد سعود الكبير، الى تجريد حملة محمد علي باشا لإنقاذ المقدسات، فدمّر دولة السعوديين ووقف الحجازيون وبقية المسلمين مع تلك الحملة التي لازال الوهابيون يتذكرونها ويسقطونها على مصر وأهلها حتى اليوم.

في الثلاثينيات الميلادية، خاصة أثناء ثورة فلسطين الكبرى (١٩٣٦-١٩٣٩) ولمّا تقم حينها بعد دولة للصهاينة، وكانت فلسطين تحت الإنتداب البريطاني، حاول الفلسطينيون توزيع بعض الكراسات على الحجاج المسلمين لتنبيههم بخطر الهجرة اليهودية الى أرض المقدسات، وأن فلسطين يمكن أن تضيع على يد المحتل الإنجليزي. يومها، صادر ابن سعود تلك الكراسات، وأمر مستشاره السوري يوسف ياسين بأن يـ(سنّعها)، او بتعبيره: (سنِّعْها يا يوسف!) أي تخلّص منها، فتخلص من تلك المنشورات او الكراسات حرقاً. هذا ما تقوله الوثائق البريطانية، في المراسلات التي تمت بين سفارتهم في جدة، والخارجية البريطانية في لندن.

حين حاولت ايران الاستفادة من موسم الحج في مواجهة العدو الأمريكي والصهيوني تحت مسمى (البراءة من المشركين) عبر مسيرة في موسم الحج، أقامت الرياض للحجاج هناك مجزرة في ١٩٨٧م، قتل خلالها ما يقارب من ٧٠٠ حاج إيراني، ولازالت ايران حتى اليوم هي المتهمة ـ سعودياً ـ بأنها (ألحدت في الحج) رغم ان شواهد ضحاياها يقول العكس.

مقتلة منى تربك الحسابات

في كل عام تقريباً، لا يخلو موسم الحج من مأساة، تخلّف وراءها مئات أو حتى آلاف الضحايا.. معظمها يأتي على خلفية غير سياسية، وإنما الإستهتار بالأرواح، والفشل في الإدارة، وعشعشة الفساد، وكأن الرياض بلا تجربة متراكمة وهي التي تسيطر على الأماكن المقدسة لنحو تسعة عقود من الزمن.

ضحايا على امتداد البصر

لكن مأساة هذا العام بالتحديد، ابتداء من الرافعة التي سقطت على الحجاج على بعد أمتار من الكعبة المشرفة، ثم تكرر الكارثة بنحو أوسع في منى، ما ادى الى مقتل اكثر من اربعة آلاف حاج من مختلف الجنسيات. وحتى اليوم لم تعلن الرياض عن العدد النهائي للضحايا؛ ولا سبب الوفاة وما جرى على الأرض؛ ورفضت ان تسلّم جثث ضحايا منى، وصادرت كل اجهزة الهاتف التي كان يمتلكها الحجاج الضحايا إخفاءً لأمر ما؛ بل أن جثث مواطنين سعوديين حجاج لازالت مفقودة الى جانب آلاف المفقودين، وكأن الأرض ابتلعتهم.. كل هذا الذي جرى، سبب نقمة في الدول الاسلامية، في حين سارعت الرياض الى اتهام (إيران) بالذات بأنه تعمد الى الاستفادة السياسية من الحادثة، وهي التي خسرت نحو ٤٦٤ حاجاً بينهم مسؤولين وقيادات في الدولة. بل وروّجت عبر اعلامها بأن الحجاج الايرانيين هم سبب المشكلة، وأن هناك مؤامرة ايرانية في الأساس. يقول ذلك الاعلام السعودي، ورجال المباحث على مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن تتبنّى الرياض رسمياً، رواية واحدة من بين عشرات الروايات المزعومة حتى الآن.

حوادث الحج هذا العام وضحاياه الكثر، وبينهم من مات حرقاً في فنادقهم وخيمهم.. تختلف عن حوادث كل عام، سواء من جهة الحجم المخيف لعدد الضحايا، أو من جهة الآثار السياسية المترتبة على الفشل المريع في ادارة حشود الحجاج، أو من جهة إعادة الأسئلة القديمة التي حاول آل سعود أن يغمروها في طي النسيان، مثل تلك المتعلقة بعدم أحقية آل سعود في إدارة الأماكن المقدسة، أو تدويل الحج والأماكن المقدسة، او المشاركة في رسم خطط الحج، او غيرها. بل أنه لم يحدث في تاريخ الأخطاء السعودية أن تمّ إعلامياً تغطية أخطاء الحج في أدنى الأحوال، والجرائم في أسوأ توصيفها، كما حدث لموسم الحج الفائت، وقد شاركت التقنية الحديثة (الجوال بالذات) وكذلك الصحافة الغربية وغيرها في التشكيك بإدارة آل سعود للحج، ولاتزال، وذلك عبر مقالات كتبها حجاج مسلمون عادوا الى بلدانهم، وكتبوا ما تقشعّر منه الأبدان، من اهمال وعدم اكتراث بالحياة الإنسانية تحت الإدارة السعودية، حتى لأولئك المصابين الذين لم يُسعفوا في الوقت المناسب، بل وضع الكثير من الحجاج الضحايا في ثلاجات الموتى قبل وفاتهم، وكانوا ينازعون الموت.

وإزاء الحملة غير المنسقة والتي تعبر عن انفجار اسلامي ضد الممارسات السعودية، اضطر المفتي أن يخاطب وزير الداخلية محمد بن نايف، والمعني بشؤون الحج وفي تصريح علني ليقول: (انتم غير مسؤولين عمّا حصل)! وهل كانت مشكلة آل سعود إلا أنهم لا يريدون أن يتحمّلوا المسؤولية، ولا يعترفوا بخطأ، وبالتالي يكررون المآسي بحق الحجاج كل عام؟. ولو كان هناك محاسبة ومراجعة، وانتقاد من قبل الدول الاسلامية، لما بلغ الإستهتار السعودي مداه.

هذه المرة لم يكن النقدُ ايرانياً فحسب، بل وجهت انتقادات من تركيا والباكستان واندونيسيا وغيرها للمسؤولين السعوديين، لكن الأخيرين استفردوا بالنقد الإيراني، أملاً في تحشيد مذهبي يبعد التهمة عنهم، ويحول المسؤولية عما جرى لأكتاف الاخرين، او على الأقل تحويل النقاش من قضية قتل الحجاج، الى صراع مع ايران.

نائب رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، محمد علي شاهين، قال ان بلاده يمكن أن تُنظّم الحج بشكل أفضل من السعودية، وأضاف: (هل يمكننا أن نتحدث عن القضاء والقدر فيما حدث؟ هناك إهمال في مجال السلامة، وهذه الوفيات نجمت عن هذا الإهمال). وتابع شاهين، الذي كان وزيراً سابقاً وتولى رئاسة البرلمان التركي: (لو كُلّفت تركيا بشؤون الحج، لنظّمته دون أن يصاب أحدٌ بأذى).

أما رئيس هيئة الشؤون الدينية التركية، محمد غورماز، وحسب قناة تركيا العربية الرسمية فقال: (هناك مشكلة واضحة في إدارة الحج، ونعتقد أنه أصبح من الضروري عقد اجتماع دولي لمناقشة تأمين أمور الحج). لكن اردوغان الباحث عن حليف له في مواجهة الوضع المتأزم في إقليميا خاصة في سوريا، دافع عن آل سعود، وقال أن من الخطأ أن توجه الإتهامات الى السعودية، وأنه لا يؤيد التصريحات المعادية لها، وأضاف متحدثاً بلسان آل سعود بأن (إجراءات ستتخذ على الأرجح لتجنّب تكرار مثل هذه المأساة). وبسبب ذلك، تم حذف تصريحات الشيخ محمد غورماز، وأُلغيت التغريدات في تويتر المتعلقة بتصريحه من القناة التركية العربية.

لكن غورماز عاد وقدم تصريحات خشنة بحق السيطرة السعودية على الحجاز، وانتقد أداء آل سعود في إدارة الحج. فقد أجرت الهيئة تحقيقها الخاص بها في مقتلة الحجاج، وأرسلته الى المسؤولين السعوديين، وقالت وكالة الأناضول ان غورماز أوضح أنه لا يوجد (تفسير معقول حتى الآن لحدوث التدافع، وتسببه في وفاة هذا العدد الكبير من الحجاج)، وانتقد غورماز هدم الجبال حول مكة التي قال انها تتمتع بقيمة تاريخية، كما انتقد بناء ناطحات سحاب بجوار الكعبة مضيفاً أنه كان من الممكن بدلا من ذلك بناء مدن صغيرة في سهول جدة يمكنها استيعاب ملايين الأشخاص. وأبدى غورماز ألمه من أن معظم الآثار التاريخية الباقية من العهد النبوي في مكة، كانت موجودة حتى عام ١٩٧١، و(كان بالإمكان الحفاظ على الحالة الأصلية لمكة).

أندونيسيا، أكبر دولة إسلامية، انتقدت هي الأخرى الأداء السعودي في الحج والذي أدّى الى مقتلة الآلاف من الحجاج، وقالت أن ما يقرب من مائة وخمسين حاجاً أندونيسياً لقوا حتفهم أو أصبحوا في عداد المفقودين بسبب الكارثة في منى، وذلك حسب وزارة الخارجية الأندونيسية. وقالت إن السعودية منعت دبلوماسيين أندونيسيين من الإطلاع على المعلومات الأوّلية المتعلقة بالحادثة، ومن الوصول إلى جثث الضحايا.

ادارة الحج يجب ان تخرج من يد آل سعود

إيران وحدها التي استطاعت بالتهديد والضغط والتصعيد الإعلامي والسياسي من استعادة جثامين حجاجها، وبقي نحو 96 جثة مفقودة، بينها جثث دبلوماسيين، كجثة السفير الإيراني السابق في لبنان غضنفر بور، لازالت طهران تلاحق الرياض بشأنها. بيد أن جريمة أكبر ارتُكبت بعيد وقوع المقتلة الفظيعة في منى، وهي أن الرياض أصرّت على دفن جثث الضحايا، دون أن تعلن عددها وأسماءها وانتماءاتها لدولها وبدون موافقة ذويها، في تواطؤ واضح مع حكومة الرياض نفسها، أو خضوعاً لابترازها، كما حصل مع الحجاج المصريين، وكأنّ آل سعود قد أكرموا الحجاج بعد أن قتلوهم، حين سمحوا بدفنهم في مقبرة بمكة. وحين قيل بأن الحجاج الضحايا سيُدفنون في قبور جماعية، قالت الرياض أنها ستكرمهم بدفن كل حاج في قبر منفرد!!

هذا ولاتزال الأسئلة الكبرى باقية..

فحتى الآن، وبعد نحو شهر من وقوع المجزرة، ورغم اعلان الرياض بأنها شكلت لجنة تحقيق، إلا أن المعلومات الأولية لم تظهرها الرياض، حتى بشأن ضحايا الحجاج من المواطنين والخليجيين. هناك شيءٌ ما تخفيه الرياض، يدفعها الى عدم ذكر عدد الضحايا، وأسباب الحادثة، وعدم تسليم جثث الضحايا الى ذويهم، ومصادرة الهواتف النقالة المتعلقة بهم، والتي قد تحوي وصاياهم، أو صوراً للمأساة تفيد بعكس ما يمكن للرياض أن تزعمه بشأن الأسباب.

تحدثت الرياض عن مئات الضحايا، ومئات أخرى من المفقودين، وكادت تستقر أرقامها عند 769 شهيداً، وأكثر من ألف ومائة مفقود. لكن الرياض وقعت في مأزق عدم مصداقية أرقامها: أولاً، بسبب التسريبات من المستشفيات التي أفادت بامتلاء الثلاجات بجثث الضحايا، ما دفع الى تخزينها في ثلاجات (فقيه للدواجن). وثانياً، بسبب الأزمة مع ايران على خلفية ضحاياها الحجاج، والذين بلغ عددهم 464 حاجاً، فاذا كانت ايران وحدها خسرت المئات، فماذا عن بقية الحجاج؟ الباكستان زاد عدد ضحايا حجاجها عن الأربعمائة حاج أيضاً، ومصر زاد على المائتين والأربعة وثلاثين، وهكذا.. اضطرت الرياض الى أن تزيد رقم الضحايا الى اكثر من الف ومائة شهيد. ثم جاءت أرقام من أسوشيتدبرس لتقول أن العدد يزيد على 1600 ضحية، عدا المفقودين، فرفعت الرياض الرقم قليلاً، ولازالت متسرعة لدفن بقية الضحايا، رغم أن الأرقام التي كشفت عنها الدول بشأن عدد ضحاياها ومفقوديها، يزيد على خمسة آلاف حاج. وأخيراً ظهرت قائمة مسرّبة من وزارة الصحة السعودية تفيد بأن من قضى من الحجاج في مقتلة منى بلغ نحو 7450 حاجاً حتى الآن.

وكما التلاعب بالأرقام، فإن آل سعود تلاعبوا بالرأي العام بشأن أسباب الحادثة. كل شيء ممكن أن يكون السبب، إلا أمرٌ واحد يمنع قوله وهو ان يكون آل سعود مسؤولين عمّا جرى، أو كانوا مقصرين، أو أنهم فاشلون في تنظيم وإدارة الحشود البشرية. لم يبق أحد لم يُتهم: الحجاج الإيرانيون، المؤامرة الإيرانية، الحجاج الأفارقة، أهالي مكة، جهة تآمرت وقتلت الحجاج بالغاز، او جهة أخرى خالفت نظام السير، او الحجاج الماليزيون، او المصريون، او القضاء والقدر، أو التدافع، او الحجاج عامّة الذين وصفوا ـ سعودياً ـ بأنهم متخلّفين وجهلة، بل ان المفتي قال بمضمون حديث صحفي له أن السبب هم اولئك الحجاج الذين قتلوا انفسهم من أجل تعويض المليون ريال.

تمتلك الحكومة السعودية كل تسجيلات الكاميرات التي توضح بلا أدنى شك سبب الكارثة، ولكنها لم تفرج عنها ولم تقل السبب. لكنها وهي إذ تطلق الإتهامات يميناً ويساراً، وتفتح المجال لصحافتها وقناتها (العبرية) لتسريب الإتهامات ضد كل أحد، مع تركيز على ان الحجاج الإيرانيين هم من دبّر المؤامرة على انفسهم!.. مع هذا، فالحكومة بقيت صامتة ولم ترجح سببا واحداً يتحمل المسؤولية، علّها تجد مخرجاً لأزمتها دون ان تتحمل اي مسؤولية، لكنها نفت في تصريحات رسمية عديدة ان تكون هي مسؤولة عن الخطأ، أو مقصّرة في أي أمر.. ثم نفت ان تكون جهة قاعدية وداعشية وراء الأمر، وكأنها تريد تبرئة الدواعش لديها من الوهابيين التكفيريين؛ وأيضاً نفت أن يكون موكب أمير سبباً في اغلاق شوارع وبالتالي حدثت الكارثة. عدا عن تبرئة الحكومة والأمراء وداعش، كل شيء مفتوح حتى الآن لتُعلّق برقبته مسؤولية قتل الآلاف من الحجاج!

لكن القضية هذه المرّة تلبّست الرياض، وأهم ما يمكن لمقتلة أن تفعله، أنها فتحت النقاش مجدداً حول كفاءة آل سعود في إدارة الأماكن المقدسة، وأحقيتهم في السيادة عليها، وهذا ما جعل الإعلام السعودي/ النجدي/ الوهابي يخرج من عقاله الى حدّ الجنون.

والقضية الهامة الأخرى، أن ما جرى في الحج المنصرم، ليس حادثة عابرة، كما حدث طيلة عقود من الزمن، حيث تُخفى الجثث، وتدفن في أي مكان، ولا أحد يسأل أو يعرف.. بل انها قضية ستتراكم في الأعوام القادمة، كلّما استجدّت مجزرة أو كارثة. أي أن ما سيقع في قادم السنوات، كما هو متوقع حدوثه كل موسم حج، سيؤكد حقيقة أن آل سعود ومشايخهم ليسوا جديرين بإدارة أهم مقدسات المسلمين في الحجاز.

لقد نجدنَ آل سعود الحجاز، أي جعلوا الأخير في قبضة (قرن الشيطان) نجد، كما وصفها رسول الإسلام عليه الصلاة والإسلام؛ فمنعوا مشايخ الحجاز من أن يكون لهم صوت، أو كلمة، واختفت مدارس ومعاهد المذاهب الاسلامية في الحجاز، ولم يبق إلا رجال الوهابية ومشايخ نجد وحكام نجد (آل سعود).. فآل سعود لم يكتفوا بالسيطرة السياسية بقوة السلاح على الحجاز، ولم يكفهم طرد حكامه واستعباد أهله، كما لم يكفهم فرض مذهبهم على السكان، بل أصبحت نجد ورجالها هي المركز الديني، وليس الحجاز نفسه، ولا دور لمشايخه في مملكة نجد الوهابية، نجد التي تمثل أقلية سكانية لا تزيد عن خُمس السكان، تفرض ارادتها ومصالحها ومذهبها بقوة السلاح.

لكن لكل شيء نهاية..

فالعدوانية السعودية النجدية الوهابية السعودية الى أفول.

وكما (نجدنوا) الحجاز، فسيأتي يوم يعود فيه النجديون الى حيث قرن شيطانهم، ويستعيد الحجازيون قرارهم بأيديهم، ويديرون الحج بالتعاون مع بقية المسلمين بالتسامح والتخطيط والتسديد والدعم. وليعود موسم الحج متألّقاً فيه منافع لكل المسلمين، وملتقى لوحدتهم، بدلاً من التمزيق الذي عمد اليه أرباب التكفير الوهابي.

الصفحة السابقة