الإرهاب في موقعه، ومكافحته في مكان آخر

مقتلة نيس ومصنع العنف السعودي

محمد شمس

لم يعد هناك ما يمكن ان يقال عن الارهاب ولم يقل بعد.. فكل التعليقات الرسمية والاعلامية تكرار ممل، تثقل الذاكرة ولا تشبع الفضول للمعرفة والرغبة في الخلاص.

وأكاد أجزم ان الارهاب لم يعد الجريمة الوحشية التي يرتكبها جناة محترفون او مضللون، بل هو ايضا المواقف والتصريحات والاجراءات الامنية، والاعلام والتحليلات، التي تنتهي كلها معا مع انتهاء العرض. فهي كلها اجزاء من فعل الارهاب الدموي، كما في كل مسرحية تراجيدية، يتساوى فيها البطل الشرير مع نقيضه في اداء الدور وخدمة الانتاج الفني.

ولن تنتهي هذه المأساة التي تعيشها البشرية في القرن الواحد والعشرين الا بحدوث الطلاق الفعلي والبائن بين طرفي العملية: الاستعمار الجشع والواقع تحت اغواء نهب الثروات واستعباد الشعوب من جهة، وبعض ظواهر البداوة الجافة والمتخلفة في دول العالم الثالث، والعقائد التكفيرية التي تبرر القتل باسم ما تعتقد انه الحقيقة، والتي تنسبها للسماء والدين الحنيف، الا انها في كل حال تستمرئ القتل من اجل السلطة، كأي وحوش كاسرة.

فالعلاقة بين هذين الطرفين اللذين لا يقيمان اي وزن للقيم الانسانية، سواء التي بشرت بها الاديان السماوية، او تلك التي انتجها العقل البشري في مسيرته التطورية، هي المسؤولة عن انتاج هذا التوحش الارهابي، كبديل عن الحروب المباشرة واساليبها المكلفة انسانيا وماديا، بصرف النظر عن القشرة التي يغطى بها هذا الارهاب، على مستوى الشعار الاسلامي او الاجتماعي او طلبا للعدالة.

فدعوة القتل للآخر المختلف التي أطلقها ابن تيمية، قبل نحو ثمانية قرون، ما كان لها ان تفعل في جيلنا المعاصر لو لم يجددها ويزينها محمد بن عبد الوهاب قبل قرنين تقريباً. ودعوة ابن عبد الوهاب للقتل الصريح والتوسع فيه، ما كانت لتصبح سلوكا مجسدا ومشرعا، لولا احتضان محمد بن سعود أمير الدرعية له، وتمكينه من نشر الدعوة الوهابية مقابل تبرير سلطته المطلقة، وملك ابن سعود ما كان له ان يقوم لولا تبني ورعاية الاستعمار البريطاني المتلهف للهيمنة على موارد المنطقة، وموقعها الاستراتيجي بما يخدم مشروعه في استعمار الشعوب ونهب خيراتها.

وفيما عدا ذلك، سنظل ندور في الحلقة المفرغة، وتظل سياسات الدول الغربية جزءا من التضليل الاعلامي الذي يحمي الارهاب، ويعززه بشكل مباشر وصريح.

فماذا يعني الجهد الاعلامي المكثف للبحث عن آثار الجريمة، والسعي لمراكمة بيانات تثبت هوية الارهابي القاتل؟ بل ماذا يعني ان يهرع عناصر الشرطة وأجهزة الأمن والإدعاء العام والطب الشرعي الى المدينة الفرنسية الساحلية نيس من أجل جمع المزيد من المعلومات عن هذه الجريمة البشعة؟ وما قيمة هذا التصريح المكرر لوزير الداخلية الفرنسي انهم في حالة حرب وان جميع الاجهزة الامنية مستنفرة؟! هل يعتقد الوزير ان الارهابيين يقيمون المتاريس، وان جيوشهم تتأهب عند الحدود الفرنسية بدباباتها وجحافلها؟

نحن نعرف بالتفصيل نوعية الحرب، وكيف يخوضها الوزير الفرنسي، الذي يستعيد هو وكافة المسؤولين الفرنسيين حرفيا تصريحات ادلوا بها عند وقوع الهجمات الارهابية في يناير الماضي، وفي نوفمبر 2015.

فعن ماذا يبحث ويتقصى وزير الداخلية واجهزته الامنية؟ وما قيمة ان يكون الارهابي تونسيا او مغربيا او سعوديا او شيشانيا؟ وهل هناك فرق بين ان يكون مولودا في فرنسا او خارجها؟

هذه اسئلة اكاديمية تفيد للتحليل الفكري والاجتماعي، واساليب تقليدية تستخدم في الجرائم العادية، وليس في ظواهر الارهاب العابر للقارات، بنسخته الداعشية المعولمة.

لن تفيد هذه التحقيقات بشيء على الاطلاق في معركة محاربة الارهاب، لأن هؤلاء الارهابيين لا تعنيهم الجنسية والقومية واي انتماء سياسي آخر، بل هم يقتلون آباءهم وامهاتهم واخوانهم وارحامهم وابناء بلدهم وطائفتهم ودينهم وعقيدتهم الفكرية وكل مخالف لهم، بذات الحماسة واليقين والاندفاع.. لا يعنيهم لا هويتهم ولا هوية من يقتلونهم.. فكفوا عن هذه الابحاث التافهة.

فالتونسي الذي يفجر نفسه في فرنسا او سوريا او العراق او تونس نفسها لا يفعل ذلك لأنه تونسي!! فماذا يفيدكم معرفة جنسيته!! ولا يفعل ذلك لانه مسلم وان ضحيته غير ذلك!! فماذا يفيدكم التركيز على معرفة دينه والتحريض بهذه التسمية المغرضة؟ انه لم يقتل لانه مسلم! بل هو يقتل من المسلمين الف ضعف مما يقتل من غيرهم، ولعله بات متخصصا بقتل المسلمين خصوصا اما قتل غيرهم فيأتي عرضا!!

هؤلاء الوزراء الغربيون اما انهم لا يعلمون وهذه مصيبة، وهذا ما لا اعتقده ولا اثق به، واما انهم يعلمون ويضللون شعوبهم والمصيبة تصبح اعظم، وبذلك يحمون الارهاب ويبعدون التهمة عن المتهم الحقيقي، ويوجهون القضاء والامن والرأي العام الى مكان آخر، بانتظار ان يجهز الارهابيون جريمة أخرى، ويستعيدون هم تصريحاتهم السابقة منقحة ومزينة، اعتمادا على ضعف ذاكرة الجمهور تحت صدمة الرعب وقلق الموت.

ان كل تحقيقات اجهزة الامن الغربية لن تفضي الى اي نتيجة، ولن توصل الى تقليص فعالية الارهاب الحقيقي.. لان مئات الهجمات الارهابية والاف التحقيقات التي اجرتها هذه الاجهزة لم ولن تعثر على ايراني واحد من اتباع ولاية الفقيه فجر نفسه في باريس او لندن او واشنطن او غيرها.. ولا سوريا من انصار الرئيس بشار الاسد، ولا لبنانيا من بيئة حزب الله، ولا فلسطينيا مؤمنا بالمقاومة سبيلا لمواجهة الاحتلال الصهيوني!! لن يجدوا اي واحد من محور المقاومة يدعو الى القتل والتفجير في الابرياء واستحلال دماء الاخر المختلف، او يقاتل خارج ارضه ودائرة العدوان الذي يتعرض له!

ولكن الاعلام الفرنسي والاميركي والبريطاني والغربي عموما، واجهزة المخابرات والسياسة لن تكف عن اتهام ايران وسوريا والمقاومة، وشيطنتها واستهدافها.. فهل ذلك يجري صدفة؟ وهل يصب ذلك في محاربة الارهاب؟!

ان محاربة الارهاب لا تكون بهذا الدخان الكثيف حول مصدره، والتصويب خارج منابعه ومنابته الاصلية.. فهذا الارهاب له دولة يستظل بظلها، وانتم تدعمونها في الاثم والعدوان على دول وشعوب اخرى.

وما لم يتم تجفيف منابع الارهاب من مصدرها الاساسي، فكل هذا الجهد يصبح عبثيا، بل يصبح مشبوها، في ظل تكراره والاصرار عليه.

فليت رئيس الجمهورية الفرنسي يتوقف عن هذه التصريحات السمجة، ثقيلة الظل. فرنسا ليست تحت تهديد ارهاب الاسلاميين، سيدي الرئيس.. هذا كذب وبهتان، بل هذا جزء من مسرحية الارهاب، التي يشارك الكثيرون في اخراجها.

والعمل المفيد الذي يمكنك سيدي الرئيس ان تقوم به لمحاربة الارهاب وتوفير هذه الدماء البريئة، يتمثل في ان تسأل ضيفك السعودي القادم، سواء كان ولي العهد او ولي ولي العهد، او اي اداة من ادواتهما الوزارية: هل ستفتي بقتلي يوما ما على يد ارهابي من جنودك؟ فإذا قال لك لا، وهذا المتوقع، فاطلب منه سيدي الرئيس ان يخرج الى فناء قصرك العامر في الاليزيه، ويصرح بأن دينه الوهابي قد اوقف العمل بفتوى ابن تيمية، التي تبيح قتل المخالف في الدين او الجنس او المذهب او العقيدة.. وانه لن يكفر الناس الذين لا يؤمنون بما يؤمن به، كما اجاز له ابن عبد الوهاب، ولن يحكم عليهم بالموت او العزل والتهميش، لأنهم يرفضون ان يشحنوا عقولهم وعقول اولادهم بالعداء للآخرين بناء على فتاوى الفوزان وآل الشيخ والعقلا والبراك وقبلهم ابن باز والعثيمين وابن جبرين وأضرابهم.

اسأله ان يفعل ذلك، سيدي الرئيس، وبعدها وقع معه عقود الصفقات بالمليارات المرصودة لاقتصاد بلدك، من ثروة الجزيرة العربية المنهوبة، على يد هذا النظام العائلي المتخلف، والا فإنك شريك له في نهب الثروات، وفي استيلاد هذا الارهاب الاسود المتوحش!

لن يستمع الرئيس الفرنسي الى ما نقول بالتأكيد، ولهذا ستستمر دورة العنف الى ان تنكسر الحلقة الجهنمية التي حولت الشعوب الى ضحايا، سواء كانوا في اوروبا او في منطقتنا العربية الاسلامية، وصولا الى اقصى الارض في اميركا واستراليا. فالارهاب لم يعد عملا يائسا يقوم به افراد او جماعات معزولة، بل هو جيش منظم، اعدادا وتسليحا وتمويلا، وهو يستفيد بكل كفاءة وبكل سهولة ويسر من التقنيات الحديثة، ومنجزات الحضارة الغربية، وثقافة التسامح والتسهيلات في المواصلات والاتصالات.. تماما كما يستفيد من الدين الاسلامي غطاء، يستمد منه الشرعية المزعومة، والمدد النفسي والروحي لجذب الانصار وإقناعهم بالموت طريقا للسعادة.

وفي الحالتين، لا هو وليد الثقافة الاسلامية ولا الحضارة الغربية، بل هو ردة عليهما معا، واستغلال لما فيهما من مميزات تخدم مشروعه المتوحش.

هو باختصار فكر سياسي عقائدي، يشرب من معين الوهابية التي تجاهر بتكفير الناس، كما يجاهر هو بالانتماء اليها والاحتماء بسلطانها السعودي ويتغذى على فكرها ومالها.

فعم تبحثون؟

ان هذا الارهاب التكفيري يسير في طريقه الصحيح، وهو ما تعلمونه جيدا، والمشكلة انكم تصوبون على الجهة الخطأ، لأن الرأسمالية الغربية المتوحشة ما زالت تراهن على الاستفادة من هذا التوحش لتحقيق اهدافها، في تخليد تخلف المسلمين، واستنزاف ثرواتهم.

وبصراحة ما بعدها صراحة، فإن على الشعوب الاوروبية ان تدرك، ان حكوماتها تغطي الارهاب، وتتآمر مع مشغليه ومنتجيه في المملكة السعودية وغيرها من ممالك القهر والوهابية والتعصب المذهبي، وهي تعلم ان هذا الارهاب لسبب او لآخر قد يضرب في بلدانها، وقد يسبب لها الالم وبعض الخسائر، الا انها ترى ان هذه اعراض جانبية وخسائر يمكن تحملها امام ما تعتقد انه مكسبها الحقيقي، في استمرار هيمنتها واستعمارها للعالم وللشعوب المستضعفة.

وهذا ما يطيل عمر الارهاب، ويعطيه هامشا واسعا للحركة على الرغم من التصريحات التضليلية، التي تخدم غرض احتواء ردود الفعل الشعبية، واستهلاك العاطفة وتوجيهها.. وما هي الا ايام معدودات، ويمضي الحدث ومعه ردود الفعل بانتظار الجريمة التالية، والعمل الارهابي الجديد.. وفي هذه الاثناء يكون الارهابيون منهمكين بالاعداد للضربة الجديدة، بينما المسؤولون يعدون التصريح المناسب، والذي يتكرر في نوفمبر وفي يناير واليوم بالصيغة نفسها والتعابير نفسها.. للأسف.

الارهاب له اب وام وحاضنة ومرضعة، وعنوانه واضح وضوح الشمس في مملكة الارهاب والعقيدة الظلامية الوهابية السعودية التي تكفر الناس وتستحل اموالهم ودماءهم، تحت وابل من الاتهامات العقائدية التي لا يقرها شرع ولا دين ولا عقل. فلا تخطئوا توجيه البوصلة وتضييع الهدف.

الصفحة السابقة