السعودية ليست مرجعية السنّة وهي مصدر الإرهاب

مؤتمر غروزني: الوهابية ليست من (أهل السنّة والجماعة)


مؤتمر بدأ بسؤال: مَنْ هُم أهل السنّة والجماعة؟ وانتهى بزلزال في الرياض وبين المؤسسة الوهابية،

وذلك  حين قرر المؤتمرون أن السعودية لم تعد تمثّل المرجعية الدينية للعالم الإسلامي،

كما لم تعد قادرة على التحدث باسم المسلمين الذين أقصوا أيديولوجيتها المتطرفة والتكفيرية،

واتهموها بأنها مصدر العنف في دول العالم، وأنها اختطفت لقب (أهل السنّة والجماعة)

رغم تكفيرها الغالبية الساحقة من المسلمين السنّة وتخرجهم من دائرة الإسلام كليّاً


عبدالحميد قدس

أثار المؤتمر الذي جمع عددا من علماء المسلمين السنّة في العاصمة الشيشانية غروزني في الفترة ما بين 25 و27 اغسطس الماضي، حمّى انفعالية بالغة في الاوساط السعودية، وردود فعل واسعة، شملت صحافة النظام السعودي ومشايخ المذهب الوهابي على السواء.

الحدث تناولته ايضا الصحافة العربية والعالمية، باعتباره حدثا مفصليا يحمل الكثير من الدلالات والاستنتاجات التي توضح المآلات التي تتجه اليها الاوضاع داخل المملكة السعودية. واعتبر العديد من الكتاب والمعلقين مؤتمر غروزني خطوة كبرى لسحب المرجعية السنيّة من السعودية، وزيادة عزلتها في العالم الاسلامي، وتثبيت تهمة الارهاب بالفكر الوهابي..

واذا كان البعض توقف عند مشاركة مئتي مفتٍ من كبار علماء أهل السنّة من مختلف الدول الاسلامية، فإن الانظار توجهت بشكل خاص نحو مشاركة الازهر الشريف الواسعة، ممثلا بوفد كبير يرأسه شيخ الازهر الدكتور احمد الطيب، ومفتي مصر الشيخ شوقي علام، ومستشار الرئيس عبد الفتاح السيسي اسامة الازهري، والمفتي السابق الدكتور علي جمعة، وهم يمثلون النخبة الشرعية الرسمية المصرية.

هذه المشاركة تؤكد الأزمة المتفاقمة بين الرياض والقاهرة، على الرغم مما روجت له الرياض من تحقيق اختراق في العلاقة بين النظامين السعودي والمصري، توج بصفقة الجزيرتين، وزيارة الملك سلمان الى القاهرة، وأدائه الصلاة في الجامع الأزهر، واعتبار مصر حليفا ثابتا في حروب السعودية الاقليمية.

كما توقف مراقبون آخرون عند المشاركة الفاعلة للداعية الاسلامي الشيخ الحبيب بن علي الجفري، الذي تنسب اليه معظم فقرات البيان الختامي، وتحديد العناوين العريضة للمواقف التي تبناها المؤتمرون، والذي خرج من المؤتمر ليعلن عن الخطوة القادمة التي تعمل مؤسسته عليها، بتنظيم مؤتمر تحت عنوان: (منطلقات التكفير السبعة) التي بني عليها الفكر التكفيري الخوارجي المنشأ، والوهابي الهوية في العصر الحديث.

ونشر الحبيب الجفري، رسائل وتوضيحات معززة بتسجيلات فيديو، مؤكداً ان المؤتمر حقق نجاحا كبيرا. وقال ان هذا (المؤتمر المبارك) ما هو إلا خطوة في طريق استرداد مصطلح “أهل السنة” الذي حاول المتشددون اختطافه وتحريفه وحصره بجماعاتهم، وتشويهه بتصرفاتهم، وتلويثه بالدماء المعصومة التي يسفكونها.

واشار بعض الباحثين الى العلاقة الخاصة التي تربط الشيخ الجفري بالامارات، وهي ذات العلاقة التي تجمعها بمصر، في محاولة لاستكشاف التعقيدات التي تحيط بما يجري في كواليس السياسة، والذي يجري تخريجه بعناوين مذهبية ودينية.

فما الذي أغضب الوهابيين في هذا المؤتمر؟

لا يخفى الاستهداف المتعمد للوهابية، عقيدة وممارسة، من خلال مؤتمر غروزني، وقد ظهر هذا الاستهداف جليا باستثناء مشايخ السعودية من التمثيل والحضور، والكلمات التي ألقيت في الجلسات الرسمية، والتصريحات التي تلتها، لإيضاح الغاية منه، إضافة الى البيان الختامي الصادر عن المؤتمرين.. كلها تصب في مجرى واحد: إخراج الوهابية من تسمية (أهل السنّة والجماعة).

أصحاب المذاهب استندوا الى خلفية تاريخية لا خلاف حولها، تؤكد ان من تسموا بهذه التسمية اصطلاحا وتعريفا لأنفسهم، لم يكن من بينهم اتباع المذاهب المتشددة من أسلاف الوهابية المنتمين الى ما يعرف بجماعة (أهل الحديث). ويسجل التاريخ صراعا مريرا بين الجانبين على المستوى العقائدي، كما في المواجهات المباشرة الدامية في أحيان كثيرة.

وبصرف النظر عن هذه الخلفية فإن (أهل السنّة والجماعة) يفضلون، كما يقول شيخ الازهر، ان يعتمدوا المنهج الوسطي المعتدل في الاسلام، والانفتاح على مختلف المذاهب والطوائف الاسلامية، عطفا عن تفاعلهم مع الديانات الاخرى، وقد هالهم ما صاروا اليه في السنوات الاخيرة، وتحويلهم الى دائرة الكراهية والنبذ والتكفير، ما جلعهم على نقيض مما يعرفون به انفسهم.

الدافع الرئيسي لهذا المؤتمر - الانتفاضة، هو رفض أتباع هذه المذاهب النهج التكفيري والارهابي الذي وصمت به الوهابية الاسلام السنّي عموما، عبر هيمنتها المالية والحركية والاعلامية، واعتبارها نفسها مفوضة بالحديث عن أهل السنّة، دون وجه حق، وهي التي لا تمثل الا أقلية ضئيلة بين المسلمين، لا تتعدى الـ 3 في المئة.

ويتفق معظم علماء ومرجعيات المذاهب السنية على ان الوهابية ودولتها، ادخلت الأمة في حروب دموية عبثية، بناء على رغبات واهداف سياسية محضة، دمرت من خلالها العديد من الدول الاسلامية، خدمة لمصالح لا تمت للاسلام والمسلمين بصلة، وخصوصا في ليبيا وتونس ومصر واليمن والعراق وسوريا، اضافة الى الفتن المنتشرة، بدءا من نيجيريا والدول الافريقية الى عمق آسيا في باكستان والهند والصين ودول القوقاز.

ففي كل هذه الحروب، تجد بذرة التشدد والتكفير عاملا مشتركا، ناهيك عن الفتنة الكبرى التي تريد الوهابية اشعالها في المنطقة عبر الدفع والتحريض والتحشيد لحرب سنية شيعية، كفيلة في حال اضطرامها بتدمير المنطقة والأمة بكاملها، وارجاعها مئات السنين الى الوراء.

ولا يحتاج الامر الى كثير بحث وتحليل لادراك ان كل هذه الفتن لا تقوم على أسس دينية، أو صراع عقائدي، بل هي طموحات سياسية تتدثر بالشعار الديني، ومحاولات لتسخير الأمة لخدمة أهداف مجموعة قليلة من المستبدين، عبر نبش الماضي وإحياء أحقاد دفنها التاريخ، وليس من المصلحة العودة اليها في أي حال.

والطامة الكبرى كما تقول مرجعيات دينية سنية، والتي كانت دافعا للتحرك باتجاه تصويب بوصلة الحركات الاسلامية، واعادة الاعتبار للدين الحنيف.. هو ما آلت اليه أحوال الاسلام كدين وعقيدة، وأحوال المسلمين في كل انحاء العالم، اذ تحول هذا الاسلام الى صنو للارهاب في أدبيات الصحافة العالمية، وفي مواقف وتصريحات المسؤولين في الشرق والغرب، وبات العالم كله يتعامل مع المسلم باعتباره إرهابيا مع وقف التنفيذ، وعلى المسلمين ان يثبتوا العكس.

بل ان الحديث عن الارهاب الاسلامي أصبح مصطلحا متداولا في الاوساط البحثية والاعلامية ومراكز اتخاذ القرار، وبتنا نسمع رؤساء دول وحكومات يتحدثون عن الاسلام المعتدل والاسلام المتطرف، لتصنيف المسلمين، وتنصيب هيئات اسلامية من قبل الحكومات الغربية نفسها، كما يجري في فرنسا مثلا، لتجنب تدخل المرجعيات الاسلامية، المشبوهة بالعلاقة بالوهابية والمال السعودي، ونقل جرثومة الارهاب الى المسلمين في الدول الاجنبية.. مما شكل أكبر إساءة للدين، وأكبر تحد للمسلمين في هذا الزمن.

انطلاقا من كل ذلك كان حريا بعلماء الامة، المؤتمنين على الدين ورسالة خاتم النبيين، ان ينتفضوا للذود عن الدين الصحيح والمنهج القويم، واعادة الاعتبار لسنّة الاعتدال والوسطية، التي يجاهر بها الأزهر الشريف منذ قرون.

وفي حقيقة الامر، فإن هذا المؤتمر قد تأخر، وارتفعت الاسئلة من كل حدب وصوب، وخصوصا عبر مقالات ومواقف لكتاب اسلاميين، حول صمت العالم الاسلامي والمراجع السنيّة المعتبرة عن هذه الموجة العارمة من الكراهية والاحقاد والفتن التي تنشرها الوهابية السعودية، وهذا التوحش الذي تدفع اليه أجيالا بكاملها، باتت تستمرئ قتل الآخر، وتردد هلوسات مشايخ الوهابية دون وعي، مدفوعة بتدفق الاموال المغتصبة، وشراء الذمم والعقول، باسم الدين وباسم (أهل السنّة والجماعة).

هذه المنطلقات، هي التي انعكست في البيان الختامي لمؤتمر غروزني.. والذي جاء في مقدمته انه: في ظل محاولات اختطاف لقب “أهل السنة والجماعة” الشريف، من قبل طوائف من خوارج العصر والمارقين، الذين تُسْتَغل ممارساتهم الخاطئة لتشويه صورة الدين الإسلامي، انعقد المؤتمر العالمي لعلماء المسلمين تحت عنوان: (من هم أهل السنة والجماعة؟! بيان وتوصيف لمنهج أهل السنة والجماعة، اعتقادا وفقها وسلوكاً، وأثر الانحراف عنه على الواقع).

وقد خَلُص المؤتمر إلى العديد من التوصيات التي تخدم هذا الهدف والتي من ابرزها ان: أهل السنّة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية، ومنهم أهل الحديث المفوضة في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علماً وأخلاقاً وتزكيةً على مسلك الإمام الجنيد وأمثاله من أئمة الهدى، وهو المنهج الذي يحترم دوائر العلوم الخادمة للوحي، ويكشف بحق عن معالم هذا الدين ومقاصده في حفظ الأنفس والعقول، وحفظ الدين من تحريفه والعبث به، وحفظ الأموال والأعراض، وحفظ منظومة الأخلاق الرفيعة.

وشدد المؤتمر على ان هذه الموجة من التطرف والتكفير، والتي تحولت الى توحش ارهابي فاق كل ما سبقه في التاريخ، ليست الا موجة عابرة، لا تعبر عن جوهر الاسلام الحنيف، وان التاريخ شهد قبل ذلك “هبوب أمواج من الفكر المضطرب والمنحرف، الذي يدعي الانتساب إلى الوحي الشريف، ويتمرد على المنهج العلمي الصحيح ويروم تدميره، ويزعزع أمن الناس واستقرارهم. وكانت أولى تلك الموجات الضالة الضارة، الخوارج قديما، وصولا إلى خوارج العصر الحديث من أدعياء السلفية التكفيرية، وداعش ومن سار على نهجهم من التيارات المتطرفة والتنظيمات المُسيَّسة التي يعتبر القاسم المشترك بينها هو التحريف الغالي والانتحال المبطل، والتأويل الجاهل للدين... ، وهو ما استوجب انبراء العدول من حملة هذا الدين الحنيف لتبرئته من كل ذلك، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)..”.

وكل ما جاء في البيان واضح الدلالة بأن هذا الفئة المارقة اليوم هم اتباع المدرسة الوهابية، ومنتجاتها من الجماعات الارهابية التي خرجت على الأمة بأسماء متعددة ومنهجية واحدة، تكفّر كل ما عداها، وتستسهل القتل وسفك الدماء المعصومة سبيلا لفرض هيمنتها، وفكرها الشاذ.

ولا شك ان هذه المواقف، والانتفاضة التي عبر عنها اتباع مذاهب (أهل السنة والجماعة)، أصابت الاستراتيجية السعودية - الوهابية، في الصميم، وأبطلت احدى أهم أدواتها في التترس بالمسلمين، وادعاء تمثيلهم، لممارسة نهجها التكفيري، وشن الحروب، وتدمير بلاد المسلمين، وأسس العقيدة الاسلامية السمحة.  

وامام هذا الانكشاف الكامل.. وقف الوهابيون بذهول قبل ان يردوا بأساليبهم المعروفة.

وهكذا فقد أُسقط بيد الوهابيين وامراء المملكة الوهابية، اذ انهم بعد كل ذاك الاستثمار المكلف في بث العقيدة الوهابية وفرضها على أهل السنة في بلاد المسلمين، والمغتربات على حد سواء، وجدوا أنفسهم متهمين بما اتهموا به خصومهم، وان محاولاتهم للجمع بين تكفير المذاهب الاسلامية وتزعمها في آن معا قد أخفقت.

ولعل اكثر ما أغاظ رجال الدولة والمذهب في مملكة الوهابية، انهم بدل ان يعمقوا الشرخ المذهبي بين السنّة والجماعة، وبدل ان يفجروا الفتنة المذهبية مع الشيعة لكي يساعدهم ذلك في تكريس زعامتهم لمليار فقد انقلب سحرهم عليهم وبات هدف التصويب من اكثرية مسلمي الامة الساحقة.. وفشلوا في استدراج المسلمين الى حرب مذهبية طاحنة.

كما انهم فشلوا في التضليل الاعلامي الذي انفقوا عليه جزءا كبيرا من ثروة الجزيرة العربية وشعوبها، لتبرير حروبهم ضمن المخطط الاميركي، وخصوصا تلك المجازر البشعة ضد الشعب اليمني المسالم.

الهجوم الوهابي المضاد

 

في حين انبرى عدد من دعاة الوهابية الى شن حملة قاسية لتحقير المؤتمر ودعاته والمشاركين فيه، واستعادة مفردات التكفير والتجهيل من قاموس دعوتهم الثري بهذه التعابير والقائم عليها اصلا، صدر بيان عن هيئة كبار العلماء اكثر اعتدالا وهدوءا.

وتوزع المنافحون عن وهابية آل سعود على ضعف حجتهم الى فريقين: احدهما يستعين بمخزونه من قاموس التكفير وتجهيل الاخر وتسخيفه، والفريق الاخر رفع لواء المظلومية معاتبا ومتلبسا ثوب الحرص على وحدة الصف، والخوف على الأمة وعلى أهل السنّة والجماعة من الفرقة والتشرذم.

الفريق الاول أمعن في لغة التكفير، واتهم المجتمعين من صفوة علماء السنّة بأنهم (أئمة ضلالة) وان الله فضحهم، كما قال الشيخ عبد العزيز الفوزان، واستعاد هو والاخرون رأيهم بأن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنّة؛ وبحسب الشيخ حمود العمري فإنه لم يشارك في مؤتمر الشيشان أحد من أهل السنة، وان المشاركين مجموعة من عباد القبور والمرتزقة والأوباش وعبّاد الأحياء والأموات، اما الأستاذ الجامعي الوهابي المتطرف الشيخ محمد البراك، فوصف المؤتمر بأنه يستهدف خدمة الصليب ومناوأة أهل الإسلام.

بينما ذهب فريق آخر ومن بينهم عدد من الكتاب السعوديين وهيئة كبار العلماء الى الحديث عن ضرورة نبذ الفتنة والتفريق بين المسلمين، والمحافظة على وحدة الصف. الا انهم لم يكونوا مقنعين ولا جادين، اذ ان حديث الفتنة لا يخرج الا من علماء نجد، فهم وحدهم المشغولون بتصنيف الناس، ومنح شهادات الايمان والعبور الى الجنة، والغوص في ادراج التراث الذي لم يسلم من تكفيرهم، فهدموا الاضرحة والمقامات ومنازل الصحابة وزوجات الرسول، وحتى ما تبقى من اثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اعملوا فيه معاول الهدم والازالة والتشويه.

والسؤال الذي لا يستطيعون الهروب منه ولا الاجابة عليه: اذا كنتم جادين في عدم تكفير المسلمين، فقولوا ذلك صراحة وأعيدوا النظر في فتاواكم وكتبتكم وفكركم القائم اساسا على فكرة اخراج الناس من الضلالة الى هدي محمد بن عبد الوهاب؟

ومع انعدام الحجة والمنطق، توزعت ذرائع وحجج الفريقين المدافعين عن عقيدة الوهابية، واللذين بدت عليهما المفاجأة والاضطراب، بين اتهام ايران وروسيا واعادة توصيف المؤتمر باعتباره جزءا من الحرب على سوريا وأهل السنة، والحديث عن مؤامرة دولية تستهدف الاسلام، ممثلا بالوهابية التي يفترضها دعاتها زعيمة للمسلمين، رغم نسبة اتباعها المتدنية بالقياس الى عموم المسلمين السنّة.

هؤلاء يريدون ان يثبتوا أمرا أساسيا هو وجود دوافع سياسية وراء الدعوة لهذا المؤتمر..

حسنا.. ولكن السؤال الابرز الذي لم يجيبوا عليه: لماذا اصطفت اكثرية اتباع المذاهب السنية، من مشارب مختلفة، ضمن الحشد العالمي في مواجهة الوهابية؟ ولماذا استطاعت هذه الدعوة تحشيد هذا العدد الكبير من المفتين وعلماء الدين السنة الذين يرفضون ان ينطق باسمهم مذهب متشدد متطرف؟ لماذا فشلت الآلة الوهابية السعودية التي عملت منذ عقود طويلة في جذب اهل المذاهب اليها او اقناعهم بريادتها وزعامتها عليهم؟

وما يجب عدم تجاهله امران: 

الاول، هو ان هناك تحسسا حقيقيا لدى المسلمين من الحالة التي وصلوا ليها بقيادة الوهابية لهم من حيث: تهديد المجتمعات السنية نفسها بالارهاب.

والثاني، الموقف الدولي الحاسم باعتبار الوهابية معادلا للارهاب والتشدد. لذا فقد رأت أكثرية المذاهب السنيّة ضرورة الابتعاد عنها حماية لأنفسهم ومجتمعاتهم من هذه الوصمة التاريخية.

وكالعادة لا يعرف زعماء المدرسة السعودية – الوهابية الاعتراف بالخطأ، ولا يقرون بالاساءات التي يتسببون بها للآخرين، وثقافة الاعتذار والتراجع والنقد الذاتي ليست في قاموسهم.. وذلك تأكيدا على تشددهم واستعلائهم على الامة جميعا، واحساسهم بأنهم فعلا اهل الحق والفرقة الناجية، وان الاخرين على ضلال، بل يجعلون لأنفسهم وظيفة الهداية للمسلمين واخراجهم من الشرك الذي هم فيه! فكيف اذن يقبلون النقد او المحاسبة او الحوار البناء؟

لم يمض وقت طويل، حتى سقط القناع المعتدل التضليلي عن وجوه مشايخ الوهابية، الذي خرج مفتيهم ورئيس هيئة كبار العلماء في السعودية، ليكفر الشعوب الإيرانية قاطبة، متهما إياها بالمجوسية والعداء للاسلام.

لم يميز المفتي عبد العزيز آل الشيخ بين مكونات الشعب الايراني، ولا بين أجياله، فكلهم مجوس برأيه، وكلهم معادون للمسلمين.. وهذا التعميم هو قمة السفاهة في الاحكام، والتعسف في استخدام مصطلح التكفير في أزمة سياسية بين بلدين ونظامين.

وما أثار الاستغراب، ان قادة إيران ومرشدها الاعلى لم يهاجموا الوهابية، ولا السعودية كبلد ولا شعبها، بل تحدثوا عن سياسة خاطئة واجرامية لنظام تسبب في مقتل الالاف من المسلمين في موسم الحج الماضي، وتعمد حرمان عشرات الاف المسلمين من الحج هذا العام..

وسواء كان الهجوم الايراني محقا او غير ذلك، يبقى شأنا سياسيا واداريا وان كان يتعلق بشؤون الحج.. فما قاله الايرانيون لا يعني ان آل سعود غير مسلمين، بل هم غير كفوءين في ادارة شعيرة مقدسة تخص مليار ونصف المليار مسلم في هذا العصر وكل المسلمين في مختلف العصور.. فما الذي يدعو مفتي الوهابية لكي ينبري لتكفير عشرات الملايين من المسلمين بالجملة؟ الا اذا كان نقد آل سعود في العقيدة الوهابية يعادل الخروج من الملة؟! والا اذا كان آل سعود عند مشايخ الوهابية اكثر قدسية من دماء المسلمين وحجهم ومقدساتهم؟!

تهافت منطق الوهابية

قليلون هم الذين توقفوا عند اتهام جهات خارجية بالوقوف خلف المؤتمر. وقليلون اكثر من قبلوا مقولة اتهام ايران بأنها تقف خلف حشد المئات من علماء المذاهب السنية لعقد مؤتمر يخصهم، ولا يعنى بالعلاقة مع المذاهب الاخرى. هذا أمرٌ لا تستطيعه ايران ولو أرادت.

وقد تجرأ العديد من الكتاب والمفكرين السعوديين على تحدي هذا المنطق ورفض القاء التهم على الاخرين، ودعوا الوهابيين الى اعادة النظر بعقيدتهم، مشيرين الى ان أهل السنّة والجماعة اخرجوا الوهابية من دائرتهم، بينما كانت الوهابية قد اخرجتهم من الاسلام كله.. ومن هؤلاء زياد الدريس وعلي سعد الموسى وسواهما.

وتعقيبا على اتهام روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين بالوقوف وراء المؤتمر متهمين رئيس الشيشان بأنه دمية روسية، لفت العديد من الكتاب الى تصنيف الوهابية مصدرا للارهاب، والسعودية ممولا له، جاء من مصادر غربية “صديقة” للنظام الحالي، بعد ان فاض بها الكيل، واحرجت امام شعوبها وصحافتها في دعم هذا النظام الذي لم يعد احد يشك في انه السبب الرئيسي الاول لموجة التوحش والقتل التي تجتاح العالم.

وهذا ما عبر عنه الشيخ عادل الكلباني مثلا بالقول ان العالم يجمع الحطب لاحراقنا.. لقد قال العالم ولم يقل الروس او بوتين، على خلفية المواقف السابقة التي عبر عنها الرئيس الاميركي باراك اوباما وقبل بضعة اشهر من الآن في تصريحاته لمجلة اتلانتيك، وتسميته الوهابية السعودية باعتبارها مصدرا للتطرف والتعصب.

فقبل عدة أشهر من نهاية ولايته الرئاسية ومغادرته البيت الأبيض، أدلى الرئيس الأميركي باراك أوباما بسلسلة مقابلات للصحافي الأميركي في صحيفة «ذي اتلانتيك» جيفري غولدبرغ هاجم فيها دولاً ذات دور محوري في استراتيجية الولايات المتحدة مثل السعودية.

حيث تحدث  أوباما صراحة عن أيديولوجيا متطرفة وعنيفة، مشددا بقوله: (من الواضح ما أعنيه، وهو أن هناك تأويلا عنيفا وراديكاليا ومتعصبا وعدميا للإسلام عبر فصيل ما - وهو صغير - داخل المجتمع المسلم يمثل عدونا، ويجب هزيمته).

ثم وصف أوباما كيف شاهد إندونيسيا تنتقل تدريجيا من الإسلام المعتدل التوفيقي، إلى تأويل أكثر تطرفا وأقل تسامحا، لأن السعوديين والدول الأخرى حسب تعبيره، دفعوا بالأموال، وأعداد كثيرة من الأئمة والأساتذة، نحو تلك البلاد.. (ففي التسعينات، مول السعوديون بشدة المدارس الوهابية، التي تعلم النسخة المتشددة من الإسلام والتي تفضلها العائلة الحاكمة السعودية)، حسب تعبيره.

كما نقرأ في نيويورك تايمز في الثاني من يوليو الماضي، مقالا لنيكولاس كريستوف بعنوان: الارهاب السعودي ينتشر في الدول المسالمة، ويخلص فيه الى انه على مدى عقود، والمملكة السعودية تمول بتهور وتروج المذهب الوهابي القاسي وغير المتسامح للإسلام، في جميع أنحاء العالم، بالطريقة التي يتم بها، لإنتاج الإرهابيين. وليس هناك مثال أفضل من هذا التهور السعودي مما نراه في البلقان.

بينما يرى المفكر العالمي نعوم تشومسكي ان الجميع قلقون بشأن وقف الإرهاب. ولكن هناك طريقة سهلة للقضاء عليه وهي وقف المشاركة فيه.. وكيف يكون ذلك؟ يقول ان المملكة السعودية هي الراعي الرائد في العالم للتطرف الإسلامي، وهي أيضا حليف الولايات المتحدة الوثيق. لذا فإن القضاء على الارهاب يتطلب لجم النظام السعودي.

وهو ما نبه اليه الكاتب السعودي عادل الحربي في مقاله بعنوان: (مؤتمر الشيشان.. لا تلعنوا الظلام!) مشيرا الى ان هذا المؤتمر يأتي وفق “عقيدة أوباما” الشهيرة.. وان “هذا العبث لن ينتهي ما دام هناك من لا يزال يصر على مخالفة سنّة الحياة بالاختلاف والتنوع”.

الخاتمة

من الصعب على قادة الوهابية ورعاتها ان يستوعبوا الدروس الصحيحة من التطورات الحاصلة، ومن بينها مؤتمر غروزني و”انتفاضة” أهل السنّة والجماعة، وسيل الانتقادات من الشرق والغرب، التي تحملهم مسؤولية هذا الدم، وهذه الفوضى التي تغرق بها المنطقة، وتهدد العالم بأسره.

والوهابيون ومن خلفهم آل سعود، ينتقلون للأسف من (حفرة الى دحديرة)، وينقلون معهم العالم من ازمة الى كارثة، مدفوعين بعقيدة متصلبة جافة، تعمي البصائر وتسد الافهام، وبشطط امراء يحلمون في ما لا يقدرون عليه، ويتخيلون انهم بما لديهم من ثروة مالية ودعم اميركي، قادرون على فرض نظامهم المتخلف، وسطوتهم الديكتاتورية على شعوبهم والاخرين.

والاسوأ من كل ذلك ان هؤلاء واولئك يعملون في خدمة مخططات استعمارية صهيونية، تجد فيهم اداة مثالية لتمزيق الامة والمنطقة، واستنزاف ثروتهم اولا وثروات الآخرين ثانيا.

ويبقى الأمل معقوداً على عقلاء الأمة أولا، وعلى النخبة المثقفة غير الملوثة في الجزيرة العربية وفي السعودية تحديدا، للتصدي لهذا الجموح اللاعقلاني المدمر، واعادة المنطقة الى أجواء التسالم والحوار في ما يختلف عليه أهلها، والمنهج الاسلامي الصحيح في الاعتدال والمجادلة بالتي هي احسن، والاهتمام بقضايا الأمة الداهمة في التصدي للعدوان عليها وتحرير مقدساتها، والنهوض بمستلزمات التنمية لشعوبها، بعيداً عن النبذ والتهميش والعزل والتكفير.

الصفحة السابقة