الوهابية.. ضحية الاقصاء!

مؤتمر الشيشان.. الإشتباك الأيديولوجي

يحي مفتي

لأول مرة منذ عقود طويلة، يعقد مؤتمر إسلامي عام يتبنى موقفاً اعتراضياً صريحاً على الوهابية مشروعاً وعقيدة. فقد بعث مؤتمر الشيشان في العاصمة غروزني والذي استمر ثلاثة أيام (25 ـ 27 أغسطس 2016) تحت عنوان «مَن هم أهل السنة والجماعة بيان وتوصيف لمنهج أهل السنة والجماعة، إعتقاداً وفقهاً وسلوكاً وأثر الانحراف عنه فى الواقع» برسالة مدوّية أصابت صميم الوهابية مؤسسة وقاعدة ورعاة ودعاة..

في الشكل والمضمون، في المشاركة والمشاركين والبيان الختامي، في ردود الفعل وفي الغضب، رسائل ودلالات تستحق التأمل. هي أشبه باستعادة لمعركة مكتومة، كانت الوهابية تديرها منفردة، في هجومها على خصومها، في تكفير المذاهب الاسلامية الأخرى: الأشاعرة، الصوفية، الماتريدية، المعتزلة...الخ. وكان على أتباع هذه المذاهب المجاهرة بمواقف، بردود، باحتجاجات مسموعة وبلغة تبدو صريحة وجريئة.

المؤتمر بعث رسالة جليّة والمعني تلقى الرسالة مباشرة وكما أرادها المشاركون..وما كان مقتصراً على الورق في مواقف مشايخ الوهابية ضد المذاهب الاسلامية السنيّة، أصبح اليوم على الطاولة في هيئة ردّ جماعي، والمؤتمر أول قطراته. لا مراء في أن المؤتمر أخرج الوهابية من المشاركة ليس تعبيراً عن نزوع إقصائي، وإن كان يبطن ذلك بلا ريب، ولكنّه في رد فعل على اقصائية الوهابية وتوهينها للمذاهب الأخرى..

للمؤتمر أكثر من هدف، ومن بين أهدافه تقديم نموذج للإسلام غير السائد حالياً، الذي ارتبط في أذهان كثيرين في أنحاء العالم بالإرهاب والعنف. إسلام لطالما أرادت شعوب العالم رؤيته، إسلام التسامح، وإسلام التعايش، وإسلام السلام. اختطاف الاسلام من قبل الوهابية ومتوالياتها أشعر الكثيرين في أرجاء الأرض بأن لا إسلام بدون عنف، وإن النموذج الوهابي وحده الأصيل وماعداه مصطنع وطارىء.

بالنسبة للرعاية الشيشانية، فإن الهدف واضح أيضاً، فالدولة هناك لا تريد للوهابية ان تتوغل في أوساط الشعب الشيشاني فيما تحاول الوهابية عبر «القاعدة» و»داعش» تجنيد عناصر شيشانية للقتال في صفوفها. وكل ذلك يتم على حساب الميراث الصوفي في الشيشان الذي يتّسم بالتسامح.

رئيس الشيشان رمضان قديروف كان فصيحاً وبجرأة عالية في التعبير عن مواقفه الناقدة للوهابية، بل وفي تبني مشروع معلن لتطويقها والحد من انتشارها في بلاده بل وفي القوقاز وعلى امتداد مساحة الاتحاد السوفيياتي السابق.

وكان رئيس الشيشان قد توعّد في آواخر يوليو سنة 2008 بالقضاء على الوهابية واقتلاع جذورها في بلاده. وقال أمام الصحافيين بأنه «إذا لم يكن بالامكان معالجة الوهابية يبقى أمامنا خيار واحد هو اقتلاعها، الامر الذي سنقوم به».

وفي 20 سبتمبر 2009 حض قاديروف جميع المسلمين على التوّحد من أجل مواجهة الحركة الوهابية بعد مصرع نائب رئيس مجلس المسلمين في جمهورية كاراشييفو- سيركاسيا إسماعيل بوستانوف الذي لقي مصرعه في هجوم شنّه مسلحون أطلقوا النار على سيارته قرب محطة للوقود في بلدة شيركيسك في جمهورية كاراشييفو- سيركاسيا، شمال روسيا.

وقال قاديروف «ما حدث اليوم يثبت مرة أخرى أنه على جميع المسلمين العمل ضد الوهابية»، مضيفاً «إذا أردنا استئصال هذا الشر يجب أن يكون القتال ضدها قاسياً ومستمراً». وأضاف إن بوستانوف كان رجلاً مؤمناً جداً بدينه وقُتل في رمضان، وهو الشهر المقدس عند المسلمين، وإن لديه موقفاً إستثنائياً يستند إلى المبادئ حيال الرجعية الوهابية والتطرف”.

وكانت جمهوريات شمال القوقاز الروسية وهي (الشيشان وداغستان وأنغوشتيا و كاراشييفو - سيركاسيا) قد شهدت أعمال عنف تقف وراءها جماعات مسلحة مصنّفة على المذهبي الوهابي وشنّت هجمات متكررة على مراكز الشرطة ومبانٍ يستخدمها مسؤولون حكوميون.

ويتذكر الشاشانيون والعالم كله المخطط الارهابي الذي نفذّه شامل باسييف باحتجاز 1300 رهينة بأوسيتيا الشمالية من أطفال ومدرّسي إحدى المدارس الابتدائية، وذهب ضحية المخطط أكثر من 320 شخص بين طالب ومدرّس وتمّ قتل الارهابي شامل بساييف..

في سياق الصراع من أجل استقلال الشيشان عن روسيا، كان المال السعودي يفعل فعله الكارثي، حيث أحال من قادة الاستقلال المفتعلين الى مجرمي حرب الذين أسبغ عليهم وسم «أمراء الجهاد» من أتباع الفكر الوهابي من أبرزهم شامل باسييف والسعودي خطّاب (ثامر صالح السويلم) ومعهم آخرون انخرطوا في عمليات إرهابية مثل خطف الأجانب وقتل المدنيين والتمثيل بجثثهم كما فعل شامل بساييف بقتل مدنيين جورجيين عام 1993 ولعب كرة القدم برؤوسهم في ستاد سوخومي الرياضي..

وكان أتباع بساييف وخطّاب ينشطون من أجل تقسيم الشيشان وإعلان إمارة شيشان الاسلامية، وفي فبراير 1999 أعلن عن قيام المحاكم الشرعية، وأقرّت عقوبة الجلد والرجم وقطع الأطراف، وتمّ إبطال عمل البرلمان لكونها سلطة دنيوية، وتأسّست نواة جيش عقائدي باسم اللواء الاسلامي الدولي مؤلف من مقاتلين من داغستان والشيشان واتراك وعرب وروس يقودهم شامل بساييف وخطّاب. ولم يكن هذا اللواء سوى لواء وهابي يتلقى مقاتلوه توجيهاتهم من مشايخ الوهابية ويحصلون على أموال طائلة من مشايخ وأمراء آل سعود عبر غطاء الجمعيات الخيرية وحملات الإغاثة.

على أية حال، فإن اللواء الوهابي مالبث أن تعرض لضربة قاصمة في عملية منسّقة بين سكان داغستان والقوات الروسية تحت قيادة فلاديمير بوتين. وفرّ المقاتلون الوهابيون فيما طاردت المخابرات الروسية من تبقى منهم، فقتل خطّاب في مارس 2002، وأصلان مسخادوف في مارس 2005، وباسييف في يوليو 2006، فيما قتلت المخابرات الروسية سليم خان باييف، خليفة باسييف، في الدوحة بقطر في فبراير 2004.

تلك النبذة التاريخية المقتضبة ضرورية لفهم أبعاد مؤتمر الشيشان، البلد الذي على أرضه اندلعت مواجهات عسكرية بخلفية إيديولوجية..

كل من حاربتهم الوهابية كانوا حاضرين في المؤتمر..بل أكّد هؤلاء أن الاسلام الأصيل هو في تعدّديته المذهبية، وإن من يمارس الإقصاء لا مكان له في الإسلام السنّي.

في الشكل، قدم الى العاصمة الشيشانية، غروزني، 40 عالماً أزهرياً على متن طائرة خاصة، للمشاركة فى فعاليات مؤتمر «من هم أهل السنة والجماعة»، بحضور مجموعة من المشايخ والعلماء من معظم الدول الإسلامية..وكان في وفد مصر أحمد الطيب، شيخ الأزهر ورئيس مجلس حكماء المسلمين، كما ضمّ شوقي علاّم مفتي الجمهورية، وابراهيم هدهد، رئيس جامعة الأزهر، ومفتي الجمهورية السابق في مصر علي جمعة.

لقيت الوفود المشاركة في المؤتمر حفاوة استثنائية، وطلب رئيس الشيشان قديروف من شيخ الأزهر الاقامة في قصر الحكم. وهذه أول زيارة لشيخ الأزهر لجمهورية الشيشان، وكذلك بالنسبة لمفتي الجمهورية والوفد الأزهري.

من المشاركين أيضاً، كان الداعية اليمني الحبيب الجفري، ونقيب الأشراف السيد محمود الشريف، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية عبد الهادي القصبي، وأسامة الأزهري ونقيب المنشدين محمود التهامي، ومئات العلماء والدعاة والمسؤولين من بلدان إسلامية عديدة، واكتسب المؤتمر طابعاً احتفالياً حيث اصطفت جموع غفيرة من أبناء جمهورية الشيشان على جوانب الطرقات وهم يحملون الأعلام ويكبّرون ويرحبون بالوفود.

وكان لافتاً زيارة الوفد الديني المصري بقيادة المفتي وشيخ الأزهر ضريح الشيخ أحمد قديروف الذي قضى غيلة على أيدي مقاتلين من أتباع العقيدة الوهابية.

كان الاعلام السعودي وحده الذي وجد نفسه معنياً بالتفاعل سلباً مع الحدث، وكأنه فهم الرسالة بأن الوهابية هي المقصودة بالمؤتمر، وأن الأطراف المشاركة هي المقصودة بتظهير مواقفها إزاء ما تتعرض له من حملة توصيم متواصلة من أتباع الوهابية على مدى عقود.

مؤتمر الشيشان لم يكن مخصّصاً للصوفية فضلاً عن أن تكون حرباً على أهل السنة، ولكن الإعلام السعودي أراد منه ذلك. صحيح أن المؤتمر بحث دور التصوّف الاسلامي ومنهجه وسبل تطبيقه، بالنظر الى أن جمهورية الشيشان تتبع المنهج السنّي الصوفي. بل أكثر من ذلك، أن الرئيس الشيشاني يتبنى مشروع تعزيز الصوفية في بلاده لمواجهة التيار الوهابي الذي يهدّد وحدة واستقرار الجمهورية. ولذلك دعا قديروف علماء الصوفية في مصر واليمن وبلاد الشام من أجل تعميم الصوفية المعتدلة المستمدة من السنّة النبوية الشريفة والنأي بالشعب الشيشاني عن الغلو والتطرّف، واختار قديروف الاستعانة بعلماء مصر من أجل نشر الوسطية السنيّة في الشيشان، وهذا يفسر الحضور الوازن واللافت في المؤتمر، وقد أبدى الوفد الديني المصري مرونة واستعداداً للتعاون من أجل تنشئة نموذج الاسلام المعتدل في هذا الجزء من العالم.

كلمات المشاركين كانت بالغة الدلالة في مضمونها وفي الرسائل التي وجّهتها الى من يعنيه أمر الاسلام، ومن يهمه تحريره من خاطفيه المدّعين زوراً تمثيله المطلق. مفتي الجمهورية السابق علي جمعة قال في كلمته أمام المؤتمر: «أن الأزهر الشريف هو محتضن أهل السنة والجماعة، وشيخه الدكتور أحمد الطيب هو إمام أهل السنة والجماعة وأن الأزهر لم يخترق كما يروج البعض للتشكيك في الأزهر وأنه لن يخترق..».

وتلك إشارة واضحة الى ما يقال عن اختراق الوهابية لمؤسسة الأزهر، إذ ينفي جمعة ذلك بل يؤكد مرجعية الأزهر لأهل السنة والجماعة. ويوضح جمعة ذلك بقوله أن أهل السنة والجماعة لم يكتفوا بإدراك النص، بل اهتموا بإدراك الواقع «ولم يكفّروا أحداً من أهل القبلة، ووفقوا بين العقل والنقل وتعايشوا مع الآخر». فهل التكفير اليوم الا اختصاصاً وهابياً، وهل رفض التعايش الا من الخصائص السلوكية لهذه المدرسة.

الدكتور أسامة الأزهري، مستشار رئيس الجمهورية وكيل اللجنة الدينية بالبرلمان وعضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر حذّر فى خطبة صلاة الجمعة في أكبر مسجد فى أوربا بالعاصمة الشيشانية، غروزني، الشعب الشيشاني وشعوب العالم «من مناهج العنف وتيارات التكفير والتفجير»، داعياً إلى «إحياء منهج أهل السنة والجماعة الذى عاش شعب الشيشان قروناً من الزمان يدرسه ويتلمّس معالمه فى الاعتقاد والفقه والتصوف فعاشوا بمنهجه». ودعا الأزهري الى إعادة تدريس كتب العلم العريقة، وختم خطبته برسالة للتيارات المتشدّدة والتكفيرية بقوله «ستطوى صفحتكم تماماً من تاريخ الأمة المحمدية كما طويت صفحة الخوارج من قبل أيام الصحابة حينما واجههم الصحابة بالعلم الصحيح وسيرجع المسلمون رحمة للعالمين ومصدر أمان للعالم كله، وأن أرض الكنانة مصر الطاهرة بأزهرها الشريف ستظل لأرض الشيشان المباركة بمثابة الشقيق الأكبر ولن تتخلى عنكم أبداً، وسوف تعتنى مصر وأزهرها الشريف بكل المعاهد والكليات والجامعات فى الشيشان المباركة وستبقى مصر هى الشقيق الأكبر لكل البلاد العربية والإسلامية».

من جانبه، قال شيخ الأزهر أحمد الطيب «إن المذهب الأشعرى ليس جديداً، ولكنه عودة بالمسلمين إلى ما كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعوه». وقال بأن مذهب السلف الذي نراه ويروج به الآن هو مخترع.

وفي نقد غير مباشر للسلفية الوهابية قال الطيب في كلمته بالجامعة الاسلامية الروسية في الشيشان «أن الأزهر حافظ على منهج أهل السنة والجماعة لأكثر من ألف عام»، وعطف على الارهاب الوهابي وقال بأن «الإسلام حرّم إراقة الدم، وفرض عقوبات شديدة في الدنيا تصل لحد القصاص ثم عقوبات شديدة في الآخرة على كل من يجترئ على إراقة دم إنسان».

في توصيات المؤتمر العالمي لعلماء المسلمين في جروزني أهم من دلالة وأكثر من رسالة، ويلتقي جميعهاً عند إعادة إحياء نموذج الإسلام المعتدل في مقابل النموذج المتشدّد المتمثل في الوهابية. نقرأ في ديباجة التوصيات: «أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علماً وأخلاقاً وتزكية على طريقة سيد الطائفة الإمام الجنيد ومن سار على نهجه من أئمة الهدى».

وفي هذه التوصية تأملات عميقة، فهذه الطوائف المذكورة لطالما جرى استبعادها من قبل مشايخ الوهابية من دائرة أهل السنة والجماعة، بينما يأتي علماء السنّة الممثلون لهذه الطوائف لتؤكد انضواءها الأصيل والأمين لهذه الدائرة.

ومن بين التوصيات التي خرج بها المؤتمر الى جانب إنشاء قناة تليفزيونية متخصصة موجّهة الى شعوب روسيا الاتحادية لإيصال صورة الاسلام الصحيحة ومحاربة التطرف والإرهاب، وإنشاء مركز علمي بجمهورية الشيشان لرصد ودراسة الفرق المعاصرة وتشكيل قاعدة بيانات موثقة تساعد على التفنيد والنقد العلمي للفكر المتطرف واقترح المجتمعون أن يحمل هذا المركز إسم «تبصير»، فإن المؤتمر أقرّ «العودة الى مدارس العلم الكبرى والرجوع الى تدريس دوائر العلم المتكاملة التي تخرج العلماء والقادرين على تفنيذ مظاهر الانحراف الكبرى». إن أقل ما تعنيه هذه التوصية وتوصيات أخرى في السياق نفسه أن ثمة مشروعاً يجري الاشتغال عليه لمحاصرة انتشار الوهابية وإحلال نموذج الإسلام المعتدل المؤلف من الموروث الصوفي والاشعري في هذه المناطق..وزاد على ذلك بأن أكّد مرجعية الحواضر العلمية التقليدية من خلال «رفع مستوى التعاون بين المؤسسات العلمية العريقة كالأزهر الشريف والقرويين والزيتونة وحضرموت..مع المؤسسات الدينية والعلمية في روسيا الاتحادية». وفي السياق نفسه توجيه الحكومات بضرورة دعم المؤسسات الدينية والمحاضن القائمة على المنهج الوسطي المعتدل، كما أوصى بتشريع قوانين تجرّم «نشر الكراهية والتحريض على الفتنة والاحتراب الداخلي والتعدي على المؤسسات».

في النتائج، يعد المؤتمر الاسلامي «من هم أهل السنةّ؟» أول مواجهة إيديولوجية علنيّة ضد الوهابية التي انفردت على مدى عقود بتكفير غالبية الطوائف الاسلامية السنيّة ولا سيما الأشاعرة والماتريدية والصوفية فضلاً عن المذاهب الأخرى. وقد شعرت السلفية الوهابية بأنها تتعرض للإقصاء، وهو ذات السلاح الذي كانت تشهره في وجه غالبية المسلمين. ولذلك، جاءت ردود فعل أتباع الوهابية على قدر الاقصاء الذي مارسوه ضد أتباع المذاهب الاسلامية الأخرى فقالوا بأن «حصره أهل السُّنة والجماعة في «الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد وأهل المذاهب الأربعة في الفقه وأهل التصوف هو تحديد وإقصاء وإخراج لكل من خالفهم من دائرة السُّنة والجماعة، ونسي هؤلاء التصنيف المتواتر في كتب مشايخ الوهابية وخطبهم ولاسيما شروحات كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب (الشيخ صالح الفوزان والشيخ ابن عثيمين على سبيل المثال لا الحصر) والتي نفوا صفة «أهل السنّة والجماعة» عن الغالبية القصوى من المسلمين السنّة في العالم بدعوى أنهم لم يفهموا حقيقة التوحيد.

الشريف العوني، وهو الصوفي الحجازي الذي حضر المؤتمر، والذي قدّم ورقة تأصيلية حول المفهوم التاريخي لأهل السنة والجماعة، ووجّه نقداً لأولئك الذي اتهّموا المؤتمر بالاقصائية والتضليل وقال «لا يحق لمن مارسوا التبديع والتضليل والإقصاء لعقود أن يعيبوا من قابل إقصاءهم بإقصاء وتضليلهم بتضليل، ولكن يحق لمن كان يتسع معتقدُه وتقريره وإنصافُه للجميع أن يكونوا تحت مظلة أهل السنة والجماعة أن يعتب على البيان: أنه قابل الإقصاء بإقصاء، والتبديع بتبديع».

حاكم المطيري، رئيس حزب الأمة الكويتي، والمقرّب من الوهابية حمل على المؤتمر واعتبره فعلاً روسياً وتوظيفاً للصوفية في حرب روسيا الصليبية في سورية، فيما علّق جمال السيد، ويعمل بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، فوضعها في سياق مؤامرة ضد أهل السنّة!

من ردود الفعل الوهابية، ما نقلته صحيفة (الحياة) في 29 أغسطس الماضي عن الشيخ محمد السعيدي أستاذ الفقه وعلومه في جامعة أم القرى والذي قال أن الهدف من المؤتمر «تآمري على العالم الإسلامي وعلى السعودية خصوصاً، ويهدف إلى إعادة العقل المسلم إلى الخرافة وتسلط الأولياء وسدنة القبور على حياة الناس وعباداتهم».

في مقالته النقدية الموسومة (مؤتمر الشيشان محاولة للفهم) في 29 أغسطس الماضي، توسّع السلفي الاخواني عوض القرني في إدراج المؤتمر في سياق مؤامراتي ممتد يبدأ بـ «تمزيق المسلمين وإشعال نار العداوات بينهم..»، و»تشويه صورة الإسلام السني النقي من البدعة..»، و»إقصاء وإبعاد ومحاصرة وإسكات وتشويه العلماء والتيارات التي لا يمكن دمجها في هذا المشروع الشيطاني والتي تستعصي على التدجين والتهجين والتوظيف والإنصياع..»، وصولاً الى «التمكين لقوى الخرافة والضلال من صفوية حاقدة وصوفية جاهلة و متسلفة غالية قاتلة وجامية مرجيئة أجيرة..» وأخيراً «تسليم زمام أمور الأمة في النهاية لمجموعات علمانية تغريبية تخدم المشروع الصهيوني والإستعماري وتحميه في المنطقة».

على المنوال نفسه، وفي اليوم نفسه كتب الوهابي علوي بن عبد القادر السقّاف، المشرف العام على مؤسس الدرر السنيّة رداً على المؤتمر بعنوان «بيان وتبيان عن حقيقة مؤتمر الشيشان»، اعتبر فيه المؤتمر موجّهاً لمن وصفهم «عُلماءِ المسلِمين من أهلِ السُّنَّة والجَماعة ودُعاةِ التوحيد..» وربط ذلك بالنزاع المسلّح في سوريا. وحمل السقّاف على الرئيس الشيشاني رمضان قديروف وقال عنه بأنه «جندي من جنوج بوتين» وقال عنه بانه «صوفي خرافي».

ومع ان عنوان المؤتمر معروف الا أن ردود الوهابيين أقحمت كل خصومها المذهبيين بمن فهم الشيعة وايران، فيما تجاهلت عن عمد الحضور الأزهري الكثيف في المؤتمر وكلمات علماء مصر التي تناولت بالنقد الوهابية وإن لم تسمها بالإسم..وهو ما فهمه السقّاف تماماً بقول بأن المتطرفين بحسب ما ورد في كلمات المشاركين المقصود بهم هم «أصحاب المنهج السلفي» وأن المؤتمر جاء كنقطة تحول لاسترجاع لقب أهل السنة والجماعة، فيما يحاجج بأن هذا اللقب حصري بالسلفية الوهابية وان سواهم عليهم إثبات عكس ذلك.

الطريف من بين ردود الفعل، ما جاء تحت عنوان (كتّاب وأكاديميون ينتقدون توصيات مؤتمر أهل السنة والجماعة بـ»الشيشان») ونشره موقع سعودي (تواصل) في 28 أغسطس الماضي، والذي يتبيّن أن المعلّقين مغمورون وسعوديون وليس من الكتّاب أو المفكّرين المعروفين، ومن بينهم طبيب أمراض جلدية أفتى في موضوعات عقدية وفضّل حصر أهل السنة في الصوفية والماتريدية والأشاعرة..

في حقيقة الأمر، أن المؤتمر أعاد إحياء كل الاشتباكات الفكرية والسياسية، وانعكس ذلك حتى على التجاذبات المحلية. على سبيل المثال، غرّد الكاتب السعودي تركي الحمد على تويتر في 31 أغسطس الماضي ما نصّه: «مؤتمر غروزني..رغم كل المآخذ السياسية والعقدية عليه يجب أن يدق ناقوس خطر لدينا..لم يعد العالم يتقبل جهالة البعض منا فقد ارتدت إلينا..».

أما الباحث حسن فرحان المالكي فغرّد في الأول من سبتمبر الجاري بما نصّه: «لقد لبث الغلاة ست سنوات عجاف وهم يفتكون في المسلمين قتلاً وتكفيراً وشتماً وتحريضاً فلم يوقفهم أحد فكان من الطبيعي حصول مؤتمر الشيشان».

في التغريدتين دلالات مكتظة، فكل تغريدة تختزن تاريخاً من التجاذب الفكري والإجتماعي على المستوى المحلي، وتعيد الأمور الى نصابها، في تحميل الداخل مسؤولية ردود الأفعال على نزعات الاقصاء والتكفير الموجهة ضد المذاهب الاسلامية الأخرى وبات على الوهابية أن تحصد ما زرعت..

في المواكبة مع المؤتمر ومتوالياته، كشف الداعية الصوفي اليمني علي الجفري المقيم في الامارات عن عنوان المؤتمر القادم، وكتب في تغريدة في 3 سبتمبر الجاري بأن «‏الخطوة القادمة بعد مؤتمرأهل السنة في الشيشان مؤتمر منطلقات التكفير السبعة التي بُني عليها فكر القطبيين ومن تفرع عنهم من القاعدة وداعش». وحين يكون التكفير عنواناً لمؤتمر لابد أن تحضر الوهابية بكونها مصداقاً لأبرز مدرسة تكفيرية في المجال الاسلامي.

هيئة كبار العلماء ولعنة الإقصاء

في لغة غير مسبوقة، ولا تنتمي الى أدبياتها ولا عقيدتها، أصدرت الأمانة العام لهيئة كبار العلماء بياناً نشر في 2 سبتمبر الجاري للرد على مؤتمر الشيشان حول «من هم أهل السنة؟»، إذ أكّد البيان على وحدة الأمة ونبذ الفرقة والاختلاف وقال:»إن أمة الإسلام أمة واحدة، وتفريقها إلى أحزاب وفرق من البلاء الذي لم تأت به الشريعة، وعلى الإسلام وحده تجتمع الكلمة، ولن يكون ذكر ومجد لهذه الأمة إلا بذلك». بل ما هو جدير بالالتفات هو إضفاء البيان مشروعية على التنوع والاختلاف وقال بأن «الفقهاء والعلماء والدعاة ليسوا بدعاً من البشر؛ فأنظارهم متفاوتة، والأدلة متنوعة، والاستنتاج متباين، وكل ذلك خلاف سائغ، ووجهات نظر محترمة، فمن أصاب من أهل الاجتهاد فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، والخلاف العلمي- بحد ذاته - لا يثير حفائظ النفوس، ومكنونات الصدور؛ إلا عند من قلّ فقهه في الدين، وساء قصده ونيته». وحذّر البيان من «النفخ في ما يشتت الأمة ولا يجمعها» وحمّل «كل من ينتسب إلى العلم والدعوة مسؤولية أمانة الكلمة، ووحدة الصف، بخلاف أهل الأهواء الذين يريدون في الأمة اختلافًا وتنافراً وتنابذاً وتنابزاً، يؤدي إلى تفرق في دينها شيعاً ومذاهب وأحزاباً، وما تعيشه الأمة من نوازل ومحن، يوجب أن يكون سبباً لجمع الصف والبعد عن الاتهامات والإسقاطات والاستقطابات..».

بيان في غاية الاعتدال والمرونة والحكمة كما قالوا عنها، فهل هذه حقيقة هيئة كبار العلماء، وهل يعبّر عن المواقف الأصلية لأعضائها؟

فمن المعلوم بالقطع، وعلى مدى عقود أن هيئة كبار العلماء في المملكة السعودية كانت تمارس مجتمعة أو متفرّقة الاقصاء ضد بقية المسلمين السنّة فضلاً عن الشيعة، وكانت ترى في غالبية المسلمين مبتدعة، بل في مصادر كثيرة هناك موقف عقدي واضح من بقية المذاهب الاسلامية الكلامية والفقهية وإخراجها من مسمى أهل السنة والجماعة..

على سبيل المثال، في كتاب التوحيد المخصص للصف الأول من المرحلة الثانوية والصادر عن وزارة التربية والتعليم لسنة 1424 وصف الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، الأشاعرة والماتريدية بالشرك، وقال عن المشركين الأوائل بما نصّه:»فهؤلاء المشركون هم سلف الجهمية والمعتزلة والأشاعرة». ص 66 ـ 67

وللفوزان كتاب بعنوان (الارشاد إلى صحيح الاعتقاد والرد على أهل الشرك والإلحاد) وكان في الأصل حلقات أذيعت عبر إذاعة القرآن الكريم يقول فيه «يجب اختبار الكتب الصحيحة السليمة، التي أُلفت على مذهب السلف الصالح وأهل السنة والجماعة، والمطابقة للكتاب والسنة، فتقرر على الطلاب، وتستبعد الكتب المخالفة لمنهج السلف، ككتب الأشاعرة والمعتزلة والجهمية وسائر الفرق الضالة عن منهج السلف» ص10.

أما الشيخ محمد صالح العثيمين فيخرج في كتابه (القول المفيد على كتاب التوحيد) غالبية المسلمين من الإسلام وغالبية السنّة من مسمى أهل السنة والجماعة لأنهم كفروا بتوحيد الربوبية. ووفق هذه الرؤية العقدية يقول بأن المسلمين من غير اتباع المذهب السلفي الوهابي: «لا يمكن ان يوصفوا بأهل السنة والجماعة لأن الاضافة تقتضي النسبة، فأهل السنّة منتسبون للسنّة، لأنهم متمسكون بها، وهؤلاء ليسوا متمسّكين بالسبنة فيما ذهبوا اليه من التحريف» (ص 5ـ6). وفي إحدى اللقاءات المفتوحة مع العثيمين بمنزله كل يوم خميس، سئل: هناك من ينكر استعمال أهل السنة والجماعة، ويقول: نقول السلفيين أو السلف لأن في ذلك إدخالاً للأشاعرة والماتريدية في هذا المصطلح، فأجاب ما نصّه:

من الخطأ أن ندخل أهل البدع مهما كانت بدعتهم في الإسم المطلق لأهل السنة والجماعة، فإن أهل السنة والجماعة لا يدخل فيهم من خالف السلف فيما هم عليه، وفيما خالفهم فيه..». بكلمات أخرى، إن كل من لا يؤمن بعقيدة التوحيد كما نظّر لها محمد بن عبد الوهاب والقائمة على ثلاثية (توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات) يصبح خارج مسمى أهل السنة والجماعة، وتالياً خارج الإسلام. ووفق المعايير التي يضعها العثيمين، شأن العلماء السابقين رجوعاً الى محمد بن عبد الوهاب، فإن غالبية المسلمين هي خارج مسمى أهل السنة والجماعة.

في المحصلة النهائية، لم تسلم فرقة من فرق المسلمين من سهام التكفير والتبديع التي كانت تصوّبها هيئة كبار العلماء أو أحد أعضائها..

مؤتمر غروزني وموضوعه (من هم أهل السنة؟)، وبصرف النظر عن أهدافه، إلا أنه كشف لهيئة كبار العلماء ولأتباع المذهب الوهابي خطورة النزعة الاقصائية والجنوح نحو تكفير الآخر. فعلى غير عادة بيانات الهيئة، فإن بيانها بخصوص المؤتمر سالف الذكر ينطوي على رد فعل دفاعي كما تكشف ذلك لغة البيان غير المألوفة، وهي لغة كان المتضرّرون من مواقف الهيئة وفتاوى تكفيرها يستخدمونها إما للاحتجاج أو للتحذير من مغبّة الدور الفتنوي الذي تلعبه الهيئة ورجالها في إحداث انقسام في الأمة وإشعال الحروب بين طوائفها.

الصفحة السابقة