حوار عن بُعد مع صحافيين سعوديين

الدفاع عن النظام يتطلب إصلاحة أولا

خالد شبكشي

كتب عبد الرحمن الراشد مقالا تحت عنوان «الجهل ملة واحدة»، تناول فيه مؤتمر علماء المذاهب السنية من اهل السنة والجماعة في غروزني.

وعلى الرغم من لهجة التعالي التي يبدأ بها مقاله بأنه: لم يكن أبدا في صف ناقدي مؤتمر غروزني٬ ولم يباِل بالتعليق عليه٬ لأنه مجرد مؤتمر آخر من عشرات الندوات الحكومية التي تعقد كل عام٬ وهو أقلهم أهمية، لأن راعيه هو رئيس الشيشان٬ المعين من الكرملين.

ورغم ان الراشد يستخف بالعلماء الذين شاركوا فيه معبرا انهم حشد انتقاهم من علماء الاسلام..

 
عبدالرحمن الراشد

على الرغم من ذلك، فإن الراشد يشن هجوما قاسيا على علماء الازهر، ويتهم علماءه بأنهم أفتوا بالتكفير٬ والقتل أحيانا٬ وانهم ليسوا سلفيين ولا سعوديين. وآخر من كبار علماء الأزهر كفّر كل السلفيين٬ وفي الوقت نفسه اعتبر الحشيش والأفيون ليس من نواقض الوضوء! وطلقوا ـ اي علماء الأزهر ـ الشيخ علي يوسف من زوجته بدعوى عدم تكافؤ النسب٬ وأحدهم أجاز رضاعة الكبير. وهكذا.

وقبل الحديث عن خصوصيات المقال وما دار فيه، لا بد من التذكير بمسألة منهجية مهمة، وهي جنوح المثقفين السعوديين الى الدفاع عن نظام الحكم في بلدهم بأسلوب لا يختلف عن اساليب غلاة المذاهب في الانتصار لمذاهبهم، فيتوحد الطرفان في لحظة تخدم تخلف النظام، وتبقي على أزماته بل تفاقمها.

فالهروب من الاتهام بخطأ او خلل بتوجيهه الى الآخرين، وتعميم وجود هذه الاخطاء ليس من عمل المثقف، ولا يفيد في بلوغ الحقيقة. اذ ان وجود الفساد في دول اخرى لا يعني انه يبرر القبول بالفساد اينما كان.. وانتشار الرذيلة حتى وان صح كما يقول الاستاذ الراشد ليس مقدمة لاعتبارها فضيلة.. وقد فات الاستاذ الراشد انه يتحدث عن افراد، لو أنه اجتهد في عدهم والتنقيب عنهم، فانه لن يجد الا عددا قليلا لا يغيرون من حقيقة ان الازهر الشريف، لا يزال رمز الاعتدال والوسطية والدعوة الى الحوار والتعامل الانساني مع المسلم المختلف في الفهم والعقيدة لشريعة الاسلام ولغير المسلم.

وهذا شيء آخر لا يقاس بما هو قائم في المملكة السعودية، والعقيدة الوهابية التي اتهمها مؤتمر غروزني بأنها اختطفت الاسلام، واشاعت فكرها الارهابي باسمه، اذ لا نجد مدرسة فقهية متكاملة تقوم على تكفير الاخر مسلما او غير مسلم الا في الوهابية.

والمسألة ليست في ان يقول شيخ هنا وعالم دين هناك كلاما غير مقبول، مهما بلغ من الشهرة والانتشار الاعلامي، فهذا الشذوذ عن القاعدة موجود في كل فلسفة وكل دين وكل جماعة. لكن المسألة الخطيرة ان تقوم جماعة وتبنى دولة على اساس مذهب التكفير وزرع الاحقاد والاستعلاء وادعاء الطهارة.. وهذا ما لا نجده الا في الوهابية والفرع المتشدد من السلفية الذي تتبناه.. فهذا هو الخطير حقاً.

ولا شك ان الكثير من المثقفين السعوديين يعانون من هذا الانفصام في شخصيتهم المعرفية، ويواجهون هذه الهوة التي تفصل معارفهم النظرية وضرورات اسقاطها على البيئة السياسية، بما يفرضه عليه الدافع الوطني من دفاع عن دولتهم ونظام حكمهم. وهذه الحقيقة تصبح اكثر حدة في اوقات الازمات بدافع القلق على مصير الدولة والمجتمع، وهو حق مشروع طبعا، كما هو الحال في الدولة السعودية التي تواجه ازمة عميقة وتحديات جدية تهدد مصيرها.

الا ان واجب المثقف هنا يتجاوز مهمة الاعلامي والسياسي والدبلوماسي في آن معا. اذ يجب ان يقرأ الصورة من ابعادها كافة، واستكشاف جبل الجليد الغارق تحت الماء، لا القمة الظاهرة منه وحسب.

واي قراءة للأزمة السعودية لا بد ان تصل الى النتيجة التالية: ان ما أوصل هذه الدولة الغنية بمواردها المادية وثرواتها الطبيعية، والغنية بحصانتها الدينية، وحرص الامة جميعا على عدم تعريضها للفوضى والاضطراب، والتي تشكل سوق عمل لملايين العمال العرب والمسلمين والاجانب، وكلهم حريصون على استقرارها وتطورها.. ما اوصلها الى هذه الأزمة صناعة حكامها وأخطائها.

هذه الدولة لم تواجه ازماتها بسبب الشعب اليمني، ولا النظام السوري، ولا طموحات ليبيا ومصر وتونس، وبالتأكيد ليس ايران وحزب الله ومحور المقاومة، بل ان جوهر الازمة السعودية هو هذا الجموح الداخلي والشحن السياسي والعقائدي الذي دفعها الى بناء استراتيجيات وهمية، وسياسات متطرفة وعنفية ادت الى ما ادت اليه، من عداوة صريحة مع شعوب المنطقة، وتوريط الدولة في حروب متناسلة لا طاقة لها عليها، وهو ما اوصل بالتالي الى زيادة اعتمادها على الغرب، ومد خطوط تواصل مع اسرائيل.. وهذه كلها تضعف السعودية ولا تقويها، وتفقدها هويتها وقدرتها على الجمع بين المسلمين، وان تكون العمود الفقري لبناء اسلامي واسع ترنو اليه في ادبياتها السياسية والاعلامية.

فالدفاع الحقيقي عن الدولة السعودية يقتضي من المثقف ان يحيمها من عوامل انحرافها، وتعضيد قوتها التي تؤهلها لزيادة مساحة تحالفاتها، وتمتين روابطها الاقليمية والدولية، وهذه من اهم عناصر القوة للدولة الحديثة.

وبالنظر الى كل هذه العناصر نجد ان الغلو والتطرف وثقافة الكراهية أكبر خطر داهم على السعودية نفسها، وإن الوهابية هي الد خصوم الدولة السعودية واعدائها في جوهر الأمر، وهي المسؤولة عن مجمل الازمات التي تواجهها في المرحلة الحديثة.

واذا عدنا الى مؤتمر غروزني الاخير، فالاكتفاء بالنظرة السلبية اليه، والتعامل معه باعتباره مؤامرة خارجية، هو امعان في تسليم الدولة للتطرف ومنهج التكفير والكراهية، الذي اصبح بابا واسعا للنيل من الدولة السعودية في الغرب والشرق على السواء، ولدى اعداء السعودية وحلفائها.

ومن الافضل للمثقف ان يستفيد من النقد لا ان يبرره. وان يتجه للتخلص من الخطأ اذا عرفه لا ان يعممه على الاخرين.. لان الاستفادة من التجربة هو السبيل الوحيد للتقدم والوعي.. والدفاع عن النظام السعودي اذا كان جائزا لاعلامي سعودي، فإنه لا يعطيه الحق في جعل هذا الدفاع وسيلة للحط من شأن الاخرين، والاستهزاء برئيس الشيشان ومعتقده وهم اخوة في الدين، ولا من الرئيس الروسي والروس اخوة لنا في الانسانية.. حتى وان كنت تخالفهم سياسيا فالدين ليس اداة لتغطية موقفك السياسي بالموقف الشرعي.

واذا كان يحق للمثقف ان يتوجه بالنقد والتعرية للظواهر السلبية في المحيط والعالم، فإن الواجب ان يصحح الخطأ في بيته اولا قبل توجيه النقد للآخرين، والا فإن تعميم الفساد والخطأ، وترويج انه موجود لدى الاخرين هو بمثابة حماية لهذا الفساد وهذا التطرف.. ولا نظن ان من مصلحة الاستاذ الراشد بناء دولة وهابية متطرفة تعيد انتاج الارهاب والتوحش، في كل جيل، لأنها لن تكون بمنأى عنه.. وخصوصا ان الدولة القائمة على هذا المنهج المتطرف، المستأثر بالسلطة والقوة والثروة، يستحيل ان تتحول الى دولة وطنية لجميع أبنائها.

الجهل ملّة واحدة

الكاتب الصحافي فهد الخالدي طالعنا بمقال بعنوان «نحن وجارتنا ايران»، يقول فيه ان: الأمر الطبيعي في العلاقات بين الجيران هو حسن الجوار والصداقة والتعاون سواء أكانوا أفراداً أم دولاً وشعوبا وأوطانا، وهو كذلك ينبغي أن يكون بين إيران والجوار العربي في الخليج، لا سيما أن العلاقات بين الجانبين لا تقتصر على الجوار الجغرافي فقط، بل وعلى الاخوة في الإسلام التي ينبغي أن تجمع بين شعوب المنطقة، وهي اخوة لا ينبغي أن يكون الاختلاف المذهبي سببًا في اضعافها، خاصةً أن ملايين من أبناء دول المنطقة هم أيضا إما على المذهب الرسمي في إيران.. أو على المذهب الرسمي للدول العربية والخليجية.

 
فهد الخالدي

ويضيف الخالدي بأن ما يربط بين دول وشعوب المنطقة هو أكثر مما يفرق، لأن السياسة وحدها هي التي تتسبب في الخلاف الحالي، الذي يوظف المذهبية والطائفية في هذا الخلاف.

حسنا لنتجاوز هذه التهمة لأننا لسنا في معرض الدفاع عن هذه الدولة او تلك، ولنقبل ما قاله الاستاذ الخالدي على المحمل الحسن، ونكتفي بالتركيز على مسألة الجيرة، ورابط الاسلام الذي يجمع ضفتي الخليج، اضافة الى الروابط الاخرى الاسرية والاجتماعية والاقتصادية، وان التنوع والتعدد ميزة هذه المنطقة في كل دولها، وهو اعتراف مهم يسهل النقاش والحوار العقلاني.

وبذات الهدوء والنية الحسنة نسأل الزميل، لكي نميز البحث الجاد عن الدعاية الاعلامية التضليلية: أين هي هذه الدسائس والمؤامرات وإرسال المخربين؟

فاذا كنت تقصد المجموعات التي تعلن الاجهزة الامنية في السعودية والبحرين القبض عليها.. فأرجو ان تدقق بمعلوماتك لأنها مهزلة لا يجوز لباحث محترم ان يعتمدها للبناء عليها، فهي تلفيقات أمنية لحشد الرأي العام وتبرير الموقف السياسي، ليس إلا.. وعلى كل حال فإن لدى ايران ايضا من هذه الاعلانات الكثير وهي ان صحت، تبقى في نظر الباحثين جزءا من الحرب الباردة بين الطرفين، وليست سببا لها.

اما الطامة الكبرى ان كان الكاتب يقصد انصار الله في اليمن والحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان، وهو ما تزجه وسائل اعلام النظام السعودي في مجرى الحديث عن التدخل الايراني في الدول العربية. وهذه هي الطامة الكبرى على الصعيد الفكري والمنهجي، لانها تعني السقوط الكامل في العقيدة السياسية للنظام السعودي، ومحاولة لتبرير اللاعقلاني والتضليلي بالعقل والمنطق، وهو ما نربأ بالكاتب عنه.

والمسألة ليس تحزبا او انتصارا لهذا الفريق او ذاك بل هو الواقع كما افرزته التجربة التاريخية المستمرة الى الان، فتسليح حزب الله، لم يكن، ولا هو الآن ولم يتقرر في اطار الصراع السعودي الايراني، كما تعلم.. لانه سابق له بعقود، بل هو جزء من الصراع الاكبر في المنطقة الذي تخوضه الامة ضد الكيان الاسرائيلي المحتل ولدعم القضية الفلسطينية، والإجماع الاسلامي على دعم حزب الله ظل مستمرا منذ انطلاق المقاومة وخصوصا في لبنان، حتى هيمنة اعلام الفتنة وتأجيج المشاعر المذهبية على حساب الشعور القومي والوطني.. حيث حظي الحزب برعاية السنة قبل الشيعة، ولم يتحول هذا الحزب وهذه المقاومة الى قضية اشكالية الا بقرار سعودي واضح في مراحل متأخرة، وخصوصا مع قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وحرب عام الفين وستة التي اختارت السعودية ان تقف فيها الى جانب اسرائيل والولايات المتحدة، بوهم تشكيل الشرق الاوسط الجديد الذي سوقت له وزيرة الخارجية الاميركية حينها كوندوليزا رايس.

وما يقال عن هذه المقاومة يقال عن الحشد الشعبي، الذي لولاه لكانت دولة داعش تقوم في عاصمة العراق بغداد، وتتوغل في الاراضي السعودية الى مكة والمدينة، حسب ادبيات الارهابيين من الدواعش.

والحقيقة ان كل هذه المسائل ان دلت على شيء فهي تدل على التدخل السعودي في شؤون الدول الاخرى، ومحاولة تهميش شعوب وحكومات هذه الدول لمصلحة ما تعتقد السعودية لنفسها من دور اقليمي لم يقر لها احد به، لأنها لم تستشر به احدا، بل هي عاجزة عن القيام به، والتجربة اثبتت ذلك تماما.

فالحشد الشعبي شأن عراقي، لضرورات عراقية لها تفاصيلها المعقدة والمتشابكة، بدءا من الاحتلال وسمومه والالغام التي زرعها في الطبقة السياسية والاجهزة الامنية التي انشأها على انقاض الجيش العراقي بعد حله، وانتهاء بإشكالات وجود الارهاب وتشابكه مع الاجندات السياسية الاقليمية والدولية.. وفي اي تحليل لم يكن الحشد الشعبي موجها ضد السعودية ولا هو معني بها لا من قريب ولا من بعيد. هو شأن عراقي املته التطورات الداخلية العراقية، سواء كان صحيحا او خاطئا، وسواء قدم التضحيات للعراق وشعبه ام ارتكب اخطاء وتجاوزات.. ليست المشكلة في نقد هذا الحشد بل هي في اعتبار السعودية او غيرها انه استهداف لها او جزء من اجندتها في التعامل مع الشأن العراقي.

ومثل ذلك تماما حركة انصار الله والحوثيون في اليمن، هي قصة محلية دون ان ندخل في تفاصيل الحكم عليها.

المشكلة الاساسية ان النظام السعودي رأى لاسباب لا مجال لذكرها الان ان يضع نفسه في مواجهة حزب الله، فظهر وكأنه ترس من تروس اسرائيل والدفاع عنها بمحاولته اجهاض المقاومة ضدها!

ووضع نفسه في مواجهة الحشد الشعبي، وكأنه يدافع عن داعش وارهابها الاسود!

وفي مواجهة الحراك اليمني لاجهاض تفاعل شعبي داخلي لانتاج سلطة تخلف نظامها الساقط، ويعيد توزيع السلطة والثروة التي احتكرها نظام علي عبد الله صالح لعقود من الزمن.

لا احد كان في مخططه ان يستهدف السعودية، ولا احد ينوي الان ان يستهدف السعودية، ولكن النظام السعودي يستعدي الجميع لأسباب مذهبية حينا وسياسية حينا اخر، بحسب الاجندات الخارجية للمنطقة، ومن بينها المشروع الصهيوني، بوعي أو بعمى سياسي وايديولوجي، وبما يمليه عليه تحالفه الاستراتيجي مع الولايات المتحدة.

ويقول الكاتب الخالدي: (وما زالت الآمال معقودة على العقلاء في إيران الدولة الجارة للكف عن التدخل في دول المنطقة وإثارة القلاقل والنزاعات واحترام حق الشعوب في أوطانها دون تدخل خارجي).

وهذا موضوع خلافي طبعا.. ولكن لنقبل به كمقدمة للدخول في حلول عقلانية للخلافات او للاشتباهات والتوجسات.. أوليس من العقل والحكمة والمنطق ان توجه الدعوة الى جميع الاطراف للتمتع بالحكمة والكف عن التدخل في شؤون الدول الاخرى.. هل الحرب هي بين ملائكة وشياطين؟ هذا منهج لا عقلاني في الدعوة الى العقلانية.. فالصراعات لا تكون بين الاسود والابيض وخصوصا بين الاشقاء والجيران، والذين بينهم علاقات مصاهرة وتشابك مصالح.. كما قدمت في مقالك.. والاهم هو ان ما تطلبه ايها الاستاذ الكريم، له طريق واحد لا غير وهو الحوار واللقاءات المباشرة بين المعنيين، وليس بقطع العلاقات والتشهير والتوتير ولغة الشتائم والتكفير بالجملة كما المفتي مؤخرا.. فهل تذكر كم مرة دعا الايراني الجانب السعودي للقاء والحوار وبحث شؤون المنطقة.. انها بعدد المرات التي رفض فيها النظام السعودي هذه الدعوات ورد عليها باستفزاز واهانة مباشرة.

السلام والتعايش يبدأ من الاحترام المتبادل والحوار الدائم ومبدأ ما ترضاه لنفسك اطلبه من غيرك.. والا فهي مراوغة ولا مجال للتذاكي في هذا العصر.

الصفحة السابقة