حكاية الإرتداد عن النهج الوهابي

الجهادي الذي ظل يتساءل: لماذا؟

اليزابيث روبن

قبل وقت قليل من منتصف ليلة الثاني عشر من مايو عام 2003م، استيقظت العاصمة السعودية الرياض مرعوبة على سلسلة انفجارات بسيارات مفخخة هزت ثلاثة مجمعات سكنية راح ضحيتها خمسة وعشرون شخصاً من مختلف البلدان من بينهم سعوديون، وكان لتلك الانفجارات آثار صدمة نفسية وحسية، ويبدو أن القاعدة قد عادت إلى الوطن لتبقى. بعدها بوقت ليس بالطويل وعقب تلك التفجيرات بدأ، السعوديون يشيرون إلى الثاني عشر من مايو بأنه بمثابة الحادي عشر من سبتمبر بالنسبة لهم.

حتى وقت حدوث تلك التفجيرات كان النفي يعتبر الطابع الرسمي، فكانت التفجيرات بمثابة رد جماعي على أن السعودية لديها مشكلة إرهابية. هل يُعقل أن يكون سعوديون من بين المختطفين الذي حولوا طائرات ركاب مدنية أمريكية إلى صواريخ؟ يستحيل! هكذا كان يصر وزير الداخلية السعودي الأمير نايف السبعيني العمر وشقيق الملك فهد الأصغر والذي يحكم المملكة منذ عام 1982. وابلغ الأمير نايف صحفي كويتي في مقابلة معه نشرت في وقت لاحق في الصحافة السعودية في ديسمبر عام 2002 قائلاً بأن الصهاينة فقط هم المستفيدين من الحادي عشر من سبتمبر، ولذلك فإنه لا بد وأن تكون أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وراء تدبير تلك المؤامرة.

وعندما بدأ المثقفون السعوديون يبدون قلقاً صريحاً بأن المساجد والمدارس السعودية تغذي شعور الشباب بالكراهية ضد غير الوهابيين، ردت المؤسسة الدينية التي تتبع تفسيراً صارماً للشريعة الإسلامية بغضب مبرر أخلاقياً وكأن سلطاتها الاجتماعية تتعرض لتهديد، في حين دافع الأمير نايف عن المؤسسة الدينية، وأنحى باللائمة على جهات خارجية هي الإخوان المسلمين، ذلك التنظيم السياسي المصري المتطرف الذي تأسس في مصر في العشرينات، وقال نايف بأنه سبب مشاكل المملكة.

وكما يخبرك العديد من السعوديين بأن النقد الذاتي لا يحظى بالتشجيع؛ وبأن الولاء للملك بمثابة دستور غير مكتوب للبلاد، وكما يقول علماء الدين بأنه تشريع إلهي.. تعضد عائلة آل سعود الحاكمة وعلماء الدين الوهابيين بعضهما البعض، وكان هذا الحال منذ القرن التاسع عشر عندما تمكن الحاكم القبلي محمد بن سعود في التوصل إلى صفقة مقايضة مع المصلح الإسلامي محمد بن عبدالوهاب على أن يطهرا الإسلام من المعتقدات الشركية وان يوحدا القبائل المتنافسة ويبسطا نفوذهما على شبه الجزيرة العربية. فقد السعوديون السلطة واستعادوها خلال تلك القرون، غير أن التحالف الديني السياسي استمر ويعد الآن مصدر شرعية النظام السعودي المعاصر؛ حيث تسيطر العائلة المالكة على المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية، بينما يفرض علماء الدين سيطرتهم على الشؤون الاجتماعية والثقافية، ويدعون المواطنين الى إبداء الولاء والطاعة للحاكم على أساس أن ذلك من أهم واجبات المسلم التقي.

تحت وطأة التحديث والبطالة والإرهاب بدأ ذلك العهد والميثاق يضعف. وخلال جولة أخيرة لي في أنحاء المملكة في الآونة الأخيرة سمعت كلمة (الإصلاح) تتردد في كل مكان ذهبت إليه، بالرغم من أنه يبدو أنه لا يوجد أحد يفهم على وجه الدقة ما تعنيه الكلمة، ومع ذلك فإن الكثير من شرائح المجتمع السعودي لا تزال متمسكة بطرقها المحافظة وتنظر إلى التغيير بأنه غزو ثقافي أمريكي. أما الأمراء السعوديين المسؤولين وهم إخوان الملك فهد الكبار في السن الذين يتولون وزارات الداخلية والدفاع والحرس الوطني وحكام الإمارات، فمنقسمين حول كيفية تغيير مملكتهم للتخلص من التطرف الذي يؤدي إلى الارهاب، على أن يتم ذلك بدون إثارة غضب علماء الوهابية الأقوياء، الذين يعتبرون الإصلاح كفراً، والذين يشرعنون سلطة العائلة المالكة باعتبارها سلطة إلهية مقدسة.

في هذا الخضم، قفز وسط هذا الجدل مجموعة من الجهاديين الدينيين السابقين الذين ينتمون إلى دائرة عريضة تضم متحررين ومثقفين وأساتذة جامعات وعلماء دين وهابيين سابقين وقضاة وحتى نساء.. لمناقشة مواضيع في وسائل الإعلام كانت محرمة قبل الحادي عشر من سبتمبر، تضمنت تساؤلات عن الإرهاب والتمييز الوهابي ضد المسلمين الشيعة وضد الطرق الصوفية الذين يعتبرون مرتدين. وتشمل المناقشات أيضاً قضايا المسكرات ووباء الإيدز وحق المرأة في قيادة السيارات وفي العمل.

يعتبر منصور النقيدان ـ 33 عاماً ـ أكثر هؤلاء الإصلاحيين جرأة. فيما مضى كان إمام مسجد متطرف، والآن هو كاتب عامود في صحيفة الرياض.. غير أن مقالاته كثيراً ما يتم حظرها، حيث تتركز انتقاداته اللاذعة خلال السنوات الثلاثة الماضية على الوهابية والتي يجادل بأنها مصدر المشاكل السياسية والثقافية في المملكة. وحيث إن الوهابية هي المذهب الذي تعتمد شرعية العائلة الحاكمة عليه، فإن منصور يكون بذلك يشجبهم بطريقة غير مباشرة وهذه هي الطريقة التي يعمل بها المنشقون السعوديون في المملكة، فالنقد العلني المباشر للعائلة المالكة يؤدي على الأرجح الى فقدان الشخص لحرياته؛ غير أن منصور اعتاد أن يكون أكثر جسارة وشجاعة في مقابلاته مع وسائل الإعلام الأجنبية، حيث قال بأنه إذا لم تتخلّ العائلة المالكة عن مذهب الوهابية وأن تحكم بطريقة أكثر ديمقراطية، فإنها سوف تتسبب في نهاية المطاف في سقوطها.

ومنصور رجل صغير الحجم ومستدير قليلاً وذو عينين نافذتين وصوت هادئ، يفكر ويبتسم كالطفل، ولا يتوقف مطلقاً عن التساؤل عن السبب، وهذا ما يفسر تطرفه الإسلامي وتخليه عن ذلك وسجنه ست مرات خلال الخمس عشرة سنة الماضية. يعيش منصور لوحده الآن في شقة صغيرة في بناية صغيرة في إحدى ضواحي الرياض، تتكدس بها بالكتب والمؤلفات التي كان يعتقد قبل أربع سنوات فقط بأنها بدعية وهرطقية، وهي تحتوي على روايات محظورة لتركي الحمد الإصلاحي المتحرر والذي ينتمي إلى مدينة بريدة نفس مسقط رأس منصور، كما تحتوي مكتبته أيضاً على مؤلف (أديان العالم) لنيتشه وهبرماس، ومؤلف لمايكل انجلو في الفن وغيرها، كما يحتفظ أيضاً بفتاوى ابن تيمية عالم القرن الرابع عشر والمرجع رفيع المقام للوهابية والتي تعتمد عليها كثير من القوانين السعودية المسجلة على أشرطة مضغوطة. وقد دخل منصور في معركة ثقافية مع ابن تيمية معتبراً فتاويه تبريراً للإرهاب.

التقيت منصور الذي تعرض لهجوم عنيف بسبب كتاباته في ديسمبر الماضي، عندما كانت العاصمة تعيش حالة من اليقظة العالية بسبب الاعتداءات الإرهابية، حيث انتشرت مراكز تفتيش الشرطة في أنحاء مختلفة بالمدينة، وفي وقت كانت الحواجز الاسمنتية تحيط بالفنادق والوزارات الحكومية. وقبل أسابيع قليلة مضت وخلال شهر رمضان تمكن متشددون مسلحون من التسلل عبر بوابات مجمع سكني بجوار إحدى القصور الملكية بسيارة مليئة بمتفجرات حيث قتلوا سبعة عشر شخصاً معظمهم من المقيمين العرب وعوائلهم. ابلغني منصور الذي كان قد أمضى لتوه حكماً بالسجن لمدة خمسة أيام بسبب كتاباته الأخيرة ضد الوهابية، بأنه كثيراً ما يستمد القوة من قصة لوثر واراسموس خلال فترة الإصلاح البروتستاني عندما طلب اراسموس من لوثر الهدوء والتأدب فأجابه الأخير بأنها حرب.

ويعتبر منصور في حرب فعلية، حيث اعتاد متعاطفون مع العناصر الجهادية غمر بريده الإلكتروني وهاتفه الخلوي برسائل وعيد وتهديد وإهانات على نحو منتظم. وفي أوائل العام الماضي رد منصور بالمثل حينما وصف أحد الجهاديين بـ (المخنث) وهي صفة بذيئة مما عرضه إلى عقوبة الجلد، وحكم عليه بالجلد 75 جلدة، وبعد أن شعر باليأس والإحباط من ذلك الحكم لجأ إلى كتابة مقال في صحيفة نيويورك تايمز أخبر فيه العالم بأن الحكومة السعودية والتي يعتقد بأنها تتخذ إجراءات صارمة ضد الإرهابيين تخفق في استهداف المجرم الحقيقي.

وبعد عدة أيام من نشر مقالته تلك، قدم رجال الشرطة إلى مبنى صحيفة الرياض واقتادوا منصور إلى السجن. وكتب منصور هذه الانتقادات في عدة مقالات عن سيرته الذاتية نشرتها الصحف السعودية ومواقع الانترنت السعودية الشهيرة. ولكن ذلك كان مختلفا. وكما يحكي منصور، (صاح أحدهم: كيف تتجرأ على الكتابة في صحف الأعداء؟). لا يود كل المنتمين إلى المؤسسة السعودية في إخراس صوت منصور. وكما ذكر لي خليل الخليل، العالم المعروف في شئون الشريعة الإسلامية: (يتمتع منصور بالشجاعة في نقد الأفكار غير القابلة للنقاش في السعودية لأنه مهتم بمستقبل هذه البلاد). أما جمال خاشقجي، رئيس التحرير السابق لصحيفة الوطن التي تعتبر الصحيفة الأكثر تحرراً في المملكة، والذي يعمل حاليا مستشاراً إعلامياً للسفير السعودي في لندن فقال: (لقد جاء منصور من قلب تلك المعسكرات. فهو يعرف عقولهم الضيقة. وهذا هو الذي جعل العلماء يستشيطون غضبا منه. فأي حركة أيديولوجية تكره المنشقين، الخونة).

ويبدو أن أفكار منصور أصبحت ذائعة في أرجاء المملكة لكل من يقرأ. ويمكنك هذه الأيام سماع أي شئ عنه: فهناك من يصفه بأنه أمل مشرق، ومنهم من يقول إنه خاسر، ومنهم من يصفه بالمرتد. فهناك من يكرهه، وهناك من هو معجب به، وهناك من يقول بإنه متطرف يعتنق الآن بكل بساطة أفكارا متطرفة على النقيض من أفكاره السابقة. وقالت لي أم سعودية أن كتابات منصور منحتها بعض الأمل، وأنها نسختها من الإنترنت، وأخذت تحملها في محفظتها، لتتأكد من أن كل أصدقائها قاموا بقراءتها. وقبل عام أصدر ثلاثة من الشيوخ المتطرفين فتوى نشروها في الإنترنت والمساجد قالوا فيها أن منصور النقيدان لا يؤمن بالقدر (وهي تهمة مساوية للكفر بالله سبحانه وتعالى)، وأنه يؤمن بإسلام (إنساني) جديد، ودعوا الله سبحانه وتعالى للانتقام منه. وأضافوا قائلين، (لو كان هنالك إسلام في هذه البلاد، لحكم عليه بالقتل). ولم يستنكر فتوى التهديد بالقتل وزارة الداخلية ولا الشيوخ الوهابيون الموالون، بل بدلا من ذلك، منع منصور من الكتابة.

وما زال منصور يستلم راتبه من صحيفة الرياض، على الرغم من أنه منذ نشر مقالاته في صحيفة النيويورك تايمز، لا يكتب فيها ولا في أية صحيفة أخرى في المملكة. ولو تجرأ على الكتابة في الصحف السعودية فإن السلطات ستقوم بسجنه ومصادرة جواز سفره. وكما يحدث عادة للمنشقين في الدول القمعية في كل أنحاء العالم، اختار منصور أن يسمع صوته من خلال وسائل الإعلام الغربية ـ وذلك لما توفره الصحف الغربية من احترام لليبرالية، وحتى لا يقضي بقية حياته منسيا في السجن.

وبالإضافة إلى منصور هنالك عدة كتاب هجروا ثقافة التطرف الإسلامي ويقومون حاليا بنقد المذهب الوهابي. وكلهم يعيشون ـ في جدة التي تتمتع بقدر من الحرية، بعيدا عن المناطق المحافظة مثل العاصمة الرياض ومنطقة جبال عسير الجنوبية التي جاء منها أربعة من منفذي هجمات 11 سبتمبر. ومن بين هؤلاء خالد الغنامي، الذي كان عالم دين لمدة عشر سنوات، والذي يتبنى حاليا تفسيره الخاص للإسلام. وهناك أيضا عبد الله بجاد العتيبي ومشاري الذايدي وهما صديقان لمنصور النقيدان منذ أيام التطرف، وقد تبرؤوا من ماضيهم ومن التفكير الإرهابي، لكنهم أكثر ولاء من منصور النقيدان للأسرة المالكة. وهنالك أيضا عبد الله ثابت، الشاعر الحالم الذي يكتب عن جمال الموسيقى والشعر وغباء القيود الدينية عليهما.

ولكن منصور نسيج لوحده. وحسب ما قال عادل الطريفي، طالب العلوم السياسية، والذي تربطه صداقة بمنصور، (لقد جرب منصور بنفسه كل الأدوار تقريبا في المجتمع السعودي الحديث) بدءا من معاناته في الطفولة، إلى تاريخه الطويل كمثقف إسلامي، إلى تجربته كمتطرف إسلامي، ثم إلى مصلح سياسي. ويستطرد قائلا، (إذا أردت فهم هذه الفترة الانتقالية التي مرت بها المملكة العربية السعودية، والجدل حول الإصلاح، فيجب أن تدرسي منصور).

ولد منصور في عام 1970، في معقل الوهابية بمدينة بريدة، والتي كانت لعدة قرون مركزا تجاريا هاما يقع على طريق القوافل بين الكويت ومكة المكرمة، وهي تقع على بعد 200 ميل شمال الرياض. واليوم يمكن مقارنتها بأية مدينة أمريكية، ببناياتها الشاهقة، وأشجارها الوارفة، ومحطات الوقود على الطرق السريعة، ومتاجر الأثاث، ومتاجرها العامرة، فهي شبيهة بالمدن الأمريكية إلا في رمالها التي تزحف على الطرق والتي تتجمع في شكل كثبان تغطي أحد جوانب المدينة. وخلف الكثبان الرملية تمتد السهول الصحراوية. وبما أنها المدينة الرئيسية في منطقة القصيم، وكونها واحة غنية بمنتجاتها الزراعية، فإن بريدة شهدت ميلاد بعض أثرى مواطني المملكة وأكثرهم ثقافة وتأثيرا. ومع ذلك فهي مدينة محافظة، وتجمع بين التناقضات. فهي موطن كل من الكاتب الروائي المتحرر تركي الحمد والشيوخ الأصوليين المتشددين الذين كونوا فكر ابن لادن.

نشأ منصور في سنوات الطفرة، في أسرة متوسطة الحال، حيث كان أباه يعمل في تجارة المواشي، وله زوجتان وأحد عشر طفلا. وكان منصور من الزوجة الثانية. وكانت تلك الحقبة فترة التحديث المتسارع والإزدهار، حيث وجدت القبائل البدوية نفسها تنتقل فجأة من حياة البداوة إلى الطرق السريعة المتعددة المسارات والمدن الكبيرة، ودعمت الحكومة التعليم لتطوير البلاد التي يشكل البدو معظم سكانها. ومع ذلك كان المجتمع السعودي المحافظ مرتابا من هذه التغييرات السريعة، ثم عبر الهمس الذي يدور حول مقاومة التمدن عن نفسه بصورة عنيفة في عام 1979، في أحداث مكة المكرمة. ففي أحد أيام شهر نوفمبر قام جهيمان العتيبي، الخطيب الأصولي ومعه مجموعة من أنصاره باحتلال المسجد الحرام، مقسمين بتطهير المملكة من الفساد. وكانت شكاوى جهيمان تنتشر منذ عدة سنوات، حيث أعلن أن أسرة آل سعود خانت الإسلام بتحالفها مع الكفار النصارى الذين يجلبون قيمهم الغربية، وتعليمهم العلماني وعرض صور النساء في التلفزيون. كما أن الأسرة المالكة تبذر بإنفاق مليارات الدولارات في الرحلات الخاصة، والمقامرة وشرب الخمر واللهو في المنتجعات الأوروبية الخليعة. وحتى أمير منطقة مكة، حسب ما قال جهيمان، زير نساء مقارع للخمر.

جاء احتلال المسجد الحرام طعنة موجعة للأسرة المالكة في أكثر المناطق حساسية. وكانت اتهامات جهيمان صحيحة في أغلبها. فشرعية الأسرة المالكة الإسلامية تعتمد على سيطرتها على أكثر المناطق الإسلامية قداسة في العالم الإسلامي. فإذا هي لم تكن قادرة على حماية هذه المقدسات فما هي الحاجة لوجود هذه الأسرة؟ وبعد احتلال امتد لمدة أسبوعين اغارت قوات الأمن على جهيمان وجماعته، وأسفرت الغارة عن مقتل 200 من الطرفين في تبادل لإطلاق النار انتهى بتخليص المسجد من الاحتلال. وبعد شهرين قطعت رؤوس 63 متشدد أمام الجمهور وكان جهيمان من بينهم.

وبالرغم من أن السعوديين لم يسامحوا جهيمان لتجرؤه على تدنيس المسجد الحرام، إلا أن كثيرين منهم كانوا متعاطفين مع خطه الخطابي. ومعظم السعوديين اليوم يرددون ما قاله لي محمد العضاضي، خريج جامعة جورج تاون، والذي يعمل أمينا عاما لهيئة السياحة بمنطقة عسير، التي جاء منها معظم المتشددين: (قامت العائلة المالكة بقطع رأس جهيمان، لكنها نفذت جميع أجندته، ولسان حالها يقول: ما دام الأمر لا يؤثر على سلطتنا، فليفعل المجتمع ما يشاء). وبالفعل تركت العائلة المالكة للوهابيين قيادة المثل والتطور الاجتماعي في المملكة.

وفي سنوات مراهقه منصور ازدهرت (الصحوة الإسلامية) برعاية من الدولة. وفي العادة يفصل بين البنات والأولاد، ولكن في تلك الأيام زاد الفصل حدة. وكان على النساء عدم محاكاة المرأة في الغرب: حيث فرض المتشددون الدينيون على المرأة لبس العباءة السوداء من قمة رأسها إلى اخمص قدميها، وأن تضع الحجاب الأسود الثلاثي الطبقات على وجهها. واليوم يتهكم السعوديون المتعلمون على الفتيات السعوديات بوصفهن بعبارة B.M.O وهي اختصار للعبارة الإنجليزية التي تعني الأجسام السوداء المتحركة. يومها انتشرت آلاف مدارس تحفيظ القرآن، كما انتظمت حلقات التوعية الإسلامية بعد انتهاء اليوم الدراسي، في المساجد، وفي مكتبات المدارس، والمعسكرات الصحراوية. واكتظت المكتبات والمتاجر بتسجيلات الوعاظ المشهورين، الذين يروون سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأيام الإسلام الأولى. وجمع الصبية التسجيلات بالمئات. وأطلق على تلك العملية (ثقافة الكاسيت). وفي نفس الفترة كانت البلاد كلها معبأة للجهاد لطرد السوفيت من أفغانستان. وكانت مكاتب التجنيد تقدم التذاكر الرخيصة للشباب السعوديين الذين يرغبون في السفر إلى أفغانستان لمحاربة السوفيت الملحدين. وشجعت الولايات المتحدة أيضا المجاهدين – حيث كانت تدرك أن المجاهدين لا يخافون الموت – ومن ثم أقنعت العائلة المالكة بأن تدعم المجاهدين العرب والأفغان مالياً حيث وصل دعم الولايات المتحدة إلى ما يقارب نصف مليار دولاد في العام حتى عام 1989، عندما انسحب السوفيت من هناك.

كان منصور طالبا ممتازا، ولكن عندما كان في حوالي الرابعة عشر من العمر، انجذب بسحر التطرف الديني عندما بدأت تدور في رأسه أسئلة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعما إذا كان القرآن الكريم كلام الله. ولم يتحمل أي أشياء أخرى تصرفه عما يدور داخل نفسه من صراعات، فبدأ ينسحب من المدارس العامة، لحضور مزيد من المحاضرات في المساجد. سببت الشكوك تلك التي تدور داخل نفسه ألما حقيقياً لتبدأ رحلة البحث عن الخلاص. وأخبرني منصور في لقائي به في شهر ديسمبر الماضي في مقهي فندق إنتر كونتننتال بالرياض، وهو أحد الأماكن التي يحس فيها بالأمان، (كنت أشعر بالفزع لأنني سأموت، وأنا في حالة شك، وسيكون مصيري إلى نار جهنم). وقال لي بأنه واجه في سنوات مراهقته مسائل عقدية دفعته للإنكباب على قراءة الكتب الخاصة بالإسلام والوهابية. في تلك الفترة امتنع منصور عن الحديث للناس وتراجعت معدلاته الدراسية، غير انه لم يهتم بذلك. فقط إذا استطاع أن يهدئ من عذابه الروحي، ويصل إلى بر الأمان حيث يجد الإيمان. وحدثه جار له عن شيخ يلقي دروس عقب صلاة المغرب بالمسجد ومن ثم اخذ منصور يتردد على مجلس ذلك الشيخ مرتين في اليوم.

وذات يوم في المسجد امسك شيخ آخر يدعى عبد الكريم بن صالح الحميد منصور من يده، ورمقه بنظرة فاحصة. عمل الشيخ الحميد مترجماً بشركة ارامكو ولكنه ترك العمل وترك الحياة المدنية وراء ظهره، واخذ هذا الشيخ يمتطي صهوة جواد في غدوه ورواحه ويعيش في منزل طيني. وقد أنكر شيخ الحميد الاستماع للموسيقى ومشاهدة التلفزيون والقوانين الوضعية والمؤتمرات الدولية وأنظمة المرور. وقد التحق بجماعة السلفية وهي حركة إسلامية متطرفة صاغت نفسها على نهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت هذه الجماعة تطمح إلى العودة لحياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل ان ينحرف المسلمون عن جادة الطريق.

ذكر الشيخ الحميد لمنصور بأن له مستقبل كشيخ وتحدث إليه عن محبة الله وقال له انه إذا اراد دخول الجنة فعليه ترك المدارس العامة التي حرمها الله، وحشا رأسه بقيم غير متمدنة (همجية). وقال منصور بأنه كان قريباً من طريقة عيش هذه الجماعة (كانت حياتهم مكرسة للدراسة. لقد كانت حياتهم بسيطة جداً وكانوا متحفظين. وقد استهوتني حياتهم واعتقدت بأنه ربما يكون ذلك الطريق نحو السعادة. وكنت خائفاً).

ثم ذكر لي منصور بأنه ترك الدراسة بعد ذلك وقال لأسرته بأنه يريد أن يكون عالم دين غير أن والده حذره وبكت أمه. وقد هدده أخوته بالضرب والسجن. واجبر منصور على ترك منزل العائلة ولكن والده الذي كان يفخر به سرا، واظب على إرسال ألف ريال له شهرياً حتى وفاته بعد عام من ترك منصور للدراسة. وفور انضمامه لجماعة السلفية ومجتمع السلفية المكون من 300 عائلة اتخذت حياً خاصاً بها في بريده، اخذ منصور يرتدي لباسهم المتواضع وأطلق لحيته، وامتنع عن الحديث لمعظم أفراد عائلته لانه حسب اعتقاده لم يكونوا مسلمين حقيقيين، وعاش منصور على الكفاف بعد وفاة والده.

وقد كان منصور نقي التوجه. ومع شقه لطريقه بعمق في الإسلام كان منصور يقف عند كل مسألة فيها خلاف ولا يتركها حتى يحسم أمرها. وكان منصور في مشادة دائمة مع علماء كبار كانوا يعتقدون بان نشاطاته هي الجنون بعينه وكانوا يعملون على تأليب الناس ضده. في سن الثامنة عشرة نشر منصور أول رأي له معترضاً على طقوس الاحتفال التي تقام للصبيان الذين يكملون حفظ القرآن أو للبالغين الذين يبلغون مرتبة الشيوخ لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يمارس مثل هذه الطقوس قط. وقد زج علماء السلطة بمنصور في السجن لمعارضته لهم. حينها بكى منصور لأنه ظن بأنهم سيشنقونه لا محالة ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وحين خرج من السجن نمت جسارته وأصبح أكثر عناداً.

لم يستطع منصور هضم التناقضات القائمة بين ما تعلمه في عقيدة الوهابيين وما يطبق في المملكة. وفي سن التاسعة عشرة نشر فتوى ضد استضافة المملكة لكاس العالم للشباب في عام 1989 حيث كان يري بعدم جواز السماح للكفرة بالمنافسة في ارض الحرمين بالإضافة إلى أنه كان يرى لعبة كرة القدم نفسها حرام. وفي مقابل هذه الفتوى قضى منصور خمسة وخمسين يوما في السجن. من هو منصور حتى يعارض العاب العائلة المالكة؟

وفي مسجد بريدة كان منصور يدعو جماعة المسجد إلى منع أطفالهم من الذهاب إلى المدارس العامة التي وصمها بالكفر. ومن ثم كانت العودة مجدداً للسجن. وفي تلك الأثناء ذاعت شهرة منصور في بريدة وما جاورها من القرى والمدن. وفي بلد يحظر الاشتغال بالسياسة كان الدين هو الموازن وكان المسجد هو الحلبة العامة حيث يمكن استعراض همتك وحماستك ومنازلة الشيوخ المسنين كما قال أحد أصدقاء منصور. وإذا كانت لديك الموهبة في تحريك الحضور وإذا كنت تملك الجرأة في الحديث ضد الحكومة، فان الجمهور سوف ينجذب إليك ويستمع إليك.

في عام 1991 زار منصور جدة لزيارة أسامة بن لادن. ولكن عندما وصل لم يتمكن من لقائه. وبعد أسبوع أو نحوه تلقى خطاب اعتذار من بعض أعوان ابن لادن يفيد بأن قائدهم تمكن من الهرب من المملكة قبل ان تقوم السلطات بإلقاء القبض عليه بتهمة الفتنة ولكنهم أعربوا عن أملهم في أن تتواصل علاقتهم به. وقد شعر منصور بخيبة أمل، إذ رفضت السلطات إصدار جواز سفر له ومن ثم لم تكن هنالك وسيلة للقاء من اعتبر بطلاً شعبياً وسط السعوديين.

وتبلورت شخصية منصور الداعية صاحب الشخصية الجذابة، معلم الشباب، وحلقة الوصل بين بريدة وشبيهها في الرياض، أي حي السويدي في جنوب المدينة الذي اصبح يعج بالمتشددين المحافظين. وقد حظر بيع الدخان في محلات الحي. وهناك التقى منصور بمشاري الذايدي وعبد الله بجاد العتبي اللذان يؤمنان بنفس الفكر الذي يؤمن به واللذان هاجرت عائلتاهما لحي السويدي عندما لم يتجاوز عمر كل واحد منهما التاسعة.

ومشاري رجل ضئيل الحجم من بريدة هو الآخر، ولكنه كان اكثر حذراً وتحفظاً من منصور، وهو يعمل الآن يعمل كاتب عمود بصحيفة الشرق الأوسط في جدة. ويتذكر مشاري اليوم الذي أعطاه فيه أحد الأشخاص تسجيلاً لامام كويتي شهير حكى فيه عن مذبحة بشعة وقعت في سوريا قبل عامين. وحكى الإمام كيف قام الرئيس العلماني حافظ الأسد بالانتقام من جماعة الإخوان المسلمين الذين تمردوا على سلطته حيث ذبح 10,000 منهم. وقال مشاري يصف ردة فعله تجاه ما حدث في سوريا (لم استطع النوم في تلك الليلة).

أما عبد الله بجاد العتيبي فترعرع في شوارع السويدي وكان كثير الغياب من المدرسة ويفتعل المشاجرات ويسخر من المتدينين السذج لجبنهم ووجوههم الكالحة حسب وصفه لهم. وكان بجاد نهماً في قراءة روايات الكسندر دوما وفيكتور هوغو وكل ما يستطيع إخفاءه من روايات تحت ثوبه وهو يمر من أمام أبيه الذي كان يعتقد بان القراءة تورث الجنون، حتى التقى بأحد دعاة السلفية في منزله بالسويدي والذي يقول بجاد عنه (لقد كان مرحاً وشجاعاً وليس كما كنت أتوقع من هؤلاء المتدينين). وانجذب بجاد إلى ذلك المعلم الذي بسط له أمر الدين وقد شعر بجاد بان اختياره لم يكن اعتباطاً. واكتشف بجاد قوة تأثير القرآن الذي اخذ في حفظه عن ظهر قلب. وسرعان ما استغنى بجاد عن معلمه والتقى بمشاري ومنصور وحركة السلفية التي أصبحت في أواخر الثمانينات مثل الطائفة.

راح دعاة السلفية يجندون الشباب في جميع أرجاء المملكة واختاروا الأهداف السهلة المتمثلة في شباب المنطقة الوسطى المحافظين وفي مناطق مثل الجنوب ومنطقة عسير الجبلية الفقيرة المهملة. وقد اشتهر أهل عسير بالبساطة مع ولائهم الشديد للقبيلة وقد اتبعوا مذهب الاعتدال في الإسلام. وكان الاختلاط شائعاً بين النساء والرجال واعتادت النساء على ارتداء الملابس الملونة مع اعتمار قبعات القش أو وضع وشاح على الرأس، حتى كانت هجمة دعاة السلفية الذين استجاب أهل عسير لدعوتهم، وكما قال محمد العضاضي أمين عام هيئة السياحة في عسير عنهم (لقد اصبحوا ملكيين أكثر من الملك)، واليوم تعرف عسير عالمياً بأنها أفرزت أربعة من الخاطفين السعوديين الخمسة عشرة.

أحد هؤلاء الذين وقعوا في شباك الدعاة السلفيين في أواخر الثمانينات كان الشاعر والكاتب عبد الله ثابت الذي اصبح يمثل الردة بسوالفه الطويلة ولحيته الحليقة وسرواله الجينز وجاكيته الجلدي وتدخينه السجائر. وقد تجولت معه ذات يوم في المنطقة وكانت أغنية تنبعث من آلة التسجيل في سيارته الفورد العتيقة. حينما قال (في هذا المجتمع لا يمكنك أن تتخذ صديقة، والزواج مكلف جدا، وكشاب ينصب تفكيرك على الجنس، وهكذا فان هؤلاء الدعاة يقولون لك لا تقلق لست بحاجة للجنس الآن فحينما تقتل نفسك ستجد كثيراً من الحور العين في انتظارك في الجنة). وعلى نقيض منصور الذي صاغ حياته في تطور فكري يتذكر ثابت ببساطة بانه كان مثل لعبة في يد ماكرة شريرة (ما كنت لالتحق بمثل هذه الجماعات ابداً لو كانت هناك فتيات في مدارسنا الثانوية).

ومن بين احد عشر من اخوته كان عبد الله الطفل الوحيد الذي يحلم بالهرب. كان الدعاة يقولون اهرب معنا لتنال الجنة. كان اولئك الدعاة يعزلونك عن المجتمع الذي يصعب عليك ان تجد منه رحمة أو تنعم فيه بصداقة، ويسبغون عليك حباً بلا حدود، ويغمرونك بالصداقة والمال والسيارات والتعليم والوظائف، لان المتدينين هنا يسيطرون على الوظائف. ومضى عبد الله قائلاً (في السنة الأولى يعلمونك حب الآخرين من خلال الرحلات التي ينظمونها في نهاية الأسبوع والمعسكرات الصيفية حيث كانوا يبحثون عن الموهوبين. ثم يعلمونك نبذ عائلتك. ثم يزودونك بالكتب ويلقون عليك دروساً ويبرمجون عقلك لبناء دولة جديدة مثل دولة الخلافة الإسلامية القديمة. ويعلمونك بأنهم هم المسلمون الحقيقيون وما سواهم على خطر عظيم).

ورغم أن الإسلام يدعو إلى التواضع إلا أن ما أغرى الشباب الأذكياء مثل عبد الله ثابت ومنصور وغيرهم هو فكرة انهم هم حماة العقيدة الحقيقيون. وقد جعلهم هذا يحسون بأنهم مميزون. وكما قال لي خالد الغنامي صديق منصور والداعية السابق الذي ترك الدعوة والذي يهيم بأفلام مارتن سكورسيسي بأنهم جميعهم اخذوا يعتقدون بأنهم هم الغرباء الذين تحدث عنهم النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذكر في حديث له (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء).

وخلال شقنا لطريقنا أنا وعبد الله لطريقنا المتعرج على قمم جبال عسير صادفتنا مئات القردة من فصيلة البابون بعضها كان منهمك في ممارسة الجنس والصراخ والضحك. وتمهل عبد الله في سيره وهو يستمتع بحيويتها ومرحها وقال (أود أن أعيش مثلها) ثم انطلق مواصلاً سيره.

واصلنا سيرنا إلى هضبة صخرية جرداء بين جبلين اعتاد عبد الله ولمدة سبع سنوات الخلوة فيها مع جماعة السلفية (لقد منحوني كل شيء رغبت فيه.. الكتب والسفر والصلاة. كل الأشياء التي افتقدتها في عائلتي وجدتها عندهم. لقد أحببتهم ولهذا وثقت بهم وآمنت بهم. كنت مستعداً لفعل كل شيء يطلبونه مني).

لم يلجأ الشباب للعنف السياسي إلا بعد قيام صدام حسين بغزو العراق في عام 1990 وتعهد الرئيس بوش بطرده منها ونشر قوات أميركية على التراب السعودي. وقال لي منصور (لقد كانت تلك أول مرة استمع فيها للراديو. لقد كان شيئاً مثل الزلزال. بدأت التقي بنوعية مختلفة من علماء الدين والشيوخ السياسيين. وعلى نقيض معلم منصور، الحميد في بريدة، كان هؤلاء الشيوخ من حركة سياسية إسلامية حديثة وقالوا بأنهم في حاجة لتغيير الواقع الآن). اجتذب الشيوخ الجدد عدد كبير من الاتباع، وكانوا من المتعلمين من أمثال سفر الحوالي الذي اثنى لاحقاً على ابن لادن لقيامه بهجمات الحادي عشر من سبتمبر. وقد لاموا العائلة المالكة لسماحها لجنود الكفرة بتدنيس ارض مسلمة ولعدم طلبها العون من الله وطلب العون من أميركا التي حضرت لسرقة النفط وتدمير الإسلام.

استأجر عبد الله بجاد ومشاري منزلاً في حي السويدي اصبح مأوىً للسلفيين المعارضين للحكومة. وقد اعتاد منصور الذي كان مايزال يشكو الفاقة والفقر على النزول ضيفاً على بجاد ومشاري خلال زياراته القليلة للرياض. ومن سطح ذلك المنزل كانوا يشاهدون صواريخ سكود العراقية وهي تطير فوق رؤوسهم. وفي غرفة المعيشة كانوا يقضون الساعات الطوال في مناقشة نوعية النشاط السياسي الذي لا يتعارض مع الإسلام. قرر مشاري التحرك فاستقل الطائرة للالتحاق بمعسكرات التدريب العسكري في أفغانستان. وقال مشاري (كلنا كنا نعتقد بان وجود الكفرة هنا بسبب ضعف العالم الإسلامي عسكرياً). بعد شهر عاد مشاري من أفغانستان لينضم إلى منصور والآخرين. ويتذكر (كنا نشعر بان كل شيء ملوث وسام وان الحديث والدراسة لا تكفيان. لا بد من العمل).

وكعادته كان منصور مهموم بالنفاق الديني. يقول: (إذا سألت أي شيخ فسوف يقول لك بان القيم الغربية التي تحتويها وتبيعها محلات أشرطة الفيديو حرام في الإسلام. ولكن علماء السلطة لن يعطوك الحق في تدمير هذه المحلات. ولهذا قررنا أن نأخذ بزمام المبادرة ونفعل ما نشاء). وفي عام 1992 وعند منتصف الليل قام منصور ومشاري وآخرون على خبرة بالمتفجرات بتفخيخ أكبر واشهر محل لأشرطة الفيديو في الرياض وتفجيره. ودفع هذا النجاح منصور للتفكير في تفجير جمعية خيرية للفقراء والأرامل في بريدة (كنا نعتقد بان الجمعية تعمل لتحرير المرأة وتتستر بالعمل الخيري). وفي وقت متأخر من إحدى الليالي قام منصور وآخرون من نشطاء السلفيين بالتسلل إلى مقر الجمعية. وقام منصور بالتنقيب في مكتب مدير الجمعية لاقناع نفسه بأنهم يقومون بالشيء الصحيح. كل ما عثر عليه لم يزد عن مواد طبية ومساعدات لأرامل: (لقد دهشت - والحديث لمنصور-عندما اكتشفت بان بعض أقاربي فقراء جداً وانهم كانوا يحصلون على مساعدات مادية من الجمعية. شعرت بالضيق ولكن الأيديولوجية كانت غالبة).

بعد حوالي عام من تفجير محل الفيديو، ألقت الشرطة القبض على طالب يمني كان ينام في منزل السويدي حيث يقيم مشاري وعبد الله بجاد ووجهت له تهمة تهريب السلاح. ثم قامت الشرطة بمداهمة المنزل واعتقال جميع من تصادف وجودهم فيه في تلك اللحظة. قال عبد الله بجاد (لقد ظلوا يضربوننا لثلاثة أيام حتى سال دمنا على أرضية الغرفة. كانوا يريدون نزع اعتراف بأننا دفعنا لليمني لشراء سلاح لاستخدامه في تنفيذ اغتيالات ضد أفراد العائلة المالكة والقيام بتفجيرات وأننا التقينا في معسكر للتدريب بالصحراء حيث تلقينا تدريباً على استعمال السلاح). ورغم انه لم تكن لعبد الله بجاد صلة باليمني أو التفجيرات إلى انه تم حبسه مع مشاري. واعتقل منصور واعترف بالتفجيرات التي قال عنها بأنها مسألة مبدأ. وتجادل مع القضاة مستشهدا بالشريعة وفتاوى العلماء الذين أنكروا القيم الغربية. كما استعان بفتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية أجاز فيها للعامة القيام بإزالة المنكر في حالة عدم قيام الحاكم بذلك. غير أن القاضي المكلف بالنظر في قضية منصور لم يأخذ بالحجج التي أوردها وافهمه بأنه لا يجوز له اتخاذ مثل هذه القرارات وبان يترك الشأن لولاة الأمر في البلاد ومن ثم حكم عليه بالسجن لستة عشر عاماً.

في السجن بدأ منصور ومشاري وعبد الله بجاد يتساءلون بتأني عن أعمالهم، ويقرؤون كتبا جعلتهم يتعرفون على تفسير أكثر اعتدالا للإسلام. وحدثني منصور أنه قرأ لفيلسوف أردني تحدث عن أن محنة خلق القرآن لم تكن إلا صراعاً سياسياً. وهذا الكلام أصابه بصدمة. وبالرغم من ذلك كان تحولهم الثقافي في بداياته. وكما قال مشاري، (إنها مثل كأس من الماء لا تستطيع تحديد النقطة الأولى منه). وبعد مضي عام و تسعة أشهر، أفرج عن بجاد ومشاري ومنصور. واستمر منصور إماما لمسجد في الرياض، وكان يضع قدما مع الجهاديين الذين يودون إرساله إلى أفغانستان وجعله شيخا لهم، وأخرى في عالم أكثر تطورا، يحتوي على أفكار جديدة.

أما عبد الله بجاد ومشاري فكانا يعانيان من الضياع والاضطراب. كان ذلك في أواسط التسعينات من القرن الماضي وكانت المملكة في قبضة التمرد الإسلامي، وما زال الجنود الأمريكيون موجودون على التراب السعودي. في تلك الفترة قامت الأسرة المالكة بتحريض من الولايات المتحدة بسجن الشيوخ المتطرفين، ونزعت حق المواطنة من أسامة بن لادن. ومن ثم قام الجهاديون في عام 1995 بالرد على تلك الإجراءات بتفجير سيارة ملغومة في مركز لتدريب الحرس الوطني بالرياض، أدى إلى مقتل خمسة أمريكيين وهنديين. ومرة أخرى وبإيعاز من الولايات المتحدة قامت السلطات السعودية باعتقال المئات من المتطرفين وكان منصور من بينهم.

ومرة أخرى وجد منصور نفسه وحيدا في السجن فبدأ يسترجع مسيرته الدينية. وعندما زارته إحدى أخواته، طلب منها أن تحضر له كتبا عن الصوفية (وهي اتجاه إسلامي يعتبره الوهابيون من البدع) وأخرى في الفلسفة والتاريخ الغربي، لكتاب مثل ويل ديورانت وتوماس كارليل. مر منصور بتحول فكري نوعي، من خلال قراءة كتب تقيم حججها على البحث التاريخي. يقول: (من قبل، كان كل ما تعلمناه هو العقيدة). وقام بتشريح لتفكيره الخاص. وأخذ يتساءل عن معتقد (الولاء والبراء). بمجرد أن يبدأ الشك، يتخذ التفكير منحى منطقيا من تلقاء نفسه. وباستعراض كل مرحلة من مراحل حياته توصل منصور إلى أنه إذا كانت السلفية موضع شك في الأساس فالوهابية كذلك، وبالتالي تتوالى سلسلة الشك لتستعراض التاريخ الإسلامي، وكل الافتراضات التي افترضها عن الكون. ولم يتوقف عن هذا المنحى في التفكير.

وكما يقول عادل الطريفي، صديق منصور الحميم، فإن منصور لم يتغير لأنه يحب الموسيقى والنساء والخمر. ويضيف قائلا، (لم تكن السياسة هي التي حولت منصور، ولم يتغير لأنه اكتشف عقيدة جديدة. لقد تغير من خلال التفكير العميق في الإسلام). وفي أعقاب الانفجار الذي شهدته مدينة الرياض في عام 1995، خاف مشاري وعبد الله بجاد أن يتعرضا أيضا للاعتقال. وقد عرفا ما يحدث في السجن. وقد سمعا بأن اثنين من أصدقائهما قيدا في السلاسل وربطا في سقف السجن، وجردا من ملابسهما، وجلدا، وشد وثاقهما لإرغامهما على الاعتراف بما تريد السلطات سماعه منهما. فحسب ما أخبراني فإن مشاري وعبد الله بجاد وضعا خططا أخرى، حيث أخذا بعض المال وهربا إلى الحدود اليمنية. عرض علي عبد الله بجاد عدة صور له بحجم جواز السفر في عدة حالات تنكر، فإدخال تغيير طفيف على طريقة لبس الشماغ يجعلك تبدو كأنك كويتي أو يمني. وقليل من التصرف يجعل الشخص يختفي في هذه المنطقة من العالم، خاصة في اليمن، حيث قاما بشراء جوازات يمنية مزورة، ومن هناك انطلق اليمنيان حديثا الولادة إلى دمشق، وعدن ثم استقر بهما المقام في عمان، وكانا يعتقدان أن إقامتهما هناك لن تزيد على عدة أسابيع، حتى تهدأ الأحوال.

وأخبراني أنهما في حقيقة الأمر لم يكونا راغبين في العودة إلى وطنهم. فاستأجرا شقة في عمان، وأعجبا بسياسة الملك حسين الداخلية، واستمعا إلى محاضرات إسلامية، كان المتحدثون فيها غير وهابيين، واستمعا إلى الموسيقى، وقرآ عن حقوق الإنسان، وسافرا إلى قطر وتركيا. وقالا أنهما لم يشعرا بمثل تلك السعادة في حياتهما الماضية. يقول عبد الله بجاد: (لقد ولدنا من جديد في الأردن. إنها المرة الأولى التي أتيح لي فيها التفكير بصورة حرة، بدون وجود من يتابعني أو يقف على رأسي. وعلمت بأن المجتمع الذي نشأت فيه كان مسيطرا على عقلي، حيث لا يدور الحديث إلا عن الاستقرار، الاستقرار. ويعنى ذلك أن الرجل المستقيم هو الرجل السوي، والرجل السوي هو الذي لا يغير رأيه).

لقد تحطمت القيود على ثلوج عمان في شتاء ذلك العام. وقال عبد الله بجاد، (لقد شعرت بسعادة لم أشعر بها من قبل. لم يكن هنالك اختلاف بين أفكاري وأقوالي. وعزمت، إذا قدر لي العودة إلى السعودية، السير على نفس هذا النهج). كان كل واحد منهما يشعر بالخجل من التغييرات التي تعرض لها، ويخفي نشاطاته عن الآخر. كان مشاري يقرأ روايات غابريل غارسيا ماركيز ونجيب محفوظ، ودون أن يخبر عبد الله بجاد ذهب لمشاهدة فيلمي (القلب الشجاع) و(لورانس العرب) اللذين نالا إعجابه الشديد. وتأثر للغاية على وجه الخصوص بأحد المشاهد، لأنه يناقض كل شئ درسه من قبل.

في عام 1998 عاد مشاري وعبد الله بجاد إلى وطنهم، وفي هدوء، استقرا في حي السويدي. أخبرني مشاري بأنه كتب توضيحا بأعماله لوزارة الداخلية، وكان عليه قضاء 30 يوما في السجن لهربه من البلاد بصورة غير قانونية. أما عبد الله بجاد فطلب من شيخ قبيلته التدخل لدى العائلة المالكة، فحكم عليه بثلاثة أشهر سجن. وخرج منصور من السجن في نفس تلك الفترة. وبعد ذلك بوقت قصير بدؤوا مسيرتهم الجديدة في عالم الصحافة. ولكن لم يخرج منصور من صمته ويتحدى المحرمات إلا بعد أحداث 11 سبتمبر بالهجوم على مذهب الدولة الديني في مقالاته التي أسماها، (الوهابية كمصدر للتفكير الإرهابي) و(السلفية كحاضن لعقيدة الإرهاب). فجاء رد فعل علماء الدولة سريعا، بمنعه من الكتابة.

ويقوم المثقفون والإصلاحيون في المملكة العربية حاليا بدراسة الحركة السلفية، واتخذوا هؤلاء الشباب المتحررين كأمثلة لوضع نظرية ترجع أصل الإرهاب الحالي إلى حركة (الأخوان) في بداية القرن العشرين، وهم جماعة من البدو سعوا إلى إحياء الوهابية بصورة تجعلهم ينالون إحدى الحسنيين، الشهادة، أو تحويل قبائلهم إلى الوهابية بعد قيامهم بالسيطرة على شبه الجزيرة العربية. في الثمانينات من القرن الماضي، أعادت الأسرة المالكة الروح إلى هؤلاء الإخوان، عبر ما اسمي بالصحوة الإسلامية وعبر استغلال الحركة السلفية لنشر الوهابية حول العالم، من خلال المساجد والمدارس القرآنية والجهاد. ويقول عادل الطريفي (إن أشهر القادة الأجانب في جماعات المجاهدين في الشيشان وأفغانستان والبوسنة من السعوديين). ويعتمد أيمن الظواهري الساعد الأيمن لأسامة بن لادن (على فتوى قائمة على المذهب الوهابي. وبصراحة فأن الوهابية مسئولة عن العنف منذ نشأتها وأبطال الأمس المتدينون هم إرهابيو اليوم).

وبقدر الفظاعة التي اتسمت بها أحداث 11 سبتمبر يشعر كثير من السعوديين – بمن فيهم التقدميون – بتعاطف غير متسم بالتناقض مع جيل المجاهدين الذين تربوا على يد المليشيات الأفغانية. قال عبد الله بجاد: (الشيء الغريب، أن منفذي عمليات التفجير هم قتلة وضحايا في نفس الوقت). منذئذ تحول مشاري وعبد الله بجاد إلى شخصيتين مقبولتين في أجهزة الإعلام – وهما مقبولان جدا حسب ما يقول بعض المثقفين والإصلاحيين. وينتمي عبد الله بجاد إلى دائرة من الإسلاميين الليبراليين، مكونة من مثقفين وقضاة وبعض الذين كانوا في الماضي من المتطرفين، الذين يحاولون في الوقت الراهن أن يجعلوا من أنفسهم جسرا بين الحكومة والشيوخ المتطرفين، الذين تمردوا على العائلة المالكة في حقبة التسعينات من القرن الماضي. ويعمل مشاري حاليا في جريدة الشرق الأوسط كناقد للفكر المتطرف، لكنه ناقد موالي للحكومة.

وتردد الصفوة من الذين تلقوا تعليمهم في الغرب في مجالسهم الخاصة، والإصلاحيين الإسلاميين حتى المحافظين منهم خارج المدن، بأن التغيير يجب أن يحدث في العائلة الملكة. فالقادة متقدمون في السن وليس لديهم احتكاك بالشعب السعودي الذي يعتبر صاحب اكبر معدل نمو بشري في العالم، وغالبية أفراد الشعب تقل أعمارهم عن 25 عاما. ويبدد الأمراء ثروات البلاد، ولا توجد مراجعة للبنود العامة للميزانية. فدولة الرفاهية، أو بالأحرى نظام الحكم الملكي المطلق يسير نحو الانحدار، ومعدلات الجريمة والبطالة في تزايد مستمر. وقال لي أحد المنتقدين: (إنه نظام سياسي بالي مثل النظام السوفيتي. فنحن لدينا حزب واحد، وحاكم واحد، وقضاة فاسدون، وكل المطلوب منا القيام به، هو كيل المديح للحكومة).

ويدرك الكثيرون في داخل العائلة المالكة أن المملكة يجب أن تتطور. وفي شهر ديسمبر الماضي، عقد ولي العهد الأمير عبد الله، الذي يعتقد بأنه أكثر أفراد الأسرة المالكة إيمانا بالإصلاح، مؤتمرا للحوار الوطني حول التطرف في مكة المكرمة. ويعد هذا حدثا غير عادي أجبر فيه الشيوخ الوهابيون على الاستماع للشيعة والمتصوفة، بل والاستماع للنساء. ولكن العائلة المالكة تدير أمور البلاد بطريقة تفتقر إلى الشفافية. فالأمير عبد الله الذي يعتبر الوريث المرتقب للعرش، يتحدث عن الحاجة إلى التغيير في نظام التعليم، بينما الأمير نايف، وزير الداخلية، يقدم الدعم المالي لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي يجوب المنتسبون إليها شوارع المدن في سيارات الجيب الأمريكية لمحاربة الرذيلة وفرض القيم الفاضلة، كما يقدم التمويل إلى أولئك العاملين في وزارة الخارجية الذين يراقبون الجامعات للتأكيد على استمرار الخط الوهابي. هل يعمل الأمراء من اجل غايات متناقضة؟

قليلون يعرفون الإجابة على هذا التساؤل. من المعروف أن كل أمير له إقطاعيته الخاصة، بينما المملكة حسب ما قال منصور (أشبه ما تكون بفرقة موسيقية تعزف من دون مايسترو. فالملك فهد أصيب بجلطة دماغية في عام 1995، وأصبح بعد ذلك قائدا شبه غائب. وبالكاد يتعرف على أفراد أسرته. ومع ذلك فإن موضوع الخلافة على العرش لم يحسم بعد. وما دامت المملكة تعيش بلا قيادة، فلن يحدث تغيير كبير، اللهم إلا ازدياد نفوذ الراديكاليين الدينيين المحيطين بالأسرة المالكة)، وهذه حقيقة أكدها لي المهندسون وأساتذة العلوم الدينية والعاملون في الخدمة المدنية الذين حاورتهم في كل من بريدة وعسير وجدة والرياض.

وقبل عقد مؤتمر الحوار الوطني بفترة رفع مجموعة من الإصلاحيين الإسلاميين مذكرة يطالبون فيها بقيام ملكية دستورية، وقدمت تلك المذكرة لولي العهد وقع عليها حوالي 300 شخص، معظمهم من الإصلاحيين، كان عبد الله بجاد واحداً منهم. واستشاط بعض الأمراء غضبا، ووصفوا المذكرة بأنها خيانة. ورد أصحاب المذكرة على ذلك بالمثل، حيث قال أستاذ جامعي، شارك في كتابة المذكرة بغضب، (خمسة وسبعون في المائة من شعوب العالم تشارك في تخطيط مستقبل بلادها. كل ما طالبنا به أن يكون لنا دور في تحديد مستقبلنا. العائلة المالكة تريد منا فقط شرب حليب الإبل وركوب الدواب والجلوس حول النار. وبعد فترة سنصاب بالجنون. عندما يدرك الناس أن المؤتمرات والتوصيات لا تأتي بنتائج، سيلجأون إلى أساليب بدائية. ولو ساءت الأحوال هنا – أي في المملكة – فإن أمريكا أيضا ستواجه مشاكل).

وألح الإصلاحيون على منصور للتوقيع على المذكرة، لكنه رفض. وكان رفضه لاعتقاده بأن الإسلاميين دمغوا المذكرة بكثير من الروح الدينية، وعليه أصبحت ضعيفة فيما يتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية وحقوق المرأة. ومع أنه يشكو من الإحساس بالعزلة، اختار منصور أن يكافح بمفرده من أجل مبادئه. ويشاركه في تلك العزلة السعوديون الآخرون الذين تخلوا عن الحركة السلفية. وذكر لي الشاعر عبد الله ثابت أنه في أواخر التسعينات من القرن الماضي، بعد أن قضى سنوات في الإعداد ليصبح جزءا من الجيل الجديد من المطوعين، أبلغ المخبرون (من أصدقائه) المدرسين أنه يقرأ كتب هيمنغواي وهيغو وفيلسوف شيوعي عربي، بالإضافة إلى أنه يقرأ ويقرض الشعر، وهذه ممارسات ترقى إلى البدعة المطلقة، فعاقبوه بالضرب المبرح، وقالوا له: (إما نحن وإما الشعر!). وقضى عدة أيام وهو في بكاء متواصل، لأنه لا يريد أن يعزل من تلك المجموعة. ولكن حبه للموسيقى والشعر كان أكبر من حاجته لنمط الحياة القاسي الذي تريده الوهابية. وأصبح الآن بعد التحرر من نير الوهابية، ينتقدها صراحة، ويجاهر بكتابة الشعر، ويناصر حقوق المرأة، ويطالب بتدريس الموسيقى والرسم في المدارس. وقال أقاربه أنهم يعتقدون أنه كافر، أما زملاؤه الإسلاميون القدامى فيهددونه بالقتل، مثلما فعلوا عندما رأوه معي عند خروجنا من أحد المطاعم في عسير.

ويتعرض خالد الغنامي، الذي كان داعية في الماضي، بصورة مستمرة للمضايقات من المدرسين الآخرين والمسئولين في وزارة المعارف، الذين يتهمونه بنشر الأفكار العلمانية والفنون (مثل الموسيقى) في المدرسة التي كان يعمل بها في إحدى الضواحي الفقيرة في الرياض. ولاحق العار ابنه لأن أباه (سقط) بتخليه عن النهج الديني والانحدار إلى العلمانية. وفي الواقع يقرأ خالد في الوقت الراهن كتبا مثل (قلب الظلام) لكونراد، حيث اكتشف صورا للفردية في رفض كورتز للمشروع الاستعماري.

وفي منتصف شهر ديسمبر الماضي بعد إطلاق سراح منصور الذي دخله بعد نشر مقاله الشهير، طالبته السلطات عدم إعلان ذلك. وفي تلك الليلة ذهب إلى منزله وقام بنشر الوقائع على موقع عربي شهير في شبكة الإنترنت. وكان ذلك آخر ما نشره لأنه لا يود العودة إلى السجن. وبما أن روح العداء لأمريكا في قمتها، عانى منصور كثيرا للاعتقاد بأنه يدعو أمريكا للتدخل عندما نشر تلك المقالة. وقال لي عن ذلك (كنت أود من العالم الوقوف إلى جانبنا، والنظر إلى أحوالنا من قرب، ولكن المجتمع لا يريد ذلك). يعاني منصور من العزلة ويصف ذلك بقوله: (أشعر بأن الكثيرين يحملون تجاهي مشاعر الكره). أمه التي تعشقه كثيرا، تعبر في صمت عن خيبة أملها من تحوله، ويقول عن ذلك بفهمه الصوفي للإسلام، (يكفي أن تبقى الجذوة الروحية مشتعلة في قلوبنا). وبمعنى أخر، فهو يرى أن الدين الطقوسي غير ضروري. وهو كذلك لا يتحمل النفاق. ويقول: (لو سألت شيوخنا، هل يمكنني أن أتزوج من نصرانية أو يهودية؟ فإنهم سيجيبون قائلين: نعم تستطيع أن تعيشا معا وتحبا بعضكما البعض، ولكن في أعماق قلبك يجب أن تكرهها! يتساءل: كيف يستطيع الإنسان تقسيم قلبه؟ إن النفس البشرية لا تستطيع قبول مثل هذا التناقض. مع أن ذلك موجود في عمق ثقافتنا).

وعندما سألت منصور ما إذا كان يتوقع حدوث تحول ديمقراطي في المملكة العربية السعودية، فكر لبعض الوقت ثم قال، (لو جاءت الملكة اليزابيث لحكم اليمن، فإنها ستحكم بنفس الأسلوب الذي كان يتبعه الإمام أحمد، الذي كان أحد القادة الدينيين المتشددين في اليمن. ولو ذهب الإمام أحمد إلى إنجلترا، فإنه سيحكم بأسلوب الملكة اليزابيث. فالثقافة والمجتمع هما اللذان يحددان أسلوب الحكم. نحن نسمع حديثا عن الديمقراطية ولكن لو طبقنا الديمقراطية في الوقت الراهن، فإننا سنركبها كما نركب الجمال. تحتاج الديمقراطية إلى ثقافة متحررة. في البداية نحتاج إلى الحرية، نحتاج إلى أحزاب مختلفة تتمتع بحقوقها كاملة وثقافة تسمح للناس باختيار ممثليهم).

مقالة في مجلة نيويورك تايمز نشرت يوم 7/3/2004

الصفحة السابقة