مملكة الإعدامات

كأن القطيف كمحافظة، او العوامية كمدينة تابعة لها، منسيتان من ذاكرة المثقفين في طول البلاد وعرضها. لا يُذكران الا بالسوء في الصحافة المحلية، تمهيداً لأفعال شائنة تقترفها السلطة وتريد تهيئة الرأي العام بشأنها.

اسباب الإعراض واضحة: التماهي مع السلطة وخطابها وكذبها؛ الخوف منها؛ والخصومة الطائفية.

فهذه المنطقة هي منطقة النفط أساساً.. تجري من تحتها أنهاره التي تغذي شرايين الحكم النجدي الأقلوي الوهابي.

وهي المنطقة الأكثر وعياً بالسياسة، والأكثر معارضة للحكم، والأكثر اضطهاداً ايضاً. وهي تعاني تمييزاً مناطقياً ومذهبياً منذ نشأة الحكم السعودي النجدي الوهابي.

بالأمس القريب، اضافت السلطات جملة من الشباب الذين تظاهروا سلمياً واعتقلوا منذ سنوات، الى قائمة الضحايا، فأعدمت أربعة منهم، وهي في طريقها الى اعدام اخرين، لم تكن تهمهم ـ حسب الحكومة نفسها ـ لها علاقة بالقتل؛ ولم يكن اي من المعدومين قد قتل احداً او جرح أحداً من رجال الأمن.

مشكلة السلطة ـ خاصة في العهد السلماني البغيض ـ هي انها تصعد العنف والعقوبات الجماعية ضد نحو مليون مواطن شيعي في منطقة القطيف وحدها، عدا الأحساء التي تكبرها في العدد. وفي كل مرة تفشل فيها السلطات في تمضية سياساتها، تعمد الى الانتقام ممن هم بين يديها من الأسرى في السجون، حتى وان كانوا دون السن القانونية، فتعدمهم كرسالة موجهة الى عموم المجتمع في القطيف، وليس فقط تحكم عليهم بمدد طويلة تصل الى خمس وعشرين سنة.

الحراك في المنطقة الشرقية عمره نحو ست سنوات. اختزلته السلطات بخبث في العوامية، واختزلت المشكلة في الشيخ نمر النمر وثلاثة وعشرين شخصاً وضعتهم في قائمة الإرهاب. أعدمت الأخير بتهم واهية، ثم عمدت الى تصيّد المطلوبين في منازلهم وقتلهم وقتل من يكون الى جانبهم دون ان يرف لها طرفة عين. ثم قامت فاختزلت العوامية في حي المسورة، وشرعت بهدمه بحجة (التنمية) وحين رفض السكان الخروج، قطعت عنهم الماء والكهرباء، واغلقت المدارس والمركز الصحي، بل وقطعت حتى الأغذية من ان تصل الى البلدة.

حين فشلت السلطات في تدمير المسورة بالجرافات التي يقودها أمنيون وبتغطية امنية ونارية بالسلاح، رصاصاً وقذائف، وقتلت من المواطنين، ارتد عليها الأمر ووجهت بالمثل، فقتل قائد عمليات الهجوم على المسورة، ثم انكفأت السلطات وعمدت الى الحل الأسهل: الإعدامات للمواطنين الشيعة في السجون.

الذين يواجهون السلطة في المسورة، هم أنفسهم الذين تطلب السلطة اعدامهم (او من تبقى منهم احياء)، سواء سلموا انفسهم ام لم يفعلوا. والحجة الأولى في وضعهم على القائمة، بادئ ذي بدء: انهم هم من قتل المتظاهرين ضد الحكومة، وليس الأخيرة، وهي كذبة طبعا.

بسبب الفشل الحكومي: وسعت السلطة عنفها لتشمل كامل المحافظة، وليس العوامية وحدها، وليس مركز القطيف وحده، بل شملت البر والبحر، وتاروت، وسيهات، والبلدات المجاورة للعوامية كالقديح والجارودية وغيرها، حتى اصبحت عموم المحافظة ساحة حرب يلعلع فيها الرصاص، وتجوب شوارعها المصفحات والدوريات الأمنية ونقاط التفتيش المنتشرة منذ سنوات.

والان تسارع فعل السلطات فثبتت احكام اعدام جديدة، وهي بصدد القيام بقطع رؤوس معارضين آخرين بحجج تافهة: كالتجسس لإيران، التي بدأ الاتهام لها يخف، لينتقل الى قطر التي تدعم المسلحين كما هي البيانات الرسمية الحكومية.

كرة الثلج تكبر، والفشل الرسمي يتضاعف، والتهديد بالتصعيد حتى باستخدام الطائرات والدبابات قائم.

لم تجرب السلطات السعودية يوماً الحلول السلمية، بسبب إغواء امتلاك القوة الباطشة، ودون ان تفكر في العواقب.

اليوم كل سكان القطيف متهمون بالإرهاب، وتخريب الأمن، والتآمر مع أمريكا واسرائيل وايران وقطر وحزب الله.. ضد الحكم الإسلامي السعودي!

الثأر الحكومي يقابله ثأرٌ مجتمعي ايضاً. والدم يستجلب الدم. والحلول العسكرية وليس فقط الأمنية لقضايا اجتماعية وسياسية، يزيد من القطيعة بين النظام والمواطنين، ويعمق الحلول الراديكالية ليس لدى النظام فقط، وانما لدى الجمهور، الذي يشعر انه مستهدف ليس فقط بالتمييز الطائفي والمناطقي، بل هو مستهدف في حياته، في جسده، وكرامته.

النزعة الإنفصالية عن حكم آل سعود النجدي تتصاعد في كل المناطق خاصة الشرقية ـ الأحساء والقطيف؛ واخفاقات النظام تتصاعد.

لا يريد ال سعود التخلي عن سلاح التكفير، ولا التمييز، ولا مراجعة سياساتهم.. والمواطنون كما هي تجربة قرن تحت الحكم السعودي، لن يقبلوا ان يكونوا مواطنين درجة ثالثة، ولن يقبلوا بفتاوى التكفير الوهابي المتواصلة ضدهم، ولا بدعوات التحريض لقتلهم وتسوية مناطقهم بالأرض، ولن يتراجعوا عن حقوقهم المدنية، او يقبلوا بحرمانهم من التنمية والنفط الذي يجري من تحتهم انهارا.

كرة الثلج تكبر، والنظام غير قادر على حسم المعركة الا بالمزيد من الدم، كما يتخيل. وحتى وإن أنهاها من السطح، فالمرجل يغلي، والنار تحت الرماد، والله غالب أمره.

الصفحة السابقة