أزمة الصحافة السعودية تكمن في (الحرية) قبل (التمويل)!

سقوط الإعلام في مملكة الأوهام السلمانية

سلطت الصحافة السعودية الضوء على أزمتها وأزمة الاعلام السعودي عموما، ولكنها كشفت دون ان تدري جانبا مهما من أزمة مزدوجة يعاني منها المجتمع السعودي نفسه، وهي أزمة غياب المصداقية في تناول القضايا الاجتماعية والسياسية، والحاجة الى الشفافية، والانهيار الفعلي للاقتصاد المحلي

عمرالمالكي

أول من دق ناقوس الخطر في هذه الازمة الجديدة، أزمة الاعلام السعودي، هو خالد بن حمد المالك رئيس تحرير صحيفة الجزيرة، في مقال بعنوان: (بيني وبين الصحافة.. الخوف عليها!)، نُشر في ١١/١/٢٠١٨. حيث يرى المالك ان الازمة الحالية هي اصعب من كل ما واجهه في حياته المهنية الممتدة عل طول سني عمره كما يقول.. حيث استطاع دائما ان يواجه المحن والصعوبات التي اعترضت طريقه دون يأس او تململ.. باستثناء هذه المرة!

فالصحافة السعودية تمر بمنعطف خطير يتطلب اتخاذ اجراءات عاجلة، وتمثل بتوقف بعض الصحف، وتوقف دفع الرواتب للعاملين في صحف أخرى، او ترشيد الانفاق، وتقليل عدد العمال، والاستغناء عن الكوادر في حالة ثالثة. ويقر المالك بأن المؤسسات الاعلامية غير قادرة على مواجهة الازمة بمفردها، رغم الترشيد في الانفاق، واعادة الهيكلة، ورغم انها انتقلت منذ خمسين عاما من صحافة الافراد الى نظام المؤسسات الصحافية. والسبب برأيه هو: شح التمويل، وسبب السبب هو ضعف الإعلانات، وانحسار عدد المُعلنين.

الا ان المالك لا يستطيع ان يغادر ما درج عليه الاعلاميون من مد اليد إلى اصحاب المقام العالي: الملك سلمان والأمير محمد، لتسوّل الدعم، مقدما لهما عرضا بالتطبيل لمشروعهما رؤية المملكة 2030، وبرنامج التحول الوطني 2020، وهما لو امعن النظر لعرف انهما سبب الأزمة التي تمسك بخناق الصحافة.. مكملا بذات الاسلوب البئيس الذي اعتاد عليه الاعلاميون، بالحديث عن دور الصحافة في نقل رسالة المملكة، ولأنها إحدى المنصات المؤثرة في الدفاع عن الوطن الغالي.

استخدام هذه التعابير، ينم عن سذاجة وقلّة حيلة، فالدفاع عن الوطن واجب وليس صفقة، والامر يجب الا يحتاج الى لفت نظر المسؤول الى اهمية ما يقوم به الاعلام، في بلد يملك فيه هذا المسؤول ـ حسب زعمه ـ رؤية استراتيجية للعام ٢٠٣٠.

من جانبه، تولى الدكتور عبد العزيز الجارالله، اكمال مهمة رئيس التحرير في مقال اخر نشرته الجزيرة ايضا في ١٣/١/٢٠١٨، محذرا من انهيار وشيك ومستقبل مظلم، اذا لم تقدم الدولة الدعم لوقف الانهيار السريع الذي سيشمل برأيه إدارات الإعلإم بالوزارات، والمحطات الفضائية، والمؤسسات الصحفية، والأقسام وكليات الإعلام، والمواقع الإلكترونية. اي ان كافة الاذرع الاعلامية والدعائية للنظام السياسي، ستصاب بالشلل او تنهار كما يقول الجار الله.

ويعزو الجارالله السبب برأيه الى الانتقال السريع الذي شهده عالم النشر في العقدين الماضيين: من الاعلام التقليدي، الى الاعلام الاليكتروني، الى الاعلام الاجتماعي الجديد، او وسائل التواصل الاجتماعي.. التي افقدت كل المؤسسات الاعلامية التقليدية دورها.

لكن اغرب ما قاله الدكتور الجارالله، هو ان الإعلام المشبوه يحاول تسيّد المشهد الإعلامي، ومحاولة السيطرة على الرأي العام الذي يقود إلى الاستقرار والتوازن داخل المجتمع، الذي يعج بالإشاعات والأكاذيب والتلفيق، والإعلام غير المنضبط وغير المسؤول.

اذن، هو في الحقيقة يشير الى (مضمون الاعلام) الذي يخشى منه، وهو المعضلة الحقيقية التي سنشير اليها في هذا المقال. وفي النهاية يختم الجار الله بما ختم به رئيسه بتسول الدعم من السلطات الحكومية السعودية.

وهنا لا بد من نلفت نظر الجار الله والمالك، وهما مولعان طبعا بالتجربة الغربية، ويعتبران ما يقدمه الواقع الاميركي والبريطاني خصوصا، مثالا اعلى لا يمكن التشكيك فيه، وهو واجب التقليد والاقتداء به.. لذا لا بد من ان نلفت نظرهما وبقية الصحافيين السعوديين، الى ان الصحافة الغربية تعاني المعضلات ذاتها التي تواجهها الصحف السعودية، ومنذ عدة سنوات، الا اننا لم نشهد ي اي بلد في العالم ولا في الدول العربية، من يطلب الدعم الحكومي بالشكل الذي تفعله الصحافة السعودية، كما لم تبادر اي صحيفة على مقايضة حريتها الاعلامية بالتمويل الرسمي، ولا بيع ولائها الوطني، وتأجير خدمة قضايا الوطن «الحبيب» للسلطات الحاكمة.. لان هذا المبدأ مرفوض ومجرّم في الصحافة المحترمة، فمن يبيع لهذه الجهة، يبيع لغيرها، ومن يبيع بهذا السعر قد يساوم على غيره.

من جهة أخرى، فان الصحافة والاعلام نقيض السلطة السياسية على طول الخط، بل هي سلطة موازية، لها واجباتها وحقوقها في مراقبة السلطة السياسية، وتصويب اخطائها، ونقد تغولها على حق المجتمع، تماما كما تفعل السلطات القضائية في زوايا اخرى وميدان مختلف.. ولهذا فقد سميت الصحافة بالسلطة الرابعة، الى جانب السلطات الثلاث الاخرى التشريعية والتنفيذية والقضائية.

مذبحة الصحافة العالمية

استشعرت الصحافة العالمية ازمتها منذ اكثر من عقد من الزمان ، وبدأت الدراسات والمقالات التي تحلل الظاهرة وتضع الحلول لها، كما بدأت تلك المؤسسات تستجيب منذ عدة سنوات لواقعها الجديد، وأزمتها التمويلية، اما برفع اسعار نسخها، او بطلب الاشتراكات السنوية من قرائها، او بفرض رسوم على قراءة نسخها الاليكترونية، والكف عن تقديم الخدمات المجانية.

ويعود صدور الصحافة الاليكترونية في العالم إلى عام 1993 عندما أطلقت صحيفة «سان جوزيه ميركوري» الأميركية نسختها الإلكترونية الاولى، تلاها - بعد عام واحد فقط - تأسيس صحيفتي ديلي تليغراف (Daily Telegraph) والتايمز (Times) البريطانيتين لنُسْخَتِهما الإلكترونية.

ووفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، فقد انخفض الإنفاق العالمي على إعلانات الصحف المطبوعة بنسبة 8.7 ٪ في عام 2016، أي ما يعادل 52.6 مليار دولار أميركي، وهو الأكبر منذ الركود الاقتصادي في عام 2009، اذ انخفض حينها الإنفاق بنسبة 13.7٪.

ولهذا فقد سارعت صحف عالمية عريقة إلى تقليص التكاليف للتأقلم مع الواقع الجديد، منها: نيويورك تايمز؛ وايضاً وول ستريت جورنال. أما صحيفتا (ذي غارديان) و(ديلي ميل) فأقدمتا على تقليص عدد الوظائف وتسريح مئات الموظفين.

في 26 مارس 2017، نشرت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية آخر عدد لها في عالم الصحافة الورقية، قبل أن تودع جمهورها الورقي، وتطل عليهم حصرياً من العالم الرقمي. وفي مطلع اكتوبر 2017 أعلنت صحيفة «وول ستريت جورنال» التوقف عن إصدار طبعتها الورقية في آسيا وأوروبا، في ظل تراجع الإيرادات، وإعادة تقييم الهيكلة التحريرية على نطاق واسع.وفي أغسطس الماضي 2017، أعلنت صحيفة «بوينس آيرس هيرالد» الأرجنتينية توقفها عن الصدور بعد 140 عاماً من العمل.

ولجأت مجموعة كبيرة من الصحف ذائعة الصيت، إلى تقليص أرقام توزيعها، والغاء آلاف الوظائف، وتسريح عدد كبير من العاملين فيها، بينها صحف، واسعة الانتشار مثل شيكاغو تربيون، بوسطن غلوب، ولوس انجلوس تايمز، وحتى المجلة الأوسع انتشارا في العالم وهي (تايم) الأميركية.

وثمة صحف اخرى، تحولت إلى صحف رقمية قبل ذلك بكثير، مثل كريستيان ساينس مونيتور، التي الغت طبعتها الورقية منذ العام 2008، واكتفت بنسخة رقمية على موقعها على شبكة الانترنت. كما توقفت مجلة يو أس نيوز أند ريبورت ـ وهي الثالثة الأوسع انتشارا في أميركا ـ في نوفمبر من العام 2010، اضافة إلى المئات من الصحف المحلية الأميركية، التي اختفت عن الوجود نهائياً. وتشير الإحصاءات إلى ان عدد الوظائف في الصحافة الورقية الأميركية قد تقلص بحوالي 30% منذ عام 2008، ومن المتوقع ان تستمر هذه العملية بوتائر أسرع في المستقبل المنظور.

واعلنت مجلة نيوزيوك الأسبوعية الأميركية الشهيرة توقف نسختها الورقية عن الصدور منذ نهاية العام الماضي، واقتصارها على نسختها الالكترونية التي حملت عنوان نيوزويك غلوبال، منذ بداية العام الماضي. وفي بريطانيا رضخت ثلاث صحف تقليدية كبرى إلى أن تعتمد مقاسات أصغر لصحفها، تنافسا مع باقي الصحف الأخرى التي اعتمدت مقياس أقرب إلى صحف التابلويد النصفية، كما أضطرت هذه الصحف إلى أن تعيد النظر في تبويباتها الصحافية لتواكب احتياجات سوق الجمهور من القراء. وفي فرنسا توقفت جريدة فرانس سوار عن الصدور منذ شهر نوفمبر 2011، واكتفت بنسخة على الانترنت، وكانت إلى عهد قريب مؤسسة إعلامية مرموقة، عمل فيها مجموعة كبيرة من الإعلاميين على مستوى العالم.

وعلى الصعيد العربي، من مصر إلى الجزائر إلى تونس ولبنان، بل وحتى بقية دول منطقة الخليج العربية، تعاني الصحف الورقية من أزمة وجود كبرى، ولعل ابرز مثال عليها صحيفة «السفير» اللبنانية التي توقفت عن الصدور ورقياً وإلكترونياً مع بداية العام 2017، فكانت نسختها الأخيرة في 4 يناير من ذلك العام، بعد أزمة مالية عانت منها الصحيفة.

إذن هناك ازمة عالمية تتجاوز السعودية التي اعتادت تمويل صحافتها، الى حد ان احدهم طالب بمعاملة الصحافة من جهة الدعم، مثلما تدعم الحكومة (الشعير)!

أزمة الفساد

يبدو ان مقالة خالد المالك فجرت مشاعر مكبوتة لدى العديد من الصحافيين السعوديين، وتعليقا عليها كتب خالد الدراج مقالا نشره في صحيفة الحياة، التي سبقت غيرها من الصحف السعودية في اعلان ازمتها حيث أقفلت مكتبها في لندن بعد نحو عشرين عاما من استئناف صدورها وانتقال ملكيتها الى مالك سعودي.

وعلى الرغم من تعاطفه مع ما ورد في مقال المالك، الا انه يلفت النظر الى عدم جدوى التوجه للحكومة، مشيرا الى ان مزاج الحكام تغير، واسلوب تعاملهم مع المؤسسات العامة قد تبدل، والدولة السعودية الجديدة ليست كما نعرفها وكما تعودنا عليها؛ وأضاف بأن اسلوب استجداء الامراء، واسنتهاض نخوتهم القبلية، لم يعد ذا جدوى.. فإذا كنت دولة محمد بن سلمان قد تخلت عن الكهرباء والماء والوقود ـ وهي التي تملك هذه المؤسسات والقطاعات وهي اكثر من اساسية للمواطن السعودي ـ فهي بالتأكيد لن تأبه لثرثرات الصحافيين وعنترياتهم الفارغة.

ويضيف: صحيح أن دور الصحف والمؤسسات الصحافية مهم، بل ومطلوب كأحد أذرع الدول، وأحد مصادر قوتها الناعمة... إلا أنه في المقابل يجب أن تدرك المؤسسات الصحافية أن الزمن غير الزمن، والفكر غير الفكر، بل والسعودية اليوم غيرها بالأمس.

ويختم بالقول انه يعلم ان الأزمة مالية في أساسها «ولكنها ليست المشكلة الوحيدة، فالمؤسسات الصحافية أصبحت في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في نظامها الأساسي المعتمد من مجلس الوزراء، بما فيه إلغاء نظام المؤسسات المغلقة على مجموعة من التجار الذين يسيطرون على مقدراتها، ويورثونها لأبنائهم ثم يتخلون عنها عند الخسائر وتوقف الأرباح، والمطلوب بالتالي تحويلها لشركات مساهمة عامة، وفق نظام جديد، يحدد صلاحيات مجلس الإدارة ورئيس التحرير والمدير العام، ويحفظ حقوق الصحافيين والعاملين، وتنشأ عنها هيكلة إدارية ومالية شاملة.

لقد قصّرت وزارة الثقافة والإعلام كثيراً في هذا الجانب منذ سنوات طوال، ووصلنا لمرحلة أصبحنا نرى فيها المؤسسات الصحافية كـ»المدينة المحرمة» التي لا تمس ولا تقرب، لتتوارى داخل تلك المدينة قصص وحكايات وفساد تملأ صفحاتها بالحبر الأسود!».

وعموماً، فإن حكومة محمد بن سلمان تتخلص اليوم من اعباء مؤسساتها الأساسية، وتحاول نقلها الى القطاع الخاص وبيعها، وهو ما تنشره الصحف السعودية في مانشيتاتها، وتتباهى بنشره باعتباره منجزا تاريخيا، حتى وصل الامر الى درة التاج السعودي أرامكو، التي ستتحول الى اسهم لتسييل اصولها ورهنها من جديد لرأس المال الاجنبي! دولة كهذه تسير في هكذا اتجاه، كيف لها والحال هذه ان تعود الى الوراء، وان تمول مؤسسات إعلامية فاشلة؟!

الأزمة الاقتصادية

السبب المباشر الذي يعود اليه الصحافيون لتبرير ازمتهم ليس حقيقيا، بمعنى انه ليس سببا كافيا لتفسير الظاهرة. اذ ان تراجع الاعلان يعود بدوره الى حقيقة ان المُعلن يعيش ـ هو الاخر ـ ازمة اقتصادية ممتدة منذ عدة سنوات، وقد تفاقمت في السنوات الثلاث الاخيرة، وهي جزء من الازمة الاقتصادية العامة التي تعيشها المملكة، منذ ان قررت الانخراط في حروب المنطقة وتمويل السياسات الاميركية المغامرة، وادواتها الارهابية، منذ الحرب الاميركية على العراق، وحصار ايران، والعمل على ضرب محور المقاومة، وتمويل الحرب الناعمة عليه، وصولا الى حروب الثورات المضادة التي استنزفت مليارات الدولارات سواء في دعم الميليشيات الإرهابية، او في تمويل صفقات الاسلحة من المصانع الاوروبية والاميركية... وانتهاء بالحرب العدوانية على اليمن التي تضخ فيها السعودية عشرات ملايين الدولارات يوميا.

بل ان الجنون السعودي بلغ مداه عبر تبني وجهة النظر الصهيونية في شن حرب اسعار النفط لانهاك ايران وروسيا، ومنعهما من دعم المقاومة والانظمة المنوي تدميرها واسقاطها.. وتجاهلت السعودية انها تعتمد على النفط في تمويل تسعين في المئة من ميزانيتها.. فكانت النتيجة ان تحول الميزان التجاري الى العجز منذ عدة سنوات ولا يزال الى الان.

هذه الازمة المالية الخانقة ادت الى نتائج مباشرة بوقف المشاريع الحكومية التي يعتمد عليها القطاع الخاص في حريته الاقتصادية، وتجميد عشرات المشاريع قيد التنفيذ، وهو ما نتج عنه افلاس عدد كبير من الشركات وتوقف نشاط عدد آخر بانتظار جلاء الموقف.

ومن الطبيعي ان جمود النشاط الاقتصادي سوف ينعكس على حركة الاعلان التي تعبر عن حالة النهوض والازدهار وتذوي في مرحلة التعثر والهبوط.

من جهة أخرى، لم يكن مجازيا تعبير الرؤية العمياء في وصف مشاريع النظام السعودي والخطط التي نشرها باسم التحول الوطني ورؤية 2030.. فهي رؤى ومشاريع ثبت انها تخبط خبط عشواء، وتدمر كل شيء قبل ان تبدأ في تقديم بدائلها التي لا تتعدى كونها احلاما صبيانية، لا تتمتع بأي اساس واقعي، ولا اي فرصة للنجاح، بحسب تقييم العديد من الخبراء والكتاب السعوديين الذين تجرأوا على الكلام، ناهيك من التقييم الذي قابلها به النقاد الاجانب.

فقد اوقف النظام ضخ الاموال الحكومية دفعة واحدة، بدل اعتماد الخطوات التدريجية في الانتقال من دولة الرعاية (الريعية) الى دولة الضرائب، ومن النظام الذي يمول كل الانشطة في المجتمع الخدمية والاقتصادية على السواء، حتى تلك التي يزعم ان القطاع الخاص ينفذها هي في الحقيقة مشاريع حكومية يتولى اصحاب الشركات تنفيذها عبر عمليات تلزيم وسمسرات داخلية.. لذا فقد كان من الطبيعي ان يؤدي وقف التمويل الحكومي الى شلل شبه كامل في الحركة الاقتصادية الداخلية.

ولم يكتف النظام بذلك بل انه عمد الى اغراق السوق المحلية بالفوضى، وتبديد كل عوامل الثقة لدى الرأسمال المحلي والخارجي، عبر اساليب البلطجة التي اعتمدها في السيطرة على اموال بعض الرأسماليين، واعتقال رجال الاعمال والامراء واصحاب المؤسسات الاعلامية، وابتزازهم بشكل وقح ومكشوف لتسليمه جزءا من رساميلهم..

فهل يتوقع احد ان ينشط سوق الاعلانات في مثل هذه الاجواء من الانكماش الاقتصادي، والقلق السياسي والمعيشي؟

سوء التشخيص يفاقم المرض

ان لجوء بعض الصحافيين الى الاستجداء من الامير، او التلويح بحاجة النظام الى التلميع والدعاية لتنفيذ سياساته، او تضليل الرأي العام عن الجرائم التي يرتكبها، سياسة فاشلة ونابعة من عقلية قديمة عفا عليها الزمن.

فالأنظمة الدكتاتورية لا تتعامل بالمنطق والحسابات العقلية، بل تفترض انها هي الحقيقة المطلقة وعلى الاخرين اتباعها، اما من يخالف ويجرؤ على النقد، فقد ارتكب اثما عظيما، والرد الوحيد عليه هو العقاب والزجر.

فخدمة الدولة واجب وتنفيذ رغبات الحاكم، فرض لا جدال فيه ولا اجر عليه، بل هو كما كان يكتب عدد من الصحافيين انفسهم، ثمن ان تعيش في هذه البلاد التي يملكها الملك الاوحد.

ولعل الصحافيين يدركون اكثر من غيرهم ان النظام لم يعد يهتم كثيرا باقلامهم، ولا بسيل النفاق الذي يحبرون به صحفهم، فسلاحه اليوم هو ايضا العالم الاليكتروني يدافع به عن سياساته، ويوجه الرسائل لخصومه. اذ ليس من الصدفة ان فارس النظام الإعلامي، وبوقه الاعلى صوتا، هو مجرد ناشط على تويتر ومعه جيش من الذباب الاليكتروني.. وربما لا يجيد سعود القحطاني، المستشار في الديوان الملكي برتبة وزير، كتابة مقال صحافي يستحق النشر في صحيفة محترمة، الا انه يجيد فن القدح والذم، وتلفيق التهم ونشر الشائعات.. وهذا يكفي.

ولانه مغرم بادارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب، ويعتبر نفسه جزءا من ادارته للعالم، فإن الامير محمد بن سلمان، ينظر بالتقدير الى ان الرئيس الاميركي على علاقة سيئة باعلام بلاده، وهو حقق الفوز بالرئاسة رغم معارضة شبه اجماعية له في وسائل الاعلام.

كما انه من سوء التقدير ان يزعم خالد المالك، ان الصحافة السعودية مملوكة للقطاع الخاص، وانها تعتمد في تمويلها على الاعلان ومواردها الذاتية. والمالك هو رئيس هيئة الصحافيين السعوديين، اضافة الى كونه رئيس تحرير صحيفة كبيرة هي الجزيرة، وهو يعرف انه لا يستطيع ان يبيع وهم الاستقلالية للناس، فالكل بات يعرف ان مسطرة التعليمات التي كانت تعدها وزرة الداخلية تحولت الى قيود اشد صرامة في عهد الامير محمد بن سلمان. والعقوبات التي تلقاها صحافيون واعلاميون في السنوات الاخيرة ـ واخرهم الكاتب في جريدة الوطن صالح الشيحي، وقبله جميل فارسي، ونذير الماجد، وفاضل الشعلة، وعلاء برنجي، اضافة الى احد عشر اعلاميا اخر بحسب منظمة صحافيون بلا حدود، وهرب جمال خاشقجي وسواه الى الخارج.. كل هؤلاء لم يعاقبوا لانهم خانوا الوطن، بل لانهم قالوا كلمة لا ترضي الدكتاتور.. الحاكم الاوحد للبلاد.

اما الحديث عن استقلالية التمويل، والدعوة الى الدعم الحكومي، فهو ايضا من الاوهام التي يروجها الاعلاميون، وتراهم وقعوا ضحية تصديقها.. فواقع الحال ان الاعلام السعودي مجرد اعلام مأجور للسلطة، ليس فقط من خلال تمويل الصحافيين وشراء ولائهم بالرواتب والرحلات والمكافآت العينية، بل من خلال تمويل الصحف ذاتها بطريقة غير مباشرة، وهذا ما يقوله الكاتب صالح الفهيد في عكاظ.

يقول: «ومن وجهة نظري الشخصية أن الصحافة السعودية لا تحتاج للدعم المالي المباشر فقط، حتى تتجاوز أزمتها، رغم أنه ضروري وملِّح جدا، وإنما تحتاج أيضا إلى دعم واسع من الدولة بطريقة غير مباشرة عبر تعزيز مدخولاتها الإعلانية والتوزيعية، فعلى سبيل المثال: ينبغي إعادة إلزام الشركات السعودية بنشر ميزانياتها السنوية في الصحف المحلية، وهذه الإعلانات كانت من مصادر الدخل الثابتة في الصحف، لكن قبل عامين أعفت وزارة التجارة الشركات من نشر ميزانياتها الفصلية والسنوية. أيضا فقدت الصحف دخلها من الاشتراكات الحكومية بعد أن توقفت أو قلصت الكثير من الوزارات عديد اشتراكاتها في الصحف المحلية، ومن المهم في هذه المرحلة إعادة هذه الاشتراكات على الأقل إلى ما كانت عليه في السابق، وأهمية هذه الاشتراكات لا تقتصر على قيمتها المالية، بل على انعكاسها بشكل مباشر على الإعلانات، فأرقام التوزيع مرتبطة ارتباطا وثيقا بالإعلانات».

اضافة الى ذلك يطالب الفهيد، بتفعيل العقود الملزمة لشركات الطيران والمكاتب الحكومية في كافة الوزارات والسفارات والمؤسسات الرسمية، لشراء نسخ الصحف يوميا.. فهذه كلها مداخيل ثابتة، وهي بمثابة تمويل غير مباشر تقدمة الدولة لهذه الصحف.

أزمة نظام مفلس

من العبث البحث عن حل لتمويل الصحافة المكتوبة في السعودية. لان الازمة الحقيقية اعمق من ذلك واشمل. واذا لم تنطلق الصحافة من مبدأ حريتها وحق افراد المجتمع في التعبير الحر عن ارائهم، فهي لن تخرج من مآزقها. لان البحث عن علاج لتسديد الرواتب، عبر رهن الصحافة لقرار الدولة والنظام السياسي.. مجرد مسكن لا يلبث ان يزول اثره. واذا كان التمويل الحكومي جريمة في الانظمة الديمقراطية، فما عساه يكون في انظمة الحكم الفردي؟.

ومن هنا فإن ازمة الصحافة هي ازمة حرية قبل أن تكون ازمة التمويل، وهي خسرت التعاطف الشعبي منذ زمن بعيد، بانحيازها الى القمع، وترويج الفكر التكفيري، وتبرير وتشجيع التهميش والحرمان على اساس مناطقي ومذهبي مقيت.. ولهذا فقد كان سهلا على النظام ان يوقف دعمها دون ان يتحرك احد لنجدتها او الدفاع عنها.. وهي ان غابت قد لا تجد من يفتقدها، باستثناءالعاملين فيها والمستفيدين من خدماتها.

ولا مجال للعلاج في ظل هذه العقلية التي تتعامل مع الاعلام بهذا الشكل المبتذل بتوجيه النداءات الى سمو الامير وجلالة الملك.. خصوصا في ظل حقيقة يجب على الاعلاميين ان يفهموها قبل غيرهم، بل ان يواجهوها في مقدمة صفوف من يتصدون لها، وهي حقيقة ان هذا النظام بكليته بات على شفا الافلاس السياسي بعد ان بدد الثروة الوطنية، ولم يستثمرها لبناء الاقتصاد الوطني القوي والسليم، واستبدل شرعية دينية مذهبية، بشرعية الدعم الخارجي المباشر، كما جاء في كتاب النار والغضب لمايكل وولف، الذي فضح علاقة الادارة الاميركية بكل التطورات التي نفذها الامير محمد بن سلمان.. بحيث ان النظام السعودي مستعد للبحث عن كل مصادر الدعم لشرعيته، ودفع الاثمان من اجلها من ثروة البلاد وسيادتها.. الا انه يتجنب بكل قوة ان يستفيد من الشرعية الشعبية عبر نظام تمثيلي دستوري منتخب.

الصفحة السابقة