الوهابيون يبحثون عن نصر مذهبي في الحجاز يعزز نصرهم السياسي والعسكري

السيد محمد علوي المالكي.. الفقيه المفترى عليه

كان العنوان الرئيس لصحيفة عكاظ، وهي إذ تسرد بعضاً من ذكريات مفتي الحجاز وفقيه مكة الدكتور السيد محمد علوي المالكي، في حلقات بدأت منذ بداية شهر مايو الحالي، هو: (المالكي.. الفقيه المختلف حوله). ولا نعلم سبباً وجيهاً لاختيار هذا العنوان، سوى محاولة الجريدة آنفة الذكر للنأي بنفسها عن تبنّي آرائه، وكأنها تريد القول بأنها مجرد (ناقل) وليس (متبنٍّ) للأفكار المطروحة، وهي بالتالي تقف في الوسط بينه وبين الطاعنين فيه من مشايخ الوهابية ومريديهم.

أيضاً فإن الجريدة (الخديوية) تريد أن تظهر وكأنها حياديّة في موضوع حسمه النظام السياسي ورموزه، وهو التصدّي للسيد محمد علوي المالكي ومناجزته والتشهير به، وطبع الكتب الكثيرة في داخل البلاد، وبإجازة حكومية، ضده.. وهي بهذا، تفتح الطريق موارباً أمام مشايخ الوهابية للرد حول ما يكتب، والطعن في هذه الشخصية الفذّة التي تقول الجريدة أنه (فقيه مختلف حوله).

والحقيقة فإن المالكي ليس مختلفاً حوله، وأتباعه ومريدوه يتجاوزون موقعه الديني في الحجاز، بل يتجاوزون المملكة نفسها، وله من الأتباع والمحبّين والمقدّرين في عدد من دول الخليج العربي، والعالم الإسلامي أجمع، من أندونيسيا الى مجاهل أفريقيا. لا أحد يختلف حول مكانة السيد محمد علوي المالكي. وكل القصّة أن الوهابيين ومن ورائهم رموز نظام الحكم السعودي، لا يريدون أن تبرز في الحجاز شخصية دينية تنافس مذهبهم. ونحن والمسلمون جميعاً نعلم بأن الوهابية لا ترضى، ولم ترضَ في السابق، عن أية شخصية دينية غير وهابية لا في داخل المملكة ولا في خارجها. وطعون الوهابية لم تستثن أحداً من مشايخ الحجاز القدامى والمعاصرين، ولم توفّر أحداً من علماء مصر، بمن فيهم المفتي وشيخ الأزهر الحاليين والقدامى، ولم تستثن أحداً في سورياً بمن فيهم الشيخ محمد سعيد البوطي، كما لم تستثن علماء الأمة الآخرين ابتداءً من الشيخ القرضاوي وانتهاءً بكل علماء الأمة، ورجال الحركات الإسلامية، فضلاً عن علماء المذاهب الأخرى كالزيدية والإباضية والشيعة وغيرهم.

حكاية السيد محمد علوي المالكي مع مشايخ الوهابية هي حكاية مكرورة إذن؛ فهو لم يكن وحيداً فيها حتى يكون فقيهاً مختلفاً حوله. ومن الذي يختلف معه ويطعن فيه ويكفّره ويخرجه من الملّة غير الوهابيين؟! وكان الأجدر بعكاظ أن يكون عنوانها: المالكي.. الفقيه المفترى عليه!

والسؤال: إذا كان الوهابيون لازالوا على حالهم وموقفهم منه، وكذلك العائلة المالكة، فلماذا ينشرون مقتطفات مبتسرة من مذكراته؟ ولماذا الآن ينشرون عنه بعد أن تجاهلوه دهراً، ومنعوه من التدريس في الحرم، ومنعوا كتبه من التوزيع فضلاً عن الطباعة في داخل البلاد، وضيّقوا على أتباعه، وسمحوا لكل من هبّ ودبّ للطعن فيه دون أن يعطى حقّ الردّ، في حين كان يطلّ على المواطنين من قنوات فضائية وأرضية عربية خليجية أخرى؟

يمكن القول بأن الهدف لا يعدو أن يكون مجرد (تهدئة) مؤقتة لأهل الحجاز ولرموزهم الدينية والثقافية والسياسية. وهي ليست سياسة مبنية على رؤية استراتيجية مختلفة، تسعى لجمع الكلمة الداخلية، وتوحيد المواطنين وإشاعة فكر التسامح والتعددية، بدل الإنغلاق والتعصب والغلو والتطرف والإرهاب الذي جاءنا السعوديون به عبر مذهبهم.

الحكومة السعودية في أزمة حقيقية.. داخلية وخارجية. والأمراء يعلمون أن (الوهابية) هي حجر الأساس لقوتهم، كما هي حجر أساس (محنة الدولة والمجتمع).. وإزاء هذا يريدون تخفيف الضغوط عنهم خارجياً، كما يريدون فعل الأمر ذاته داخلياً ليعودوا من جديد فينقلبوا على الأوضاع كما هو دأبهم. لقد فعلوا ذلك مع الشيعة ومع الإسماعيليين ومع بقية المذاهب التي قمعت كلّها منذ تأسس كيان الدولة السعودية القائم على المذهبية والإستعلاء المناطقي، ثم زعموا الحوار الوطني واستبشر المواطنون في الحجاز خيراً، أن دعوا لأول مرة السيد المالكي في المؤتمر الثاني، إذ لا يمكنهم تجاهله، ولا يستطيعون إدعاء الحوار الوطني والمصالحة الوطنية في غياب رمزيّته. فحضوره ضرورة لإنجاح المؤتمر! ولكنهم لم يريدوه حاضراً دائماً، لا في إعلامهم ولا تلفزيوناتهم ولا صحافتهم.

يدلنا على ذلك، أن السيد محمد علوي المالكي، وبعيد انتهاء المؤتمر الثاني في ديسمبر الماضي، دعي لندوة ومحاضرة في جامعة أم القرى، في سابقة غير معهودة! وقبل فترة وجيزة من الموعد، اتصل ولي العهد ـ الديمقراطي جداً ـ بمدير الجامعة ليطلب إليه إيقاف المحاضرة!

وكنّا ـ في مجلة الحجاز ـ قد نشرنا موضوعات تتعلق بمفتي مكة السيد المالكي، وكان موضوع الغلاف، فسبب ذلك انزعاجاً شديداً للأمراء ولمشايخ الوهابية.. ولكن ما الحلّ؟ الحلّ أن تتدخّل (الجريدة الخديوية) لتلطّف الأمور ـ بعد استصدار موافقة من وزير الداخلية ـ فكانت تلك المذكرات. يعلم المسؤولون بأن السيد المالكي يستطيع أن ينشر في أي مكان، وأن يخاطب جمهور الحجاز من قنوات عدّة في مصر والشام والإمارات وغيرها.. فلا معنى للتجاهل الكلّي، وليس في نية السلطة النجدية (دينية أو سياسية) سوى هذه الألاعيب الصغيرة. ولا ينتظر منها أن تعتذر عمّا فعلته في الماضي بحقه، ولا أن تعيد حقوقه المسلوبة، ولا يتوقع أن تطعم جهازهها الديني بأمثاله. فالدين كما السياسة كما الإقتصاد حكر على نجد وأهل نجد! أما الحجاز، فكان آل سعود يؤملون بأن يموت الرعيل الأول من علماء الحجاز، فيصفى الجو لمشايخ الوهابية دونما منافسة، فالنصر السياسي والعسكري لا يكتمل من وجهة نظرهم بدون نصر مذهبي وهابي ساحق.

ولهذا لم تكن الحرب على السيد المالكي لشخصه، أو لفكره الذي يختلف عن فكر الوهابية، أو لأنه يرى تعظيم مولد النبي صلى الله عليه وسلم.. وإنما أرادوا ضرب الحجاز بضربه، والتسريع بإفناء أية شخصية علمية دينية حجازية لها حضورها في الساحة، وإلا بقي خطر الهوية الحجازية ماثلاً، وخطر عودة الحجاز كدولة مستقلة كما كان قريباً.

إذن.. هي مشكلة الدولة السعودية، والعائلة المالكة، والوهابية كمذهب، ونجد كمنطقة. هي مشكلة صعبة أن لا يستطيع هؤلاء بناء دولة غير فئوية وغير متمذهبة. هؤلاء جميعاً لا يبحثون عن حلول صحيحة. لا يؤمنون بمواطنة متساوية، ولا يعترفون بتنوّع ثقافي، ولا يقبلون بنصيب الأسد من حصة السلطة ومغانمها. هم يريدون كل شيء، ولا يتنازلون حتى عن التافه من الأمور. إنهم يلعبون لعبة الموت، ولعبة الوقت، فلا يربحون سوى تعقيد لمشاكلهم، وتأجيلاً لحلول بدت سهلة في البداية فاستعصت وستبقى.

وما يفعلونه اليوم مع فقيه مكة ومفتي الحجاز، ومن ورائه أهل الحجاز جميعاً، إلا تكتيكات حفظناها عن ظهر قلب. يعرفها السيد المالكي، ويعرفها خديوية عكاظ، ويعرفها أمراء آل سعود. المسكنات لا تحل أزمة ولن تحل.

الجريدة الخديوية، وإن بدت بنشرها مذكرات السيد محمد علوي المالكي، وكأنها تقدّم خدمة له ولأهل الحجاز الذين يتعرضون لمذبحة ثقافية مستمرة منذ قيام الدولة، إلا أنها تقدّم خدمة في المقابل لرموز السلطة الوهابية ـ السعودية، حين تبادر الى إقناع نايف وسلطان بفائدة النشر، وضرورة امتصاص الإحتقان حتى لا ينفجر في وجوه الأمراء، الذين لا يغيظهم شيء مثل ظهور السيد المالكي وأمثاله من رموز الحجاز، الدينية والثقافية والسياسية. ولعلنا نتذكّر قصة نائب رئيس تحرير عكاظ، الدكتور أيمن حبيب، الذي نشر مذكرات الشيخ أحمد زكي يماني، وزير النفط الأسبق، وذلك بتنسيق بين رئيس التحرير هاشم عبده هاشم، ونايف. وقد نشرت المذكرات في رمضان الماضي، وكان غرضها نفس غرض نشر مذكرات المالكي!

كان سلطان في خارج المملكة ـ في المغرب ـ يتعبّد الله هناك! وحين عاد واطلع على المذكرات المنشورة، طالب بإبعاد مدير التحرير أيمن حبيب، لأنه حسب رأيه قام بتلميع (اليماني) خدمة لأميركا، وتحقيقاً لأغراضها! فقيل له بأن اليماني ـ ومن خلال كتاباته ـ صريح في مواقفه المضادة للولايات المتحدة، فرد عليهم سلطان بأنهم لا يفهمون في السياسة! وأصرّ على إقصاء الدكتور أيمن حبيب، وهكذا كان!

المالكي، كما اليماني، كما الدكتور ربيع دحلان، كما آخرين من رموز الحجاز، هم أشبه ما يكونون بالعظمة الناشبة في حلوق الأمراء السعوديين، لا يستطيعون ابتلاعها وهضمها، ولا يقدرون على إخراجها. لقد مضى على احتلالهم للحجاز ثمانين عاماً، ولازالوا يعيشون رعباً من عودته سيّداً لنفسه، وهم لا يريدون التخفيف من ذلك الرعب بانتهاج سياسة حسنة بإقرار المساواة في المواطنة في الحقوق والواجبات، وبإقرار الحرية الدينية، وحرية التعبير، وبإقرار المشاركة الشعبية وتوزيع السلطة والثروة بالعدل.

هذا الحلّ مكلف لهم، لا تتحمله المعدة النجدية، ولا تستطيع أنزيماتها أن تهضمه.

وليس عندهم من حلول سوى الإستمرار في التمييز المناطقي والطائفي، والإتكاء أكثر على الوهابية وأسنانها الحديدية التي يشحذها الأمراء لمقارعة خصومهم السياسيين. إنه حلّ مؤقت مهما طال ليل الحكم السعودي، ولن ينجيهم هذا الحلّ من انطباق سنن التاريخ عليهم وعلى حكمهم، أو أي حكم يشابهه.

إن ما يفعله الأمراء السعوديون في الحجاز هذه الأيام فاق كل تصور، وأصعب من أن يتحمّله عقل أو ضمير حرّ. لم يكتف الأمراء بنهب الميزانية، ولا الإستحواذ على مفاصل الإقتصاد الوطني، ولا طرد الحجازيين من العسكر، وإبعادهم المنظم من ساحة السياسة، كما من ساحة القضاء ـ رغم قلة القضاة.. بل تعدوا حدودهم بمصادرة الأوقاف، ومنحها لبعضهم البعض، خارقين كل حرمة دينية، وكل حق شرعي. لم تكن السيطرة على قلعة جياد من ملاكها والأراضي التي حولها الأولى والتي قدرت قيمتها بثلاثة مليارات ريال هي الحالة الأولى، فمسلسل المصادرة مستمر، وشركات ابن الملك المدلل عبد العزيز والأمراء الآخرين تأتي على أبسط الموارد المالية للحجازيين. إنه نهب للبنايات والأراضي دونما تعويض للقائمين على الأوقاف، ودونما اتفاق. فجأة يصحو المرء ليجد أرضه قد أصبحت فندقاً لأمير، أو جزءً من ممتلكات إحدى شركات الأمراء. فجأة ترى بنايات الأوقاف قد تملكها مشعل بدون أوراق وبدون محاججة! لم تكن أوقاف أمين عطاس إلا جزءً يسيراً منها.

إنها دولة النهب.. دولة من لا يريد مقاماً في الحجاز! يسرق ليهرب.

كلما زادت عنجهية الأمراء، وزاد فسادهم وطغيانهم، فذلك مؤشر قريب على نهايتهم.

الصفحة السابقة