تقرير بريطاني عام 1955

تحدّيات التحول السياسي والاجتماعي في السعودية

شهدت فترة الخمسينيات وتحديداً عقب رحيل مؤسس الدولة الملك عبد العزيز وظهور النفط بكميات تجارية وبداية تمأسس الدولة، تحديات كبيرة واهتزازات عنيفة في للبنى الاجتماعية والسياسية. فقد كان للعامل الاقتصادي، وبخاصة النفطي دور في وضع الدولة أمام اختبار جديد، حيث تلتقي القوى الدافعة نحو التغيير والقوى الكابحة التقليدية نحو البقاء على القديم. فقد كان حجم الثروة المتزايد يفرض مستوى تصاعدياً من التقدم والنمو. ولعل ما يلحظه المراقب الاجنبي أن ثمة علاقة مضطربة بين حجم الثروة ومستوى التقدم في البلاد، لم يكن بسبب الايديولوجية الدينية المتزمته والصارمة والتي تحوّل دون خوض البلاد غمار الانتقال بالمجتمع النظام السياسي نحو التحديث، ولكن ثمة علاقة وطيدة بين الثروة وفساد الطبقة الحاكمة التي أهدرت الثروة الوطنية على البذخ الشخصي والترف واشباع الشهوة. ولذلك فإن إساءة إستغلال الثروة كان تارة نتيجة الكابح الايديولوجي الممثل في التيار الديني التقليدي الذي يرفض بشدة تحديث الدولة والمجتمع خشية تسرّب القيم والافكار الحديثة، الأمر الذي يجعل تصريف الثروة في تحقيق مستوى اقتصادي وسياسي متقدم، وتارة اخرى بفعل الاسراف الشديد في النفقات الخاصة من الثروة النفطية.

من جهة ثانية، يظهر التقرير ـ وتعضده تقارير اخرى عديدة صدرت في نفس الفترة ـ أن مسألة بقاء العائلة المالكة في السلطة في فترة الخمسينيات كانت مثار جدل واسع وشك كبير من قبل العديد من المراقبين الاجانب والدبلوماسيين العاملين في السعودية في تلك الفترة، فالفساد المتفاقم في الطبقة الحاكمة والصراع المحتدم على السلطة داخل العائلة المالكة كان ينبىء عن خطر زوال الدولة السعودية. ولعل العامل الوحيد الذي يحول دون سقوط الدولة من وجهة نظر كثير من المراقبين هو تبديل طريقة التعامل مع الثروة النفطية بحيث تخدم في تعزيز السلطة.

إن التحدي الجديد الذي ظهر في هذه الفترة هو بداية تشكل الطبقة الوسطى، والتي كانت تتألف بادىء الأمر من جنسيات عربية فلسطينية ومصرية ولبنانية وسورية، والتي كانت تنظر الى العائلة المالكة ونظام الحكم في السعودية بسخرية، ولكن ما إن بدأ العنصر المحلي يدخل الى هذه الطبقة ويطغى من حيث العدد حتى بدأت بوادر التجاذب تأخذ شكلاً آخر، فالثروة النفطية صنعت طبقة وسطى بدأت تناضل من اجل كسر أشكال الاحتكار السياسي والاقتصادي والايديولوجي في البلاد، فكانت اضرابات 1953 إحدى تمظهرات التمرد السياسي الذي قادته الطبقة الوسطى كأول تعبير احتجاجي على الدولة.

لقد لعب العامل النفطي أيضاً دوراً محوّرياً في اعادة تشكيل الخارطة السياسية في المنطقة، وايضاً مصادر النفوذ وشبكة التحالفات، فقد كانت ارامكو أحد العوامل الفاعلة في تلاشي النفوذ البريطاني في السعودية وحلول النفوذ الاميركي كبديل عنها والذي غيّر صورة ليس السياسة الاقليمية بل والدولية عموماً.

فيما يلي وثيقة كتبها السفير البريطاني ج. بيلهام وتحتوي على معلومات بالغة الاهمية وتقييم عام لوضع الدولة السعودية في تلك الفترة، والتحديات التي تواجهها.

فيما يلي نص التقرير:


الوثيقة رقم 55/1/1051س

تاريخ الصدور 12 فبراير 1955

تاريخ التسجيل 2 مارس 1955

من: ج. س. بيلهام جدة

الى: السير أنتوني إيدن، وزير الخارجية، لندن

السفارة البريطانية

جدة

21 فبراير1955

رقم 18 (55/1/1014)

سري


سيدي:

1 ـ مع اقتراب نهاية فترة مهمتي في المملكة العربية السعودية، أجد من واجبي أن أقدّم عرضا ومراجعة للاتجاهات الرئيسية التي برزت في مختلف شؤون هذا البلد خلال السنوات الثلاث الماضية، لقد كانت تلك الفترة، على الصعيدين المادي والمعنوي، فترة تحوّلات وتغييرات كبيرة، وجاءت معظم هذه التحولات مشابهة لتلك التي حدثت في دول الشرق الاوسط الاخرى التي تنتج النفط، الا أنها كانت في المملكة العربية السعودية أكثر حدة وتطرفاً، وأكثر فجائية، ولهذا فإنها قد تصبح في نهاية الأمر مصدر كارثة أشد وأعظم.

2 ـ إنه لمن سخريات التاريخ أن تُكتشف أغنى حقول النفط في البلد الوحيد الذي يعد أقل البلدان أهلية لتقبل الثروة المفاجئة وضغوط التقنيات الغربية، وذلك نتيجة التقاليد ومظاهر التعصب الأعمى التي لم يطرأ عليها الا القليل من التبدلات خلال الألف عام الماضية، وإن كون هذا التحدي قد ووجه ببعض النجاح الطفيف فقط هو أمر يبرهن عليه واقع البنية الاجتماعية في البلاد، وهو الواقع الذي ما يزال بكراً لم يعرف أي مقدار من التحول.

اجتماع السلطة والثروة لتعزيز اركان الحكم السعودي

وتبقى حالة السلام السعودي (Pax Saudi) قائمة: فحق استمرار العشيرة السعودية في الحكم أمر يكاد يكون غير قابل للنقاش، والشعور بالاستياء وأصحابة قلّة، وهم إن وجدوا فلا يسمع صوتهم في غالب الاحيان. غير أن هذه معادلة لا يتطلب إضطراب التوازن فيها الا القليل من الجهد، فحتى الآن كان يتم المحافظة على الاستقرار عن طريق اقتصاد متسارع النمو، والحقن المتواصل من الأموال المنهالة على شكل أموال ودعم للقبائل، ولأن البروليتاريا الأميّة في البلاد، صارت تشعر بأنه لا داعي للقلق حول أي أمر، بعد أن رأت أوضاعها تتحسن قليلاً عما كانت عليه في الماضي. والأمر لا يحتاج إلا الى تلاشٍ في سبيل الأموال المنهالة من شركات النفط، أو حتى الى مجرد توقف هذا السيل عن النمو، حتى تتحول طبقة أو أخرى من طبقات التجار أو القبائل أو طبقات العمال.. الى طبقة ثائرة متمرة، وإنني أعتقد أن تقدير احتمالات الثورة الداخلية أكثر من مسألة تمكين العربية السعودية من صد عدوان خارجي، هو الذي يجبر الاميركيين على الاحتفاظ بقاعدة عسكرية وجوّية صغيرة على أساس الشروط السعودية، وعلى أن يظهروا اهتماماً كبيراً في تطوير القوات المسلحة السعودية بحيث تستطيع السيطرة على البلاد وحماية مصالح شركة النفط العربية ـ الاميركية (أرامكو). إلا أن احتمالات الخطر الذي يمكن ان تتعرض له المصالح الغربية إنما يكمن بشكل واضح في تطوير مثل هذه القوات الى درجة تتجاوز الحد الأدنى الضروري ـ حتى لو أمكن تأمين قيام حكم مستقر (في البلاد).

3 ـ وبما أن استقرار الحكم يعتمد إعتماداً كبيراً على الاقتصاد الوطني، فمن المهم أن ندرس بإمعان المصدر الرئيسي لهذا الاقتصاد. لابد من عرض الحقائق والارقام.. فلقد بلغ دخل العربية السعودية من النفط حوالي 11 مليون جنيه استرليني تقريباً عام 1948، و61 مليون جنيه عام 1952 و70 مليون جنيه عام 1953 و 110 مليون جنيه عام 1954 ويتوقع أن يصل دخل عام 1955 الى 135 مليون جنيه. وإضافة الى ذلك، فإن الاحتياطي المؤكد الموجود في حقول السعودية قد ثبت في العام الماضي أنه أكبر احتياطي في العالم ـ وهو (30,000) مليون برميل، في حين لا يتجاوز احتياطي الولايات المتحدة (28,950) مليون برميل. هذه أرقام تعبّر عن نفسها وتقول الكثير، ورغم ذلك فإن إزدهار البلاد لابدّ أن يعتمد ويرتكز على طلب متواصل ومستمر للنفط، وأهم من ذلك توفّر سوق للنفط السعودي. ولقد ساعدت أحداث السنوات القليلة الماضية الى حد كبير على توسع ونمو صناعة النفط السعودية، فوقعت أولاً الحرب الكورية ثم تلاها إغلاق آبار النفط الايرانية، وهو ما مكّن هذه الصناعة من أن تنمو وتتطور بأقصى سرعة وأعلى معدل ممكن، ومع ذلك فإنه وحتى الآن، لا يبدو أن تدفق النفط السعودي يحتاج الى تخفيض نتيجة فقدان الاسواق.

وقد رأى البعض أنه إذا ما استثنيت ظروف الحرب، فإن استهلاك العالم من النفط يتوقع أن يتضاعف كل إثني عشر عاماً تقريباً (ومن الصعب تصوّر إمكانية أن يؤثّر تطور القدرة على التحكم بالطاقة النووية على صناعة النفط قبل مضي عدة عقود من الزمن). وأكثر من ذلك، فإن أكبر الزيادات في الاستهلاك يتوقع أن يكون في الاسواق غير الاميركية. وحيث أن فنزويلا منهمكة بإغلاق الفجوة بين الاستهلاك والانتاج في الولايات المتحدة.. فإنه يبدو من المعقول القول بأن الشرق الاوسط سيستمر في كونه المورد الاساسي لأوروبا والشرق، وسيكون أول المستفيدين من الزيادة في الاستهلاك العالمي. والشرق الأوسط محظوظ في مجال آخر أيضاً: فالظروف الجغرافية الخاصة للمنطقة تطمئن وتؤكد بان أكبر الشركات فقط ذات المعدّات المملوكة لها تستطيع ان تستثمر مصالحها عن طريق الاتفاقات المتبادلة إذا ما دعت الحاجة الى تخفيض الأسعار نتيجة إزدياد الانتاج العالمي المتسارع، أو نتيجة اكتشاف واستثمار آبار وحقول جديدة.

ولهذا فإنني أشعر أنه ليس هناك ما نخشاه من خارج المملكة العربية السعودية، والذي يمكن أن يهدد في المستقبل المنظور إستمرار تدفق وازدياد عائداتها النفطية. الا أن هناك مخاطر لابدّ لهذه الصناعة من مواجهتها من داخل البلاد.

4 ـ إن الكثير من الأمور تعتمد على وضع العلاقات بين شركة النفط العربية ـ الاميركية (أرامكو) وبين حكومة المملكة العربية السعودية، فالأولى عليها مهمة إرضاء المساهمين فيها، والشعور بأن الضرائب والرسوم التي تدفعها ليس فيها شطط، وأن يكون لها الحرية الكافية لتسويق منتجاتها والاستمرار في تنمية رأسمالها بما تراه الأفضل لها. والأخرى (العربية السعودية) يتوجب عليها الاستمرار في قبول حقيقة أن مصالح الشركة هي أيضاً مصالح الحكومة، وأن التأميم أو منح الامتيازات الى شركات أخرى ليس مما يستحق التفكير به حتى ولو كان الدافع اليه ذا مغزى سياسي. إن مطالب أرامكو من هذه العلاقة قد تم تحقيقها بالفعل وبشكل مرضٍ.

وحين نأخذ بعين الاعتبار أن الشركة ستكون قادرة على تأمين الأرباح حتى لو ذهب 85 بالمئة من الأرباح الى الحكومة السعودية، فإنه لا يبدو أن الأمور تدعو الى الشك والقلق لفترة لا بأس بها في المستقبل، أما الحكومة من الناحية الأخرى.. فإن صعوبة إرضائها تتزايد، فقد وصل البذخ والأسراف الذي يمارسه أصحاب السلطة في البلاد حداً من الضخامة العملاقة أصبحت معه حتى عائدات النفط الحالية عاجزة عن مواجهة وتلبية المطلوب منها، وعلى مدى الاعوام القليلة الماضية كانت ميزانية الحكومة وماتزال في حال عجز، ومرتبات موظفيها لم تدفع.. أو تدفع بعد تأخير، وتجري بصورة متواصلة عملية إنضاب وتبديد الاقتصاد الوطني بصورة متصاعدة.

وبالرغم من أن الحكومة العربية السعودية لا تتوقع أن تستمر عائدات النفط بمضاعفة قيمتها مرة كل عامين، كما كان الأمر في الماضي، فمما لاشك فيه أن تلك الحكومة ستستمر في القيام بمحاولات متكررة لزيادة نصيبها من الأرباح، وإذا ما فشلت محاولاتها هذه.. وإذا ما فشلت أيضاً خلال العام القادم في الحد من بذخها وإسرافها في تحسين إدارة البلاد، فلن يكون من المستحيل أن تعيد النظر ـ وهي حالة يأس ـ في مجمل علاقاتها مع الشركة. إلاّ أن هذا، إذا وقع، سيكون إجراءً بالغ التطرف لا أعتقد أنهم سيقدمون عليه أو أن يحدث بسهولة.

أولاً.. وكما بيّنت أعلاه، فإن الزيادة الطبيعية في عائدات النفط والناتجة عن نمو وتوسع صناعة النفط لابدّ وأن توفر هامشاً كافياً من الأمان.

وثانياً.. لا أعتقد أن العربية السعودية، رغم كل أدعاءاتها القومية المنكرة للذات، والتي أدّت الى طرد الموظفين في برنامج (النقطة الرابعة) في العام الماضي، ستصل الى ذلك المدى مع شركة النفط، فأرامكو ليست هي الأوزة التي تضع البيضة الذهبية فقط.. لكنها الأوزة الوحيدة أيضاً.

العمال العرب والاجانب في ارامكو يسخرون من الرجعية السعودية

وثالثاً.. إن العلاقات ما بين شركة النفط والحكومة تبدو الآن ـ وبعد مرحلة أولى تميّزت بالإنصياع الفوري من جانب إحداها والتعالي والعجرفة من جانب الأخرى ـ وكأنها تعبّر عن إدراك عملي وتفهم لمصالح كل منهما من جانب الآخر.

5 ـ إن الفقرات القليلة السابقة تظهر بأنه ليس هناك من سبب ـ سواء كان ذا طبيعة دولية أو محلية ـ يمنع العربية السعودية من الاستمرار خلال الأعوام القليلة القادمة، في تلقي دخل كافٍ ومناسب يسمح لنظام الحكم الحالي في الاستمرار في تولي السلطة. ولكنّ المال ليس الاعتبار الوحيد هنا. ومن المؤلم حقاً ومما يسيء للسمعة (notorious) كثيراً أن تكون الثروة النفطية ـ إذا ما استخدمت بشكل غير منطقي ولا حكيم ـ مصدر مشاكل ومتاعب لمجتمع بدائي أكثر منها مصدر فائدة ونعمة. لقد استهلكت عائات النفط هذا البلد الضخمة في الماضي وفي معظمها، في إرضاء وإشباع الشهوات التي خلقتها تلك العائدات، وهي عملية يزيد الزمن في سوئها.. إلا اذا نمت عادة الانفاق الحكيم والمعقول.

ومن حسن الحظ أنه كان هناك خلال العام الماضي بعض المحاولات الطفيفة لاعادة تنظيم إدارة الحكومة، لإجتثاث جذور بعض ما فيها من فساد مستوطن مزمن (endemic). وحتى ولو أن النتائج (الايجابية) كانت محدودة، فإنه جرى بالإنتباه أن تكون الطبقة الحاكمة قد أدركت بأن الحكمة تقتضي بألا تكون هي الوحيدة المنتفعة من ثروة البلاد المفاجئة.

6 ـ إن سبب إعادة النظر الايجابية هو مزيج من المصلحة الذاتية، والخوف والغرور، يضاف اليها جميعاً هجمة (dash) من الغيرة. فرغم أن عربدة (orgy) وانغماس العائلة المالكة في الانفاق قد أغنى الى حد ما (طبقة) التجار.. وأفاد بالتالي بعض الفئات الاجتماعية، فإنه لابد ـ عاجلاً أم آجلاً ـ وأن يظهر بعض من يشعرون بأنهم لم ولا يستفيدون بالقدر الكافي، وسينظرون بعين الحسد الى المنفقين (المبذّرين) الرئيسيين للثروة الوطنية.

أما القبائل والطبقات الدنيا، فإما أنها متحجّرة في عاداتها أو أنها مصابة بضعف البصيرة وقصر النظر بدرجات لا يمكن معها أن تسبب القلق، لكن التجار النهمين (grasping) وكذلك الطبقة الوسطى حديثة الظهور، والتي يمكن فيها احتمالات الاشتعال والثورة، والمؤلفة من أصحاب المهن والحرفيين لا يمكن أن يتوقع منها أن تراقب ثروة البلاد وهي تنضب وتستنفذ دون أن ترفع عقيرتها بالاحتجاج. في الحقيقة لم يكن هناك الا الطفيف النادر من النقد المكشوف للطريقة التي تدار بها شؤون البلاد. وأعظم مثل ساطع على ذلك هو إضراب عمال أرامكو في نهاية عام 1953م، فليس هناك من شك بأن هذا الاضراب، هو الدليل الأول على أن للجماهير صوتاً ترفعه، كان له أكبر الأثر في هزّ وزعزعة ثقة فئة القلة الحاكمة بذاتها.

7 ـ إن اجراءات الاصلاح الأخيرة للإدارة قد جاءت على ما أعتقد، نتيجة للتفاخر السعودي الموروث، وللحاجة الى حفظ ماء الوجه. فحتى قبل وفاة الملك العجوز ابن سعود، كان هناك إقرار من قبل الجميع بأنه لا يمكن السماح للفوضى بالإستمرار مدة طويلة. الا أنه لم يكن بالإمكان عمل شيء أثناء حياته لم يكن بموجب أمر منه، رغم إدراكه الأليم لواقع الأمور والأحوال في بلاده، قد أعمته (mystified) الشيخوخة والتقدم في السن عن ممارسة سلطته. وجاء موته فرصة لتحطيم قيود وأغلال (fetters) الماضي، فالملك الجديد ومستشاروه إضطروا الى البرهنة على أنهم أهل للحكم، ليس فقط للبلد الذي يحكمونه.. ولكن لأنفسهم أيضاً، واذا كان الكويت والعراق قد استطاعا إظهار بعض المردود لعائدات النفط فيهما، فإن من المؤكد ان السعوديين يستطيعون إظهار ذلك القدر على الأقل، وهكذا بدأت في منتصف العام الماضي ضبط حسابات البلاد وشؤونها المالية، فتّم إبعاد عبد الله السليمان ـ أكبر مستشاري الملك الراحل ـ عن السلطة، وعُيّن الأمير فيصل، ولي العهد الجديد، رئيساً للوزراء. والرجال الجدد الذين يديرون شؤون البلاد الآن هم في معظمهم من النشطين، ولكنهم عديمو الخبرة، وفي الغالب.. عديمو الشعور بالمسؤولية. أشعر في بعض الأحيان أنهم ينظر الى الحكم والحكومة على أنه صورة أخرى، مجرد صورة أخرى من صور تمضية الوقت، ولكنّها أغلى سعراً. وحتّى في هذه الحالة، فإن القليل الذي أنجزوه حتى الآن له من إحدى نواحيه، قيمة أعظم بكثير من آثاره الفورية. فإن هذه التحرّكات القليلة والمحدودة بإتجاه الاصلاح، وقد دعمت بالوعود الكلامية عن المنافع الجمّة القادمة، أدت الى أن يمتنع منتقدو الاوضاع في البلاد عن إصدار حكمهم وتأجيله الى فترة أخرى، كما أن هذه (الهدنة الداخلية) كما يمكن وصفها، قد مكّنت النظام الجديد من تثبيت دعائمه، ليس في الداخل.. ولكن في نظر الدول العربية الأخرى أيضاً.

8 ـ ومهما يكن من أمر، فسيكون من غير الحكمة أن ينام النظام (الجديد) على تهليلة الخضوع (Docility) وسهولة الانقياد الحالي داخل العربية السعودية، فالعربي في علاقته مع سيء السمعة هش وسريع التقلب في ولاءاته السياسية، وفي العربية السعودية يتضافر غياب الثقافة والتعليم مع التقليدية الدينية في جعل (الصفة) الوطنية العامة غير مهتمة بالسياسة الى حد ما (لا سياسية) الا أن هذا بدأ يتغير، لقد أشرت قبل قليل الى الطبقة الوسطى الجديدة كمصدر ممكن لإثارة الاضطراب، ويتزايد هذا الخطر عاماً بعد عام نتيجة تغيّر تركيب وبنية تلك الطبقة، فقبل وقت قصير كانت تتألف في الدرجة الرئيسية من الفلسطينيين والمصريين والسوريين واللبنانيين الذين كانوا ينظرون الى الحكومة السعودية بسخرية تكاد تكون شاملة، الا أن العنصر الأجنبي الآن صار أقل عدداً من المواطنين السعوديين المنتمين الى هذه الطبقة وهم تقنيو صناعة النفط، وأنصاف المثقفين الجدد الذين بدأوا يملأون شواغر الادارة الحكومية المتنامية، والحرفيين في بلدة جدة متنامية الازدهار، وفي الرياض وعلى الساحل الشرقي كذلك. إن هذا النمط الجديد من السعوديين الذين أطلقتهم التأثيرات الغربية، كما أطلقت النمط الجديد من السوريين في القرن التاسع عشر، هو الذي يتوقع أن يكون له عاجلاً أم آجلاً الأثر الفاعل والدافع في هذا البلد، وأن هذه الطبقة بالذات هي التي ستعلن في نهاية الأمر وصول العربية السعودية الى العصر الميكانيكي، بدل المرحلة الضحلة المصطنعة والمتمثلة في قوافل سيارات الكاديلاك ومكيفات الهواء.

9 ـ وبشكل عام، فإن المعالم المتميزة، والمميزة للبنية الاجتماعية والسياسية في المملكة العربية السعودية نتيجة استغلال لعائدات النفط، لم تحدث أية صدوع أو انشقاقات أساسية حتى الآن. ولقد بيّنت إتجاهين يمكن أن يكون مصدر الاضطراب: الاستياء.. وعدم الرضى بين التجار الذي يمكن أن يقع إذا ما انتهت الأيام الهادئة الوادعة (halcyon) وعهود الاموال السلهة، ثم الوعي السياسي المتصاعد للطبقة الوسطى المحلية الوطنية (indigenous).

كما بيّنت أيضاً أن حكّام البلاد مدركون لهذه الاخطاء، وهم يحاولون بطريقة مشوّشة غير حاسمة، أن يهدئوها من الصعوبة بمكان التغلب على آثارها السيئة. وهي الآثار التي ستكون أكثر مكراً وغدراً وأبعد مدى من الاتجاهين الآخرين، إنني أشير بهذا الى تلف البنية الخلقية (المعنوية) للبلاد، كالتخلي عن التقاليد، وتزايد عجز العقائد القرآنية عن مسايرة الظروف المتغيرة في البلاد.

10 ـ لقد كان مذهب العربية السعودية الديني مصدر نعمتها ونقمتها، سقى الله أيام الملك ابن سعود الخوالي، حين كان المال قليلاً نادراً، ومشاكل الحكم والحكومة غير موجودة تقريباً: في تلك الايام كانت مبادىء وأحكام العقيدة الوهابية في شؤون الحياة ـ والتي فرضها الملك على البلاد التي فتحها ـ هي التي زوّدت البلاد بالعمود الفقري، ومكّنت هذا الرجل الفرد بشخصيته الحادة نارية الطبع أن يوحِّد القبائل والفئات المتحاربة.

جفف منابع الثروة الوطنية على البذخ والنساء

ولكن ما أن بدأت أموال النفط بالتدفق حتى خمدت النار أو كادت، كان ابن سعود قد أصبح شخصاً فاقد المقدرة والطاقة. لكن خطر استئناف الصراعات القبلية كان محدوداً، فبعد عشرين عاماً من السلام، تم خلالها إنشاء جهاز شرطة فعال في جميع أنحاء البلاد، أصبح بالإمكان السيطرة على زعماء القبائل عن طريق دفع رواتب قليلة لهم، الا أن أولئك المقرّبين من الملك ـ ومن المال ـ هم الذين أنهكوا في بذخهم وإسرافهم دون رادع أو حدود. لو كان للملك الجديد شخصية والده، لربما كان بالامكان إيقاف التعفن والفساد وحتى في هذه الحالة، فقد جرت بعض المحاولات القليلة للحد من حجم الأموال التي تنفقها العائلة المالكة رغم أنه لا أحد يهتمّ بكيفية صرفها ـ على الويسكي والنساء وحفلات الأفلام السينمائية الخاصة.. فكل شيء مباح. ولكن ما يحيّر حقاً أن يكمن الخطر الحقيقي في التقيّد بمبادىء الاسلام الوهابي أكثر منه في التخلي عن تلك المبادىء. في الأقطار الشرق ـ أوسطية الأخرى تمّ حسم الصراع بين الاصولية الاسلامية والعقلانية الغربية الى حد كبير، لأن حركة التحديث أمكن تبنّيها وتنميتها من قبل المسلمين الأكثر تحرراً (ليبرالية) ناهيك عن المسيحيين واليهود. (فهناك) كانت عقائد الاسلام الليّنة المطواعة (pliant) بشكل مناسب ومعقول، أما في العربية السعودية فإن هذه المعتقدات من الأسمنت النقي (pure concrete) حرفية متحجرة، وإن أي اتجاه أو ميل الى طرق التفكير الأكثر عقلانية، وهي الضرورية اذا ما أريد للعربية السعودية أن تصبح دولة حديثة، يتوجب تنفيذها خلف واجهة من التزلف والمجاملة الكلامية للتفسيرات الدقيقة والحرفية للقرآن. قد يستطيع الفرد أن يمارس التطويع (contortious) والالتواءات العقلية والذهنية التي يستوجبها هذا الوضع، أما بالنسبة للدولة بكليتها فإنه يفرض عليها قيوداً قاسية، ليس هناك من شك في أنّ الوهابية ستندثر وتتلاشى مع مرور الزمن، وسيكون في اعتقادي ضرورياً أن تُراقب الآثار الناشئة عن هذا التفكك والانحلال. قد لا تكون هذه ضارة، وسيبقى الاسلام بطبيعة الحال مرشداً وهادياً لسلوك الفرد، كما هي الحال في دول أخرى أكثر تحديثاً وعصرية.

كما أن التعليم بطريقة أحدث من طرق المدارس القرآنية الحالية، يمكن أن يمهِّد الأرض أمام طرق في التفكير أكثر تحرراً. واذا ما توفّرت الحكومة المستنيرة والجيّدة الى حد ما، فإن الفخر بتقديم الأمة يمكن أن يطمس ويحل محل الإيمان (العقيدة) الدينية كقوة موحِّدة (لأبناء) هذه البلاد. لكن هذا يعني توقع الكثير الكثير من نظام حكم يرى أن انتشار الأفكار الليبرالية سيضعف بالضرورة من سيطرته وهيمنته على البلاد.

11 ـ وفي العلاقات العربية السعودية الخارجية، تأثر مجرى الأحداث خلال السنوات الثلاث الماضية تأثراً كبيراً بالثروة المكتسبة حديثاً.. وبموت الملك العجوز، وبصورة عامة تميّزت مواقف حكام البلاد بالتشدد وحلّت الروح الانتهازية محل المثالية القديمة.

كان ابن سعود مدركاً لمسؤوليات بلاده باعتباره جزءا من العالم الحر (الغربي).. أما اليوم فإن العربية السعودية لا تكاد تنظر الى ما هو أبعد من مسرح الشرق الاوسط، وتراجعت علاقاتها نتيجة ذلك مع الغرب، ومن سخرية القدر أيضاً، أنه رغم أن ابن سعود كان يتمتع باحترام أكبر بكثير مما يتمتع به إبنه في الدول العربية الاخرى، فإن هذا الابن هو الذي يبدو نفوذه أعظم من نفوذ الأب، إن أحد الاسباب، بالطبع، هو الثروة الواقعة تحت تصرفه، والسبب الآخر هو تخلي العربية السعودية عن دورها السابق المتمثل بالانعزالية الحكيمة وحسنة التمييز (judicious) لكن المخاوف والحسد القديمين مايزالان يعشعشان في الأعماق، ولو أنهما اتخذا شكلاً وصوراً أخرى الآن. حتى ولو توقف السعوديون عن الاعتقاد بأن العراق الهاشمي ما يزال يفكر باستعادة مملكة الحجاز، فإنهم ليسوا أقل حسداً من إزدهار العراق، وليسوا أقل خوفاً من مخططاته في الهلال الخصيب، والحقيقة إن كراهية العراق عميقة الجذور في الذهن السعودي، الى حد أشعر معه بأن ذلك سيكون عقبة كأداء في طريق التفاهم العربي لبضع سنين قادمة.

في هذه الاثناء يتوقع أن تتحالف السعودية مع مصر، حيثما وفي أي وقت يوفِّر لها ذلك التحالف فرصة الدعاية والاعلان للاسلام وللعالم عامة عن اهتماماتها الخادعة (specious) والبرَّاقة المنظر بالابقاء على الأفكار العربية بعيدة عن أي إرتباط (أو علاقة) قوية مع الغرب.

12 ـ تركت حتى آخر التقرير دراسة وتقويم موقع المملكة المتحدة في المملكة العربية السعودية، أنتم تعلمون، يا سيدي، أن نفوذنا في هذا البلد قد تلاشى بالتدريج، وحلّ محله حتى فترة قريبة نفوذ الولايات المتحدة، ربما كان هذا أمراً حتمياً بسبب وجود (أرامكو)، لكنه إزداد حدة بسبب الخلافات القائمة حول البريمي. إن موقفنا الحاسم (المتشدد) حول قضية الحدود هذه قد جعلت ابن سعود يشعر ـ ومنذ عام 1950 ـ أنه رغم أن صداقتنا ربما ما تزال ذات قيمة كبيرة بالنسبة له، فإن مرشداً ودليلاً أكثر أماناً سيكون أمريكا، التي تتمتع بجاذبية كونها (غير استعمارية) وبعيدة جداً في نفس الوقت. كان ابن سعود يحترمنا باعتبارنا قوة دولية كبرى (قوة عظمى)، ولكنه كان لا يثق بنا كقوة في الشرق الاوسط، خاصة باعتبارنا مؤيدين صريحين للهاشميين، الا أن النظام الحالي أصبح لا يثق بالمملكة المتحدة ولا بالولايات المتحدة، نتيجة علاقات تقارب العربية السعودية مع الجامعة العربية من جهة، وخوفاً من الهيمنة الاقتصادية، ولأن السعودية لم تتلق الا القليل من الدعم من الولايات المتحدة في قضية البريمي من جهة أخرى.

13 ـ كما أن ترتيبات التحكيم حول هذا النزاع ـ كمابيّنت لتوي ـ لم يغيِّر كثيراً من برود العلاقات التي تظهرها السعودية نحو بريطانيا، فمع سياساتها التوسعية التي تودُّ (السعودية) أن تتبناها في الوقت الحاضر، فإنها لا تستطيع إلاّ النظر الى وجودنا في (منطقة) الخليج الفارسي وجنوب الجزيرة العربية كمصدر إزعاج (irksome) ومضايقة على أقل تقدير. لكن الحزم المهذَّب من قبلنا.. والادراك المتزايد من قبل السعودية حول أين تقع مصالحها الحقيقية، سيكون لها دور كبير في تخفيف (حدّة) الوضع، فالفخر وحب المكيدة والدسائس، وليس الحاجة أو الضرورة، هما نبع سلوك ومواقف السعودية الحالية، وأن إهتمامها بالتوسع الاقليمي لا ينبع من الاعماق (لا يصدر عن قناعة حقيقية).. إنها مجرد حالة من حالات ثغاء (bleating) الجمل لإثارة النمر، حيث تستطيع فيما وراء حدودها أن تسيل (roused) لعاب (cupidity) السكان والشيوخ المحليين عن طريق ثرائها وهيبتها، ولهذا فلا بدّ من توفّر قرار واضح وواعٍ بالنسبة للحدود التي سنحافظ عليها، يرافقه دراسة حصيفة للوسائل التي سنتبعها في تحقيق ذلك، وتنفيذ هادىء ـ ولكن فوري ـ للسياسة التي نقررها. قد تفي الاحتياجات الورقية بحاجتنا الى إثبات حق قانوني أو شك قانوني، الا أن تأثيرها الاساسي سيمثل إثارة السعوديين لبذل جهود أخرى للحفاظ على الهيبة التي يعتقدون أن هذه الاحتجاجات تضرّ بها وتؤذيها، خاصة في تلك الحالات التي لا تتوفر فيها لدينا القوة للحفاظ على مطالبنا على الأرض نفسها.

14 ـ أختم تقريري هذا بالقول أن أكثر سياساتنا فاعلية في مناطق مسؤوليات المملكة المتحدة (المناطق الواقعة تحت إشراف المملكة المتحدة ـ المترجم) على محيط شبه الجزيرة العربية إنما تكمن في الاستخدام الماهر والحصيف للأموال والتنمية المادية المدعومة بإستعراض العضلات (إظهار ـ القوة)، وأنا أشعر أنه يجب توفير المال حيثما أمكن، وجزئياً على الأقل، من شركات (مصالح) النفط التي يكون احتمال استفادتها من تنفيذ مثل هذه السياسة هو الأكبر. وإذا ما نفذت خطة تتبع هذا المنحى في مٍسألة الحدود، فليس من غير المحتمل أو المعقول أن يدرك الحكام السعوديون مع مرور الوقت مدى عقم محاولة شراء النفوذ، مهما بلغت درجة الحقد، في المناطق الواقعة تحت مسؤوليتنا، وأن يكتسبوا بعض الاحترام لموقفنا الحازم. وإذا أطلقنا النظر الى المستقبل البعيد، فربما يصبح بالإمكان التنبوء باليوم الذي يبدي فيه السعوديون استعداداً أكبر لتلقي المشورة التقنية لتطوير وتنمية بلادهم.. والتي قد نكون على استعداد لتقديمها لهم (عرضها عليهم). الا أن مثل هذه النهاية السعيدة لهذه السنوات المراهقة في (حياة) العربية السعودية الجديدة.. تتطلب أعلى مستويات الكفاءة في رجال السياسة من كلا الجانبين، ويمكن أن تتحقق فقط على أرضية من التحسّن العام في العلاقات بين الغرب والعالم العربي بأكمله.

15 ـ سأرسل نسخاً من هذه المراسلة الى المقيم السياسي في البحرين، ورئيس المكتب البريطاني في الشرق الأوسط، والى سفير حكومة جلالة الملكة في واشنطن.

يشرفني، يا سيدي، مع فائق الاحترام والتقدير، أن أكون..

خادمكم المطيع

ج. س. بيلهام

الصفحة السابقة