الحكم الفردي والجيل الشاب في السعودية

تمثل فترة حكم الملك فيصل (1964 ـ 1975) من أشد المراحل الانتقالية التي شهدتها البلاد، ليس من حيث التجاذب الشديد بين التقليد والتحديث، وبين قوى التغيير وقوى الجمود، بل لأن المجتمع والدولة كانا على عتبة تحوّلات جوهرية، معبّرة عن نفسها في انقسام داخلي على خلفية ثقافية واجتماعية وسياسية، بانتظار ما يتمخض عن التجاذب من ولادة ثانية للدولة السعودية. هناك من ترتسم أمامه صورة القمع التي حكمت فترة الملك فيصل وخصوصاً ضد قوى التغيير، وهناك من ينظر الى هذه الفترة باعتبارها بداية الفصام بين الدين والدولة حيث بدأت تتسرب الثقافة الحديثة ومنتجاتها الى بلد شديد المحافظة. غير ان المهم في هذه المرحلة أن رأس السلطة السياسية الممثل في الملك كان له دور مختلف في ادارة عملية التحوّل، إذ ليس كل ما يبدو نزوعاً نحو التغيير يعبّر بالضرورة عن رغبة جادة لدى الملك أو من يدعون بالمتنورين داخل العائلة المالكة، بل قد تكون لحاجة الدولة الشديدة لتطوير أجهزتها وأدواتها.

فيما يلي تقرير كتبه السفير البريطاني في جدة عام 1973 يرسم فيه صورة المخاضات الداخلية التي عاشتها السعودية خلال عهد الملك فيصل بتسليط ضوء كثيف على الدور المصيري الذي يلعبه الملك وقلة من الامراء الكبار في ادارة دفة شؤون البلاد، والضغوطات التي خلقها نشوء الجيل الجديد الذي تلقى تعليمه في الخارج وتعرّف على سيرة المجتمعات والدول المتقدمة.


الارشيف الوطني: FCO 8/2122

سري: DS No. 6/73

ادارة الشرق الاوسط

30 يونيو 1973

(من سفير جلالة الملكة في جدة الى رئيس ادرة الشرق الاوسط، مكتب الخارجية والكومونولث)


1 ـ يحكم الملك فيصل السعودية كملك مطلق، ويخضع فحسب للقيود المفروضة من نمط الحكم التقليدي العربي. فهو يصادق إن لم يصدر في واقع الأمر كافة القرارات الهامة. فهو يملك في الحقيقة والظاهر السلطة في كافة شؤون الدولة التي تقتصر سلطة جلالة الملكة في المملكة المتحدة على مجرد المصادقة عليها فحسب. لقد عيّن الملك مجلساً للوزراء لتقديم النصيحة في شؤون الدولة، ولكن قرارات المجلس لا تكون نافذة ما لم توقّع من قبله. فمن أجل المساعدة في ادارة حكومته، فإن الوزارات الحيوية لعمل واستمرار النظام الحكومي (الداخلية، الدفاع والمالية) تقع في أيدي كبار الأمراء في العائلة المالكة. ففي المجلس الحالي هناك أشخاص من عامة الشعب يفوقون عدد الامراء، ولكن من الناحية العملية فإن وظيفتهم تقتصر على تقديم المشورة الادارية والمعرفة التقنية التي يريدها الامراء. وفي معظم شؤون السياسة العامة فإن القرار النهائي يعتمد على ما يصدره الامير فهد بن عبد العزيز والامير سلطان بن عبد العزيز من كلام حيث ينحصر الكلام بطريقة ما في دائرة ضيقة.

2 ـ وعليه كيف يفكر الشباب السعودي حيال الشكل البالي من نظام الحكومة، وغير المتماشي ليس مع التطورات السياسية في الغرب فحسب بل ومع التطورات السياسية في العالم العربي من حولهم؟ وفيما يبدو فإن أولئك الشباب ( وهم الأكثرية العظمى) الذين بقوا هنا من أجل مواصلة تعليمهم لا يطرحون سؤالاً جاداً حول هذا النظام. إن آل سعود واعون لأهمية التعليم من أجل تقدّم بلادهم، وفي الواقع كان فيصل، والي الحجاز، الذي دعم في عام 1940 جهود مواطنين مثل عائلة علي رضا من اجل بناء نظام تعليمي (حديث). ومن هنا نبعت فكرة المدرسة الحكومية لتهيئة السعوديين للدراسة في مصر وأماكن أخرى في الخارج، ومن هذه الجهود جاءت أغلبية الأفضل تأهيلاً من بين مؤسسة الخدمة المدنية الكبرى في الوقت الحاضر.

في الوقت نفسه، فإن العائلة المالكة تدرك الاخطار المصوّبة لموقعها بأن التعليم، إذا ما سمح للأفكار الحديثة بالرواج بحرية في المدارسة ومؤسسات التعليم العام، قد يهدد المعتقدات والعادات التقليدية. وعليه، فإن دراسة تعاليم الاسلام يعد أساسياً ومركزياً بالنسبة لمنهج التعليم الحكومي، وأن هناك فترة زمنية قصيرة للغاية متروكة لدراسة أي شيء آخر، وهذا أحد الاسباب الرئيسية التي تجعل المستويات المطلوبة التي يصل اليها الطلاب السعوديون منخفضة. وتدرك العوائل البارزة بأن خيار ارسال اولادهم للدراسة في مدارس بالخارج (لبنان مثلا) ليس فقط بسبب انعدام الكفاءة في التدريس والمعدات في المدارس الخاصة المحلية ولكن بسبب أن المنهج التعليمي المحلي مستمد من الدارسة والارشاد الديني بما لا يدع وقتاً كافياً للابناء للحصول على مهارة اعتيادية في الموضوعات الأخرى.

3 ـ يُدَّرس الطلاب بان المملكة تحقق تقدّماً كبيراً في كافة الحقول تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك فيصل. وأن الله قد منح أرضه المقدّسة بالسبل الكفيلة بتمويلها بالنفط الذي ينظر اليه باعتباره جزءا طبيعياً لخطة اعدّها (= الله سبحانه وتعالى) للاحياء الاسلامي العالمي. إن الخرائط الاسلامية في الفصول الدراسية المحلية تظهر السعودية في مركز العالم، بدائرتين مركزيتين مرسومتين حول مكة. إن البلدان الاسلامية والعربية ملوّنة بالأخضر الفاتح، وأن الدول التي تشتمل على أقليات مسلمة (وحتى بلدان اخرى مثل أسبانيا، والتي كانت سابقا تحت الحكم الاسلامي) فإنها مصبوغة بلون أخضر متدرج. وأن معظم أجزاء العالم الاخرى ليست معرّفة بأسمائها. ويدّرس الطلاب السعوديون خسارة تراجع الدين والاخلاق، والعنف والتنافس الصناعي الذي دفعه المجتمع الغربي من أجل تحقيق التقدم التكنولوجي، وأنهم ـ الطلبة ـ يُخبرون بأن المملكة ستحقق تقدّماً أكبر في كافة الصعد من خلال التمسك بمبادىء الاسلام.

إن هذا التكييف لتصرفات الشباب يمكن النظر اليه بناء على حقيقة أن السعوديين، وخصوصاً من هم بداخل البلاد، أقل تأثراً من الآخرين بالتقدم الذي حققته البلاد، بما يجعل منهم شعباً ذوي نظرة منغلقة على الداخل، حيث يعرفون أو يتطلعون الى معرفة القليل من الاحداث الجارية خارج الجزيرة العربية. وأكثر من ذلك، فإن الشباب السعوديين، بالتوافق مع كبار السن، يبدون ثقة بالذات متأصلة نابعة في جزء منها من عدم وجود ذكريات لديهم مع الحكم الاستعماري والاهم من ذلك من المعرفة بأن بلادهم هي مهد الاسلام، التي هي في نظرهم أم الأمة العربية واللغة العربية، وهو سلوك في تضاد واضح مع الاحساس العام بالتردد والدونية التي تسود الشباب في بلاد الشام. إن الشخوص الوطني الذي تطّور بالرغم من الطبيعة المتباينة لمجتمعات السعودية يشتمل أيضاً على عنصر فخر كونه مختلفاً: اذا كان نظام الحكم في السعودية مختلفاً فيجب أن يكون أفضل، أو اذا كان غير ذلك، فلابد أن يكون أفضل من الشعوب الاخرى حيث أن بإمكانهم جعله يعمل (على النقيض من ذلك، كثير منهم يبدي إعجاباً بالمملكة المتحدة كونها ملكية حديثة).

5 ـ إن أولئك السعوديين الذين يملكون القدرة على تحمل النفقات أو الذين يبدون التزاماً كافياً لوزارة التعليم بتحمل النفقات يسافرون للخارج للحصول على الفرصة الاولى من اجل اكمال دراستهم من أجل تحقيق انجازات تعليمية يعتقدون بأنها مفتاح التقدّم. إن أولئك الذين ينطلقون مباشرة من النظام التعليمي المحلي يشعرون في لحظة ما بالاعجاب الشديد بالحياة الغربية. وفي حال عودتهم، فإن سلوكهم يكون متناقضاً. إنهم يقرّون بالمميزات المادية التي تقدّمها الحياة الغربية، ولكن يعتقد كثير منهم بأنه اذا كان البديل للنظام السعودي هو الحياة التي عاشوها في اوروبا وأميركا، فإنهم يفضّلون بقاء الاشياء بصورة عامة في المملكة كما هي. ويبدي قليل من الشباب على سبيل المثال إهتماماً برؤية أي تغيير في وضع المرأة أو حتى التخلي عن العقوبات القاسية مثل قطع يد السارق. وهذا كما أعتقد ليس خاصية في النظام السعودي أو توبيخاً لنظامنا كمؤشر على أن النظام التعليمي المحلي، حيث يضع المرء في الحياة داخل مجتمع اسلامي تقليدي، لا يعدّه للصعوبات التي يواجهها في بيئة غريبة. وحين يُقترح على الشباب السعوديين بأن الاصلاح الاجتماعي للطبيعة المحدودة ستحسّن من الاوضاع هنا، فإنهم يوافقون على ذلك ولكن يزعموم بأن بلادهم تتحرك نحو الامام. أما أولئك الذين لديهم معرفة بالحكومات العربية التقدّمية (وهناك روابط قبلية وثيقة بين نجد والعراق) فهم ممتنين الى أنهم ليسوا كالرجال الآخرين.

6ـ إن السعوديين الذين يتولّون مناصب داخل الحكومة، سواء كانوا مخرجات النظام التعليمي المحلي أو الحاصلين على شهادات جامعية من الخارج، يلحظون على وجه السرعة الفساد، والوهن والحاجة الى المساعدة. إن بعض الالمام لدينا كان الى حد كبير مثار سخرية، وحتى جلالته، الملك فيصل، قد تعرض للنقد الشخصي، وخصوصاً منذ أصبح انشغاله التام وبطريقة استحواذية بالصهيونية والشيوعية واضحاً. ففي كتيب باسم (فيصل يتكلم) صادر عن وزارة الاعلام أبداه مسؤول شاب لأحد موظفينا اعتقد الأخير بأن عنوان الكتاب يجد أن يستكمل ليصبح (فيصل يتكلم والعالم يضحك). وعلى أية حال، فإن الخريجيين يجدوا أنفسهم يعملون بماشرة تحت أحد الأفضل تعليماً، والاكثر ثقافة والأكثر إخلاصاً، وأن السعوديين القادرين الذين وصلوا في السنوات القليلة الماضية الى مناصب عليا (مثل مستوى نائب وزير) يبدو أنهم يحظوا بالرضا في أعمالهم ويرون أملاً أكبر في المستقبل. وهذا أمر في غاية الأهمية، تماماً كما أن عكس التيار في السابق قد ساق جميع الخريجيين الى الخدمة الحكومية.

هناك الآن هدر للعقول باتجاه القطاع الخاص، حيث المغانم كبيرة، فلم تعد الوجاهة الرسمية بالجاذبية التي كانت عليها في السابق. وهناك نية سياسية وايضاً اقتصادية خلف التيار الدافع نحو التصنيع، فإدارة المعامل بات ينظر اليها باعتبارها طريقاً لامتصاص طاقات الشباب المتعلّم.

7 ـ إن إولئك السعوديين الذين يسافرون للخارج ـ وليس بالضرورة لأول مرة ـ عقب فترة زمنية قصيرة من الخدمة العامة، من أجل استكمال الدراسات العليا يصبحون بعد عودتهم أكثر انتقاداً لشؤون الحكومة المحلية. إن الألفة التي يعيشها هؤلاء مع المجتمع الغربي وإيلاء الاهتمام بملاحظة هذا المجتمع بدرجة عالية من الوعي وكيف تسير الامور هناك، تجعلهم قادرين بصورة أفضل على عقد المقارنات. إن سخطهم يكشف عن نفسه أحياناً عقب عودتهم للعمل بطاقة عالية من أجل تحسين الاوضاع، وبصورة عامة فإن الاشخاص الأكثر ذكاءً وتعليماً مدركون تماماً بأن نظامهم يتطلب تغييراً. ولكن يبقى أنهم يعتقدون بأن من أجل الحفاظ على الاستقرار ورفاه الشعب، فإن السعودية يجب أن تسلك تجربة في التغيير ببطء، ولا يتصورون، على الاقل حتى الوقت الحاضر، بأنهم سيسلكون الطريق المؤدية في النهاية الى الديمقراطية على النمط الغربي.

8ـ على أية حال، هناك رأي آخر يقول بأن الوقت سيأتي من اجل انتقال تدريجي للسلطة من العائلة المالكة الى الادارة، ومن ثم ربما الى الشعب. إن هذا الرأي ليس نافذا حتى الآن، ولكن حالما يتزايد تعداد أصحاب هذا الرأي مع تسلقهم للمناصب الكبيرة فإن أهميته ستزداد. إن التطلعات المشروعة لأولئك المنشغلين بالتفكير في هذا الرأي بين أصحابه والمضطلعين بمسؤولية أكبر في الوظائف الرسمية ولديهم صوت في صناعة القرارات السياسية يجب الاقرار بأهمية دورهم.

9ـ ولكن مع نمو الماكينة الادارية للعائلة المالكة فإن الاخيرة قد بسطت سيطرتها ليس على هذه الماكينة بل وفي داخلها، فالأمراء يمسكون بالمواقع الرئيسية في الادارات الحكومية. ويتم التعامل معهم من قبل المسؤولين الآخرين بانصياع ورضوخ أكثر مما يبدو لعامة الناس من الدرجات الموازية، فلديهم ـ أي الامراء ـ موظفون خاصون يكمّلون الموظفين الرسميين، وأن مكاتبهم متقنة ونظيفة ان لم تكن بالضرورة باذخة. إن التمييز في القوات المسلحة مازال باقياً (وإن لم يكن ظاهراً). ففي خارج الخدمة العامة فإن الأمراء الآخرين نشطون في التجارة، ولكن الاغلبية تشكل طبقة متميزة منعّمة تذكّر بالطبقة الارستوقراطية في فرنسا في عهد لويس السادس عشر. فجميع الأمراء (وكما هو شائع فإن عددهم يصل الى نحو خمسة آلاف أميراً واميرة) يتلقون رواتب من الميزانية الوطنية، وتذكر التقارير بأن المبلغ المدفوع اليهم يتراوح ما بين إثني عشر ألفاً وأربعين ألف جنيه استرليني في السنة، وأنهم وبسبب أغراض عملية خارج القانون.

10ـ وبينما من المحتمل جداً أن تتم أية تنازلات كبيرة خلال عهد الملك فيصل لصالح الاصلاحيين، فإنني أعتقد بأنه في حال وصول الامير فهد الى سدة الحكم فإن من المحتمل أن يتجه الى احداث تغييرات في المجالين الاجتماعي والاداري. وكما ذكرت في رسالة انطباعاتي الاولى، فإن الدين في هذه البلاد يعتبر عقبة. إن التطور السريع في هذا البلد الى دولة حديثة معقدة، مع كل ما تعنيه، يفرض على العائلة المالكة أن تدرك بأنها في حال أرادت الاحتفاظ بموقعها المتميّز والبقاء فإن التقدّم المادي وحده لن يكون كافياً لاحتواء تطلعات الأكثر تعليماً والأكثر وعياً سياسياً، وأن الخنوع والولاء لم يعد بإمكانهما السير معاً بالطريقة السابقة، وأعتقد أن ـ الامراء ـ بدأوا إدراك ذلك. وفي الحقيقة، وكما ذكر لي مؤخراً أحد المستشارين النافذين للعائلة المالكة مع درجة من الثقة بأن على العائلة المالكة ابتكار وسيلة جديدة من لشروط عمل مع عامة الشباب الرائعين والاقوياء.

11ـ يفضّل الأمير فهد فيما يبدو تطوّرات سياسية واجتماعية مضبوطة من أجل ضمان مستقبل مستقر للسعودية. إنه ليس قوياً بمفرده بصورة كافية لضمان تطبيق الاصلاحات الضرورية، وأن عليه الصراع للحصول على دعم الاجماع العائلي بشأن كافة التغييرات. فاذا كان هو، أو آخرين من عائلة آل سعود من المتنوّرين، لم ينجح فإن البديل (اذا لم تخفف الضعوطات التي وصفتها) سيكون إجراءات قمعية أكثر من قبل أولئك الذين في السلطة، وفي النهاية ستؤول الى ثورة، بالرغم من أن ذلك غريباً على طبيعة السعودية وانها بالتأكيد ستحقق أقل ما يمكن ان يقدّمه الترقي الحالي.

الصفحة السابقة