القبّة الخضراء فضيّة وبلا هلال!

التطرّف الوهابي لا حدود له.

إنه مرضٌ حقيقي مختزن في صاحبه، قد يوجهه الى الآخر المختلف في الوجهة الدينية او المناطقية، لكنه لا يلغي حقيقة أن المريض بالتطرّف لا يخرب بيت الآخر بل ينتهي بتخريب بيته. لقد بدأ التطرف في المملكة ضد المواطنين الآخرين غير الوهابيين، فساموهم العسف والظلم وهدر الحقوق والكرامة، وكانت الحكومة تؤيد ذلك وتشرعن الفعل الطائفي المتطرف، وتنفخ فيه في إعلامها ومؤسساتها التعليمية وغيرها، في حين كانت المؤسسة الدينية الرسمية مشغولة هي الأخرى بإصدار فتاوى التكفير والتفسيق وزيادة الجرعات المفتتة للنسيج الإجتماعي.. حتى إذا ما ساد الصوت الواحد والرأي الواحد، التفت التطرف الى البيت الداخلي الوهابي، فتفاجأ البعض بتكفير الحكومة، وتكفير رموز من المؤسسة الدينية الرسمية، بل أن الشيخ المفتي عبد العزيز بن باز، ومن جاء بعده الشيخ عبد العزيز آل الشيخ لم يسلما من الإتهام حيث ارتدّ التطرف الذي صنعاه عليهما وعلى المؤسسة السياسية.

والتطرف الوهابي أشبه ما يكون بالإدمان، بل يمكن القول أن المتطرف يزداد إدماناً وهو بحاجة الى المزيد من جرعات التطرف على الدوام. وبالرغم مما بدا أن الحكومة ـ بعد تمدد غائلة الوهابية واتضاح خطرها على الدولة والمجتمع ـ ستقوم بتخفيض حدّة التطرّف، إلا أن الشهور الستة الماضية أثبتت أن الحكومة غير راغبة (البعض يقول أنها ربما غير قادرة) في مواجهة التطرف والحدّ منه، فسمحت له بالتمدد وممارسة التدمير في مجالات تبدو بعيدة عن السياسة، يمكن السماح لمتطرفي الوهابية فيها بالعبث، وخاصة في تعزيز قوة وشراسة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك فسح المجال للوهابيين بتدمير ما تبقى من الآثار الإسلامية، كما جرى ويجري بالنسبة للمساجد السبعة في مدينة الرسول.

ومن وجهة نظرنا، فإن إطلاق يد التطرف في المناطق غير الوهابية كما في الحجاز، وإن بدا وكأنه استرضاء للتطرف على حساب الغير، وإبعاد للمتطرفين عن الموضوع السياسي ونقد نظام الحكم، إلا أنه يستجلب خطراً أكبر من نقد النظام السياسي وعدائه، ونقصد بأن هذه الأفعال تؤسس (لإلغاء الدولة) والإنفصال عنها في المناطق المستهدفة بالتدمير والتخريب والتطرف الوهابي.

الأمر الذي يثير التساؤل حقاً هو أن المتطرفين الوهابيين قد أصابتهم حمّى التخريب بلا مبررات دينية حتى تلك المبررات التي عادة ما يتحدثون عنها وهي إبعاد الناس، والمواطنين مجاوري بيت الله وقبر رسوله!، عن (الشرك!). كانت لهم حجج في هدم القباب والأضرحة، ثم تطور الأمر الى تدمير المقابر والمكتبات (نموذج ما حدث لذلك لمقبرة ومسجد ومكتبة السيد علي العريضي في المدينة قبل أكثر من عام)، ثم تطور الأمر الى تدمير المساجد (نموذجها المساجد السبعة) التي أصبحت بنظر متطرفي الوهابية تعبد من دون الله! وهي مساجد يذكر فيها اسم الله! مضى على بنائها أكثر من 13 قرنا!

واليوم يبدؤون مرحلة جديدة من مرض التطرف التدميري، تجاه مسجد الرسول وقبره الذي هم سائرون لفصله عن المسجد، واتجهوا ابتداءً الى القبة الخضراء، فلم يعجبهم لونها، ولا تمجيد الشعراء المسلمين لتلك القبة التي أصبحت رمزاً دينياً، فأرادوا تغيير لونها الى الفضي. وعمدوا الى الهلال الذي يتوج القبة فنزعوه ووضعوا ما يشبه بالعمود اللاقط للإرسال!

اندهش الحجاج والمعتمرون وقبلهم مواطنو المدينة المنورة نفسها، وأصيبوا بالذهول، فانطلقت الحناجر تشتكي الى الله، وتتعرض للوهابيين ومن سمح لهم من آل سعود بالعبث بتراث المسلمين، بلا بصيرة وبلا مبرر. وحين وجد المسؤولون ردة الفعل تلك توقفوا حتى الآن ـ وسيعودون لاحقاً بعد أن تهدأ العواطف ـ ولكن مازالت القبة الخضراء ملطخة باللون الفضي.

أي فائدة في مثل هذا الفعل، وأي دين يريد طغاة الوهابية حفظه من الشرك والبدع؟

ليقل لنا مشايخ الوهابية، ومن ورائهم آل سعود: ماذا سيستفيدون من هذا الفعل المشين؟

هل هو الحقد الذي يريد إغاظة المسلمين غير الوهابيين والمواطني المختلفين عنهم؟

أم أن هناك توسعة إضافية لسد الذرائع التي تفضي الى الشرك؟!

أم أن لهم عداءً مع اللون الأخضر، لون الجنّة المحبب لرسول الله؟! وإذا كان كذلك فلمَ كان علم الدولة أخضراً، ولماذا يزاح الهلال وهو رمز للإسلام؟

ما يفعله الوهابيون في الحجاز لا يمكن إلا أن يولد عداءً بين الفئات الإجتماعية، ويعزز نزعة الإستقلال لدى الحجازيين، ونقمة عارمة ضد نظام الحكم السعودي المتخبّط في إدارة الدولة وغير الحكيم في تقدير عواقب قراراته وسياساته.

بعض الحجازيين مسرور بما يفعله متطرفو الوهابية، فهو لا يخلو من فوائد كبيرة يصعب تحصيلها في الظروف العادية، فالتدمير الممنهج للآثار الإسلامية من وجهة نظرهم لن يؤدي الى نسيان تلك الآثار، فهي محفوظة بالصور وبالفيديو، ولكن ما سينتج عن ذلك التدمير، هو استعداء العالم الاسلامي على الوهابيين وآل سعود، كما أنه يعزّز لحمة الشارع الحجازي ويشعره بهويته الثقافية والدينية المهددة، ويقطع في الوقت نفسه أواصر الحجازيين مع الحكم القائم، بحيث تدفعهم دفعاً للتكفير في البدائل حيث لا إمكانية للتعايش مع هكذا عقول، ويطلق العنان للأحلام والآمال المستقبلية التي يعود فيها الحجاز لأهله ويعاد بناء تلك الآثار النبوية والإسلامية.

مهما كان التدمير الوهابي بشعاً مؤلماً، والذي لم يتوقف منذ قيام حكم آل سعود، فإنّ الظرف الحالي غير مناسب جداً لمثل هذا النوع من التطرف، وهذا القدر من المصادمة لمشاعر الجمهور المحلي والإسلامي. ومادام نظام الحكم ومؤسسته الدينية مستعدان للمجازفة، فليكملوا وسيرون في المستقبل غير البعيد كيف أن مشاعر الغضب والعداء تؤتي مفعولها العكسي، وتنتظر اللحظة التاريخية لإنهاء هذا الحكم السعودي الهمجي.

الصفحة السابقة