هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

الهيبة المصادرة

حركة التغييرات في أجهزة الدولة تأخذ في هذه المرحلة شديدة الاضطراب أشكالاً متضاربة، فبين ما يمكن وصفه بانفتاح فكري في الداخل، يجنح بعض اطراف العائلة المالكة الى تعزيز مكانة المؤسسات التقليدية التي ساهمت جنباً الى جنب المؤسسة السياسية في تعزيز أركان السلطة، فالعبور الى المستقبل في هذا البلد يتم عن طريق الجمع بين الاضداد، أو ما يعتقد بأنها مزاوجة بين التقليدية والحداثوية، بالرغم من أن هذا الجمع قد لا يؤدي اكثر من وظيفة تأمين طريق العبور ولكنه لا يؤسس لمرحلة جديدة مستقرة، فالتوجهات المتضاربة تنتج في نهاية المطاف أزمات أخرى من جنسها، ما لم يتم تأثيث المرحلة برؤى وأفكار وتطلعات تتناسب وتنجسم مع المتغيرات الداخلية والخارجية. فالسعودية التي أسست بنيانها السياسي والثقافي والديني على خلفية الاحتكار التام لكل مصادر التوجيه والقوة، نجت من أزمات كيانية في مراحل سابقة، وفي واقع الأمر ان الأزمات جرى ترحيلها الى المستقبل، التي تفجّرت دفعة واحدة في السنوات الاخيرة.

إبراهيم الغيث: الهيئة الى أين؟

هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واحدة من البنى التقليدية التي جرى تثميرها منذ نشأة الدولة لجهة إشاعة خطاب السلطة والاضطلاع بدور الضابط لمتغيرات شهدتها الدولة خلال مرحلة التحوّل، وبخاصة منذ البدء برامج التحديث، وربما نجحت الدولة في تحقيق أكبر إنجاز عبر تحييد تأثيرات التحديث الثقافية والايديولوجية، ولكن تيار التحديث الجارف أحبط مفعول الوظائف المقررة للهيئة. بيد أن العائلة المالكة تصرّ على إعادة تفعيل دور الهيئة ضمن عملية الانتقال الحالية.

عملية التفعيل لدور الهيئة تتم في أتون مظاهر التذمر المتنامية ضد الهيئة، بفعل اقترافات رجالها لكثير من المخالفات الصريحة التي بلغت حداً يتجاوز خصوصيات الافراد الى اختراقها.. يتزايد الحديث عن إعادة تنظيم هذه المؤسسة التي توصف بالشرطة الدينية، وتعزيز دورها في المجتمع. فقد تم تخصيص ميزانية مرتفعة لهذه المؤسسة بنسبة 6 بالمئة أي بإجمالي 351 مليون ريال، كما تم إحداث 577 وظيفة جديدة. تطوير نشاطات الهيئة تمثّل في زيادة الجرعة التكنولوجية، وانشاء مقار جديدة لفروع الرئاسة واستيعاب موظفين جدد بمؤهلات جامعية اضافة الى زيادة الرتب والمرتبات، ولكن ما يلفت الانتباه في هذه الزيادة أنها تأتي في سياق انتقادات واسعة لدور المؤسسة الدينية السعودية التي كان من المنتظر تخفيض دورها في الشؤون الاجتماعية والأمنية والسياسية عوضاً عن زيادة درجة تغلغلها.

قد تنزع العائلة المالكة الى اعادة طلاء صورتها الدينية في الداخل تحت تأثير الضغوطات المتزايدة من قبل التيار الديني السلفي، الذي شعر بخطر الانفكاك بين الحليفين الاستراتيجيين نتيجة التدابير الشكلية التي طالت المناهج الدينية وفرض قيود صارمة على نشاط الجمعيات الخيرية، في مقابل إتاحة هامش من الحريات الفكرية والدينية لجماعات أخرى ظلّت مهمشة لعقود طويلة في الحجاز والجنوب والمنطقة الشرقية. وعلى أية حال، فإن التوجهات داخل العائلة المالكة تبدو متباينة بخصوص طريقة التعامل مع المؤسسة الدينية الرسمية، فبينما يصرّ جناح وزير الداخلية على تعزيز دور المؤسسة الدينية، وعلى وجه التحديد هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تلعب دوراً معاضداً للجهاز الامني، وتحظى بإهتمام وزير الداخلية شخصياً، فإن جناح ولي العهد يحاول أن يطوّر صورة للمملكة في الخارج تقوم على التسامح الديني، والانفتاح على الغرب، واحترام الحريات العامة وتأكيد الخصوصية في أشكالها المختلفة. بيد أن تباين وجهات النظر لا يتنافى مع إجماع كافة الاطراف داخل العائلة المالكة على ضرورة تعزيز التحالف التاريخي والمصيري بين المؤسستين الدينية والسياسية.

قد يفهم من تطوير نشاط هيئة الامر بالمعروف على أنه محاولة لعقد توازن من نوع ما مع سلسلة تطورات اخرى تقوم بها العائلة المالكة لجهة الامساك بخيوط اللعبة الداخلية، وهذا يندرج في إطار التسويات الداخلية التي بدأت العائلة المالكة في إعتمادها كنهج في هذه المرحلة بالذات، بفعل المتغيرات الداخلية والدولية، ولكن هذا النهج وإن حقق بعض الرضى لبعض الاطراف فإنه لا يزال غير فاعل بدرجة كافية، رغم أن خيارا كهذا يظل الأكفأ من حيث قدرته على التعاطي مع مجتمع تعددي، لم تكتمل فيه شروط عملية الاندماج والتكامل.

ثمة تركة ثقيلة من أخطاء الماضي تضغط بشدة على صانعي القرار في هذا البلد، وتعد هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر جزءا من التركة.. وربما حان الوقت لتقويم إجمالي وشامل لجميع انشطتها، فالادوار التي مارستها في السابق قد ساهمت الى حد ما في تعزيز وإستتباب السلطة بدرجة أولى، ولكن ظروف المرحلة الراهنة تتطلب قرارات حاسمة بخصوص عمل الهيئة وربما وجودها، أو تحويلها الى مؤسسة أهلية تمارس عملاً ثقافياً توعوياً بصلاحيات متوازية مع المؤسسات الثقافية والاجتماعية الاخرى. إن بناء مؤسسات المجتمع المدني يستدعي وجود فرص متكافئة، وصلاحيات متوازية من أجل تحقيق توازن فعال في الانشطة الاهلية.

قد تنجح الحكومة في استيعاب الانشطة الاهلية او حتى تشويه مجالات عملها، ولكن بالتأكيد ستخفق في كبت الميول المتنامية نحو الانخراط الكثيف لدى جماعات عديدة في هذا البلد في الشأن العام، فما كان حكراً على مؤسسات وثيقة الصلة بالدولة بات غير مقبول من الناحية العملية. فالتمأسس كحاجة ملحّة شديدة لدى كثير من الجماعات تأخذ أبعاداً معقدة وعديدة، وبموازاة التعزيزات التي تقوم بها العائلة المالكة في مؤسساتها الدينية والاعلامية والثقافية، هناك في مقابلها أصرار على بناء مؤسسات أهلية مستقلة تضاهيها، وإن لم تكتسب صفة القانونية، فما عادت الاخيرة تقف حائلاً أمام الرغبة الجامحة نحو التمأسس.

قليلة هي التغييرات الحاصلة في مجال العمل الاهلي، وبخاصة في موضوعة حقوق الانسان والحريات الفكرية وتبقى الدولة ملزمة بإرساء أسس المجتمع المدني على قاعدة مختلفة، أي الحرية للجميع، ووضع تشريعات كفوءة لحماية حقوق الانسان.

الصفحة السابقة