تمثيل الإرادة الشعبية لا إرادة العائلة المالكة

مجلس الشورى يتحول الى مشكلة

كان الملك فهد يعاني من عقدة (التعليم) وكان يحب دائماً أن يلقب بـ (رائد التعليم) كونه أول وزير تعليم سعودي، بالرغم من أنه لم ينه سوى الدراسة الإبتدائية، وبالرغم من أن إدارة وزارة التعليم الفعلية كانت بيد نائبه. الملك غير المتعلم عكس عقدة نقصه حين عيّن أعضاء مجلس الشورى، فكان أكثر من نصفهم من حملة الماجستير والدكتوراة.

ربما كان الأمراء في اختيارهم أعضاء مجلس الشورى يرقبون بعينين حذرتين ردّ الفعل الغربي والمحلي. على الصعيد الغربي تصور الأمراء أن تعيين حملة الدكتوراة والغرام المفتعل بهم كان إشارة منهم بأنهم إنما اختاروا من تعلم لدى الغرب ـ في الجملة ـ والذين يغلب عليهم طابع الإنفتاح والعصرنة والذين يؤهلهم تعليمهم العالي مساعدة الأمراء وتقديم المشورة الصادقة والصحيحة. وعلى الصعيد المحلّي، فإن الأمراء أرادوا أن يقولوا بأن اختيارهم أفضل من اختيار المواطنين (عبر الإنتخاب) ولا زال الإعلام السعودي يتحدث عن (حملة الشهادات العليا) في المجلس مع أن كثيراً منهم خريجو الشريعة الإسلامية واللغة العربية من جامعة محمد بن سعود، أي أن تخصصاتهم لا تفيد من قريب أو بعيد أمور الدولة، والأفضل أن يبقوا مدرسين في مواقعهم!

مجلس الشورى السعودي، الذي سيزداد أعضاؤه ليصل الى مائة وخمسين عضواً، لا يحتاج الى حملة شهادات عليا بهذا المعنى، ولا مشايخ يملؤون مقاعده كما هو الحال الآن، ولا رجال عسكر متقاعدون، ولا طبالين من رؤساء تحرير وإعلاميين سابقين، ولا زعماء قبائل أو ممثلين عن القبائل كما بشرنا بذلك الأمير سلطان. ما يحتاجه المجلس هو صلاحيات حقيقية لدى المجلس، وما يريده المواطنون هو انتخاب ممثلين سياسيين لهم، أي نواباً عنهم، وليسوا نواباً عن السلطة أو نواب خدمات كما يقال. وهم في أكثرهم ـ كما أثبتت التجربة ـ لم يكونوا نواب خدمات حتى.

أراد أن يكحلها فعماها!

وفي الحقيقة فإن الأمراء يدركون الحاجة هذه، فأرادوا قلبها والتلاعب بالأشكال، حيث أن هناك مئات بل آلاف من حملة الشهادات العليا، ولا يعني وجودهم تحسين الإدارة ولا شجاعة في الرأي ولا نزاهة بالضرورة، كما أنهم لا يمثلون طبقة بعينها، ولا قوى اجتماعية موجودة على الأرض.

إن وجود أعضاء للشورى معيّنين من قبل الأمراء، يتحاصصون تعيينهم عبر لجنة خاصة.. إن هذا النوع من الأعضاء وهذه الطريقة من التعيين لا تحل أزمة التمثيل السياسي الضروري لكل إصلاح إقتصادي واجتماعي وأمني وثقافي تعاني منه البلاد اليوم.. وأقصى ما يمكن للأعضاء عمله هو أن يقوم هؤلاء بسنّ بعض الأنظمة والقوانين (وفي الأمور التافهة) وتمرير بعض قرارات الحكومة التي لا تريد الظهور بها كزيادة الضرائب.

ويبدو أن أمراء العائلة المالكة أتقنوا لعبة التمويه عبر تجريد العملية السياسية من بعدها السياسي، وعبر تحويل الوظائف السياسية الى مجرد وظائف فنيّة مقطوعة الصلة عن أبعادها الأخرى. فحين ضغطت اميركا على الأمراء من أجل توسيع دور الشعب في إدارة الدولة ـ في الستنينيات ـ تم إعطاء دور للتكنوقراط في الوزارة، وزاد عددهم بعد مقتل الملك فيصل عام 1975، ولكن هؤلاء بقوا كموظفين فنيين برتبة وزراء، لا يتدخلون في الشأن السياسي من قريب أو بعيد، بل ونزعت الصفة السياسية من بعض الوزارات الفنية حين شكلت مجالس عليا لأكثر من وزارة يرأسها أمراء (المجلس الأعلى للإعلام، والمجلس الأعلى للجامعات، والمجلس الأعلى للإقتصاد، والمجلس الأعلى للحج، والمجلس الأعلى للأمن الوطني، والمجلس الأعلى للتخطيط، وغيرها..).

وعلى ذات النحو جيء بـ (الدكاترة) في مجلس الشورى، كبديل عن التمثيل السياسي لقوى المجتمع الجديدة، وتمثيل الطبقة الوسطى، الأمر الذي جعلهم موظفين لا يحلون ولا يربطون ولا يحاسبون بل ولا يناقشون المواضيع إلا بإذن. وباختصار كان اختيار حملة الشهادات، والتأكيد على ذلك في الإعلام، يستهدف استخدامهم كغطاء للإستئثار بالسلطة، وربما لإرساء قاعدة التمثيل الشعبي على أساس (خدمي) وليس (سياسي).

لم تتغير وجهة نظر الأمراء حين زادوا عدد أعضاء مجلس الشورى، من ستين الى تسعين الى مائة وعشرين الى مائة وخمسين عضواً.. ولم تكن الزيادة قد خرجت على المألوف، ولم تلغ الحاجة المعلنة شعبياً الى الإنتخابات والى تمثيل صادق لشرائح المجتمع؛ هنا يحاول الأمراء ابتكار وسيلة جديدة، عبر تعيين أعضاء يصنّفون قبلياً ومناطقياً وربما مذهبياً ليقوموا بذات الدور الذي يقوم به حملة الشهادات، وليطلق على العملية (المشاركة الشعبية)!

المجلس أصبح مشكلة

لم يكن الأمراء يريدون من تأسيس مجلس للشورى (حلّ مشكلة) ناشئة من تزايد أزمات الدولة، ومن التطور الطبيعي في المجتمع السعودي وبزوغ فئات عديدة منه تتطلع الى المشاركة السياسية، وهو تطلع تمليه الظروف السياسية والإقتصادية والتحولات الثقافية والفكرية والذهنية التي عصفت بالمجتمع. كانت المطالب بالمشاركة السياسية تعبيراً عن تطور في المجتمع لم يعترف الحكام بوجوده أو بصحته أو بضرورة الإستجابة له والسماح له بالتعبير عن نفسه.

كانت الإستجابة الحكومية مترددة فتم الإعلان عن أنظمة الحكم الثلاثة التي اعتبرت استجابة لتلك الضغوط، لكن تلك الأنظمة (نظام المناطق، ونظام الشورى، والنظام الأساسي) جاءت مشوّهة لا تتواءم مع حجم التطور الإجتماعي والمطالب الشعبية، كما لم تكن كافية لحل أزمات الحكومة بل الدولة كلها.. وها نحن الآن بعد أكثر من عقد، لا نشعر بوجود هذه الأنظمة ولا بفائدتها، ولم تمنع البلاد من الإنزلاق نحو الأسوأ على كافة الأصعدة، كما لم تمنع القوى السياسية ـ خاصة الجماهيرية منها ـ من المطالبة بالإصلاحات، وكأن ما جاء في عام 1993 لا وجود له أو لا فائدة منه البتة.

وهكذا فإن كل ما صدر بشأن التغيير من قوانين ـ لم تفعل في معظمها ـ أو من تصريحات عمومية غير ملزمة يثبت أن العائلة المالكة نظرت الى الموضوع من زاوية (الهرب من المشكلة) او (الهرب من الإصلاحات) وليس الدخول فيها، كما يتبادر لبعض المراقبين الأجانب. فما فعلته العائلة المالكة وتفعله هو الهروب وليس الإلتزام والبدء بحل المشاكل العالقة. حينما يريد الأمراء الهروب من مشكلة أو تجميدها أو الإلتفاف عليها، فإنهم لا يعدمون الوسائل لتزوير إرادة الناس وتضليلهم وإقناعهم بأن الدواء المقدم لهم هو دواء يناسب المرض وأن ذلك الدواء لم تنته صلاحيته.

ومثل هذه الحلول والأدوية، مفعولها آني، إذ أن المريض سيكتشف تدهوراً في حالته الصحية، وسيكتشف بسرعة عدم نجاعة الدواء، حين يحسّ بأن المرض بدأ ينتشر في جسده.. وفي مثل هذه الحالة، يعود الأمراء الى وسيلة جديدة وتجربة عقار جديد غير الأول وبأسلوب ملتوٍ مخادع للذات قبل أن يخدع المواطنين. الأمراء يراهنون على تزوير تطلعات المواطنين، وتخديرهم وهم يعلمون قبل غيرهم أنهم سيفيقون على احتجاج جديد.

هم يعتقدون بأن الشعب سيفيق متأخراً، ولكن هذا لم يحدث. فمنذ إعلان الأنظمة الثلاثة والبلاد لم تهدأ: المزيد من العنف، المزيد من التدهور الأمني، المزيد من التدهور الإقتصادي، المزيد من انحطاط شرعية العائلة المالكة على المستويين الوطني والديني. إن المدهش حقاً هو أن مجلس الشورى ـ وبعد أن انجلت غبرة الإعلام ـ صار في خبر كان، ولم تعد مؤسسات الدولة الأخرى مقنعة في أدائها، حيث انفرط عقد الثقة بالعائلة المالكة وبقدراتها على تلبية حاجات المواطنين الأساسية.

الجميع يدرك اليوم بأن الحكومة إنما تختار مجلساً لا يفيدها كما لا يفيد المواطنين أنفسهم. لقد اختاروا ولازالوا أشخاصاً ضعافاً لا يستطيعون ولن يسمح لهم بحل أي مشكل أو تحمل أي مسؤولية جادة، فـ (الشيوخ أبخص) دائماً. فكيف سيحل الأمراء مشاكل البلاد السياسية والإقتصادية والإجتماعية بشخصيات لا مكانة لها كبيرة في المجتمع ولا صلاحيات لها مطلقاً في نقاش (فضلاً عن تقرير) موضوع جاد. إن من ينظر الى تشكيلة الأسماء للمجلس سيجد الكثير من الطيبين بينهم، ولكن الطيبة لا تحل مشكلة ولا تقود وحدها مجتمعا في طريق الأمن والسلام. وسيجد بين الأسماء بعض الكفاءات، ولكنها معطّلة لا تستطيع الخروج على نظام مجلس الشورى المعدّ بعناية تفرغ محتواه. وسيجد الى جانب هؤلاء الكثير من الجبناء والعاطلين عن العمل، والعجزة، والمتملقين.

فهل اختيار العائلة المالكة كان صائباً؟!

نعم كان صائباً، لأن هذا ما كانت تريده هي: مجلس ضعيف معيّن بلا صلاحيات.

إن المجلس بتركيبته الحالية وبلوائحه وأنظمته المقيدة وبطريقة اختيار أعضائه، فشل وسيستمر في فشله في أن يكون ذا قيمة، وستتجه الأوضاع الأمنية والسياسية الى المزيد من التسمم. وسيكون المجلس علامة فارقة في تزوير الإرادة الشعبية، وهو اليوم لا يحظى بأيّ تعاطف ولا ينظر إليه بصدقية.

وإن زيادة أعضاء مجلس الشورى لا يفيد، فليست المشكلة في الكم، كما يعتقد بعض الأمراء.

المشكلة في وجود مجلس آن له أن يُكنس ويتمّ اختيار مجلس جديد يمثل ارادة الشعب لا إرادة الحاكم.

الصفحة السابقة