إهتزاز نظام العائلة المالكة

(شيخ القبيلة) الغائب

عبد العزيز: الملك المطلق

تصنّف السعودية بوصفها ملكية مطلقة، يضطلع فيها الملك بدور الحاكم والمالك، ويجمع بيده سلطات الحكم، وإليه تعود أمور الدولة جميعاً، فهو يصدر القرارات ويصادق على القوانين والانظمة، وهو القاضي الاعلى الذي يشرف على جميع الاحكام وهو يعين الوزراء ووكلاء الوزارات وقادة الجيش ورؤوساء القضاء وأمراء المناطق واعضاء مجلسي المناطق والشورى، وهو يقيلهم، وهم جميعاً مسؤولون أمامه عن جميع أعمالهم، ولا يتم تنفيذ السياسات والقرارات المهمة والمصيرية الادنى والاعلى منها من حيث الاهمية الا بأمر منه.. وعلاوة على ذلك فهو يمارس دور شيخ القبيلة داخل العائلة المالكة، الذي يمثل رمزها المعنوي، وناظم أمرها، ووحدتها، وتماسكها.

وفوق هذا الرأي يمكن القول بأن المملكة محكومة بنظام عشائري، لأن الأقدر والأقوى هو الذي يحكم في العشيرة بينما يحتفظ كبار السن في العائلة أو العشيرة بسلطة رمزية ومعنوية. فالملك يمثل القوة الضابطة للتوازن الداخلي في العائلة المالكة، وصاحب الكلمة الفصل في حسم الخلافات التي تنشب بين أجنحة الحكم. وقد أسس الملك عبد العزيز بوحي من تجربته الفريدة في إدارة شؤون الدولة بطريقة انفرادية تقليداً داخل العائلة المالكة يمنح بموجبه من يتولى العرش سلطة معنوية وادارية مطلقة. وبطبيعة الحال، فإن هذا التقليد يتوقف أيضاً على الخصائص الذاتية للملك. ففي بعض الاحيان، كان الملك قادراً على تحقيق التوازن داخل نظام الحكم كونه يتمتع بصلاحيات مطلقة، وفي الوقت نفسه يحظى بقوة معنوية داخل العائلة المالكة، هذا لا يلغي ما جرى لموقع الملك من تراخي في سلطته وصلاحياته، فبينما كان الملك عبد العزيز وفيصل يمثلان الحكم المطلق، إذ كانا يمسكان بكافة السلطات، فإن سعود وخالد واجها مشاكل صعبة، فقد كان الملك سعود يعاني من المرض، والافراط في حياة البذخ، فيما كان الملك خالد يعاني المرض، وضعف الخبرة السياسية، والتي تمنعه من التدخل في الحكم.

وفي ضوء التجربة التأسيسية للدولة، فقد كانت السعودية في عهد الملك عبد العزيز وحتى وفاته 1953 ملكية مطلقة. فبعد خمسين سنة من حكمه، أي منذ دخوله الرياض واحتلالها عام 1902 وافق الملك عبد العزيز وقبل بضعة أسابيع من وفاته على إنشاء مجلس الوزراء عام 1953 بهدف إشراك أبنائه في السلطة. وبفعل التنافس الحاد بين أبنائه على السلطة، جعل الملك عبد العزيز من أبنائه البالغ عددهم 37 إبناً وأشقائه العشرة حلفاً له في قبالة المنافسين غير الاشقاء.

ومن الناحية التاريخية، فإن المملكة السعودية مرّت بمرحلتين: الاولى مرحلة عبد العزيز وكان فيها ملكاً مطلقاً بالفعل ومسؤول أمام نفسه فقط رغم حاجته لولاء الزعامات القبلية خارج عائلته. فالملك عبد العزيز هو الذي قرر اقامة العلاقة مع الانجليز وهو الذي قرر قطعها وربطها بالاميركيين عبر الاتفاقيات النفطية، وهو الذي كان يدير السياسة الخارجية ويملي البرقيات وهو الذي كان يلقي على إبنه فيصل الموكل بادارة السياسة الخارجية ما يجب ان يصرح به وما يقال في مؤتمر لندن حول فلسطين عام 1938 ويملي على موفده في الجامعة العربية موقفه من القضايا المطروحة.

والمرحلة الثانية هي مرحلة التأسيس الاداري للدولة حيث كان الملك رغم تمتعه بصلاحيات واسعة ومطلقة غالباً الا أنه كان مضطراً الى تنظيم جهاز الدولة إضافة الى حاجته لتحقيق التوافق الداخلي للعائلة المالكة سيما المتعلق منها بالقضايا الهامة والمصيرية.

ويقدر عدد أفراد العائلة المالكة مابين 7000 ـ 10000 آلاف فرداً يهيمن كبار الامراء على سلطات الحكم المركزية والاقليمية فيما يحتل الأمراء الصغار المراتب العليا في الخدمة المدنية والمؤسسات والهيئات الحكومية والقوات المسلحة والاعمال الخاصة الكبيرة. إن حجم العائلة وانتشارها يشكِّل دفاعاً قوياً عن نظام الحكم، وأفراد العائلة المنبثون في الجهاز الاداري للدولة هم مصدر هام للمعلومات عن كل ما يجري ولكن تبقى مسألة وحدة القبيلة مشوبة بالضعف كلما توزعت النزعات والطموحات داخل فروع القبيلة وأجنحتها والأمراء الصغار (إن زيادة الحجم تضعف من النفحة (السحرية) للملكية، وتخفض مكانة العائلة المالكة الى مجرد طبقة ممتازة أو طائفة تخلِّد نفسها بحظر جائر على الزواج من العامة لا سيما بالنسبة للاناث منها) على حد نداف سافران.

صلاحيات مطلقة وشخصية هزيلة

إن توارث المواقع الحساسة لنظام الحكم موضع تنافس وصراع في أوساط اجنحة القبيلة، رغم الشعور العام داخل العائلة المالكة بأن الوحدة هي الضمان الوحيد لبقائهم، الا أن التجارب التي شهدتها البلاد أثبتت وجود نزعات داخلية وصراعات على الحكم بين الافراد تتجاوز ذلك الشعورالعام، كما ظهر بجلاء في تجربة الامراء الاحرار في بداية الستينيات، وتجربة سعود بعد عزله وقيادته جبهة معارضة من مصر ضد أخيه فيصل واغتيال الأخير من قبل أحد اعضاء الاسرة المالكة، وهكذا الصراعات الخفية بين الاجنحة الكبيرة داخل العائلة المالكة.

لا ريب أن حاسة البقاء قد أدّت بالعائلة المالكة الى استئصال الأمراء عديمي القدرة من تشكيلة السلطة وصرفهم الى مواقع البحث عن الثروة الأقل شأناً، حسب وليام كوانت. فهناك رغبة جامحة لدى الجناح السديري مثلاً الى تقليص نفوذ ولي العهد الامير عبد الله قبل تتويجه رسمياً ملكاً للبلاد بعد الملك فهد، تماماً كما هي رغبة الامراء في تعزيز مراكزهم عن طريق تسليم أبنائهم مناصب عليا في الوزارات الحساسة وخصوصاً الدفاع والداخلية، وهناك رغبة أيضاً للتخلص من بعض الامراء المشاغبين أو تقليص صلاحياتهم، فمن المعروف ان الملك فهد وأخوته يميلون الى عزل سعود الفيصل عن وزارة الخارجية وتعيين بندر مكانه.

وعلى أية حال، فثمة إرادة جماعية داخل العائلة المالكة على إبقاء مسألة السلطة سرية للغاية، لا يجوز لغير أبناء العائلة الاطلاع عليه. يقول وليام كوانت (إن القناع المسدل على مجموعة العمل داخل الاسرة السعودية نادراً ما يُرفع ويُنظر الى من يريد إختراق هذا الستار بأنه عدو. ببساطة فإن القادة السعوديين، يرون أنه ليس من شأن أحد أن يعرف كيفية إتخاذ القرارات حيث أنه يعتبر شأناً عائلياً). فالحكومة في نظر العائلة المالكة هي شأن عائلي، وهي حكومة فريدة من نوعها في السعودية.. هي ديكتاتورية فريدة حيث تهيمن العائلة بصورة كاملة على الدين والدولة والمسجد والحكم، فهي تستنكر الحريات الشخصية الممنوحة من قبل الديمقراطيات الغربية..

أبناء عبد العزيز هم مجلس العائلة

ليس مجلس العائلة سوى الاطار الجامع الذي ينضوي تحته أبناء المؤسس الملك عبد العزيز، وفيه يتم تداول القضايا المصيرية المرتبطة بسلطة العائلة المالكة، وهكذا تسوية المشكلات بين أفراد الاسرة. وفي الغالب يكون الملك رئيس المجلس حيث يحظى بسلطة أبوية وهيبة وسط أفراد العائلة، ويمارس دور زعيم العشيرة الذي لا يسبقه أحد بالقول وهم لأمره متبعون، فإذا تحدث لاذ الجميع بالصمت، واذا صمت لا يعدوه أحد بالكلام الا بعد الاستئذان منه.

فالعائلة المالكة تعقد إجتماعاتها المنتظمة خارج البروتوكولات الرسمية وبعيداً عن الاضواء ووسائل الاعلام، لأنها من الشؤون السرية التي لا يسمح لأحد الاطلاع عليها. وغالباً ما يحضر كبار الامراء من أبناء الملك عبد العزيز الذين يعوّل عليهم في الرأي وصناعة القرار، فيما يتولى بعضهم دور المنسّق بين اعضاء المجلس، وقد يكون لأحدهم سلطة معنوية خاصة لتسوية الخلافات بينهم.

وتقسّم العائلة المالكة الى عدة أقسام:

1 ـ السديريون السبعة: أبناء حصة بنت السديري (فهد، سلطان، سلمان، نايف، تركي، عبد الرحمن، أحمد).

2 ـ ثلاثة أشقاء لأم سديرية: سعد، مساعد، عبد المحسن.

3 ـ ألأمراء الأحرار: (أشقاء ثلاثة): طلال، بدر، نواف وهم مبعدون عن الحكم.

4 ـ أبناء الملك سعود (40 إبناً): وهم يتحملون تبعات والدهم.

5 ـ أبناء الملك فيصل: سعود (الخارجية)، خالد (حاكم عسير)، تركي (رئيس الاستخبارات سابقاً وسفير السعودية في لندن حالياً)، محمد (تاجر أعمال)، وعبد الله (شاعر وتاجر).

6 ـ عبد الله، وليس له تجمع ولكنه ممثل عن قبيلة شمر القوية ولها تجارب مشهورة مع نظام آل سعود.

7 ـ أبناء السديريين السبعة: (أبناء فهد)، (أبناء سلطان)، (أبناء سلمان)، (أبناء نايف)..

8 ـ أبناء عبد الله وهم يعملون تحت مظلة والدهم داخل جهاز الحرس الوطني ويضطلعون بأدوار استشارية في جناح والدهم.

ومن أجل فهم طبيعة العلاقة بين هذه الاقسام، يذكر سعيد الغامدي في (البناء القبلي والتحضر في المملكة العربية السعودية ص 140 ـ 141) ما نصه: (ليس هناك فروقاً واضحة في العلاقة بين الابناء (الاخوة) الاشقاء وغير الاشقاء في حياة الأب (لأن رب العائلة لا يسمح بظهور هذه الفوارق) وبعد وفاة الأب نلاحظ (أن الاشقاء ينحازون مع بعضهم البعض بينما يبقى غير الاشقاء في طرف آخر)، والسبب في ذلك أن (مجموعة الاشقاء بحكم شعورهم بأنهم من بطن واحدة ورضوا من ثدي واحد تنشأ بينهم علاقة أقوى..) الا أن هذه العلاقة مهما تطورت فإن ذلك لا يعني انفصام العلاقة بين الاخوة الاشقاء وغير الاشقاء بل إن الطرفين يحاولات الابقاء على هذه العلاقة وحصر الخلاف القائم داخل نطاق العائلة).

وعلى أية حال، فإن ظهور التشققات في بنية العائلة المالكة فرضت وبالحاح شديد الحاجة الى وجود شخصية قيادية مؤهلة لاستيعاب النزوعات المتباينة داخل العائلة وفي الوقت نفسه إدارة الصراع في داخلها بطريقة تفضي الى الانسجام داخل السلطة. إن دور شيخ القبيلة خطير كونه يحفظ توازن القبيلة وتماسكها ويحسم نزاعاتها كما فعل عبد العزيز (شيخ آل سعود)، وبعد موته حدث فراغ قيادي حقيقي حيث لم يكن هناك شيخ لقبيلة آل سعود يمكن أن يتولى دور أبيه ولذلك حدثت اضطرابات ونزاعات داخل القبيلة ولم تهدأ الا بعد اقالة سعود واعتلاء فيصل العرش الذي سار على منوال أبيه وتمكن من تولي دور (شيخ القبيلة).

كان يحكم ولا يملك فصار يملك ولا يحكم

فقد كان دور الملك عبد العزيز الضابط لتماسك الدولة والقبيلة الحاكمة مصيرياً، إذ لم يكن تصور غيابه عن المسرح السياسي سيبقي على تلاحم ووحدة الدولة. كتب نائب القنصل الاميركي في عدن عام 1932 الى وزير خارجيته وكان يتابع التطورات السياسية في الجزيرة العربية بأن المملكة ليس مقدّراً لها أن تعيش بعد مؤسسها فحتى لو قامت الدولة العربية الموحدة اليوم على يد ابن سعود، فإنها من الواضح ستسقط بعد موته تحت تأثير نزاعات الانشقاق بين الورثة.

وفي سياق التعامل مع مشكلة الزعامة داخل العائلة المالكة في عهد الملك سعود، اضطر الامراء للتدخل خشية انفراط الوحدة الداخلية والذي قد يؤدي الى انهيار حكم آل سعود. ففي شهر مارس 1958 عقد تسعة من أخوة الملك سعود (عبد الله، عبد المحسن، مشعل، متعب، طلال، مشاري، بدر، فواز، نواف) اجتماعاً في قصر الفاخرية بالرياض (قصر الامير طلال)، وكانوا قد استمعوا لخطاب عبد الناصر من إذاعة القاهرة حمل فيه على سعود ومؤامرته ضد سوريا، وكانوا على علم بالمشاكل المالية فسافر طلال الى سعود في المدينة المنورة وتحدث معه حول المؤامرة على سوريا ولكنه قوبل بالتهجم ونفى سعود ارتباطه بالمؤامرة، وكان فيصل آنذاك في أميركا وبقي لعدة أيام للعلاج عن ورم في معدته وفور عودته جاءه طلال وأخبره عن اجتماع الاخوة التسعة، ولما وصل الى قصر الفاخرية كان لدى طلال وبدر ومشعل اقتراحات معينة بوضع دستور محدد واشراف أبناء عبد العزيز في الحكم وتحديد صلاحيات الملك وحين تم عرضه على سعود قبله على الفور.

وفي 22 مارس 1958 توصل الاخوة الى إتفاق، وفي وقت لاحق قطعت إذاعة مكة برامجها الدينية لتعلن ان الملك سعود قد أوكل أمر الحكومة لأخيه فيصل وقالت الاذاعة أن سعود سيبقى ملكاً لكن فيصل سيتعهد بإدارة شؤون المملكة اليومية. وتسلَّم فيصل وزارة المالية لغرض ضبط مصروفات العائلة المالكة ولكن وجد في الميزانية فقط 317 ريالاً التي أصبحت رقماً فولوكلورياً يتغنى به أنصار فيصل الذي أنقذ البلاد من الضائقة المالية. قاد الملك فيصل البيت السعودي، وحاول حلحلة بعض القضايا العالقة مثل الثروة النفطية، ومتطلبات التحديث، ثم انتقل الى قضايا خارجية كالحرب الاهلية في اليمن ثم حرب اكتوبر.

ومن خلال تتبع مسيرة الحكم السعودي بعد الملك ـ المؤسس يظهر أن الملك فيصل الذي تولى رئاسة مجلس الوزراء عام 1954 أعطي صلاحيات استثنائية في عام 1958 ولكنه استقال عام 1960 تحت ضغط الملك سعود الذي كان يسعى لاستعادة صلاحياته المطلقة، وفي تشرين الثاني ـ نوفمبر 1963 عُيِّن مجدداً رئيساً للوزراء، وأضطر سعود الى تسليم العرش لشقيقه فيصل بعد أقل من سنتين. وقد كان فيصل قد شعر بأنه أقل حاجة للتشاور وأنه راهن على إجماع العائلة على سياسته الخارجية. وعموماً، فإن التشاور في وسط العائلة المالكة يتم في حدود القضايا الداخلية اما القضايا الخارجية فلها أقطاب في العائلة يناقشونها.

وقد حاول اقطاب العائلة المالكة بزعامة الملك فيصل التصدي بجدية أكبر للمشكلات التي قد يتسبب بعض أفراد العائلة المالكة فيها. ففي سبتمبر 1965 قاد الأمير خالد بن مساعد مجموعة صغيرة من رفاقه في مسيرة اتجهت نحو محطة التلفزيون الواقعة في ضواحي الرياض التي كانت قد افتتحت قبل بضعة أشهر من ذلك التاريخ وقرروا تدميرها ولكنه قتل برصاص اطلقه الفريق محمد بن هلال.

بعد اغتيال الملك فيصل عام 1975 تم تعيين الملك خالد، ولكن بسبب ضعف الاخير في الادارة والحكم أعطى ولي عهده الأمير فهد سلطات واسعة لإدارة الشؤون الداخلية للبلاد، وكان مجلس العائلة قد اتخذ معظم هذه القرارات بما فيها الاعلان رسمياً عن نبأ الاغتيال، حسب أميل نخلة.

ومن خلال تجربة الملك سعود في الحكم تم الاتفاق على نقاط محدد بين العائلة المالكة:

1 ـ من الضروري للملك ان يستند الى دعم الامراء النافذين سياسياً ومعنوياً.

2 ـ لا يمكن تحمل الفساد الفاضح الى ما لا نهاية.

3 ـ ان العشيرة تحدث تغييراً بطيئاً في نظام الحكم من أجل المحافظة على واجهتها ووحدتها في مواجهة العالم الخارجي.

4 ـ يمكن للأحداث الخارجية أن تلعب دوراً في السياسة المحلية ومن ذلك عدم كفاءة سياسات الملك سعود للتعامل مع عبد الناصر.

لقد سعت العائلة المالكة تجاوز إشكالية غياب شيخ القبيلة خلال عهد الملك خالد الذي لم يكن سوى رمزاً ضعيفاً لسلطة يراد تعزيزها، فأرخى العنان لولي عهده كيما يمارس سلطة مطلقة مع احتفاظه هو بدور شيخ القبيلة وإن بصورة معنوية. وحاول الملك فهد خلال ولايته للعهد أن يمد سلطاته ليس على الجهاز الاداري للدولة فحسب بل وحتى داخل العائلة المالكة مستعيناً بالعصبة السديرية التي بدأت تتغلغل داخل الدولة. وفور وصوله الى العرش عام 1982 ورث دور المؤسس في إدارة شؤون العائلة المالكة بطريقة أبوية، وقد أسبغ على سلطته معنى إضافياً، من خلال الامساك بكافة خيوط اللعبة، وهو ما أثار حفيظة الاجنحة الاخرى التي شعرت بفداحة نفوذ الملك فهد في العائلة المالكة وفي تقرير السياسات العامة للدولة.

ولعل من الخلافات البارزة التي ظهرت خلال حقبة الملك فهد بين جناح الامير عبد الله والجناح السديري او ما عرف لاحقاً بجناح آل فهد ما ظهر منها أولاً خلال عهد الملك خالد، وتحديداً بعد أحداث عام 1979 من ابرزها الحرب العراقية الايرانية والغزو السوفييتي لأفغانستان، أحداث مكة والمنطقة الشرقية، اتفاقية كامب ديفيد، وهي أحداث دفعت السعودية لتعزيز التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وبخاصة في في المجال الدفاعي والامني.

تحدي انفراط الملك

يؤمن الامير عبد الله وآخرون داخل العائلة المالكة بأن التعاون السعودي مع الولايات المتحدة في القضايا النفطية بمثابة مصيدة خافية للتعاون مع امريكا، بينما يؤمن فهد وآخرون بان جهداً إضافياً كان ضرورياً في مناسبات ملائمة لضمان التواصل الاميركي. وكانت السعودية وقعت في عام 1974 إتفاقية تعاون مع الولايات المتحدة وأدّت الى تشكيل لجنتين: اقتصادية وعسكرية يشرف على أعمالها الأمير فهد ووزير الخارجية سعود الفيصل.

وفي الثاني من مارس عام 1979 نشرت ميدل إست انترناشيونال خبراً مفاده أن خلافات كبرى نشبت داخل العائلة المالكة، حيث كان الامير عبد الله يسعى للتقارب مع موسكو، فيما كان الامير سلطان يبحث عن إمكانية الوصول الى معاهدة دفاع مشترك رسمية بين واشنطن والرياض والتي تسببت في إلغاء زيارة فهد لواشنطن لخلافات العائلة بسبب العلاقة مع واشنطن. وقد تزامن ذلك مع اتفاقية كامب ديفيد ومؤتمر بغداد، حيث ظهرت خلافات داخل العائلة المالكة حول سلام مصر واسرائيل، وقد اتخذت المملكة مجموعة قرارات ضد مصر بعد قبولها بمشروع السلام مع اسرائيل، وكان فهد قد واجه ضغوطاً متزايد وسط العائلة المالكة حيث لم يكن راغباً في التورط في هذه القرارات، ولذلك بدأ في مايو 1979 خطوته باتجاه المنفى الاختياري الذي زاره فيه الملك خالد والامراء عبد الله وسعود الفيصل والامير سلمان وهم جميعاً يشكلون جبهة مقابلة لجبهة فهد في مؤتمر صحافي عقده ثلاثة أمراء في 12 مايو مع الرئيس الفرنسي فاليري جيسكاردستان نفوا جميعاً الشائعات التي تتحدث عن خلافات حادة داخل العائلة المالكة.

وقد ظهرت خلافات داخل العائلة المالكة إبان أزمة الخليج الثانية، وذكر بوب وود وورد في كتابه (القادة) عن قصة الاتفاقيات التي سبقت قدوم القوات الاميركية الى السعودية إبان أزمة الخليج الثانية بين وزير الدفاع الاميركي وقادة البنتاغون والملك فهد بحضور أفراد العائلة المالكة وكيف كان الأمير عبد الله يتساءل بانزعاج عن مدة بقاء القوات الاميركية في السعودية.

شيخ القبيلة بعد مرض الملك.. وظيفة شاغرة

منذ أن أقعد المرض بالملك فهد عام 1996 أصبحت العائلة المالكة تعيش فراغاً قيادياً يعكس الخلافات الداخلية التي تحول دون عزل الملك فهد وتعيين ولي العهد الامير عبد الله مكانه. فقد بقيت العائلة بلا رأس وبلا شيخ قبيلة يملك سلطة الحسم، فقد تنازعتها عدة مراكز قوى داخل العائلة، وباتت صناعة القرار تتم بطريقة أكثر غموضاً، تعكس ذلك التصريحات والتوجهات المتضاربة وبخاصة بين ولي العهد ووزير الداخلية.

لقد أحدث مرض الملك وبقاءه في السلطة خللاً عميقاً في نظام المشيخة لدى العائلة المالكة، فأبناء الملك يصرّون على ابقاء الملك فهد على رأس السلطة ولو بصورة رمزية أفضل من نقل السلطة رسمياً الى ولي عهده بما يعرّض بصلاحيات جنوها تحت مظلة والدهم، تماماً كما هو الحال بالنسبة لأشقاء الملك الذين يدركون تماماً بأن انتقال رأس السلطة الى ولي العهد سيؤدي الى انتقال الثقل السياسي من الجناح السديري الى جناح ولي العهد، الذي يحمل في جعبته أفكاراً في التغيير قد تكون متوافقة او متعارضة جزئياً او كلياً مع توجهات السديريين، بالنظر الى ما يتمتع به الملك من صلاحيات واسعة ومطلقة، وفي ظل نظام تشريعي يفوّض الملك مطلق الصلاحية فإن ذلك يعني تسليم الملك القادم سلاحاً استراتيجياً فاعلاً قد يؤدي الى نشوب صراع كبير على السلطة داخل البيت السعودي، في ظل تنامي الطموحات السياسية داخل البيوتات الملكية.

طيلة السنوات التي أعقبت مرض الملك كانت هناك محاولة لاعادة ترتيب البيت الداخلي، ولكن بطريقة تقاسم السلطة وفرض حالة توازن داخل العائلة المالكة، وقد بادر الاقوياء في الجناح السديري الى تعزيز مواقعهم في محاولة لفرض واقع لا يمكن تغييره على المرحلة القادم، ورسم مسار محدد للملك القادم لا يمكن تجاوزه.

وعلى أية حال، فإن غياب شيخ القبيلة لفترة طويلة قد يذكي الصراعات الكامنة داخل العائلة المالكة وقد يؤدي الى انقسام داخل السلطة يصعب في وقت لاحق معالجته، الا بعملية جراحية. إن الاجماع التام داخل العائلة المالكة على الالتزام بوحدة العائلة ضد التهديدات الموجهة اليها في الداخل او الخارج قد ينفرط بمرور الوقت حين تأخذ الاختلافات أشكالاً تحزبية واستقطابات حادة ترهن نفسها للمصالح الخاصة اكثر من ارتهانها للمبادىء المطلقة غير المربحة.

الصفحة السابقة