نساء بلا ظل

البنية الفقهية مرة أخرى

حمزة قبلان المزيني

ليس من المروءة استغلال ما حدث من تطورات تتصل بظهور الدكتور عائض القرني في فيلم ''نساء بلا ظل'' وإدلائه ببعض الآراء عن حجاب المرأة التي عُدَّت مخالفة لما كان يقول به هو نفسه قبل سنوات ولما عليه الرأي المعمول به عند التيار الديني السائد في المملكة، ثم إصداره بيانا يعلن فيه رجوعه عما رآه من رأي ''متسامح'' في شأن تغطية المرأة وجهها نتيجة لـ''تسديد'' بعض ''العلماء'' له، كما قال في بيانه المشار إليه.

المزيني: السلفية تقاوم التجديد من داخلها

غير أن هذه الواقعة ربما تتيح لنا مرة أخرى زاوية للتأمل في أسباب ما نعانيه منذ عقود من مشكلات عميقة تتصل ببعض الاختيارات الفقهية والطرق التي نقارب بها الشأن الديني عموما.

ولم يكن الدكتور القرني الوحيد الذي مر بمثل هذه المحنة، فقد مر بمثلها بعض أعضاء ''هيئة كبار العلماء'' بعد أن صرحوا بآراء تتصف ببعض المرونة المتحفظة عن أمور تخص المرأة، إذ تعرضوا لكثير من التبكيت والتأنيب والوعيد إن لم يعلنوا على الملأ تراجعهم عن تلك الآراء التي لا ترضى عنها بعض العلماء والدعاة (ولست بحاجة إلى ذكر تلك الحالات، إذ يعرف قراء ''الوطن'' بعضها لأن صحيفة الوطن كانت مسرحها. كما كان الدكتور القرني ضحية لبعضها).

ومع تعاطفي العميق مع الدكتور القرني في هذه المحنة إلا أن حدوث مثل هذه الواقعة مرة تلو المرة يشير إلى أمور خطيرة تعاني منها البنية الفقهية التي تستند إليها تلك المؤسسة.

وقد كنت كتبت في هذه الصفحات مقالا بعنوان ''التقليد ليس علما''، عرضت فيه لرأي الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ الذي يقضي بأن وصف ''العالِم'' لا ينطبق في حقيقته إلا على من يصل إلى مرتبة الاجتهاد والخروج من تقليد الآخرين ليصل إلى التفرد بآراء خاصة به يصل إليها عن طريق البحث الدؤوب والتفكر العميق.

لكن الواضح أن البنية الفقهية تمنع، حقيقة لا مجازا، أن يصل أي مشتغل بالعلم الشرعي في المملكة العربية السعودية إلى مرتبة الاجتهاد غير المقيد بآراء السابقين واختياراتهم. ذلك أن البنية تضع حدودا صارمة على حرية التفكير الفقهي مستخدمة حججا كثيرة لم تكن سائدة في عصور ازدهار المدارس الفقهية الإسلامية الرائدة في القديم، بل ربما تلجأ إلى استخدام سلطتها الدنيوية لتحقيق ذلك.

وحالة الدكتور القرني نموذجية في تبيينها لهشاشة هذه البنية. فقد تضمن ذلك الفيلم بعض آرائه الجريئة التي تخالف الرأي العام عن غطاء المرأة وجهها، إذ رأى أن هذا الأمر من الأمور الفقهية الخلافية منذ القديم، وهو ما يوحي بإمكان التسامح مع المرأة التي تكشف وجهها.

لكن مخرجة الفيلم أوردت تسجيلا صوتيا قديما للدكتور عائض يخالف اختياره هذا. وقد احتج الدكتور القرني في البداية، لا على إيراد المخرجة رأيه الأخير، بل على إظهاره بمظهر المتناقض الذي يقول الآن برأي يخالف ما كان يقول به من قبل وكان يعده أمرا لا خلاف فيه. كما احتج، وهو محقٌّ، بأنه حتى إن بدا لبعض مشاهدي الفيلم أنه وقع في تناقض إلا أنه لا غرابة أن يوجد مثل هذا ''التناقض'' بين قولين يفصل بين صدورهما عنه زمن طويل غيَّر فيه من آرائه. وقد استشهد على شرعية هذا الاختلاف بين ما يقوله الآن وما كان يقول به في قديم أيامه بأن هذا دأب العلماء الراسخين الذين يصح اتخاذهم قدوة كالشافعي الذي غيَّر بعض آرائه نتيجة لانتقاله من بيئة إلى أخرى.

لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد تعرض الدكتور عائض لحملة مكثفة من الاستنكار على المستويات الدينية كلها تقريبا، بالإضافة إلى استنكار كثير من الناشطين الذين ينتمون إلى البنية الفقهية نفسها من خارج تلك المؤسسات، وأورد الدكتور القرني في بيانه أسماءهم.

وتحت ضغط هذا المد الهائل من الاستنكار اضطر الدكتور القرني إلى إصدار بيان نشرته الصحف يوم الثلاثاء 10/3/1426هـ يعلن فيه تراجعه عن رأيه الذي تضمنه فيلم ''نساء بلا ظل''.

ويمكن أن نلاحظ في هذه الزوبعة كيف أن الدكتور القرني الذي لا يقل تحصيلا علميا عن كثير من المنتسبين للعلم الشرعي يستسلم بهذه السهولة لهذه الضغوط من غير أن يتمنع ليدافع عن رأيه محتجا بآراء علماء بارزين من علماء الإسلام في القديم أو ببعض العلماء البارزين المعاصرين في العالم الإسلامي ممن لا يقلون مكانة عن ''العلماء'' الذين ''سددوه''.

إن في هذا الاستسلام السريع دلالة واضحة على أن التيار الديني السائد في المملكة لا يقبل بأي رأي يخالف رأيه حتى إن كان القائل به من المنتسبين، فعلا، إلى البنية الفقهية والفكرية نفسها التي يستند إليها. إنه لا يتيح لمن يخالف رأيه أية مساحة لكي يدافع عن نفسه حتى بالاحتجاج بأنه إنما يشترك فيما يراه مع علماء مسلمين يعتد بهم قديما وحديثا، أو أنه مجتهد ربما لا يتفق اجتهاده مع ما تراه المؤسسة الدينية، لكن هذا لا يمثل مشكلة، بل إنها تفرض عليه، بدلا من ذلك، أن يعلن على الملأ أنه مخطئ ولم يوفق للصواب وأنه اعتمد على آراء مرجوحة لعلماء لا ينتسبون لهذه البلاد.

ومن المؤلم أن يُلجأ طالب علم له مكانته المرموقة في السياق الاجتماعي في المملكة لأن يعتذر بصورة ربما تُعدُّ إدانة لثقافتنا الدينية ذاتها، بل إدانة لنا جميعا في محاولتنا الدفاع عن الإسلام وعن أنفسنا أمام الاتهامات العنيفة الباطلة التي نتعرض لها من جهات ترى أننا سبب البلاء والإرهاب اللذين يحيقان بالعالم الآن.

ويتبين هذا مما قاله الدكتور القرني في بيانه، معتذرا عن رأيه الذي عبَّر عنه في ذلك الفيلم المشؤوم. فقد سوغ مشاركته في الفيلم، في بداية بيانه، بأنه رأى: ''... في المشاركة في هذا البرنامج مصلحة في مخاطبة شعوب وأطراف لم تسمع منا، وهي بأمس الحاجة إلى السماع منا اليوم''. ثم تأتي الطامة في قوله: ''وحيث إن هذا الكلام موجه للغرب فالمناسبة والمقام اقتضت ما سبق''. أي إن الرأي المتسامح الذي رآه لا يمثل رأيا مبدئيا بل رأيا يصلح لخطاب الغربيين وحسب.

ويكشف هذا الاعتذار الأخير عن طرف من هذه البنية الفقهية التي أشرت إليها. فهو يشهد بأن لنا خطابين: أحدهما موجه للداخل يتصف بالتمسك بالآراء المتشددة الخاصة بالمرأة، والثاني ''متسامح'' جاهز للتصدير للخارج في محاولة لخداع الآخرين ظنا أننا بذلك ندافع عن أنفسنا.

والواقع أن اللجوء إلى مثل هذا الاعتذار إنما يكشفنا أمام العالم. فكيف نتوقع، إذن، ممن يقرأ هذا الاعتذار أن يثق بما نقول وأن يصدقنا حين نتحدث عن''سماحة الإسلام''، وعن ''رفض الإسلام للعنف''، وعن ''الحوار'' وعن ''قبول التعايش مع الآخر''، وغير ذلك؟

أليس العالم الخارجي معذورا، بعد هذا، إن شك في نياتنا ولم يعر محاولاتنا للدفاع عن أنفسنا أي اعتبار؟ أيمكن أن نلوم الآخرين حين يتهموننا بازدواج المعايير؟ أيمكن لنا بعد مثل هذا الاعتذار أن نلوم الآخرين على عدم فهمهم لنا، فيما نزعم؟ أيمكن أن نحتج عليهم بأنهم يفسرون كلامنا بغير ما يقتضيه؟

كيف لأحد أن يثق، بعد هذه الواقعة، بأي رأي فقهي صادر عن بعض العلماء والدعاة؟ كيف يمكن للبعض أن يكونوا قدوة لنا في تلمس الحق والرجوع إليه؟ كيف يمكن أن يأنس الشباب بالمؤسسة الدينية فيحترموها ويلجأوا إليها بدلا من وقوعهم بين مخالب الذين يقتاتون على التشنيع على هذه المؤسسات من أولئك الذين يزعمون أنهم وحدهم يمثلون الانتساب الحقيقي إلى العلم الشرعي؟

لقد كشفت هذه الحادثة، مرة أخرى، بعض الأسباب الكامنة وراء ما نعانيه في المملكة من احتقان فكري تمثلت نتائجه المرة، ولا تزال تتمثل، فيما يتعرض له وطننا من انقسامات حادة وحوادث إرهابية قاتلة. إن أحد أسباب هذا الوضع المؤسف يكمن في أحادية الرأي وعدم استثمار الكفاءات المتنوعة في البحث عن أفضل الطرق للتعامل مع الشأن الديني المؤثر أكثر من غيره في مجتمعنا.

الوطن 21/4/2005



الصفحة السابقة