(1-2)

الدكتور عبدالله الحامد يردّ على الحكم الظالم بسجن دعاة الإصلاح

القضاة جاهلون بالسياسة الشرعية والمفاهيم السياسية الحديثة

الى أعضاء هيئة التميز لمحاكمة المعتقلين الثلاثة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أشير الى قرار الهيئة القضائية الصادر بالصك ذي التاريخ 7/4/2005 هـ على المعتقلين من دعاة الدستور والمجتمع المدني الإسلامي: علي بن غرم الله الدميني/ تسع سنوات؛ متروك بن هايس الفالح/ ست سنوات؛ عبد الله بن حامد بن علي الحامد/ سبع سنوات. وأقدم لكم اعتراضي على حيثيات لصك، مرتبة حسب الأرقام التالية:

الحيثية الأولى

(السطر 5-8) من محضر جلسة النطق بالحكم، قالت الهيئة: ''لمصادقتهم على الإشتراك في إعداد وتوقيع خطاب (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) المقدم لولي العهد، والمتضمن بيان لما يرونه إصلاحات سياسية وإدارية تتعلق بالشورى والقضاء والإقتصاد والمشاركة في القرار السياسي والإداري، وإقرارهم بأنه تم مقابلة بعض الموقعين عليه لولي العهد، وسماع آرائهم، إلا أن المدعى عليهم لم يكتفوا بذلك، بل تجاوزوه الى مخاطبة الشعب، وندائه في مسائل كبرى تمس نظام الحكم في المملكة''.

يا أصحاب الفضيلة: إن الإعتراض واضح وإن الحيثية تركز على أمرين: الأول: أنه لا يجوز تجاوز الحكومة ومخاطبة الشعب في المسائل الكبرى، أي في فقه الإمامة الكبرى، أي في الأمور السلطانية، وواضح من ذلك أن الهيئة ترى أن النصيحة في هذه الأمور إنما هي سرية. وليس هناك في صريح الشريعة ولا في سنن الله في حياة البشر وعلوم الحضارة والتاريخ والطبيعة، ما يدل على أنه لا يجوز مخاطبة الأمة إلا من خلال مخاطبة الحاكم. والقاعدة الشرعية في إنكار المنكرات السلطانية هي الإسرار في المنكرات الباطنة والجهر في المنكرات الظاهرة.

أ ـ فهل الإستبداد بالقرارات في أمور الدولة الكبرى، وانتهاج الأسلوب السري فيها أيضاً، من دون إطلاع الناس على ما يجري، هو أمر خاص بالحكومة، بالأشخاص، وليس منكراً عاماً معلوماً، لكي يجوز القول بأن الإنكار سراً أولى؟

ب ـ وهل الإستئثار بمناصب الإدارة العليا، وتركيز المسؤولية في عدد من الأسرة، في الوزارات وادارات المحافظات من المعاصي السرية، لكي يكون الهمس بإنكارها أولى؟

ج ـ وهل هدر مال الشعب العام، من دون ضوابط في صرفه وإيراده، وإصدار صكوك بعشرات الملايين من أراضي الشعب للأمراء ومحاسيبهم معاص صغرى أو سرية، لكي تكون النصيحة سراً هي الأولى؟

د ـ وهل قيام الدولة مجسدة بوزارة الداخلية بالتنكيل بأهل الرأي من فقهاء وطلاب علم ومفكرين وأساتذة جامعات ومثقفين ومهتمين بالشأن العام، سجناً وتوقيفاً في ظرف لا تكفل فيه المواصفات الشرعية للسجون، على أساس أن السجون إنما هي للتأديب ـ على فرض أنهم محتاجون للتأديب، وليست للتعذيب الذي يهدر الجسوم والعقول والنفوس ـ فضلا عن منعهم من ممارسة حقهم في التعبير والإجتماع، وفصلهم عن العمل. هل هذا منكر خاص يزاوله مسؤول في الدولة في بيته، وفي سلوكه الشخصي، لكي يقال أن دعاة الدستور والمجتمع المدني تجاوزوا الى مخاطبة الناس؟

إن إنكار المنكرات السلطانية قاعدة شرعية لا خلاف فيها، بإذن الحكومة وعدمه، كما صرح شيوخ الإسلام كابن تيمية وابن القيم والعز بن عبد السلام والغزالي وابن حزم.

والقاعدة الشرعية الثانية: هي أن المعاصي السلطانية ولا سيما الكبرى المعلنة، لا يكون إنكارها إلا إعلاناً لتبرأ الذمة وليعلم القاصي والداني أن هذه منكرات، وأنه لا يحل للحكومة ارتكابها؛ كما صرح ابن تيمية في كتاب (الحسبة) مستشهداً بالأثر: (إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا ظهرت فلم تنكر أضرّت العامة)(الحسبة: 90). وهذه الحيثية التي اعتمدت عليها الهيئة، مخالفة لقاعدة العدالة، لأنها تناقض قاعدة شرعية قطعية دلت عليها النصوص الصريحة، والإستقراءات القطعية لمقاصد الشريعة وروحها.

منذ عام 1413هـ/ 1994م، ودعاة الدستور والمجتمع المدني ينصحون الحكومة ويترددون على دواوينها في نصائح سرية، الى سجونها في أعقاب نصائح علنية، وقد دخلوا السجون زرافات ووحدانا بالمئات، من فقهاء ومفكرين وأساتذة جامعات ومثقفين، فماذا تريد الهيئة للناس أن يفعلوا والأخطار والفساد المالي والسياسي مرشح للإزدياد؟!

هـ ـ لا يدري أعضاء الهيئة أن عديد من دعاة الإصلاح جربوا النصائح السرية فوجدوها من دون جدوى، وأذكر منهم في ذلك المقام الفقيه المجاهد عبد الله بن قعود، وعدد من دعاة الإصلاح منذ حرب الخليج وهم يكتبون النصائح السرية، التي لا تجد طريقها الى الآذان، فكيف تلزم الهيئة دعاة الإصلاح بأساليب ثبت أنها لا تؤدي الى النجاح؟ ألا تدرك الهيئة أن من أسباب نشر المنكرات السياسية في هذه البلاد هو أسلوب كثير من الفقهاء والناصحين الذي يلتزم بالسرية في إلقاء النصائح؟

ثم هل انفرد دعاة الدستور والمجتمع المدني في المطالبة بدستور يتحقق فيه الشرطان في كل نظام يوصف بالدستورية: أن تكون الدولة (بلورة) للإرادة الشعبية، وأن تكون المجتمعات المدنية (قنطرة) بين الدولة والأفراد والأشتات؛ وأن توزع أثقال الدولة فوق أعمدة ثلاثة: مجلس النواب؛ والقضاء المستقل؛ وينفرد الملك أو الرئيس بالإدارة السياسية. وأن تكون هناك ضمانات (كالمسطرة) لمفاهيم العدل والشورى. هل انفرد هؤلاء بالدعوة الى حرية الرأي والتعبير والتجمع والإجتماع؟ هل انفردوا بضرورة السمو الى مفهوم الدولة الاسلامية السمحة، التي تؤمن بالتعددية الإسلامية فكرية ومذهبية واجتماعية وثقافية، التي تخرج من تطبيق الدولة المذهبية التي فتكت بالسلام الاجتماعي، منذ العصور الوسيطة؟ هل نظام الحكم ينص على دولة مذهبية أم دولة إسلامية تحتوي أهل القبلة بكافة انتمائهم؟ إذن لماذا يثير القضاة المسألة المذهبية؟ الناس تريد أن تعرف؛ هل يجسدون بذلك اتجاه الحكومة، أم يجسدون الفكر الديني المتزمت، الذي لا يريد تعددية ولا تعايشاً مع الموجودين في الوطن، وباسم الإسلام يحاول أن يحول الأمة كلها الى مذهب فكري ضيق واحد يحل محل الإسلام الواسع؟ هل انفردوا بالمناداة بوضع ضوابط لموارد المال العام، وطرق صرفه، ولتوزيع الأراضي السكنية والزراعية؟ هل انفردوا بالمطالبة بتصحيح العلاقة العرجاء مع الأميركان، حسب تعبير الدكتور عبد العزيز الدخيل في احدى مقالاته في جريدة الحياة؟. هل انفردوا بالدعوة الى الملكية الدستورية (هل تقرأ الهيئة جريدة الشرق الأوسط لترى؟)؟

الحيثية الثانية

قالت الهيئة (السطر 8-9) (تجاوزوه ـ أي ولي العهد ـ الى مخاطبة الشعب، وندائه في مسائل كبرى تمس نظام الحكم في المملكة، ونشر مضامينها عبر قنوات الإعلام، ووسائل الإتصال في الداخل والخارج، وجعلوها نداء للقيادة والشعب معاً، داعين غيرهم لتأييدها وبثها في المنابر والجوامع والنوادي، لتكون عريضة شعبية).

الإعتراض: يا مرتجى العدالة: إذا طالب دعاة الدستور والمجتمع المدني الإسلامي الناس بتحمل تبعتهم في التعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما المحذور الشرعي في ذلك؟ هل (ولي الأمر/ السلطان) له القوامة على الناس، بحيث لا ينبغي مخاطبة الناس إلا بإذنه، أم أن الشعب له (القوامة) على الحكومة؟ هل الشعب ولي أمر نفسه والحاكم إنما هو وكيل (عن) الأمة لا (عليها)؟ أليست ''الأمة هي الحافظة للشرع وليس الحاكم'' كما صرح ابن تيمية (الفتاوى 6)؟. هل لدى الهيئة دليل ظني على أن (القوامة) للحكومة على الشعب، لكي لا يطلب من الشعب أن يتناهى عن المنكرات ويتآمر بالمعروفات السياسية؟

هل لدى الهيئة دليل ظني، فضلاً عن القطعي، في أن (القوامة) هي للحاكم على الشعب، وأن لـ (ولي الأمر/ الحكومة) على الشعب (القوامة) كما تكون قوامة الرجال على النساء، وولاية الأولياء من الآباء والأمهات على الأطفال، ووصاية الأوصياء على السفهاء والأيتام؟. إذا كان مفهوم الحكم لدى الهيئة في الإسلام هو هذا.. تناسقت حيثياتها مع ثقافتها الساسية الشرعية، وأصبحت الأمة إذن كالرعاع والغوغاء، التي لا تميز الضار من النافع، ولا الصحيح من الزائف، ولا الرأي المعتبر من الرأي الضعيف، لأن جهاز المناعة التربوي ضعيف، فينبغي أن لا تطلع على شيء، ولا تنبه الى شيء، إلا بإذن الحكومة وإذن الفقهاء الذين حاولت الهيئة أن تحصر فيهم العقل والرصانة والنصح والعلم، كما سنعرض له في فقرة تالية، وصارت الأمة كما قال الشاعر:

يقضي الأمر حين تغيب تميم/ ولا يستأذنون وهم شهود

وبناء على ذلك يجب تصفية القنوات الفضائية والإنترنت وما فيها من أخبار وأحداث وآراء حتى لا يتأثر الناس؛ وذلك لو صح شرعاً ما أمكن واقعاً، فكيف تحرم علينا ما هو جار من غيرنا؟

إن الهيئة تنطلق من مفهومين نذكر بضرورة تجاوزهما في الدولة الاسلامية الحديثة:

1 ـ تنطلق من غبش أو قصور في فقه السياسة الشرعية وتطبيقاته على الدولة الإسلامية المعاصرة، ومفاهيم القانون الدستوري وحقوق الإنسان في الإسلام، وليس ذلك عن تقصير في أشخاص الهيئة ولا في كفايتهم، وإنما هو قصور في فكرة (العدالة)، نبهنا عليه في كتابنا عن (حقوق الإنسان) و (حقوق المتهم) ومفهوم الحكم الدستوري في الإسلام، الذي شرحناه في كتابي (معايير استقلال القضاء الدولية في بوتقة الإسلام) و (استقلال القضاء السعودي ـ عوائقه وطرق تعزيزه). فالخلاف الذي نشير إليه خلاف في المفاهيم والمبادئ التي يقوم عليها مفهوم العدالة في القضاء الإسلامي، قبل أن يكون خلافاً على التطبيق.

2 ـ إن الهيئة تطبق في عصر الإعلام المفتوح أسلوب القلعة المحاصرة، أو أسلوب المربي الذي لا يريد أن يعرف أولاده ما يدور حولهم من أخبار وأنباء، وهو إفراز من إفرازات بنية الإعلام المغلق، وهو إعلام سقط أمام التقنيات الإعلامية المعاصرة، وسقوط أسوار برلين والقعلة الشيوعية دليل على أن نظرية الإعلام المغلق لم تعد صالحة للعصور الحديثة.

وعلى الرغم من أن الهيئة ذكرت أن ولي العهد استقبل عدداً من دعاة الدستور والمجتمع المدني، فقد اعتبرت تجاوز ولي الأمر الى مخاطبة الشعب حوباً عظيماً، وهذا يدل على أن الهيئة لا تتماشى مع خط أركان القيادة كخادم الحرمين الشريفين وولي العهد، الذين نادوا بالإصلاح السياسي والإداري، ولعلها لا تدرك أن مخاطبة الشعب من قبل ألف من الفقهاء والمفكرين وأساتذة الجامعات والمثقفين والمحامين والمهتمين بالشأن العام، صورة من صور المشاركة الشعبية.

الحيثية الثالثة

قالت الهيئة (السطر 9-10): ''عريضة شعبية يتوصلون بها للتأثير على

ولي الأمر مطالبين بتنفيذها خلال مدة محدودة، كما نص على ذلك خطابهم المسمى (نداء وطني الى القيادة والشعب ـ الإصلاح الدستوري أولا) الموقع عليه من الأول (الحامد) والثاني (الفالح) وآخرين (المائة والثمانون)''.

النقض: في ذلك مسائل يا قضاة التمييز:

أ ـ هل مطالبة الناس بأن يكون (النداء الدستوري) عريضة شعبية، من ما يخل بهيبة ولي الأمر/ الحكومة، وهل في ذلك كسر لمقامه؟ أليس من مقتضى الوكالة الشرعية، أن يسمع الوكيل من بعض موكليه ما لهم من حاجات وآراء، فيما فيه خير للجميع؟

ب ـ هل دعوة ولي الأمر الى إصدار أنظمة وإجراءات تكفل الإلتزام برأي أهل الحل والعقد من ذوي النصح والخبرة والإيثار والشجاعة، ما يقلل من مقامه، وهل حثه على طاعة الله في تقسيم المال والتربية وشورية الإدارة وتكافؤ الفرص، مما يخل بقدر ولي الأمر؟

ج ـ هؤلاء الداعون الى الدستور والمجتمع المدني الإسلامي الذين تجاوزت أعدادهم الألف، هل هم من الأغرار أو من الصغار، الذين ليس لهم شيء من حسن التأني ولا من رجاحة العقول ولا من البصيرة، ما يشفع لهم بحسن النية وحسن العمل، عندما يقولون للدولة أنه حان وقت تطوير نظام الحكم الى نظام شوري نيابي، وإصدار (وعد) رسمي بذلك يطمئن الناس الى حاضرهم ومستقبلهم، في التربية والتعليم والإدارة والمال. هل إعلان ذلك والمطالبة به منكر، سواء أخذت الدولة به الآن أم لم تأخذ؟

د ـ ولنفترض ان ما نادوا به صحيح في المضمون مخطئ في الأسلوب، هل عقوبة ذلك الحكم بالسجن سنين تتراوح بين الست والتسع؟!

الحيثية الرابعة

قالت الهيئة (السطر 10-11): ''وعقدوا الإجتماع المشار إليه في الدعوى(أي فندق الفهد كراون) لأجل ذلك''.

النقض: هل اجتماع دعاة الدستور والمجتمع المدني الإسلامي، إجتماع على معروف مشروع، أم أجتماع على منكر محظور؟ ما هو المضمر ـ في ما تحت السطور ـ تجاه ذلك، لأن الهيئة ذكرته في الحيثيات من دون أن تشرح سبب التخطئة والتجريم، لكي تصدر حكماً بالسجن سنين تتراوح بين الست والتسع.

الحيثية الخامسة

قالت الهيئة في السطور (11 ـ 13):

1 ـ ''منطلق لإثبات رؤيتهم والإقناع بها، من المبالغة في قيمة تلك الإصلاحات التي ينادون بها، وتأثيرها في إصلاح الأوضاع''.

2 ـ وفي السطور (13-14): ''بل جعلوها كما صرحوا به في إجابتهم طوق نجاة، علقوا صلاح العباد والبلاد على سرعة تنفيذها، مقللين أي جهود سواها.. مع تضخيم الأمور''.

النقض: في هذه الحيثية تجريم لا أساس له من الصحة كما يلي:

أ ـ السؤال الأساسي: إن القاعدة المستقرة في علم الإجتماع الإنساني هي أن العدل أساس الحكم، كما قرر علماء الحضارات، وقد أصبحت هذه القاعدة مثلاً مشهوراً، فقيل العدل أساس الحكم؛ وذكر هذه القاعدة المشهورة بعبارة (إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة). وأقرّ الإسلام هذه القاعدة، ونصوص القرآن في ذلك واضحة حتى استنبط بعض المفسرين أنها الهدف الأساسي لإنزال الكتب وإرسال الرسل، في تفسير قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). وأقرّ الإسلام أيضاً أن الشورى الملزمة من الواجبات ولا سيما في الإدارة السياسية.

ب ـ فهل بالغ دعاة الدستور والمجتمع المدني عندما طالبوا بالعدل والشورى؟ هل من المبالغة أن يقال أن الإستمرار في هدر المال يعرض الأجيال القادمة للذوبان والإنقراض الحضاري كما نص خطاب الرؤية.

ج ـ هل من المبالغة أن يطالب دعاة الدستور والمجتمع المدني بإخراج سجناء الرأي والتعبير والإجتماع والتجمع على اعتبار سجنهم سجناً تعسفياً؟

د ـ هل من المبالغة أن يقال أن البلد معرض لأخطار داخلية وخارجية إذا لم تتحرك عربة الإصلاح السياسي والإداري والقضائي؟.

ولنفترض جدلاً أن ذلك مبالغة، فهل انفرد دعاة الدستور بالمبالغة عندما يتحمسون لرأي؟ كيف يضيق بهم ما يسع الكتاب والإعلاميين الآخرين حتى يحكم القضاة بسجنهم سنين تتراوح بين الست والتسع؟!

الحيثية السادسة

وقالت الهيئة عن مطالب دعاة الدستور (الأسطر 12-14): ''فلم يعدوها من المصالح المرسلة فحسب، التي ينظر فيها ولي الأمر، ليقرر ما تظهر مصلحته للبلاد، بعد التحقق من عدم معارضتها لنصوص الشرع وقواعده العامة''.

النقض: الهيئة بين أمرين في مصطلح (المصالح المرسلة)؛ إما أنها تجري على الرأي الشائع عند علماء الأصول، وهو أن هناك في الشريعة مصالح مرسلة من الإلغاء ومن الإعتبار معاً، وأن على الفقهاء تقرير المصلحة المرسلة بعقولهم. ورغم أن رأي الهيئة مرجوح، رغم كثرة القائلين به من الفقهاء، فالرأي الأكثر اتساقاً مع كليات الشريعة، هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي يرى أن القاعدة التي قررها الأصوليون ليست دقيقة التعبير عن المقاصد الشرعية، فالأدق أن يقال إن المصالح الشرعية نوعان:

1 ـ مصالح مفصلة، كأحكام الصلاة.

2 ـ مصالح مرسلة من التفصيل، لا من تحديد المبادئ والإجمال.

ورأي ابن تيمية هو الأولى، لأنه يحدّ من تخرّصات الفقهاء وتسلّط السلاطين في الإنحراف عن مقاصد الشريعة وكلياتها، بأفكار مثل إباحة تعذيب المتهم، وإسقاط حقوق المرأة المطلقة، والقول بأن الشورى معلمة وغير ملزمة، وقمع حرية الرأي والتعبير والإجتماع والتجمّع السامية (انظر لتفصيل ذلك خماسية: السلفية أمام صفعة الحداثة السياسية والعلمنة والفرنجنة والعولمة والهيمنة الإفرنجية).

فإن كان هذا هو مفهوم الهيئة فجوابه فيما يلي من نقاط:

أ ـ هل الشورى والعدل من المصالح المرسلة أم من المصالح المعتبرة، بل أكثر من ذلك من أصول الدين القطعية؟

ب ـ هل قيام القضاء بالإشراف على السجون من المصالح المعتبرة؟

ج ـ هل إصدار القضاة صكوكاً بتوزيع أراضي الشعب في قسمة ضيزى، من المفاسد المعتبرة أم من ما فيه قولان؟

د ـ هل هدر المال العام من الامور الملغاة من الإعتبار والإلغاء، أم أنه من المفاسد القطعية.

هـ هل تجريم حرية الرأي والتعبير والإجتماع والتجمع من فقهاء هذا البلد ومفكريه وأساتذة الجامعات ومثقفيه والمهتمين بالشأن العام، هل من الأمور المرسلة من الإلغاء والإعتبار قيام وزارة الداخلية بتكميم الأفواه وتوقيفها لأهل الرأي والتعبير من دون محاكمات، أو في محاكمات لا تضمن فيها الأسس الشرعية، وهل من الأمور المرسلة من الألغاء والإعتبار تدليس القضاء الذي يتم عبر أسلوبين: أسلوب السكوت على ما يجري في السجون، وأسلوب المحاكمات التي درجت على السرية؟ أم أنه من المفاسد المعتبرة شرعاً، ومن المعاصي الكبرى التي لا يجادل في حرمتها من له أدنى ومض من الشريعة الألهية، ومن له أخف نبض من الطبيعة الإنسانية؟. أم هل حرمان الناس من تقويم أخطاء الحكومة من الأمور المرسلة من الإلغاء والإعتبار، أم أنه من المعاصي الكبرى؟

قد تقصد الهيئة أن معايير استقلال القضاء وعدالته العشرين من المصالح المرسلة. وقد ترى أن وجود مجلس نواب منتخب من الشعب من المصالح المرسلة. وقد ترى أن إنشاء محكمة العدل العليا من المصالح المرسلة، والشرعية. وقد ترى أن تواجد جمعيات المجتمع المدني الأهلية من المصالح المرسلة، بناء على رأي جمهور الأصوليين في وجود مصالح مرسلة الإعتبار والإلغاء.

هل هذه المصالح من خلال تجارب الأمم من وسائل تحقيق المقاصد الشرعية، فهي إذن من الواجبات الشرعية، لأن وسائل تحقيق المقصود الشرعي تأخذ حكمه، فإذا كانت عدالة القضاء ونزاهته واجبة فالوسائل التي تحقق ذلك واجبة. ام أنه في هذه القضية قولان؟

ولنفترض أن في هذه القضية قولان، ألا يشفع لمن اجتهدوا اجتهاداً شرعياً اجتهادهم، مادام الغرض الإجرامي غير متوافر؟ ألا يجوز لأهل العلم أن يجتهدوا إلا بموافقة الحاكم والفقهاء؟ بما أنهم يقدمون أفكاراً الفقهاء الرسميون والقضاة أولى ببحثها، والقضاة يدركون أن ابن تيمية وعلماء المذهب الحنبلي أكثر المذاهب انفتاحاً في مسألة حرية العلماء في آرائهم، وأنه لا يجوز لسلطان ولا لفقيه أن يلزم الناس برأيه، فكيف تركوا إمام المذهب في قاعدة من قواعده الكبرى؟

وهب أنه لا يجوز! ألا يكفي التنبيه؟ أم أنه لا بدّ من حكم بالسجن بسنوات تتراوح بين الست والتسع؟!

الحيثية السابعة

والهيئة تنص على أن المرجعية في مفهوم المصالح المرسلة إنما هي الحكومة ثم الفقهاء، فتقول: (الأسطر 12-13): ''فلم يعدوها من المصالح المرسلة التي ينظر فيها ولي الأمر ليقرر منها ما تظهر مصلحته للبلاد بعد التحقق من عدم معارضتها لنصوص الشريعة وقواعدها العامة''.

والهيئة في ذلك ليست أمينة للتراث السياسي والقضائي العباسي الذي يطلق (ولي الأمر) على الحاكم والقضاء والحسبة وديوان المظالم، بل تنطلق من مفهوم الحكم المستبد، الذي يكون فيه الحاكم مصدراً للسلطات جميعها ومرجعية لها، سواء أكانت تشريعية أم قضائية أم حكومية. والقول بذلك ليس له مستند من الشريعة ولا من أقوال الفقهاء لا المتقدمين ولا المتأخرين، وهو بداهة لا يستقيم مع مفهوم الدولة الذي لم يعد مسألة فيها قولان، في النظم السياسية الحديثة، الملتزمة بالعدالة والشورى، والتي يطلق عليها اختصاراً (الدستورية).

وهذا الرأي مخالف أيضاً لقواعد الدين التي تقرر أن (القوامة) إنما هي للأمة وليست للحاكم، ولكن الهيئة جرت على التفكير العباسي في اعتبار ولي الأمر مصدر السلطات، وأن الأمراء والفقهاء هم الأدرى بمصالح الأمة، وقد ناقشنا هذه الفكرة ودحضناها في الدفوع، وفيما كتبته عن استقلال القضاء، في البحثين النظري والتطبيقي.

أصحاب الفضيلة القضاة، ولا مشاحة في الرأي، فنحن لا نلزمكم أيها القضاة بمقولاتنا ''أنلزمكموها وأنتم لها كارهون''؛ ولكن ألا تؤمنون بمبدأ حرية الرأي والتعبير والإجتماع والتجمّع التي قررها القرآن الكريم، وطبقها الخلفاء السلف الراشدي القويم، فلولا هذه الحرية لما تفتقت الأفكار؛ أفلا يسعنا ويسع الهيئة ما قال الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما/ عندكَ راضٍ والرأي مختلفُ

لنصل الى (واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية) وهل من الشريعة أو الأخلاق الإنسانية أن نصل الى سجن بضع سنين؟

الحيثية الثامنة

قالت الهيئة (السطر 14): ''تضخيم الأخطار''.

النقض: دعاة الإصلاح السياسي عندما قالوا في خطاب الدستور إن الدستور كان سنة 1385هـ (1964) كان حاجة ماسة للبلاد وأنه اليوم طوق نجاة؛ لم يضخموا الأخطار، ونضرب لذلك مثالين من الأخطار التي ذكرها دعاة الإصلاح السياسي: الأول: لقد تخوفوا من احتمالات التدخلات الأجنبية، وتوقعوا أن أمريكا ستضرب العراق، وحثوا من التقوا به من عناصر القيادة على إجراء إصلاحات سياسية، يقوي بها التمثيل السياسي للدولة، ولم يصدقهم احد من أن أميركا ستضرب العراق، ولن يصدقهم أحد في النتائج التي توقعوها؛ وولي العهد الأمير عبد الله شهيد على أنهم لم يضخموا الأخطار عندما تحدثوا عن أن التدخل آت، إلا أنه يوجد مانع غير عادي. الثاني: أنهم توقعوا في خطاب النداء الدستوري أن وتيرة العنف ستزداد، وقد وقع ما توقعوه؛ فهل في مقولاتهم تضخيم، أم ان قولة الحق لن تدع لهم صديقاً؟

الصفحة السابقة