عبد الله ملكاً

سيناريو التغيير داخل العائلة المالكة

في الظاهر، كان الانتقال السلمي للسلطة بعد رحيل الملك فهد قد أحاط الخلافات الكامنة داخل العائلة المالكة بستار من الغموض وربما أجّل الى أمد محدود بروز التنافرات الحادة الى السطح رغم وجود مؤشرات قوية على تشقق القشرة الخارجية لبنية العائلة المالكة عن خلافات حادة تعكس طبيعة استقطابات مرحلة ما بعد الملك فهد. إن الالحاح الشديد على إبقاء الاخير ملكاً بصرف النظر عن قدرته على الاضطلاع بمهام الملك، برغم العلل المخلّة بالقوامة السياسية قد أضمر لأجل غير مسمى التباينات الحادة في العائلة المالكة، وبخاصة أن الشخصية التي تلي العرش بعد الملك فهد ليست مورد قبول لدى الجناح السديري المهيمن على الجهاز الاداري للدولة.

ربما كان النظام الاساسي والتسلسل الوراثي المنتظم في الحكم الى جانب الفترة الزمنية الطويلة لمرض الملك الراحل والتي ساهمت في توفير فرصة كافية للاخوة الألدّاء لتسوية خلافاتهم بطريقة توافقية.. كل تلك العوامل وفّرت بيئة مناسبة لانتقال السلطة بحسب التسلسل الهرمي، الا أن خلافات الكبار على المواقع الرئيسية أغفل حالات التذمر التي ستفرزها المواقع الدنيا. فقد جرى تجاهل الاجنحة الاخرى داخل العائلة المالكة، تلك الاجنحة التي ظلت ترقب الاوضاع الداخلية أملاً في وجود فرص مناسبة أو تصدُّع الجناح السديري لدخول حلبة الصراع على السلطة بقدر كبير من الجرأة، ولم يكن تصريح بنت الامير طلال والتي أعربت عن حق والدها في ولاية العرش، أسوة بباقي أبناء الملك عبد العزيز سوى إشارة قوية الدلالة على التطلعات المستترة التي بدأت تستعلن نفسها تدريجياً، وهناك من أحاديث المجالس الخاصة ما يكفي للتعبير عن إنتعاش الميول الكامنة لدى شريحة كبيرة من الامراء وبخاصة أبناء وأحفاد الملك عبد العزيز الذين صادر الجناح السديري حقهم في الملك.

لعل من أبرز القضايا الخلافية التي ظهرت بعد رحيل الملك فهد، والتي عبّر عنها تصريح وزير الخارجية الامير سعود الفيصل حول تعيين النائب الثاني للملك، والذي إعتبره (إختياراً ملكياً)، مع أن تعيين النائب الاول هو أيضاً إختيار ملكي بحسب النظام الاساسي فيما لا إشارة صريحة على أن الملك يعيّن نائباً له بالفرض، ولكن لوجود توافق على مسمى النائب الاول وولاية العهد فإن الامر لم يتطلب توضيحاً من وزير الخارجية. إن منصب النائب الثاني هو جزء من النتوء النافر لخلاف قابل للتفجّر بين أجنحة العائلة المالكة.

تصريح الامير سعود الفيصل يأتي في سياق خلاف حاد بين الملك عبد الله والامير نايف والجناح السديري بأكمله، حيث يثور الجدل حول تعيين نائب ثاني للملك عبد الله من خارج الجناح السديري، وهو ما يلقى تأييداً من الاجنحة الاخرى المهمّشة داخل العائلة المالكة، ويتوافق هذا الموقف مع ميول الملك عبد الله وجناحه التقليدي لجهة توسعة قاعدة المشاركة من العائلة المالكة في السلطة بما يمنح الملك عبد الله فرصة صناعة جبهة قوية تحرم غريمه التقليدي من فرصة إضعاف سلطته أو حتى إختطاف الدولة بالكامل بعد غيابه. ليس هناك غير الجناح السديري من يرغب في إعادة تشكيل العصبة السديرية في المستقبل، أي بعد رحيل الملك عبد الله، حيث سينفرد الجناح السديري بكامل الكعكة، فيما لا مجال فيه حينئذ لأي من الاجنحة الاخرى لنيل فرصة في الحكم. إنها الفرصة التاريخية الوحيدة لدى الاجنحة الاخرى لتصحيح الاختلال داخل معادلة السلطة.

الامير طلال: هل ينبعث حلمه القديم

ما يظهر حتى الآن أن ما تم حسمه هو موقعا الملك وولي العهد، وهناك مناصب أخرى خاضعة للتبدل، فالتموقعات المنتظرة في الجهاز الاداري للدولة تخفي خلافات على درجة كبيرة من التعقيد. إن التكهنات التي أثارتها إستقالة السفير السعودي في واشنطن الامير بندر بن سلطان، وهي بالمناسبة كانت علامة على الموت الوشيك أو الواقع للملك فهد، تلتها تكهنات أخرى حول مواقع أخرى يدور حولها الخلاف. ويبدو من المؤكد أن منصب وزير الدفاع بات من نصيب أحد أبناء الامير سلطان رغم أن ذلك سيثير سخطاً بالغاً داخل الجناح السديري نفسه. فهناك إصرار شديد على إبقاء وزارة الدفاع تحت سيطرة عائلة الامير سلطان كأحد مصادر قوته الرئيسية، إذ لا يمكن لولي العهد الجديد بحسب التواطئات الجديدة داخل العائلة المالكة وبحسب النظام الاساسي تولي (وزارة)، بخلاف ولي العهد السابق (الملك الحالي) الذي تولى رئاسة الحرس الوطني دون أن يصدق عليها مسمى (وزارة).

الملك يملك صلاحيات مطلقة بحسب النظام الاساسي، ولكن هذا لا يخوّله بحسب التقاسم التوافقي على السلطة تغيير المواقع الرئيسية أو الخاضعة تحت سلطة الجناح السديري. خارج وزارات الدفاع والداخلية وربما إمارة الرياض، هناك مجال للمناورة بالنسبة للملك الجديد، فمن المتوقع أن يدخل أبناء الملك دائرة المنافسة على الامارة في بعض المناطق الرئيسية، وربما ستكون المنطقة الشرقية مرشَّحة لعملية تغيير متوقعة.

وصول عبد الله الى العرش لم يكن حدثاً سعيداً بالنسبة للجناح السديري، وهو من المؤكد حدث ضار للامير نايف الذي يفتقر الى قوة قانونية، كالتي تمتع بها الامير سلطان حين تم تعيينه نائباً ثانٍ للملك، فالصلاحيات الواسعة التي حصل عليها الامير نايف في عهد شقيقه الراحل بفعل غياب سلطة حاسمة في الدولة، لم تعد مبررة ولا قانونية، وبات الملك الجديد قادراً على إستعادة ما حرمه منه الجناح السديري الذين أبقوا على ملك عليل نحو عقد من الزمن من أجل تمكين أنفسهم في مواقع سيادية وتأجيل وصول عبد الله الى العرش، أي الى مرحلة يكونوا هم متنفذين في جهاز الدولة، ويكون فيها عبد الله قليل الحظ من الناحية الطبيعية، أي من حيث السن، حيث يبلغ من العمر 82 عاماَ، مع أن من يخلفه لن يكون أوفر حظاً منه فأبناء المؤسس يقتربون تدريجياً من نهاية العمر الافتراضي بما يلمح الى معركة شرسة بين أبناء الجيل الثالث في العائلة المالكة.

إن فرصة الملك الجديد تاريخية ولكنها غير مضمونة تماماً، فبإمكانه تفتيت البنية السديرية فيما لو أراد ذلك، وهذا يحتاج الى قرار شجاع منه، ودعم من أجنحة داخل العائلة المالكة تتمتع بقدر كبير من النشاطية والطموح والمنافسة، فكثير من الامراء بات خاضعاً تحت رحمة إعطيات الجناح السديري، وهناك قلة مازالت تراهن على تشقق الجناح السديري وتحاول تثمير خلافاتها التقليدية لصالح الملك عبد الله في معركته مع الامراء السديريين.

شأن سلفه، يحاول الملك الجديد أن يحيط نفسه بجبهة حصينة بخاصة أمام طرف متغوّل في الجهاز الاداري للدولة، وهناك أطراف عديدة داخل وخارج العائلة المالكة على إستعداد للانخراط في تحالف مع الملك رغبة في كسر الجبهة السديرية وطمعاً في نيل حصة ترى حقاً أم باطلاً بأنها خسرتها في الماضي بفعل الاستئثار الفارط في الشراهة لدى الجناح السديري.

إن تجربة الملك عبد الله إبان توليه ولاية العهد لا تبعث على التفاؤل البته، فقد خيّب آمال كل من عوّل على لهجته الاصلاحية والوطنية، وقد يُعذر في ذلك كونه لم يصل بعد الى موقع يحرز فيه النصاب القانوني بما يؤهِّله لإمتلاك سلطات مطلقة، وهاهو يخوض تجربة أخرى يتوّج فيها عبد الله ملكاً بصورة رسمية، بما يحرره وفق النظام الاساسي للدولة من وطأة التوافقات العائلية وضغط الجبهة السديرية، وفي الوقت ذاته يسقط الاعذار التي كان يتوسل بها بعض أفراد حاشيته في تبرير مواقفه التراجعية. فقد كان أحد كبار أعضاء الحاشية يردد: إصبروا حتى يصل الامير عبد الله الى العرش فهو الآن في وضع لا يحسد عليه، فالجناح الآخر (= السديري) يمارس ضغوطات عليه من أجل ثني عزيمته عن المضي في ما عقد النية عليه، وقد يصدق في ذلك ولكنه لا يبرر مواقفه الواهنة وبخاصة فيما أعلن عنه مراراً بشأن الاصلاح السياسي. لقد ساهم جناح عبد الله في إضفاء صبغة لوثرية عليه، وأفرط كثير من المقربين منه في فبركة الآمال الطويلة والعريضة المتوقفة على وصوله الى العرش ودعم الشعب من خلفه.

وللانصاف، فإن كثيرين من مختلف القوى الاجتماعية والسياسية راهنت بدرجة كبيرة على الدور المرتقب للملك عبد الله منذ كان ولياً للعهد يصارع الجناح السديري بمفرده بالتعويل على تسلسله الوراثي في العرش وثانياً رئاسته للحرس الوطني كقوة عسكرية حظيت بتطورات بنيوية وتقنية بوتائر متسارعة، ولكن تلك المراهنة لم تثمر عن شيء كبير، سوى ذلك التقليد المتعارف عليه بإصدار عفو عن المعتقلين السياسيين مع وصول ملك جديد للعرش.

إن ثمة تغييرات في المناصب العليا باتت منتظرة، رغم التحصينات المبكّرة التي قام بها الامراء السديريون منذ سنوات من أجل تمكين أنفسهم بما تحت أيديهم من إمكانيات وسلطات.. إنها تغييرات مطلوبة من الملك الجديد ومن قطاع عريض من الشعب، رغم أن ثمة من يخبر عن تسويات جرى حسمها قبل فترة وجيزة من موت الملك فهد، ولكن يظل أبناء الاخير على وجل من أمرهم. فعلى العكس من أبناء الملك فيصل الذين ورثوا امتيازات الشخصية الكاريزمية لأبيهم، بوصفه رائداً لعملية التأسيس الثاني للدولة السعودية الحديثة، إضافة الى إمكانياتهم السياسية المتميزة، فإن أبناء الملك فهد أقل حظاً كونهم يرثون مشكلات من صنع والدهم، الى جانب إفتقارهم للخصائص الشخصية المتميزة في الادارة، فالأمير محمد بن فهد، أمير المنطقة الشرقية كان على خلاف دائم مع مركز السلطة، في زمان والده، وقد سعى الى قطع الصلة إدارياً وسلطوياً بين المنطقة الشرقية والرياض بالرغم من غيابه الطويل والمتكرر عن إمارة المنطقة الشرقية، دع عنك التوترات التي صنعتها منهجيته الادارية وجموح النزوع الشره في التملك، أسوة بأعمامه السديريين.

لاشك أن وصول عبد الله الى العرش سينمّي تطلعاً من نوع ما لدى أبنائه، كما هو شأن بعض أفراد حاشيته والمقرّبين منه بالنسب أو التوافق السياسي، بما يجعل دائرة التنافس الشديد على السلطة عرضة للاتساع الدائم. وعلى أية حال، فإن وجود متنافسين كثر على السلطة يسهم على المدى البعيد في تفتيت هادىء للسلطة، وقد يضعفها تدريجياً بخاصة في ظل وجود تطلعات شعبية متصاعدة نحو الاصلاح والتغيير في شكله الشامل والجوهري.

قيل بأن أبناء الامير عبد الله أقل تطلعاً نحو السلطة، وربما كان ذلك صحيحاً إبان ولاية عهد والدهم ولكن بالتأكيد لا يصدق هذا القول على مرحلة يكون أبوهم ملكاً مطلق السلطة والصلاحية، وبحسب نظام ملكي وراثي يحتفظ فيه الملك بكامل عملية صناعة القرار السياسي، فإن تعيين أبناء الملك سيكون تسهيلاً لمهمة الملك وتعزيزاً لسلطته المطلقة. وبحسب تجربة الملك فهد، فإن أبناءه وبخاصة الامير عبد العزيز والامير محمد قد إضطلعا بأدوار رئيسية في تسيير سياسات والدهم، فقد كان الامير محمد يرجع بصورة مباشرة الى والده الملك دون المرور بالقنوات الادارية المعنيّة، وكذا الحال بالنسبة للأمير عبد العزيز بن فهد الذي كان يدير شؤون والده بالتنسيق مع والدته وأخواله، وبلغ الحال أنه كان يتولى الاشراف بصورة مباشرة على شؤون مرض والده، وكان يمنع أياً من الامراء بما فيهم أشقاء الملك من الوصول اليه ما لم يقرر الامير عبد العزيز ووالدته ذلك، وحتى خلال فترة بقائه في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، كانت هناك قيود صارمة مفروضة على الأمراء الكبار فضلاً عن الصغار من الدخول عليه. وكان الامير عبد العزيز بن فهد يمارس، على سبيل المثال، دور والده أحياناً، وكان ذراعه الايمن في قضية الاصلاحيين، حيث كان يجري إتصالات كثيفة مع رموز التيار الاصلاحي وإقناعهم بالتخلي عن مطالبهم في التغيير. وكان معروفاً بين أمراء العائلة المالكة أن الامير عبد العزيز بن فهد هو المفتاح السحري لوالده، وهو وحده القادر على تحقيق ما يعجز عنه كبار المسؤولين بما فيهم أعمامه السديريين.

عبد الله أصبح ملكاً وهذا يمنحه فرصة لتعديل الصورة المواربة التي كان عليها خلال ولايته للعهد، وهناك تغييرات جوهرية مطلوبة ومنتظر منه أن يصنع قرارات تاريخية من أجل تصحيح الاختلال العميق في بنية الدولة.

الصفحة السابقة