الدين والدولة في السعودية

علماء الوهابية: العلاقة بين الدين والسياسة

القسم الاول

نظرة تاريخية

يمكن القول بأنه منذ بداية الحكم السلالي الاموي في منتصف القرن الهجري الاول، أصبحت هناك قطيعة عملية بين الدين والسياسة كحاصل نهائي للخلافات الحادة بين العلماء والامراء.. العلماء، كما عبّروا عن أنفسهم في مسمى أهل الحديث والفقهاء، آثروا العزوف عن واعتزال الحياة السياسية. ومع بداية العصر العباسي، فإن التعليم الديني بدأ في الانتعاش معبّراً عن نفسه في ظهور عدد من مراكز التعليم الديني ومدارس حديث وفقه مختلفة أو مدرسة الحديث كما في المدينة المنورة ومدرسة الاجتهاد أو الرأي كما في العراق. من جانبهم، ناضل الأمراء، وبخاصة العباسيين، للتوسل بالعلماء من أجل شرعنة نظامهم السياسي واضفاء المشروعية الدينية على سياساتهم وقراراتهم، كما ظهر ذلك في المحاولات المجهضة التي قام بها الخليفة المنصور العباسي في مسعى لاقناع الامام مالك كيما يصبح فقيه الدولة عبر إقرار كتابه الفقهي (الموطأ) كمرجعية تشريعية للمسلمين، ولكن مالك رفض ذلك على أساس الخلافات المتنامية والانقسام بين المسلمين. وفيما عبّر الامام أبو حنيفة عن ممانعة شديدة لمحاولات الخضوع للأمراء، أي عبر اصدار عدد من الفتاوى لصالح الثوار العلويين ضد العباسيين، فإن تلميذه أبا يوسف نجح، منذ كان قاضي الدولة خلال فترة الرشيد، في تخليد فقه أبي حنيفة.

وعلى أية حال، يمكن ملاحظة أن مذهبين اسلاميين إنتشرا بدعم من الدولة وبقرار منها، وهو المذب المالكي في المغرب ـ الاندلس والمذهب الحنفي في الشرق ـ العراق، فيما كان أنصار المذهب الشافعي ينبثّون في بلاد الشام، وتحديداً سوريا ولبنان.

بالنسبة للامام أحمد بن حنبل الذي ظهر في أعقاب المذاهب الثلاثة آنفي الذكر، فقد عزف كلياً عن العمل بمبدأ الاجتهاد، وكانت له نزعته الخاصة في الميل نحو إعتماد القرآن والحديث كمصدري تشريع. من الناحية السياسية، لعب الامام أحمد دوراً حاسماً في قضية خلق القرآن في موقف اعتراضي مضاد لوجهة نظر الخليفة المأمون. إن الموقف التيولوجي والشرعي للامام ابن حنبل يقضي برفض أي شكل من أشكال العصيان السياسي المدني والمسلح ضد موقع الخلافة، وكان يؤكّد بإلحاح شديد على طاعة الأمراء سواء كانوا عدولاً أو جائرين، وقد تركت وجهة النظر هذه تأثيراتها الواسعة في خط أنصاره وأتباعه اللاحقين، بل وأصبحت فارزة شاخصة ومعلماً أصيلاً للمدرسة الحنبلية. وعلى حد قول شيخ الاسلام ابن تيمية أنه في حال انفصال الدين عن السلطة فإن الفوضى والفتنة ستعم الدولة. ولذلك فإن ابن تيمية تمسَّك برؤية ترتكز على عقيدة راسخة تقضي بالوحدة السياسية للمجتمع الاسلامي فيما يرتبط بشرط المبايعة، والتي تعني تعاهد متبادل بين الامام ورعاياه، والتي تضمن سلطة مؤثرة بالنسبة للامام وسلام إجتماعي وازدهار بالنسبة للرعايا.

الاصول التاريخي للوهابية: إنحلال وتشظي سياسي

بحسب مقولة سارية في نجد (نجد لمن سيفه أطول)، وهي مقولة تلخّص الوضع السائد والاضطرابات السياسية والاجتماعية في هذا الجزء من شبه الجزيرة العربية. وفي غياب حكومة مركزية، أو حتى شكلٍ من أشكال التحالف القبلي الذي قد يلعب قوة مهيمنة، فإن المنطقة تشهد بصورة تلقائية اضطرابات حادة واقتتال داخلي يتسم في الغالب بالشراسة. على النقيض، فإن بعض القبائل والواحات حافظت على استقلالها، وحتى مدن الواحات مثل العيينه والدرعية، والرياض والتي كانت تعتبر أكثر تأهيلاً للقيادة في نجد فلم تكن سوى عند الحافات المرسومة حينذاك.

إن حقيقة الامر، كان لكل قبيلة زعيمها وقاضيها وهو يمثل رمز وحدة القبيلة. ومع تدهوّر الاوضاع الاقتصادية في الامبراطورية العثمانية في القرن الثامن عشر، أدى ذلك الى تقليص المناشط التجارية في نجد والتي كانت تعتمد بصورة رئيسية على تجارة الترانزيت والنقل بحكم موقها بوصفها محطة وصل حرجة بالنسبة لخطوط التجارة البرية. يضاف الى ذلك التناقص الحاد في مداخيل الحج، والتي إنعكست سلبياً وبصورة إجمالية على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في نجد. إن موجات الغارات التي شنتها القبائل النجدية كانت بهدف البحث عن مصادر عيش وتأمين المبررات المادية لتماسكها الداخلي.

وكإجراء إحتياطي، فقد بدأت القبائل في فرض أعباء مالية على الافراد والجماعات التي تتمتع بحمايتها. ولكن لم يكن بالامكان تحقيق الاستقرار السياسي، أو تأمين سلامة الروابط التجارية، ووقف غارات البدو بدون حكومة مركزية.

الايديولوجية الوهابية: الربط بين الديني والسياسي: دين ودولة

ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مؤسس المذهب الوهابي، في العيينه، وقد كان أبوه قاضياً في الحريمله، قرية من قرى نجد. وبعد موت والده، أصبح الابن قاضي القرية، وكان في الوقت نفسه يعارض بعض الممارسات الطقسية السائدة في تلك القرية، الامر الذي أثار جماعة من أهلها فهرب منهم الى العيينه. ربما كان انتقاله الى الاخيرة قد فتح عينه على ميزة التنقل في الاسفار فقام يطوف البلدان والمناطق من ايران الى العراق الى سوريا ومصر وفلسطين، واختلط بأهالي هذه المناطق، مع أن القليل مما كتب عن التأثيرات التي تركتها عليه رحلاته واقاماته في هذه الاماكن، ولربما تعمد الناقلون عنه إغفال هذا الجانب في حياة هذا الرجل، الذي يرون فيه مصلحاً وله اليد العليا والكلمة الفصل فهو يؤثر ولا يتأثر.. فقد رحل للتبشير بالدعوة وهداية العباد، هكذا هي الرسالة التي نعثر عليها بسهولة ووضوح في مصنّفات مؤرخي الشيخ ابن عبد الوهاب.

صنّف الشيخ محمد بن عبد الوهاب تسعة عشر كتاباً، تتعلق بقضايا دينية عقدية محضة، مثل التوحيد، التقديس والتوسل بالاولياء والصالحين، وزيارة القبور، والنذور. إن دراسي تلك الكتب يجادلون بأنه بالرغم من أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب تناول موضوعات دينية خالصة وأن مايقرب من 90 بالمئة من هذه الكتابات مؤسسة بصورة رئيسية على تراث القرون الثلاثة الاولى، الا أن الدلالات السياسية لهذه الكتابات كانت شديدة الوضوح. لقد شكّلت هذه الكتابات، حسب بعض الدارسين، الأرضية الخصبة لتغيير سياسي كبير في الجزيرة العربية والمنطقة بصورة عامة.

إن دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب ومعتقداته أحدثت صدمة وهددت مجموعات دينية هامة مثل الصوفية (بالرغم من حقيقة أن الشيخ ابن عبد الوهاب نفسه قد تأثر الى حد ما بالتعاليم الصوفية في فترة ما)، وكذا أولئك الذي أفادوا من تقديس الاولياء مثل عدي بن مسافر عن طريق النذورات.

لقد بدا بوضوح أن كتابات، وتعاليم، وفكر إبن تيميه قد لعبت كقوة صامته في المدرسية الاسلامية والتي كانت تسفر دائماً عن حركة احتجاج ضد البدع. أما بالنظر الى الواقع الديني في الجزيرة العربية، فقد قيل بأن تقديس الاولياء كان هو الممارسة الطقسية المهيمنة والشائعة في نجد والاحساء وأجزاء أخرى من منطقة الخليج. وبناء على إبن غنام فإن غالبية معاصريه كانت منغمسة في عبادة الاولياء، والاشجار والاحجار بدلاً من عبادة الله. فقد توسل هؤلاء بتلك المخلوقات لحل مشكلاتهم. وفي وادي حنيفة، على سبيل المثال، كان هناك ضريح لزيد بن الخطاب، وكان مركز أماني الناس وأحلامهم، بالاضافة الى عدد من قبور النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

الى جانب ذلك، فقد لحظ بعض المؤرخين بأن الاسلام قد أحدث تغييراً ضئيلاً ونفوذاً في نجد. ومن وجهة نظر دينية، بحسب زائر فنلندي لمنطقة نجد في منتصف القرن الثامن عشر، فإن القبائل كانت نادراً ما تميل للدين. وأكثر من ذلك، يقول الزائر (كان من النادر جداً أن أصادف فرداً قبلياً يمارس الطقوس الدينية أو إن كانت لديه فكرة بسيطة حول مبادىء الاسلام أو حتى أركانه الاساسية). وقبل بزوغ نجم الوهابية، لم يكن لدى البدو في نجد أدنى معرفة بسيطة حول الاسلام.

إن السؤال الذي يتطلب إجابة دقيقة هو لماذا أن تقاليد دينية كتلك التي جاءت بها الوهابية شكّلت أساس التغيير السياسي في منطقة نجد وما حوله؟ا. إن الجواب، بلغة مبسّطة، هو أن محمد بن عبد الوهاب خلق حركة أيديولوجية تتضمن عناصر دينامية صالحة لتغيير إجتماعي سياسي، وهو ما إستوعبه بدرجة كاملة محمد بن سعود. فقد تبنى الشيخ محمد بن عبد الوهاب فكرة جوهرية تمثل صمام الامان الايديولوجي لمشروع التغيير السياسي وهي أن غياب الاسلام في الحياة الاجتماعية كان السبب الرئيسي في الانحلال الاخلاقي المجتمعي والذي قاد الى كساد اقصادي، واضطراب سياسي، واختلال إجتماعي. باختصار، فإن الوهابية نشأت كرد فعل على الازمة الروحية في مجتمع شبه الجزيرة العربية وبخاصة في نجد.

مؤديات التحالف الوهابي السعودي

لاشك أن التحالف بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والامير محمد بن سعود كان ضرورة لاقامة الدولة.

أ ـ طبيعة التحالف: لقد بحث الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن منطقة آمنة لنشر عقيدته، فأخذ من الدرعية ملجئاً تحت حكم محمد بن سعود، الذي كان في البدء متردداً في التعامل مع القادم الجديد. ولكن زوجة محمد بن سعود أقنعته بأن يلتقي به وأن يرى ما لديه، وكانت تصفه بأنه (هبة من السماء). من جانبه، تعهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أول لقاء جمع بينه وبين الامير محمد بن سعود بأن يحكم الاخير نجد ويبسط سلطانه فيها إن هو إمتثل لعقيدة التوحيد. وحسب قوله، إنها كلمة ـ أي التوحيد ـ من تمسّك بها ملك البلاد والعباد. إن هذا المقترح المفتاحي غيّر مصير منطقة نجد والجزيرة العربية برمتها، وقد التقى هذا المقترح دون شك مع تطلعات محمد بن سعود. ولكن الاخير ظل مرتاباً حول جملة أمور تتعلق بحكمه في نجد ولذلك تمسّك بإتفاقية مشروطة مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وذكر شرطين مركزيين: الاول، أن يبقى الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الدرعية حتى لا يستبدل محمد بن سعود في حال خروجه عنها، الثاني أن يدرك تماماً الموقف الشرعي من كمية المحصول الذي يأخذه من رعاياه الخاضعين تحت سلطانه. وفيما قبل الشيخ ابن عبد الوهاب الشرط الاول، فإنه استبدل الشرط الثاني طالباً منه أن يتخلى عنه وأن يجد عوضاً مجزياً وجزيلاً من الغنائم من المناطق التي سيغزوها.

وفي ضوء هذا التفاهم الصلب والذي إتسم بالسلاسة، أثمر اللقاء بين بن سعود وبن عبد الوهاب في انعقاد حلف تاريخي في (1157 ـ 1747) والذي وضع مشروع الدولة على سكة البداية لتحقق آمال الطرفين: فالوهابية كانت تبحث عن قوة تحميها من أجل سلامتها ونشر مبادئها، فيما كان آل سعود بحاجة الى مظلة دينية وشرعية تسوّغ تمددهم العسكري واستقرار حكمهم.. لقد كان واضحاً بأن الاهداف الاستراتيجية للتحالف تتلخص في (الفتح) و(الغنيمة)، وكان السيف المجّرد يتقدمه لواء الدين لتحقيق غايات دنيوية محضة.

الشيخ عبد العزيز بن باز: تأييد مفتوح للدولة

وبالرغم من حقيقة أن التحالف يقضي بأن تبقى الشؤون السياسية في أيدي محمد بن سعود وسلالته فيما يحتكر محمد بن عبد الوهاب وسلالته الشؤون الدينية، الا أن محمد بن عبد الوهاب لعب دوراً حاسماً في المرحلة الاولى من الدولة السعودية. وبحسب متخصصين في التاريخ السياسي السعودي، فإن محمد بن عبد الوهاب مارس سلطة واسعة وكبيرة وكان يعلن الحرب والسلام، فيما كانت القرارات والتصريحات الصادرة عن محمد بن سعود أو ابنه عبد العزيز تستند على تعليمات وتوجيهات من الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

في حقيقة الأمر، إن تعاليم وكتابات الشيخ محمد بن عبد الوهاب وفّرت كل مبررات الاستقرار للحكم السعودي. وكما هو شأن الحنابلة، فإن تعاليم ابن عبد الوهاب شدّدت على أن طاعة الحكام واجبة دينياً حتى لو كان هؤلاء الحكام ظالمين، بل وإن من يخرجون عليهم فإن مصيرهم النار وبئس القرار. يضاف الى ذلك، فإن علماء الوهابية قد دعوا بقدر كبير من الالحاح بأن الزكاة هي واجب ديني، وأن يتم بلا مناص دفعها بصورة دائمة دون تردد. وقد كان جمع الزكاة في واقع الأمر يتم بصورة تنظيمية وثابتة، وكانت هناك مؤسسة الزكاة التي كانت تضطلع بالمهمة من خلال إرسال جماعة من المحصّلين مصحوبة بفرقة مسلّحة تطوف المناطق لجمع الزكاة.

إن أول خطوة أقدم عليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب تمثّلت في بعث رسائل الى العلماء خارج منطقة نجد يدعوهم فيها الى الانضمام للدعوة الجديدة والانضواء تحت لواء إمارة محمد بن سعود. لقد آمن محمد بن عبد الوهاب وسلفه بأن كل مسلم لا يعتنق ما هم عليه يكون أشد جهلاً وشركاً من أولئك الذين كانوا في الجاهلية وقبل إنبعاث رسالة الاسلام. وعليه، فإن هذه العقيدة حظيت بمباركة وتأييد آل سعود كونها تؤسس لبناء سلطة موحّدة تستمد مشروعيتها وتماسكها من وحدة المجتمع خلف السلطة، اضافة الى أنها توفّر الاساس الشرعي لغزو وتجريد الغارات على المناطق الاخرى.

لقد قام وفد مؤلف من ثلاثين عالماً وهابياً بمناظرة علماء مكة المكرمة بغرض إقناعهم بمعتقدات الوهابية ولكنهم فشلوا في مهمتهم، فقرر محمد بن سعود والشيخ بن عبد الوهاب اعلان الحرب ضد الحجاز. وبموجب الاملاء الديني الوهابي فإن إعلان الحرب كان يتطب وصم سكان الحجاز بالكفر، وبحسب تعليمات الوهابية فإن الكافر هو من يصنّف في خانة خصوم الوهابية ومتبنياتها العقدية. وفيما كان عبد العزيز بن محمد بن سعود يشنّ الغارات ضد المناطق المجاورة فإنه كان يرجع بصورة دائمة الى الشيخ محمد بن عبد الوهاب طلباً للمشورة فيما يتعلق بالقضايا العويصة الى جانب إبلاغه عن طبيعة الاوضاع العسكرية. إن العمليات العسكرية، حتى بحسب توصيفات المؤرخين المناصرين للوهابية، قد زرعت الخوف والهلع حيثما وقعت.

إن القوات الوهابية كان تتحرك بدافع الحماسة الدينية، وكان قادة تلك القوات على قناعة بأنهم مصلحون حيث تقتضي مهمتهم الاصلاحية إستعادة الاسلام النقي الذي كان سائداً في القرون الهجرية الثلاث الاولى. لقد اضطر كثير من سكان المناطق التي تعرضت للغزو لاعتناق الاسلام الوهابي طلباً للنجاة وهرباً من الموت المحتم. في حقيقة الأمر، إن إضفاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب صفة الجهاد على الغارات قد قدّم سلاحاً فتاكاً متلفعاً رداءً دينياً وقد مهّد ذلك الطريق لتشكيل وتمدد الدولة السعودية. وبناء على ابن بشر مؤرخ الدولة السعودية فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد رفع لواء الجهاد بعد أن كانت حروب وغارات. إن القبائل التي كانتت خاضعة للدولة الوهابية قدّمت تعهداً أمام الشيخ ابن عبد الوهاب وعبد العزيز بن محمد بن سعود بأنها ستشارك في الجهاد ضد المشركين وتقديم كل الدعم المطلوب للحركة الوهابية وأداء الزكاة للدولة.

إن عوامل التمدد العسكري والانتصار السياسي للوهابية ( في أعقاب التحالف بين الشيخ والامير) هي:

1 ـ الانقسام بين حكام نجد والذي مكّن الوهابيون من انزال الهزيمة بهم الواحد تلو الآخر.

2 ـ الصراع الداخلي بين العوائل الحاكمة والذي ساهم في إضعاف قدراتها لمقاومة التحديات الخارجية والتي قدّمت فرصة بالنسبة للقوى الخارجية لاستغلال الانقساميين لأغراضها الخاصة.

3 ـ هجرة عدد من القبائل النجدية الى العراق نتيجة تزايد الضغط السعودي الوهابي، والتأثيرات المتوقعة للتغيرات الطقسية والموسمية بما شكّل عاملاً إضافياً لنجاح مشروع الجهاد الوهابي السعودي.

4 ـ إعتناق عدد من الجماعات الوهابية بصورة سلمية بما ساهم في تزويد دعم هام للتوسع وانتشار الوهابية في الجزيرة العربية.

ب ـ دور ابن عبد الوهاب: مثّل الشيخ محمد بن عبد الوهاب المصدر الاعلى لتفسير الاسلام، وبذلك كان وحده القادر على توفير المشروعية للسياسات السعودية. وفيما عارض الوهابيون الاسلام الذي كان يطبقه العثمانيون، والذي كان مقبولاً من الشعب الحجازي، فإن الشيخ ابن عبد الوهاب أنتج المسوّغ الديني لاحتلال المدينتين المقدستين وفرض نموذجه الديني على خلفية أن الدولة العثمانية غير شرعية. وقد سمح هذا المسوّغ الايديولوجي القاضي بتجريد العثمانيين من المشروعية الدينية بمصادرة المناطق المجاورة وممتلكات القبائل والتي تم تصنيفها في خانة المسلمين غير الصادقين بل والمشركين.

وفيما دعى الشيخ محمد بن عبد الوهاب الى تطبيق صارم للشريعة الاسلامية وبخاصة فيما يتعلق منها بالعقوبات الدينية (الرجم للزاني المحصن، وقطع يد السارق وغيرها)، فإن مثل هذه الاحكام ساهمت في قمع المجتمع، كخطوة وصفت بأنها مساهمة جوهرية في تحقيق استقرار الدولة.

لم يكن الشيخ بن عبد الوهاب عالم دين فحسب، ولكن كان مسؤولاً عن تنظيم القوات العسكرية وادارة الشؤون الداخلية والخارجية، وكتابة الرسائل الى العلماء في الجزيرة العربية، وإبلاغ الدعوة ومطالبة الناس بطاعة الحاكم في الدرعية وحتى الشؤون المالية كانت تدار بالتشاور معه. فقد كانت دعوته القوّة المحرّكة للمنضوين تحت دعوته للانضمام الى مشروع الجهاد وممارسة ما يمثل قناعة بأنه تطبيق لكلمة الله.

كان الشيخ ابن عبد الوهاب يعيّن القضاة ويرسل الدعاة والمبلّغين الى المناطق لنشر تعاليم ومعتقدات الوهابية، ومع إنشاء حكومة مركزية وقوية فإن الامن قد تحقق لصالح العقيدة الجديدة الى جانب الحكم الجديد. وكأثر لذلك، فقد دبّ النشاط في الطرق التجارية التي تمر عبر وسط الجزيرة العربية وأصبحت مصدر دخل الدولة، كما بدأ الرفاه ينعكس على الاوضاع المعيشية لسكان نجد: في ملابس الرجال، ومجوهرات النساء وغيرها. لقد صنع الشيخ بن عبد الوهاب علاوة على ذلك هوية عليا وايديولوجية كونية ضمن إطار عصبوي اقليمي، أي احالة نجد الى قاعدة واطار حاضن لامتياز جماعة خاصة تعيش في حيز جغرافي محدد: فالروابط والعلاقات لم تعد منذاك قائمة على الحسابات القبلية والمناطقية والمادية، بل إن خصوم الأمس قد أصبحوا أخوة اليوم بفعل قوة الدين التي حققت أقوى عملية دمج بين القبائل المتناحرة لتتأهل في وقت لاحق للقيام بمهام عسكرية منتظرة. لقد أضفى الشيخ بن عبد الوهاب معنى دينياً على الدولة، وأن محفزات العصيان وسط قبائل نجد المتناحرة قد جرى استبدالها بالطاعة، أي طاعة السلطان ـ الأمير ـ الدولة، حيث أصبحت الطاعة واجباً دينياً الى جانب كونها قيمة إجتماعية ضرورية.

حقيقة الأمر أنه مع ظهور الدولة الوهابية السعودية الجديد أصبح كل مهمة، دور، واجب، ملكية، فرد تكتسي معان دينية مقدّسة، فمجال القداسة بمعناها الديني قد أحاط بكل أشياء الدولة الجديدة، ولم يعد هناك ما يسمح لأحد أن يخترق هذا المجال ما لم يكن يمتلك سلطة دينية أعلى وأشد تأثيراً. فحتى الجنود الذين التحقوا بالتدريب العسكري قد أصبحوا على قناعة بأنهم يمتثلون لواجب ديني وليس مجرد خدمة وطنية فحسب.

إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي كان مهجوساً بدرجة أساسية بتطبيق الشريعة قد توصَّل الى أن لا غنى عن الدولة من أجل تطبيق الدين تماماً كما تصوّر الشيخ إبن تيمية تطبيق الشريعة من خلال الاستعانة بالدولة، والتي هي، حسب عقيدته، جزء صميمي من الدين. ولذلك، فإن الدفاع عن الدولة وحمايتها واجب ديني على اساس أن ذلك في نهاية المطاف حماية للدين، وعليه تصبح طاعة الحاكم واجبة شرعاً.

بعد موت الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أصبح سعود الكبير حاكم نجد المطلق وفي الوقت نفسه امام الوهابية (فقد كان متزوجاً من ابنة الشيخ ابن عبد الوهاب). لقد توحّدت السلطتان السياسية والدينية وبات بإمكان سعود الكبير أن يحقق كل أهدافه السياسية دونما حاجة للرجوع الى شخص آخر، فقد كان من قبله يضطرون الى ذلك من أجل التزوّد بالوصفة الدينية.

وكما يظهر من سيرة العلاقة بين العلماء والأمراء في الدولة السعودية، فإنه بعد أكثر من قرن فقد نقل عبد العزيز بن سعود ذات التجربة وأحيا التحالف مع أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أجل عقد مصاهرة دينية وسياسية كانت بداية تأسيس ونشوء الدولة السعودية الحديثة عام 1932.

علماء الوهابية: مشروعية بمضمون متخلف

عبد العزيز آل الشيخ: عارض انتهاكات الدولة ثم أصبح مفتياً لها

لقد أفضى التحالف الديني السياسي الى قيام العرش السعودي، وكان لابد للسياسي أن يرسم مسار الديني في حركة الدولة، فقبول علماء الوهابية بالتحول الى طبقة اكليروس داعمة للدولة السعودية قد خفّضهم تبعاً لقوة الاخيرة في فرض سلطانها، وإن حفظت الدولة لهم جزءاً من المكتسبات الدينية الضرورية لاستقرار الدولة ومشروعيتها وهيمنتها، وقد يجادل البعض بأن علماء الوهابية لم يكونوا مصدر تشريع فعلي، بقدر ما كانوا اداة لتسويغ السياسات السعودية، ولربما كان إنشغالهم الدؤوب في ترسيب وترويج قضايا دينية ثانوية قد فصلهم عن حركة الزمن الذي كان يفترض العيش فيه بكل أبعاده، ولكنهم بهذا المسلك الجامد أفسحوا الطريق أمام طبقة الحكام كيما تعزز سلطانها وتشدد من قبضتها على الحكم، وفي نهاية المطاف أصبحت وظيفة العلماء توفير الشرعية للحكم فحسب. وفي واقع الأمر، إن انحباس العلماء في تعميق الايمان الديني بقضايا مقطوعة الصلة بالواقع المعاش، أوقف حركة الدين لصالح حركة الدولة التي كانت تحث الخطى نحو ترسيخ أركانها وهيمنتها الكاملة.

لقد تقلّصت حدود إهتمامات علماء الوهابية الى درجة أنهم باتوا منغمسين بصورة شبه كاملة في الامتثال لتفسيرات منغلقة للنص الديني. إن واحدة من أمثلة الانهاك الشديد لمجهود العلماء تمثّل في الردود على بعض المعتقدات الدينية الخاصة والمتعارضة في تفسيرات النصوص المؤسسة لها مع حقائق علمية ثابتة. فقد صرف بعض علماء الوهابية جهداً كبيراً في (الرد على القائلين بكروية الارض)، وهو ما لا يصرف عشره على عملية الاصلاح الاجتماعي فضلاً عن الإصلاح السياسي. ففي مؤتمر الفضاء العالمي الذي إنعقد في الرياض في عام 1990 وحضره أكثر من 50 عالماً من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وطاف فيه هؤلاء العلماء على كافة الكليات بجامعة الرياض وتحت اشراف قسم الفلك بالجامعة المذكورة وعقدت جلسة على هامش المؤتمر في قاعة 27/2ب وهي اكبر قاعة في جامعة الرياض، حيث تستوعب أكثر من 15 ألف شخص، وقد كان على رأس الجلسة رئيس دائرة الافتاء والدعوة والارشاد والمفتي العام السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز، بهدف اثبات بطلان كروية الارض ودورانها وقد سئل الشيخ بن باز فأجاب بتكفير من يقول بكروية الارض وكان دليله أن الارض لايمكن ان تكون كروية لأن الانسان في اليابان اذا أشار من فوق الكرة الارضية الى الله وهناك انسان في دولة اخرى تقع تحت اليابان واشار الى الله يقع التناقض بين الاشارتين فكيف يصح أن يقال الله فوق وإستدل على ذلك بظاهر الآية (والارض بعد ذلك دحاها).

وبطبيعة الحال، فإن تقلّص الهامش الديني للعلماء أفضى في نهاية الأمر الى تقلّص هامشهم السياسي أيضاً، إذ أن الانخراط في الشأن السياسي يتطلب أدوات ذات طبيعة مختلفة عن تلك التي كانت لدى العلماء، وقد زاد في تهميشهم التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها البلاد لاسيما بعد اكتشاف النفط وتعقد الحياة الاجتماعية واتساع المؤسسات الرسمية وتضاعف حجم المسئوليات وهذا ما لايتناسب واهتمامات علماء المذهب، فقد كانوا غير قادرين على مواكبة التطورات المتسارعة، الى جانب عجزهم عن استباط أحكام شرعية في القضايا المستحدثة.

في مقابل تلك الصورة السالبة لدور العلماء، الا أن ثمة مؤسسات أخرى ساهمت في تعضيد مكانة رجال الدين في الدولة السعودية، رغم أن الاخيرة أفادت من عمل هذه المؤسسات من أجل ضبط الامن وفرض النظام وفي الاخير استقرار السلطة.

ـ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

يعتقد الماوردي (توفى 1058م) وابن تيميه (توفى 1328م) أن الالتزام بمبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في بنية الحكومة الاسلامية يشكل رادعاً شرعياً للحد من تغوّل الدولة وتنفّذها في السلطتين التنفيذية والقضائية، الاّ ان التطبيق الوهابي لهذا المبدأ حقق أكبر انتصار للحكومة السعودية في ابتلاع السلطتين معاً.

وقد نشأت هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على يد الشيخ عبدالعزيز بن عبداللطيف آل الشيخ عام 1903م بالرياض ثم توسعت لتشمل مناطق أخرى في نجد والاحساء وضمت الشيخ عمر بن حسان آل الشيخ والشيخ عبدالرحمن بن اسحق آل الشيخ والشيخ عبداللطيف آل الشيخ، وانتظمت في داخل الهئية لجان تابعة للدولة وقد تولى حاكم الحجاز فيصل بن عبدالعزيز الملك فيما بعد ادارة الهيئة وكان بدوره مسؤولاً أمام أبيه الملك عبد العزيز وتتلخص مهمة هذه اللجان في ملاحقة المخالفين للتعاليم الوهابية وإدخال المشتبه بهم في سجون الدولة وانزال العقوبات بمن ثبت اختراقه للتشريعات المذهبية الوهابية.

وقد تكفل المطاوعه كطابور وهابي يشغل المراكز التابعة لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في تحقيق هدفين متداخلين في آن واحد: نشر المبادئ الوهابية عبر اخضاع المجتمع لعملية توجيه قسرية وإن تطلب ذلك إستخدام وسائل القوة، وثانياً: تعزيز النظام السياسي وتحقيق الولاء للنظام السعودي الحاكم وباختصار فان (المطاوعه) ربطوا شاءوا أم أبوا بين الولاء للسلطة وبين الولاء للدين الاّ أن الغلبة كانت في نهاية الامر لولاية السلطة التي استخدمت الولاء الديني كاداة للسيطرة والتسلط. لقد تحوّلت الهيئة الى إحدى تمظهرات القوة الاكراهية في الدولة، وإحدى اشكال التعصب الديني الذي يملي على الافراد طريقة صارمة ومحددة في الالتزام، حتى وإن لم تكن مؤسسة على الاقناع والاعتقاد الحر.

ومنذ أن وضع الفقيه المكي الشيخ محمد بهجت البيطار بطلب من قاضي القضاة التابع لابن سعود عبدالله البليحد، الشروحات على مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يحدد مهام (المطاوعه) أصبح الخطاب الديني في الهيئة ذا مضمون سياسي مما أفقد الهيئة طابعها الارشادي، فقد نظر إنسان شبه الجزيرة العربية الى(المطاوعه) بوصفهم رجال دولة لا رجال دين بسبب الوسائل المتبعة في الهيئة، إضافة الى الاهتمامات الثانوية التي ركزّ عليها المنتسبون اليها في مراحل سابقة فيما يخص بعض الظواهر الاجتماعية كمنع التدخين، ومراقبة الاسواق، وملاحقة أصحاب الشعور الطويلة، وسوق الناس بالعصا الى المساجد، ودفع أتباع المذهب الوهابي للمداومة على صلاة الجماعة وهي إهتمامات في ظاهرها حسنة فيما لو أمكن تجريدها عن الملابسات الاخرى.. لقد تحوّلت هذه الاهتمامات الى مفردات كبيرة في المشروع السياسي السعودي، حيث استعاض الحكام السعوديون وسيلة الاقناع الحر بوسيلة القهر بعد أن جعلوا من المؤسسة الوهابية اداة سلطوية حققت غرض تثبيت النظام السياسي.

إن القهر الذي عانى منه المواطن في الالتزام بمثل تلك القوانين الدينية الصارمة إستتبعه العيش في سياق قهر آخر وهو القهر السياسي، فكانت معاناته من ملاحقات المطاوعه قد أفضت الى تضييق إطار حركته وحشره في نمط ضيق من التفكير في كيفية التخلص من رصد المطاوعه ما جعله غير قادر على رفع معاناته السياسية والارتقاء بتطلعه نحو أعلى الهرم السلطوي، ولذلك فإن تكسير الحاجز الديني كان ضرورياً من أجل تكسير الحاجز السياسي للارتباط الحميمي بينهما ولاستناد السلطة على ركيزة دينية مشرعنة.

ولأن الحكام السعوديين استرخصوا دور العلماء بعد استخدامهم كأداة للسيطرة فكان لابد أن يرّد الحيف الذي انزله العلماء في الشعب الى العلماء انفسهم، الذين قبلوا بالتحول الى الى وكلاء عن السلطة بما جعلهم رهناً نهائياً وتاماً لها ولأغراضها.. ولكن العلماء الذين استمرقوا خطايا السلطة الفادحة وجدوا أنفسهم في حوادث معينة في مواجهة معها، سيما حين قررت السلطة تجاوزهم بطريقة سافرة.. وهو ماحصل عملياً على سبيل المثال إبان أزمة الخليج الثانية، أي بعد إحتلال العراق للكويت في الثاني من اغسطس عام 1990م وقدوم القوات الاميركية بعد ثلاثة أيام من تاريخ الاحتلال مما أثار سخط الشعب بما في ذلك عدد من علماء الوهابية خاصة وأن من بين القوات الاميركية عشرة الآف أمرأة مجندة كنّ يتجولن متبرجات في الاسواق والشوارع العامة بسياراتهن العسكرية، وهي ظاهرة غير مألوفة في شبه الجزيرة العربية، الامر الذي أثارسخط العلماء وفجّر غضباً مكبوتاً بداخلهم، وقد تسرب السخط الى المؤسسات الدينية الرسمية.

وكان من بين الساخطين العلماء العاملين في هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بما في ذلك رئيس الهيئة نفسه الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن ابراهيم آل الشيخ (المفتي الحالي) الذي أفصح عن إستنكاره لظاهرة انتشار الجنود والمجنّدات في الشوارع العامة بما يمثّل إستفزازاً لمشاعر المواطنين وبخاصة المجتمع الديني السلفي، فقام بتسيير المطاوعه والدوريات لملاحقة تلك المظاهر الاّ أن حظه قادهُ للفصل ومغادرة المنصب حيث صدر في 15 ديسمبر 1990م أمر ملكي بتعيين الدكتور عبدالعزيز بن عبدالرحمن السعيد رئيساً عاماً لهيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمرتبة وزير.

ويعد تعيين السعيد الأول من نوعه في تاريخ الهيئة، حيث أن السعيد لا ينتمي تعليمياً الى المؤسسة الدينية السلفية فقد تلقى تعليمه الديني في الجامع الازهر، وهذا خلاف الرؤساء الماضين الذين تخرجوا من المؤسسة التعليمية الوهابية، وكان إختيار السعيد كونه أقل تشدداً ومقرّباً من دوائر السلطة.

الدين والدولة من يحكم الاخر؟

يمكن القول بأن مناشط هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، كأحد أدوات التبليغ الديني وضبط النظام بقيت مورد جدل واسع، سيما في ظل تداخل السلطات والصلاحيات بينها وبين الاجهزة الامنية اضافة الى الانتهاكات الواسعة التي اقترفها رجال الهيئة في مجال الحقوق الفردية والحريات العامة، ولكنها في نهاية المطاف بقيت كأحد وسائل الضبط السياسي التي رفضت الدولة التخلي عنها بوصفها مكوّناً جوهرياً من مكونات الجسد الدولتي، وتبقى مع ذلك أحد تجسيدات العلاقة المصيرية بين الدين والدولة.

ـ مديرية البحوث الدينية والافتاء والدعوة والارشاد

تضطلع المديرية بمهام متعددة منها كتابة الابحاث عن الوهابية وتدريب الوعّاظ والمبلغين في حلقات دراسية منظّمة كما تتولى إرسال المبلغين الى خارج البلاد. وقد صدر عن المديرية مجموعة من الكتب والابحاث منها الاعمال الكاملة لمؤسس المذهب الشيخ ابن عبد الوهاب، وهكذا الكتب التي صنّفت عن آثاره، الى جانب طائفة كبيرة من الكتيبات الصغيرة منها: (إرشاد المسلمين في الرد على القبوريين) للشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر وكتاب (حكم شرب الدخان) لعبدالرحمن بن ناصر السعدي وكتاب (هل المسلم ملتزم باتباع مذهب معين من المذاهب الاربعة؟) لمحمد سلطان المعصومي المكي اضافة الى منشورات دينية تقوم المديرية بتوزيعها في الداخل والخارج وتتضمن ردوداً على فرق وملل من المسلمين أو في الرد على انتقادات حول ممارسات محلية ذات طبيعة دينية مثل حقوق الانسان وحقوق المرأة والعقوبات الاسلامية والتشريعات الدينية.

وتتولى المديرية أيضاً مهمة اصدار الفتاوى بشأن القضايا والموضوعات الواردة من قبل الملك والمؤسسات الحكومية أو من المجتمع الديني السلفي. وهناك مجلس أعلى للافتاء منبثق عن المديرية يتم تعيين أعضائه بقرار من الملك رقم 1137/1الصادر في عام 1971 ويحدد القرار أسماء خمسة عشر عالماً من أعضاء المديرية ويقوم هؤلاء باصدار الفتاوى المتعلقة بالشئون الداخلية والخارجية، ويخضع أعضاء المجلس تحت ضغط الامراء حيث تصدر فتاوى في أحيان بما يخدم سياسة الدولة .

وتلعب وزارة الداخلية دوراً رئيسياً في توجيه آليات الافتاء في المجلس وفي إصدار الفتاوى التي تضفي شرعية على قرارات الوزارة دون اطلاع تام وكامل على ملابسات القضايا المرفوعة الى المجلس كأحكام الاعدام التي طالت العديد من المواطنين وبعض مواطني الدول الاخرى تحت طائل (الفساد في الارض).

الديموغاجية الدينية في السياسة

كتب فاسيليف (إن تعمق المشاعر الدينية في الاقطار الاسلامية يضفي صبغة اسلامية على الكثير من النزاعات الاجتماعية والسياسية الجارية فيها ولذلك تزداد في العالم الاسلامي أهمية العربية السعودية بادارة الحرمين).

ثمة افتتان شديد لدى العائلة المالكة باسباغ مسحة دينية على اللهجة السياسية، وفي الخطابات والتصريحات الرسمية، وقد عكف رجالات الدولة على الإفراط في استعمال المفردات الدينية عبر وسائل الاعلام، وقد يفسّر ذلك طريقة توظيف الدين في الممارسة السياسية، وإن كان واقع الحياة الخاصة يتناقض تماماً مع ذلك كله. فهذا أحد المطلعين على اسرار الاسرة وأحد صناعها ينقل صورة متناقضة مع المظهر الخارجي لتلك الاسرة، يقول فيليبي الجاسوس المزدوج (إن محظورات النظام الوهابي القديم سقطت الواحد بعد الآخر أولاً خلسة وحياءً، وبعد حين بقدر أكبر من الجرأة، فبإسم الهيئة العسكرية أخذت الروائع الموسيقية التي طالما حُضرت، تصدح الآن علناً في باحة القصر.. ثم إن العروض السينمائية الممنوعة لم تلبث أن تراجعت بمشاهدها المغرية الى خبايا العشرات من قصور الامراء..).

إن إملاءات السياسة تفرض حين تستعير مشروعيتها من الدين تخلق إزدواجية ذات طبيعة متناقضة تماماً، بما يجعل البون الشاسع بينهما غير قابل للتصديق، فصورة الملك أو الأمير الذي يلهج بأذكار دينية في العلن غير تلك الصورة التي يكون عليها في الخلوة والجلسات المغلقة، فقد نقل عن الملك فهد أنه كان يستعمل أقذع الالفاظ في جلساته الخاصة، ولكنه يجتهد في ترديد بعض الايات القرآنية والاحاديث النبوية في اللقاءات العلنية. فالملك وأفراد قبيلته هم حماة الاسلام وخدّام الحرمين ودعاة في سبيل الله وهذا ما تفيض به خطاباتهم وتصريحاتهم، ففي رد على سؤال الصحفيين الاميركيين عام 1970م عن صحة نبأ انتشار حملة اعتقالات واسعة في البلاد اجاب الامير فهد ـ الملك فيما بعد ـ قائلاً (انهم فئة ضالة ونريد أن نعيدها وهي وسيلة معتمدة لدى النظام السعودي في كافة الاحوال).

ولاشك أن الثروة النفطية التي تم توظيف جزء منها للترويج للرسالة الدينية للدولة السعودية قد ساهمت في ترسيخ البعد الديني للدولة. لقد حكمت العائلة المالكة بالدين قلوب المسلمين وحكمت بالمال ألسنتهم فهما عنصران متكاملان متعاضدان وأن أي خلل في احدهما يضر بالعنصر الآخر.

وكان الخاسر الاكبر في هذا المشروع هم العلماء الذين افترستهم الدولة وجعلت منهما طعماً تصطاد به ولاءات المسلمين في الداخل والخارج وتخدع به السذج والبسطاء وكانت خيبة أمل هؤلاء العلماء حينما استبعدتهم الاسرة المالكة من المراكز الحكومية خلافاً للتحالف الاستراتيجي السعودي الوهابي وفضلاً عن افتقار كثير من هؤلاء العلماء القدرة على ادارة المؤسسات المدنية الحديثة مما دفع الحكومة السعودية الى تهميش دور هؤلاء العلماء واستثمارهم كقوة إسناد للسلطة وليس نداً لها تتقاسم معه السلطة كما كان يتصور الوهابيون. يقول أيمن الياسيني (إن العلماء ألحقوا بادارة الدولة فأصبحت قوانين الدولة تنظم نشاطات العلماء. والدولة بحكم تفرّدها بالسلطة وبالموارد واضطرارها الى صيانة استقلالها، لاتسمح بوجود سلطة دينية مستقلة أخرى ربما نافستها في كسب ولاء المواطنيين. وعلى ذلك وسعت الدولة سلطاتها ليشمل القطاع الديني).

وكان خضوع العلماء تحت وطأة التسلط السياسي قد جعل التفسيرات الدينية موجهة بما يخدم الممارسات السياسية للسلطة الحاكمة كما حصل في تجارب الحكم السابقة. يقول حليم بركات (ان العلماء شكلّوا طبقة وخضعوا للحاكم في غالبية الحالات وفسرّوا النصوص الدينية من منظور الطبقات الحاكمة،..بسبب اقوال نشرّها بعض العلماء مثل الماوردي وابن تيميه على ان الخليفة او السلطان هو ''حكم الله في بلاده وظله الممدود على عباده'' و ''إمام عادل خيرمن مطر وابل، وإمام غشوم خير من فتنة تدوم'' و ''طاعة الائمة من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله'' و ''اذا كان الامام عادلاً فله الاجر وعليك الشكر واذا كان الامام جائراً فله الوزر وعليك الصبر'').

لقد نجحت السلطة السياسية في إحتواء تأثيرات العلماء وإخضاعهم بطريقة مذهلة بحيث وجد العلماء أنفسهم في اتون الصراعات السياسية داخل الاسرة المالكة وبين الاخيرة والاطراف الاخرى وكان على العلماء أن يمدّوا السلطة بفتاوى لتبرير اجراءاتها.. ففي حربه مع اشراف الحجاز، قام ابن سعود بتحريك العلماء وأثار فيهم الحمية الدينية بهدف اصدار الفتاوي الرامية الى التعبئة العسكرية العامة في صفوف الناس بقيادة ابن سعود، من أجل شن حرب مقدسة يكون الرابح الأول فيها هو الحاكم فيما يتساقط الآف الأبرياء ضحايا في حرب يسوّغ لها العلماء لصالح الأمراء!! والحال نفسه تكرر في الصراع الداخلي في الأسرة المالكة في قصة إقالة الملك سعود بن عبدالعزيز والتي نفذها امراء البيت السعودي (فيصل واخوته) وحتى تكون الاقالة نافذة ومشروعة طلبوا من العلماء إصدار فتوى تأييدية فتم ذلك في تاريخ 5 تشرين الثاني 1964م ــ 1/رجب/1384هـ.

وفي واقع الامر أن حركة العلماء جمدت عند هذا الاطار الذي استفاد منه الحكام السعوديون، وكان قبول العلماء بهذا الاطار فرض عليهم الخضوع للعبة السياسية بكافة أشكالها، وان تطلب اتخاذ مواقف متناقضة واصدار فتاوى دينية تنطوي على مخالفات صريحة مع مقاصد الشريعة الاسلامية وروح التسامح الديني الذي جاءت به النصوص الاسلامية.

الصفحة السابقة