الدين والدولة في السعودية

صناعة وتشظّي الرمزيّة الدينية

القسم الثاني

ينطرح السؤال الجوهري حول طبيعة الدولة السعودية بعد قيامها عام 1932: ماذا بعد أن أتمّ التحالف الديني السياسي أغراضه في إقامة الدولة؟ وهل تخلّص الأمراء من نفوذ الدين في السياسة، أم أن ثمة رهاناً جديداً قد جرى التعويل عليه في مرحلة مابعد قيام الدولة ويراد منه تحقيق أغراض السلطة.

سنواجه حقائق جديدة في مرحلة مابعد تأسيس الدولة، وهي تدخل كمؤثرات فاعلة في توجيه دفة السلطة وتقرير السياسات العامة للدولة.. إن هذه الحقائق جاءت لترسيخ دعائم السلطة وتوفير مصادر حماية وضمان لاستقرارها وفي الوقت نفسه تمثّل عوامل ترجيح لهيمنة الدولة وتفوقها. وسنحاول فيما يلي قراءة لتطور العلاقة بين الدين والدولة في ضوء معطيات جديدة ظهرت في مرحلة مابعد قيام الدولة السعودية.

النفط.. والتحول السياسي

منذ أن عرف العالم في بداية القرن العشرين قيمة النفط كبديل إستراتيجي عن الفحم، وبروز أهميته بعد الحرب العالمية الأولى، سعت الدول العظمى للحصول على إمتيازات إستثمار سلعة البترول لاسناد اقتصادياتها التي تدهورت بفعل الآثار المدمرة للحرب، وتثبيت وجودها الاستعماري، وأصبح الصراع الدولي على البترول من معالم المعادلة السياسية التي انتظمت بعد الحرب، وكانت العراق أولى ضحايا تلك المعادلة حيث كان حمى الصراع الاستعماري على امتياز التنقيب عن البترول في العراق يزداد ضراوة فقد اقتسم الاتراك والانجليز والفرنسيون اطراف النزاع في العراق قبل ان تضع الحرب العالمية الاولى أوزارها.

الشيخ سلمان العودة: الاعتدال الظرفي

وفي نهاية الحرب واستماتة المحاربين في جمع الغنائم ولاسيما من قبل القوى الاستعمارية إدَّعت فرنسا أن لها حقوقاً في التنقيب عن النفط في الاراضي العراقية، ودخلوا في محادثات مع الانجليز بهذا الصدد في معاهدة (سان ريمو) بفرنسا وتنازلت الأخيرة للإنجليز عن الموصل في شمال العراق مقابل 25 بالمئة من قيمة النفط المستخرج في تلك المنطقة، إلى أن وقّع الانجليز في سنة 1922م إتفاقاً مع الملك فيصل تم بموجبه ارغام فيصل على توقيع معاهدة تقضي بأن تقع الاراضي العراقية تحت سيطرة الانجليزية المطلقة.

وتمكن الانجليز من أن يمدّوا إخطبوط السيطرة على منطقة الخليج ولا سيما في الكويت والسعودية والبحرين وهذا ما كان يعثّر حركة الشركات النفطية الاميركية التي تمتلك اكبر صناعة نفطية متطورة في العالم كله، بحيث اعطت لوحدها في سنة 1920م حوالي 70 بالمئة من استخراج النفط في العالم (أنظر: أسويبوف، التوسع الاقتصادي للولايات المتحدة الاميركية في الاقطار العربية، ص 16).

في المقابل لم تنل الجزيرة العربية إهتماماً بارزاً من قبل الاطراف المتنازعة على الشرق الاوسط نظراً لكونها صحراء قاحلة سوى الاهتمام بالمناطق المطلّة على الممرات المائية في الخليج والبحر الاحمر لتأمين خطوط المواصلات بين الشرق والغرب. ولكن بعد تفجرّ النفط في ايران والعراق والبحرين بدأ الانجليز يلتفتون الى صحراء الجزيرة العربية بقدر من الاهتمام الى أن قرروا دراسة جيولوجية أراضي الجزيرة العربية.

وقد أعانت اتفاقية دارين الموقعة بين ابن سعود والمعتمد السياسي لبريطانيا في الخليج في 26 ديسمبر سنة 1915م والتي تعهّد فيها ابن سعود بإعطاء الأولوية للانجليز في المشاورة وعدم الاتصال بجهة أجنبية، أعانت ـ الاتفاقية ـ على تفرّد الانجليز بامتياز التنقيب عن البترول في أراضي الجزيرة العربية المطلة على الخليج في منطقة تبلغ ثلاثين ألف كيلو متر مربع مقابل ألفي جنيه استرليني.

وفور توقيع إتفاقية هولمز ـ الضابط النيوزلندي الذي ترك الخدمة العسكرية للدخول في عالم النفط ـ مع ابن سعود في عام 1923م لحساب الشركة الشرقية العامة المحدودة بإدارة هولمز، قدم فريق من خبراء التنقيب عن النفط، الاّ أن هولمز شعر بالاحباط بعد سنتين من التنقيب وعدم ظهور بارقة امل في وجود النفط، فقرر بيع الامتياز على شركة استاندارد اويل اوف كاليفورنيا.

وفي الثلاثينات من هذا القرن تدهورت أوضاع قوى الاستعمار القديم بسبب آثار الحرب العالمية الاولى والازمة الاقتصادية العالمية عام 1929م وصعود الولايات المتحدة كقوة إستعمارية جديدة ووارث لمناطق النفوذ في العالم، حيث بدأ المارد الاميركي يخرج من القمقم لانتزاع مغانم المعركة.

وكان من بين تلك المغانم، إمتيازات التنقيب عن البترول التي شملت الجزيرة العربية، فقد اتصل جون فيلبي بابن سعود وطلب منه التباحث مع المليونير الاميركي كرايسن أحد اعضاء، بعثة (كنغ كريت) في عهد الرئيس ويلسون الى منطقة الشام للتبشير بالمبادئ الاميركية في الحرية والمساواة، وكان برفقة كراين المترجم العربي جورج انطونيوس صاحب كتاب (يقظة العرب)، وقد أرسل كراين خبيراً جيولوجياً يدعى تويتشيل من أجل إكتشاف ترسبات نفطية في منطقة الظهران شرق الجزيرة العربية فعاد الى الولايات المتحدة وقدّم تقريراً لشركات النفط الاميركية.

وفي 29 مايو 1933م ـ 4صفر 1352هـ وقعت اتفاقية جدة بين وزير مالية ابن سعود الاسبق عبدالله السليمان ولويد هاملتون ممثلاً عن ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا، وتم إبرام الإتفاقية بمرسوم ملكي صادر في 7 تموز (يوليو) 1933م وأصبحت الأتفاقية سارية المفعول منذ 14/7/1933م. وفي شهر فوفمبر سنة 1933م منحت الحكومة السعودية امتيازاً لفرع سوكال باسم (كاليفورنيا أربيان ستاندار واويل كومباني)، ثم عدّل الاسم في مطلع عام 1944م الى إرابيان أميركان كومبابي، والتي عرفت فيما بعد باسم (أرامكو)، وقد حقق إنتاج النفط إنفراجاً للازمة الاقتصادية التي عاشها إبن سعود بعد إنهيار عائدات الحج كأكبر رافد اقتصادي للحكومة السعودية والذي تعطّل بعد أن وصلت أنباء الغارات السعودية الوهابية وما رافقها من وحشية واستباحة وقتل لسكان مناطق الحجاز الى المسلمين ولا سيما في الدول المجاورة للجزيرة العربية، الامر الذي أدى الى انخفاض ساحق في عدد الحجاج الوافدين الى بيت الله الحرام الى معدل 1/7 من عدد الحجاج الذين كانوا يتوافدون سنوياً، علاوة على ذلك فقد تأثرت الدولة السعودية كغيرها من دول العالم بأزمة 1929م العالمية والكساد الاقتصادي الذي أصابت آثاره منطقة شبه الجزيرة العربية الى أن غيّرت قصة النفط اوضاع هذه المنطقة، بحيث جاءت العائدات النفطية بمعدلات خيالية والتي ارتفعت من 52.5 مليون دولار عام 1948م الى 113 مليار دولار عام 1981م وبمعدلات انتاج قياسية من 1357 برميل يومياً عام 1938م الى تسعة ملايين برميل يومياً وهو اعلى معدل للتصدير في الاعوام 1979/ 1981م، وذلك بعد أن قررت السعودية تعويض النقص الحاصل في الاسواق النفطية اثر قرار حظر تصدير النفط الى الولايات المتحدة والدول الغربية بعد الثورة الايرانية عام 1979م.

وكنتيجة لماسبق من تطورات حيوية، فقد أصبح النفط عامل تحوّل جوهري في مجمل الاوضاع الاجتماعية والسياسية في المنطقة عموماً وفي السعودية بوجه خاص، وقد فرض هذا التحول على المجتمع والدولة الإنتقال الى مرحلة متطورة تناسب حجم الثروة وقابليات الافادة منها، وقد جاءت نقلة المجتمع بصورة غير منتظمة فبعد أن كان 80 بالمئة من سكان البلاد يعملون في الحقل الزراعي، أصبح 80 بالمئة من العمالة الوطنية منغمساً في مجال الصناعة بعد اكتشاف النفط الامر الذي ادى الى خلق عائق جديد أمام الحكومة السعودية والتي تفتقر الى مقومات الدولة الحقيقية فقد فرض النفط على آل سعود تحديث المؤسسات الحكومية والتفكير في احداث عملية تنموية شاملة في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وتحديث هياكل الحكم والنظم الادارية بما يتلائم والتغييرات الداخلية وهذا أمر يتعارض مع نسبة الكادر الحكومي وأهليته، ومن جهة أخرى معارضة التيار الوهابي المتشدد لأية خطة تحديث في البلاد، وهذا ما يوليه آل سعود إهتماماً خاصاً، كونهم بحاجة الى اقطاب هذا التيار لجهة إكتساب المشروعية الدينية لنظامهم السياسي. يقول احمد امين (وجدت السلطات السعودية نفسها أمام قوتين قويتين لامعدى ـ أي لابد ـ لها من مراعاتهما، قوة رجال في نجد المتمسكين اشد التمسك بتعاليم ابن عبدالوهاب والمتشددين أمام كل جديد فكانوا يرون التلغراف السلكي واللاسلكي والسيارات والعجلات من البدع التي لايرضى عنها الدين، وقوة التيار المدني الذي يتطلب نظام الحكم فيه كثيراً من رسائل المدنية الحديثة..) أحمد أمين، زعماء الاصلاح في العصر الحديث، ص 20

وبطبيعة الحال، كان على إبن سعود أن يجد حلاً توفيقياً يسعفه في إخماد صوت المعارضة الدينية السلفية في سبيل المضي في خيار التحديث.. ولاشك أن ذلك ينطوي على مواجهات غير مباشرة مع الخط الديني المحافظ الذي يرفض التخلي عن موروثه الديني في بعده الفكري والسلوكي، ويحتسب عملية التحول الاجتماعي وتبني العلوم الحديثة خرقاً دينياً. إن ممانعة الخط الديني السلفي لعملية التحديث تعود الى ما قبل نشأة الدولة السعودية، وتمثل إحدى أشكال التجاذب الرئيسية بين الدين بالمفهوم السلفي والدولة كجهاز ضخم يخضع للتبدل والتطوّر بحسب حاجات الزمن وشروط التحول العلمي والمعرفي. وقد ذكر حافظ وهبة قصة حصلت له مع علماء نجد بعد ضجة أٌثيرت في شهر يونيو عام 1930م حول برامج إدارة المعارف بمكة المكرمة والتي تلّخصت في: أولاً تعليم الرسم وثانياً تعليم اللغة الأجنبية، ثالثاً: تعليم الجغرافيا والتي تشتمل على موضوع دوران الارض وكرويتها. وقد حاول وهبة كشف اللبس في النظرة الى مثل هذه المواد وأهميتها، محاولاً وضع أساس جديد لمناقشة أصل الحكم الشرعي من حيث الحليّة والحرمة، فكان رد أحد المشايخ على وهبة فيما يخص كروية الارض ودورانها (وأما الجغرافيا ففيها كروية الارض ودورانها، والكلام على النجوم والكواكب مما أخذ به علماء اليونان وأنكره علماء السلف). أنظر: حافظ وهبه، جزيرة العرب في القرن العشرين، ص 145ـ 146

وفي شهر يونيو (حزيران)سنة 1930م عقد العلماء اجتماعاً في مكة للبحث في تدابير إبن سعود التربوية وأصدروا فتوى إحتجوا فيها على إدخال اللغات الأجنبية، ومادتي الجغرافيا والرسم في مناهج مديرية المعارف التي كانت حديثة النشأة، وبين اصرار التيار الوهابي ورغبة ابن سعود، تقرر الجمع بين إنشاء مؤسسات التعليم الوهابي وبين التعليم المدني الحديث الذي نشأ في عام 1925م وتبلور بعد عام واحد في (ادارة المعارف العامة) التي استقدمت مدرسين من الخارج، وتأسست على إثرها 12 مدرسة حكومية وأهلية في الرياض، ثم انتشرت في الثلاثينيات المدارس الحكومية في العديد من المدن الكبيرة مثل جدة والطائف وحائل والرياض وبريدة وعنيزة والقطيف والجبيل وبلغت في عام 1948م ما يربو عن الثمانين مدرسة إبتدائية.

وكان عام 1959م بداية مرحلة علمية متطورة، فقد صدر أمر ملكي في هذا العام لتعليم البنات وكان تحت رعاية لجنة مسؤولة تجاه المفتي الأكبر كما بدأ افتتاح جامعة الملك سعود في الرياض، وأعقبها إنشاء 6 جامعات اخرى: أم القرى في مكة المكرمة، جامعة البترول والمعادن (جامعة الملك فهد لاحقاً) في الظهران، وجامعة الملك عبدالعزيز في جدة، وجامعة الملك سعود في الرياض، والجامعة الاسلامية في المدينة المنورة، وجامعة الامام الامام محمد بن سعود الاسلامية في الرياض، إضافة الى إنشاء كلية الملك خالد العسكرية عام 1983م بهدف تحديث الحرس الوطني السعودي (نشأ سنة 1348هـ)، بهدف تدريب الحرس على وسائل التدريب العسكري الحديثة، وتلاحق انشاء الكليات والمعاهد العلمية والفنية التطبيقية.

لقد أدركت الدولة السعودية بأن الاتجاه التحديثي يتطلب انكماشاً تدريجياً لنفوذ المعتنق السلفي المحافظ في السياسة كون هذا المعتنق يشكّل معوّقاً رئيسياً لعملية التحديث الدولتية. في المقابل، إن القبول المفتوح بشروط التحديث يحرم الدولة من حليف تاريخي ظل يمارس دور القوة الضاربة ومصدر المشروعية الدينية التي على أساسها أفلحت الاسرة السعودية في تشييد سلطانها. إن ثمة موازنة كانت مطلوبة على الدوام بالنسبة للدولة من أجل الجمع بين قوتي المحافظة الدينية وخيار التحديث، فقد أرادت العائلة المالكة الاحتفاظ بأيديولوجية محافظة توفّر المظلة الدينية الضرورية لسياسات التحديث المحافظة هي الأخرى، ولذلك فقد جرى استعارة البعد التقني والفني من التحديث ليضفى عليه ثوباً دينياً وليجعل من عملية المصاهرة هذه مقبولة في المحيط الاجتماعي الحاضن للسلطة بدرجة أساسية، ومقبولة خارجياً على الاقل في المحيط الاسلامي الدولي بصورة خاصة بما يبقي على صورة الدولة الدينية في بلد يحتضن الحرمين الشريفين.. ومن محاسن الصدف وغرابتها، أن يوفّر شرق السعودية الثروة ويوفّر غربها الشرعية الدينية فيما يمسك الوسط بالسلطة بمعناها السياسي والديني.

لقد تمكنت العائلة المالكة من توظيف كمية كبيرة من الثروة الاقتصادية في تشييد أبنية الدولة وبناء المؤسسات الامنية والعسكرية التي كانت تستعين بها أمام أخطار داخلية وخارجية، وقد كانت المؤسسات الامنية والعسكرية الأوفر حظاً في برامج التحديث الدولتية، ولعل التهديدات الخارجية التي كانت تواجه السعودية في الخمسينيات والستينيات إضافة الى تموّجات الحركات القومية والناصرية على الداخل قد دفع العائلة المالكة الى توجيه إهتمام كبير لمجالي الأمن والدفاع، ساعد في ذلك ايضاً تشجيع الولايات المتحدة على بناء حلف استراتيجي مع القوة الاقتصادية الأكبر في الشرق الاوسط، حيث بدأت الصفقات العسكرية وأشكال التعاون الأمني والدفاعي تفرض نمطاً محدداً في العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والسعودية.

الشيخ عايض القرني: تطوير متأخر للسلفية

كانت العائلة المالكة تدرك في وقت مبكر بأنها عاجزة عن إنتاج أيديولوجية وطنية تقاوم وتضاهي في تأثيرها الايديولوجيات الشائعة في الدول العربية المجاورة، بمعنى صناعة أيديولوجية مشرعنة لسياساتها وقادرة على تخليق روح وطنية في الداخل، الأمر الذي دفع بها للاصرار على توظيف العامل الديني بدرجة كبيرة في حلبة السياسة.

لابد أن تبعث مظاهر التدين عند الاسرة المالكة على الاهتمام لدى المراقب والباحث على حد سواء، من أجل التوصل الى قراءة دقيقة لطبيعة المصاهرة الفريدة بين الدولة والايديولوجية السلفية المتشددة. إن تلك المظاهر، مهما كان اطارها وصنعتها، لا تعكس بالضرورة إلتزاماً إيمانياً عميقاً تماماً كما لا تترجم بأمانة خالصة التجسيد الحقيقي للتعاليم الدينية، بقدر ما تترجم حاجة العائلة المالكة الى مسوّغات دينية للحكم وللسياسات العامة التي تتبناها. ولم يكن بالامكان تحقيق هذا الغرض دون تخصيص مساحة هامة للعلماء في ميدان السياسة العامة، إن إفتقار العائلة المالكة الى شخصية كاريزمية تحمل مواصفات القيادة الدينية والسياسية كالتي كانت لدى الامام محمد بن سعود، أو سعود الكبير، أو حتى عبد العزيز بن سعود وابنه الملك فيصل يفرض عليها الاستعانة الدائمة بالكتلة العلمائية في نجد.

في الدولة السعودية الحالية، نجح الملك فيصل في صناعة مشروع ديني للدولة يجابه به الايديولوجية الناصرية القومية. لقد سعى بأن يسبغ على الدولة معانٍ دينية، وأن يجتذب العلماء الى الفعل السياسي اليومي، بل وأن يتحول هو شخصياً الى رمز ديني. إن تديين الدولة في تلك المرحلة أملته تحديات خارجية بدرجة أساسية، بالرغم من أن هذا التديين لم يتعارض على الاطلاق مع فكرة بناء التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة التي أخذت ترسي قواعدها في هذه المنطقة. فالنموذج الاسلامي الذي أريد له أن يشاع كان متسامحاً في بعده السياسي متشدداً في بعده الايديولوجي والاجتماعي، لأنه مصمم لأغراض محددة، وهو ما أوحى لسيد قطب نحت مصطلح (الاسلام الاميركي)، كونه نموذجاً من الاسلام المتصالح مع الغرب الكولونيالي، ولكنه عقيم وعاجز عن إنتاج حلول لمشكلات المسلم المعاصرة، فهذا النموذج الديني ـ السلفي يتم توظيفه حسب فحوى كلام السيد قطب لتشويه الاسلام حين تتلوث قيمة ومبادؤه بالاغراض السياسية والمصالح المادية، وحين توضع تفسيرات مغلوطة للنصوص الديني خدمة لتلك الاغراض والمصالح.

وعلى أية حال، فقد تجنّح رجال الحكم في السعودية علماء الدين فأصبحت الممارسة السياسية في طابعها الديني ينظر إليه بوصفها إبتذالاً للنص الديني، وقد يستطرد المراقب في التحليل ليصف هذا النموذج بأنه وبال على المجتمع، كونه صادر قيم الدين وعبث بالمقدس، فوقع الناس بين: حكام متسلطين وعلماء مبررين، (لأن راية الدين سرقها الساسة الغواة وبدعم من العلماء المحسوبين على الدين).

إن المجتمع الديني السلفي الذي تنامى بدعم الدولة كان لابد أن يتم تسخيره في مناشط دينية من أجل تعميم الايديولوجية الدينية السلفية، ومن جهة ثانية إمتصاص الفائض الهائل من العلماء الذين لابد من إستيعابهم داخل مؤسسات تابعة بصورة مباشرة أو غير مباشرة للدولة.. لقد كانت العائلة المالكة بحاجة الى كتلة من المؤسسات التبليغية التي تنشغل في بناء الرمزية الدينية للدولة السعودية على المستويين المحلي والخارجي. إن الثروة الاقتصادية التي حصلت عليها الدولة كانت قادرة على تأمين نفقات مشروع الدعاية الدينية للدولة على أفق واسع، وكان لهذه الثروة مفعول سحري في إجتذاب أعداد غفيرة من رجال الدين في الداخل والخارج للمشاركة في المشروع الديني للدولة السعودية، وفي توظيف الدين بحسب التفسير السلفي في معارك السياسة ضد الدول العلمانية وضد الايديولوجيات الاخرى الدينية وغيرها.

وسنحاول هنا تسليط الضوء على بعض المؤسسات الدينية التي نشأت بدعم وتمويل العائلة المالكة لتحقيق أغراض ذات أبعاد سياسية، وإن ساهمت في ظاهرة برسم صورة الدولة الدينية المفترضة، وقد كانت مساهمة العلماء في هذه المؤسسات جد مؤثرة وفاعلة وتأتي كجزء من التعويض الذي قدّمه الأمراء للعلماء في الحقل السياسي.

منظمة المؤتمر الاسلامي

بدأت فكرة المنظمة برسائل بعث بها الملك فيصل الى بعض الدول العربية والاسلامية، وطلب من الرئيس الصومالي آدم عبدالله عثمان أن يتولى مهمة الترويج لفكرة المنظمة على المستوى العربي والافريقي بوجه خاص، ثم القى فيصل خطاباً في مكة المكرمة بموسم الحج عام 1384هـ ـ 1964م عرض فيه فكرة المؤتمر واستعرض دور حكومته في رص الصف الاسلامي ومساعي آل سعود الوحدوية. وقام فيصل بصحبة عبدالله (الملك حالياً) وسلطان (ولي العهد حالياً ووزير الدفاع) بزيارات مكثفة الى بعض الدول العربية والاسلامية شملت الاردن والسودان والمغرب وغينيا ومالي وايران وتركيا وباكستان لاقناع هذه الدول بفكرة المؤتمر فيما قدم الى السعودية الرئيس الصومالي ورئيس جمهورية النيجر ونجحت المساعي السعودية في عقد مؤتمر قمة اسلامي في الرباط بالمغرب في 25 أيلول عام 1969م حضره ملوك ورؤساء 25 دولة عربية واسلامية والذي انتهى فيما بعد الى تأسيس منظمة المؤتمر الاسلامي ومقرها الدائم في جدة، وتقوم المنظمة بالاشراف على ثلاثة أجهزة:

1ـ مؤتمر ملوك ورؤساء الدول والحكومات الاعضاء في المؤتمر

2ـ جهاز مؤتمر وزراء الخارجية

3ـ جهاز الامانة العامة والمؤسسات التابعة لها. ومن اهداف المنظمة دعم التعاون ووالتضامن بين الدول الاسلامية والتشاور فيما بينها فيما يخص القضايا المصيرية للمسلمين وتضم المنظمة 46 دولة إسلامية. وقد انبثق عن المؤتمر الاسلامي الثالث الذي عقد في مكة المكرمة سنة 1981م مجمع الفقه الاسلامي وبدأ العمل في شهر يناير من سنة 1985م ومقره الدائم في جدة ويتولى المجمع مهمة اصدار الفتاوي في المواضيع الدينية واعداد وتوزيع البحوث الدينية وعقد الندوات.

وقد غلبت على المؤتمر والمجمع الهيمنة السعودية، حيث لعب عنصر التمويل دوراً كبيراً في توجيه مساراتهما وسياساتهما، وتحوّل المؤتمر الى منصّة ثابتة لإطلاق المبادرات السياسية ذات الطابع الديني، وكذا اطلاق المشاريع الدعوية التي كانت يضطلع بها المؤتمر بتوجيهات من الحكومة السعودية، كما مكّنت الاخيرة عبر هاتين المؤسستين من كسب دعم وتأييد الاعضاء لكافة القرارات والمواقف السعودية الخاصة بإدارة شؤون الحرمين الشريفين بما في ذلك وضعهما تحت تصرف الدولة السعودية بصورة كاملة. لقد أحيل من منظمة المؤتمر الاسلامي الى جبهة عريضة لمقاومة أشكال التحالف على أساس قومي أو قاري.

رابطة العالم الاسلامي

طرحت الحكومة السعودية فكرة الرابطة في موسم حج عام 1374هـ ـ 1955م في اجتماع ضم الرئيس الباكستاني غلام محمد والرئيس المصري جمال عبدالناصر والملك سعود واتفق الثلاثة على انشاء رابطة اسلامية الاّ أن عبدالناصر أدرك الغرض السعودي من انشاء الرابطة فتوقف عن المضي في الاتفاق، وكان السبب يعود، حسب وجهة نظره، الى كيفية تطبيق فكرة الرابطة، فيما تحركت السعودية وباكستان لاقناع أطراف أخرى للانضمام للرابطة. وبالفعل، إنضمت عدد من الدول العربية والاسلامية منها (ايران وتركيا، والمغرب وتونس ونيجريا والنيجر..)، والتي أفضت الى اعلان ولادة الرابطة، وأصبح المقر الدائم لها في مكة المكرمة. أصدرت مجلة شهرية باسم الرابطة وجريدة أسبوعية تحت إسم (أخبار العالم الاسلامي)، كما قامت الرابطة بتوزيع كميات كبيرة من المطبوعات الدينية. وتموّل السعودية القسم الاكبر من نشاطات الرابطة، الامر الذي جعلها خاضعة بصورة شبه كاملة للنفوذ السعودي، وتأثيره على قرارات وخطط ومشاريع الرابطة. ويعضد التحرك السعودي على صعيد العالم الاسلامي نشاطات تبليغية مكثفة تمتد الى أغلب الاقطار الاسلامية وتلعب المؤسسات الدينية السعودية دوراً كبيراً في توجيه تلك النشاطات. v

إن الانشغال الكثيف بالعمل الدعوي ظل يمثل مكوّناً أساسياً في السياسة الدينية الرسمية، كما إحتّلت حيزاً واسعاً من اهتمامات رجال الاسرة المالكة وقد رصدت للعملية تلك مبالغ طائلة ومجاميع كبيرة من الدعاة الذين انتشروا في ارجاء العالم.

ومن نماذج النشاط الدعوي الدعائي مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف الذي يقوم على مساحة تقدر بمائتين وخمسين الف متر مربع على طريق تبوك في المدينة المنورة، ويبلغ عدد العاملين في هذا المجمع 1600 موظف ما بين عالم متخصص وخبير وفني واداري ومراقب وعامل ودارس. ويضم المجمع الى جانب قصر طباعة المصحف الشريف، قسماً خاصاً لانتاج الاشرطة المسجلة بكامل تجهيزاته ومباني الورش والصيانة ومباني للسكن ومحطات حيوية علاوة على قسم للترجمة. وتصل طاقة المجمع الأنتاجية الى تسعة ملايين نسخة من المصحف الشريف في العام الواحد للوردية الواحدة بأحجام ونوعيات مختلفة منها مليونا نسخة سنوياً لترجمة تفسير القرآن بلغات مختلفة ( الهوسا، الصينية، الاردية، التركية، والانجليزية وغيرها) وهكذا بالنسبة لاشرطة الكاسيت.

وتقوم الخطوط الجوية السعودية بنقل كميات كبيرة من المصحف الشريف الى بلدان العالم، فيما يقوم المجمع بتوزيع كميات أخرى من داخل البلاد ولاسيما في موسم الحج حيث يتسلم كل حاج نسخة من المصحف الشريف باسم هدية صاحب الجلالة خادم الحرميين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز .

ورغم ضرورة واهمية العناية بالمصحف الشريف وطباعته وتوزيعه وإيصاله الى مسلمي العالم، الاّ أن المجمع يندرج في سياق مشروع دعوي دعائي له أهداف بعيدة، من أبرزها صناعة الرمزية الدينية للحكومة السعودية. فقد بدا واضحاً بأن المؤسسات الدينية المحلية وامتداداتها الخارجية كانت مصممة لتعميم الوصفة الدينية السلفية بمكوّناتها المتشددة، وفي الوقت نفسه إبراز السعودية كنموذج للدولة الدينية النقيّة. إن الكميات الكبيرة من النشريات الدينية التي جرى ترويجها في قارات العالم، الى جانب الكتائب الدعوية التي كانت تتوافد على هذه القارات كانت تمثل إحدى تعبيرات الالتزام الرسمي بالدعوة السلفية المراد تعميمها عالمياً، وإن كانت تستهدف تصدير الفائض المحلي الى الخارج الذي عجزت أيقونات الدولة عن إستيعابه محلياً. لقد أنفقت الدولة السعودية ملايين الدولارات على بناء مساجد ومراكز دينية في شبه القارة الهندية وفي أفريقيا. في الصومال، كمثال، تم إنفاق ما قيمته 60 مليون ريال لبناء مساجد، ووصلت قوافل الدعاة والمبلغين والنشريات الدعوية الى كافة قارات العالم، تعضدها سلسلة من الجميعات الخيرية والمساعدات المالية، التي تمثل مجتمعة منظومة متكاملة في المشروع الديني السلفي الرسمي.

ففي العاصمة مقديشو، تم بناء مسجد باسم مسجد التضامن الاسلامي، وقد بني بالزخارف الاسلامية، علاوة على بناء 3 مدارس باسم التوحيد الاسلامي مقايل مبنى البرلمان الصومالي، واحدة للنساء وإثنتان للذكور، ونقل أحد مسلمي الصومال في الثمانينات أن الحكومة السعودية جندّت أحد عناصرها داخل الصومال للتبشير بالمذهب الوهابي وبدأت اموال النفط تغزو الشعب الصومالي حتى تمكنت الحكومة السعودية من تحويل 60 بالمئة من ابناء الشعب الصومالي الى المذهب الوهابي، دون أن يتعرفوا على افكاره أو يقرأوا له. ويضيف قائلاً: لقد استخدمت الحكومة السعودية نفس اساليب المبشرين الاوربيين مع شعب الصومال وشعوب افريقيا بصورة عامة، حيث كانت تطلب منهم اعتناق الوهابية للحصول على المال، مما أحدث خلخلة داخل المجتمع الصومالي.

إن ثمة مؤسسات دعوية لعبت دوراً مركزياً في نشر الايديولوجية السلفية المتشددة خلال العقدين الماضيين، وكان لها نفوذ واسع في قطاع الشباب، والذين انخرطوا في مشاريع الدعوة والجهاد. ونسلّط الضوء هنا على أهم هذه المؤسسات.

الندوة العالمية للشباب الاسلامي

غزوة مانهاتن: بداية انهيار الإمبراطورية السلفية

تأسست في شهر ديسمبر عام 1972م بالرياض بعد إجتماع ضمّ ممثلين عن المنظمات الشابية الاسلامية في العالم، وقد رعت وزارة المعارف هذا الاجتماع حيث تم دمج المنظمات تلك في منظمة الشباب الاسلامي العالمي ومركزها الرئيسي في الرياض وتعمل تحت اشراف ادارة الحكومة السعودية وهكذا الحال بالنسبة للمؤتمرات السنوية لممثلي منظمات الشبيبة المسلم.

وقد تولى د. مانع الجهني الامانة العامة للندوة، وهي متخصصة في شئون الشباب، وتضم أكثر من 450 منظمة شبابية وطلابية اسلامية منتشرة في القارات الخمس. وبحسب ما جاء في أدبيات هذه المنظمة، فإن أهدافها:

1ـ خدمة الفكر الاسلامي على أساس من التوحيد الخالص

3ـ تعريف العالم بالاسلام بجميع الوسائل وعلى أوسع نطاق

4ـ توضيح ودعم الدور الإيجابي للشباب والطلاب في بناء مجتمع إسلامي

5ـ دعم منظمات الشباب الاسلامي في جميع أنحاء العالم والتنسيق بينها ومساعدتها في تنفيذ برامجها

وقد عقدت الندوة الندوة لقاءها العالمي عام 1986، ثم أعقب ذلك سلسلة من اللقاءات تمّت في الرياض باستثناء اللقاء الخامس الذي عقد في نيروبي بكينيا وحضره ممثلون عن المنظمات الاسلامية الشبابية والطلابية من جميع انحاء العالم لاختيار القاء مجلس الامانة العامة للندوة وللبحث في القضايا التي تهم الشباب المسلم، كما نوقشت خلال هذه اللقاءات مشاريع التبليغ الاديني في ضوء الاهداف المعلنة للندوة.

ومن أشهر نتاجاتها ( الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة)، وتمثّل إحدى النماذج البارزة على ثقافة الكراهية الدينية، حيث اشتمل على قدح وتعريض بالاديان والمذاهب الاسلامية وغير الاسلامية، وقد صيغت عباراته بطريقة غير محايدة وتبعث على الكراهية والانقسام الديني الداخلي، بما يخالف أحد أهداف الندوة في تعميق أسباب الاخوة والرابطة الاسلامية.

وتتولى المنظمة مهام عديدة منها: تبليغ رسالة التوحيد(!!) في اوساط الشباب والطلبة المسلمين في الخارج ودفعهم للانتماء الى المنظمة في سبيل توجيههم بصورة مباشرة، وهكذا إنشاء مراكز مهنية وتوجيه دعوة للشباب والطلبة للالتحاق بها والعمل في أحد دوائرها.

وقد تمكّنت الحكومة السعودية عبر المنظمات التابعة للندوة العالمية، من إستيعاب مجاميع غفيرة من الشباب، فيما تم تجنيد عدد كبير منهم في المشروع الدعوي السلفي. وبما أن الدولة السعودية تموّل نشاطات المنظمة من قبيل بناء المساجد والمدارس وتنظيم زيارات الوعاظ الى الجاليات الاسلامية والطلبة المسلمين وهكذا إقامة المؤتمرات الدينية، فإن لها اليد الطولى في التأثيرات الخطيرة التي تركتها تلك المشاريع على صورة الاسلام في العالم، سيما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. فقد اضطلعت بصورة مباشرة في في تنميط النشاطات الدينية التي تقوم بها المنظمة وتهدف السعودية من وراء ذلك الى التأكيد على الجانب الديني للاسرة المالكة وتكريسه في اذهان الشباب المسلم من خلال المطبوعات الصادرة عن المنظمة والتي تعود لكتاب اسلاميين معروفيين ينظر اليهم الآن بوصفهم مسؤولين عن إشاعة أفكار متطرفة تشجّع على العنف امثال أبو الاعلى المودودي صاحب إطروحة الحاكمية كما في بحثه (النظرية السياسية في الاسلام)، وسيد قطب صاحب فكرة الجاهلية كما وردت في كتابه (معالم في الطريق) وغيرهم، وقد تم عبر الترويج لهذه الادبيات من تجنيد عدد كبير من الشباب المسلم في الخارج في مشروع الجهاد، والذين انخرطوا في التنظيمات الجهادية بما فيها تنظيم القاعدة.

إن رفع الشعار الاسلامي في مرحلة الصحوة الدينية في العالم العربي مثّل عامل جذب وإغراء لدى قطاعات واسعة من الناس، التي كانت تتطلع لأن يولد نموذج الدولة الدينية في مقابل الدول العلمانية التي تبنت أيديولوجيات متطرفة تحمل قسطاً كبيراً من العداء للمعتقدات الدينية السائدة. وكرد فعل، كان الانسان المسلم يطمح في أن يرى حاكميه الاسلام متجسدة في واقع الحياة، خاصة وقد عاشت البلاد الاسلامية حقبة مظلمة من الغياب الديني بعد ظهور البدائل الاجنبية في عصر التجزئة للبلاد الاسلامية التي فرضت نفسها على انظمة الحكم.

وكان لغربة النظام السياسي في عصر التجزئة دوره الخطير في نشأة حالة التناقض بين المجتمع والسلطة اذ أن الاخيرة لم تكن تعبّر عن تطلعات المجتمع المسلم واهدافه وانما كانت ـ السلطة ـ تعبر عن مصالح فئة ومجموعة من الناس سرقت وسادة الحكم في جنح الليل وارادت أن تزرع في ارض المسلمين بذرة غريبة. وإزاء وضع كهذا انحسر فيه الظل الاسلامي ودخلت البلاد الاسلامية عصر التيه بالمعنى الشامل، فيما بدأت فكرة العودة للجذور الدينية بالانبعاث على نطاق واسع كإحدى تعبيرات الاحساس الشديد بالحاجة للوجود والكيانية والهوية المستقلة.

وحينما طرحت العائلة المالكة الشعار الاسلامي شدّت انظار المسلمين وأثارت فيهم ذلك الهم المصيري، حتى جنح كثيرون للاعتقاد بان الاطروحة الدينية السلفية الرسمية تمثل ذلك الينبوع الصافي الذي كان يبحث عنه قطاع كبير من المسلمين، للخلاص من ربقة الاسترقاق الايديولوجي الاجنبي والفكاك من أسر الاستبداد الداخلي. وكان توق هذا القطاع الواسع من المسلمين الى الاطروحة الاسلامية دفع به لحث الخطى نحو (التدين السعودي) لفترة طويلة. في المقابل، أفادت الحكومة السعودية من إنشداد الانظار اليها، وسعت الى تمرير نموذجها الديني بهدوء، فرغم تزمت التدين السعودي وتطرفه قبالة الاطروحات الدينية الأخرى، فقد قرر عدم الاصطدام بالمؤسسات الدينية في الخارج بل تعامل بذكاء مخطط في سبيل استقطاب علماء ورجال دين تلك المؤسسات، ساعد في ذلك الصراع بين انظمة الحكم في كثير من البلدان العربية والتيارات الدينية ولاسيما الانظمة الاشتراكية في الوطن العربي. فقد أدى إحتدام الصراع بين النظام المصري إبان عهد الرئيس الاسبق جمال عبدالناصر وجماعة الاخوان المسلمين والضربة التي تعرضت لها هذه الجماعة عام 1954م إثر حادثة المنشية وقرار عبدالناصر بحل الاخوان واعتقال عدد كبير من قياداتهم وعناصرهم الفاعلة الى أن فتحت السعودية أبوابها لاستقبال الفارّين من نظام عبد الناصر، والانخراط في النشاط الدعوي داخل السعودية ومنطقة الخليج بصورة عامة.

يبقى القول بأن الحكومة السعودية لم تفلح كثيراً في التأثير على المدرسة الفكرية لدى الاخوان المسلمين، والسبب في ذلك أن مشروعها الديني يفتقر الى قوة الاطروحة الفكرية والاهم من ذلك أن هذا المشروع لم يشكّل بحد ذاته مدرسة فكرية متكاملة، ففي نظر قادة الاخوان وروّاد التنوير الديني في العالم العربي والاسلامي أن الوهابية مثّلت شكلاً متخلفاً في تاريخ الاسلام المعاصر بفعل إهتماماتها القشرية البعيدة عن نمط التفكير الديني السائد، بل إن قدوم قادة الاخوان الى السعودية حدّد موقعية الوهابية وحجمها الواقعي وهذا ماظهر بوضوح في عقد الثمانينات اذ أصبح الاسلاميون المتنورون في داخل السعودية متأثرين بنشاطات الحركات الاسلامية في الخارج الى حد كبير. وهذا لا يعني بطبيعة الحال ضلوع الاخوان المسلمين وأدبياتهم في تنمية ميول التطرف والعنف في المدرسة الوهابية، التي تختزن نتاجاتها كمية كبيرة من المحرّضات على العنف.

تجدر الاشارة هنا الى أن تأثير التدين السعودي السلفي على المؤسسات الدينية في الخارج بقي محصوراً في بعده السياسي فحسب، فيما أخفق إخفاقاً ذريعاً في البعد الفكري. فمثلاً لم يقاوم آل سعود عقل الازهر بمصر فضلاً عن تحويله الى عقل يفكر وفق المنهجية السلفية الوهابية، وان نجح في مرات نادرة في استمالة عدد ضئيل من علماء الأزهر لجهة دعم مواقف سياسية معينة. إن فشل مشروع التدين السلفي السعودي في بعده الديني لم يثنه عن الانغماس في اللعبة السياسية والمشاغلات الايديولوجية الجانبية، والتي ساهمت في إستدراج المدارس الدينية عموماً الى حلبة المساجلات الفكرية ذات الطابع الفقهي. ففي عقد الثمانينات بدأت المدرسة السلفية تطرح وعلى نطاق واسع أسئلة حول البنى العقدية للمذاهب الاسلامية عبر إثارة زوابع حول المماسات الطقسية للمسلمين مثل (هل نحتفل بالمولد؟) أي مولد النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم و(الاسلام لا يبيح لنا الاحتفال بهذه الايام؟) و(دعاء الميتين من الاولياء اذا لم يكن كفراً فهو جنون) و(الدعاء والذبح والنذر لغير الله هو الشرك الاكبر) و(الاصنام ليسوا الا أسماء رجال صالحين) و(المشركون الأولون كانوا أكثر إيماناً من مشركي هذا الزمن) و (هل دعاء الاولياء دون الله لغز) و(كيف يتمثل الشيطان للقبوريين في صور أوليائهم) و (بدعة الزيارة الرجبية) أي زيارة المدينة المنورة في شهر رجب. وقد كان الاحتفال بالمولد النبوي الشريف مورد سجال عنيف، دخل فيه علماء المدرسة السلفية بعنفوان غير معهود، واحتسبوه معياراً للايمان والشرك، الى درجة أن بعض علماء هذه المدرسة أصدروا أحكام بالتكفير والتبديع على الراحل السيد محمد علوي المالكي وعدد من علماء الحجاز وغيرهم كونهم من المحتفلين بهذه المناسبة الدينية الجليلة، والتي تمثل بداية ولادة نور المصطفى صلى الله عليه وسلم.

حرب الخليج الثانية.. تفجّر النواة

كان عقد الثمانينات حافلاً بالمناشط الدينية التي شغلت التيار السلفي عن التفكيرفي فحص نواة التحالف التاريخي بين الدين والدولة، فثمة مكتسبات تحققت على مستوى العالم، وأن الانتشار الواسع والكاسح للعقيدة السلفية في قارات العالم لابد أن يذهل كثيراً من رواد هذه المدرسة عن التوقف لاعادة تقييم مجمل محتويات العلاقة بين السلفية الوهابية والسلطة السياسية السعودية. إن الانخراط الكثيف والواسع لعدد كبير من أفراد المجتمع السلفي في النشاط الدعوي الخارجي كان يمثل ملهاة حقيقية، فقد تم عبر هذه العملية إفراغ مخزونات التوتر الداخلية وتوجيهها في مشاريع دعوية تعبوية امتصّت قدراً كبيراً من الافراد والتطلعات الحالمة.. إن أولئك الذين شهدوا بناء الامبراطورية السلفية الممتدة في أرجاء العالم، ولحظوا حركة انتشار المعتقد السلفي في قارات الارض لابد أنهم غفلوا عن محاسبة الذات والسلطة معاً وغفروا أخطائها. في المقابل، لابد أن رجال الحكم وهم يرون خصومهم الكامنين وقد باتوا منشغلين في مشاريع الدعوة ونشر الرسالة السلفية في أقصى بقاع الارض قد أمنوا شراً مستطيراً كان من الضروري طرده خارج حدود الدولة.

ولكن حرب الخليج الثانية عام 1990 كانت بمثابة قارعة مدوّية للتحالف الديني السياسي، فقد جاء زلزال الخليج ليهزّ بعنف شديد بنى التحالف، الذي تفجّرت أنويته بطريقة غير مسبوقة، حيث بدأ الانشقاق في المجتمع السلفي من مستويات عليا، فيما بقيت قمة المجتمع ممثلة في هيئة كبار العلماء مفصولة بصورة شبه كاملة بفعل مواقفها المتهادنة مع السلطة.

لقد أبرزت هذه الازمة ثلة من الرموز السلفية الناشطة سياسياً والتي تمكّنت من امتلاك القدرة بصورة شبه كاملة في التأثير على إتجاهات الرأي العام السلفي، وفي الترويج لثقافة سلفية جهادية ترفض الرضوخ لمعطيات الواقع القائم، وفي الوقت نفسه تخضع السلطة للاختبار الشرعي.

وعلى امتداد عقد من الزمن، كانت كتابات رموز السلفية النضالية ممثلة في الشيخ سفر الحوالي والشيخ سلمان بن فهد العودة والشيخ ناصر العمر والشيخ عوض القرني وعدد كبير من مشايخ المدرسة السلفية من الطبقة الثانية والثالثة تشيع ثقافة دينية حركية تأخذ شكلاً تحريضياً، وقد راجت هذه الثقافة بصورة واسعة خلال العقد التسعيني من القرن الماضي وغمرت بقدرتها التعبوية الهائلة قطاعات واسعة من المجتمع عبر وسائل متنوعة (الكتيبات، الكاسيتات المسجّلة، وأشرطة الفيديو..)، والتي مثّلت مادة تجنيد نشطة التقت مع بدايات تشكل الانوية التنظيمية لشبكة القاعدة التي تصاهرت معها فكرياً والى حد ما تنظيمياً في فترة ما، لتعصف بالامبراطورية السلفية العالمية بعد الضربة الكارثية التي وجهها أفراد خضعوا في التسعينيات تحت تأثير التعاليم السلفية في الولايات المتحدة وأوروبا، وقرروا تطبيق تلك التعاليم عن طريق عمل فدائي زلزالي فادح.

سلفية ما بعد سبتمبر

كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 بمثابة إعلان نعي للسلفية العالمية، فقد إنهارت الامبراطورية التي كلّفت الدولة مليارات الدولارات، وأصبح قرار ازالة آثار الامبراطورية مطلباً دولياً، تماماً كما هو حال مطاردة رموزها وذيولها في كل أنحاء العالم. فبعد ان كانت السلفية متصالحة الى حد كبير مع الغرب وضالعة الى حد ما في مشروعه السياسي على الاقل في الشرق الاوسط، تحوّلت السلفية الوهابية الى عقبة في طريق الاستقرار الدولي فضلاً عن المحلي والاقليمي.

وشهدت المدرسة السلفية انشقاقاً خطيراً آخر لا يقل من حيث أثره ومفعوله الخطير على المجتمع السلفي، بل يمكن الزعم بأن السلفية شهدت أخطر وأفدح انتكاسة شهدتها في تاريخها الحديث عقب هجمات نيويورك وواشنطن، بحيث باتت تواجه مصيرها المحتوم. وقد ارتدت تأثيرات الثقافة السلفية الجهادية على الداخل عبر سلسلة هجمات دموية انتحارية دكّت مصادر الامن والاستقرار في مركز نشأتها، وبات الروّاد الكبار لهذه المدرسة الجهادية منشغلين بصورة شبه كاملة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه للحيلولة دون إلحاق الضرر القاتل بمصير السلفية الوهابية.

لقد انشطرت النواة، وأخذت لعبة التجاذب في صورتها الداملية تأخذ شكلاً مرعباً كما يظهر في تفجّر العنف في ساحات قريبة وبعيدة، وباتت الجماعات السلفية الانتحارية تمارس لعبة الهروب الى الامام عبر التوسّل بالعمل الفدائي السادي كمحاولة يائسة لاثبات الوجود والاصرار على البقاء وإن تطلب التضحية بالأوراح والعمليات الانتحارية الملفتة.

في المقابل، شرع روّاد الثقافة الجهادية بالعودة الى معاقلهم التقليدية والانضواء تحت مظلة الدولة طمعاً في إعادة تأهيل أدوارهم الدعوية ودرءا لخطر الزوال، فقد فضّل هؤلاء الرموز الاستعانة بأدوات الدولة لابلاغ رسالتهم السلفية مع تخفيف جرعة التشدد، وصياغة خطاب ديني فيه سيماء الاعتدال والتسامح النسبي، دون التخلي عن المواقف السابقة المشحونة توتراً وتشدداً وتحريضاً، وهنا يكمن سر وخطر الخطاب السلفي المزدوج الذي يراد تعميمه حالياً، وهو يتناسب أيضاً مع توجّهات أهل الحكم، الذين ينزعون الى إنتاج السلفية المعتدلة دون ممارسة نقدية للموروث السلفي الجهادي المتشدد.

إن استغلال الشخصيات السلفية الجهادية سابقاً المعتدلة راهناً لوسائل إعلام كانت في يوم ما تمثّل وصمات عار على الدولة والتي أسبغت عليها مسمّيات محرّفة مثل خضراء الدمن على الشرق الاوسط، تثير لغطاً واسعاً وانتقاداً أوسع، كون هذا الاستغلال والظهور يهزءان من مصداقية المواقف التي تبنّاها هؤلاء.

كان لابد أن يثير الاستغراب ظهور شخصيات سلفية معروفة مازالت تملك قوة التاثير في الشارع السلفي على وسائل الاعلام المحلية والخارجية (المموّلة محلياً) لابلاغ رسالة سلفية معتدلة، تجنح الى معالجة قضايا المجتمع وبخاصة مشاكل الشباب دون الوقوف ولو قليلاً عند تأثيرات الخطاب السلفي الجهادي الذي أنتجته تلك الشخصيات في فترة سابقة، فضلاً عن الاعتراف بأخطاء وخطورة هذا الخطاب.

الصفحة السابقة