الديمقراطية في الوعي التقليدي الوهابي

الديمقراطية كفر، ودعاتها ملحدون!

محمد بن علي المحمود

لم تعد الديمقراطية خياراً مقصوراً على الغرب المتحضر، ولا على الشرق الأقصى الناهض، بل أصبحت خياراً عصرياً يرتبط بالمعاصرة؛ من حيث هي سياق حضاري عام، ينتظم الجميع. فعلى التباين في المعاصرة - تقدماً وتخلفاً - إلا أن هناك إصراراً على أنها - من حيث هي ممارسة سلوكية عامة - سبيل الإنسان الأكثر أماناً وجدوى، لتحقيق المعنى الإنساني للجميع.

وعلى الرغم من الأسئلة المكرورة، والإشكاليات التاريخية التي تواجهها الديمقراطية، على مستوى النظرية وعلى مستوى الممارسة، إلا أن الانحياز إليها كخيار مدني ناجع، يراد به حل كثير من إشكاليات التنوع والاختلاف التي تواجه المجتمعات المعاصرة، لم يلق رفضاً مبدئياً صاداً كالرفض الذي تواجه به الديمقراطية من قبل الوعي السلفي المأزوم.

إن الديمقراطية - كممارسة شمولية - لم تكن من نتاج المجتمع العربي ولا المجتمع المسلم، لا في القديم ولا في الحديث، بل هي - بصورها الراهنة، ومقدماتها التاريخية منذ العهد الإغريقي - نتاج غربي بامتياز. وهذا ما يجعل الوعي السلفي - ولا أقول: التيار السلفي! - يتخذ معها موقفاً مبدئياً رافضاً؛ يتقاطع معه على مستوى الأصول العقائدية، فضلاً عن الفروع التشريعية. إنها غريبة علينا؛ بلا سلف صالح!، والسلف الصالح كان فيها من الزاهدين!

كل شيء من خارج دائرة الأنا مرفوض في الوعي السلفي التقليدي، لا لأن التجربة أثبتت فشله أو قررت ضرره، وإنما لأنه غير معروف سلفا. وهذا ما جعل من يحاول موضعة الرؤية الديمقراطية في الواقع الإسلامي يبحث لها عن جذور في المنظومة السلفية أو في تاريخ الإسلام. وهذا البحث بحد ذاته يكشف عن عمق الأزمة التي تواجه المجتمعات التي ترتهن وعيها إلى الخطاب السلفي، أيا كان نوع هذا الارتهان. إنها تكشف - على نحو واضح - أن لا جديد مقبولا، ومن ثم لا إبداع في سياق كهذا؛ مشدود بقوة إلى التقليد.

قد يتصور البعض أن الرفض السلفي للديمقراطية ومقدماتها مجرد طرح رؤى دينية في مسألة مدنية. لكن، مبررات الرفض التي يصرح بها السلفي تؤكد أن الموقف منها موقف عقائدي حاد، يضع ممارسيها في دوائر الضلال والجاهلية والكفر!. ومع أن السلفي قد يمارس (الفعل) الديمقراطي مدنياً، إلا أنه لا يطرحه في البداية كخيار، وإنما يركب موجته - إذا وجد - من باب الاضطرار.

بين يدي كتيّب صدر عام 1993م عن دار الغيث بالرياض بعنوان: (خمسون مفسدة جلية من مفاسد الديمقراطية والانتخابات والحزبية). لعبدالمجيد الريمي. وليس للكتيب ولا لمؤلفه قيمة اعتبارية تستحق أن يتوقف عنده؛ لولا أن ما ذكره - مما يعده مفاسد ! - يعد اختصاراً للمبررات السلفية - بألفاظها - لرفض الممارسات الديمقراطية كافة، بل والنظم الإدارية كافة؛ فضلاً عن انتشاره على نطاق واسع.

ما يقوله المؤلف ليس تعبيراً خاصاً أو رؤية ذاتية، وإلا لما استحق هذا التعليق، بل هو مجمل ما يتم تداوله في المحاضن السلفية منذ فترة طويلة وعلى امتداد العالم الإسلامي. وإذا كان من المتعذر في هذه المساحة التعرض لجميع النقاط التي ذكرها (المؤلف!)، فإني سأذكر ما يمكن الاستغناء به عن البقية؛ مما يدل عليها.

1ـ يقول المؤلف ص11: (تعتبر الديمقراطية وما تفرع عنها من أحزاب وانتخابات؛ منهجاً جاهلياً مغايراً لمنهج الإسلام، ومن ثم فلا سبيل إلى مزجها بالإسلام بأي حال من الأحوال، لأن الإسلام نور والديمقراطية ظلمات: ''وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور''. والإسلام هدى ورشد والديمقراطية غي وضلال ''قد تبين الرشد من الغي''. والإسلام منهج رباني سماوي، والديمقراطية نتاج بشري أرضي، وشتان ما بينهما).

وهنا نلاحظ ملامح الخطاب السلفي في حديتها وقطعيتها. الديمقراطية هنا لم تعد مشروعاً لممارسة الاختيارات وتفعيلها، وإنما هي (جاهلية) ولا يمكن أن تلتقي مع الإسلام. وهذا يؤكد أن الوعي السلفي يفكر عبر قوالب قد أعدت سلفا، وأن قدرة الإنسان على الإبداع الذاتي من خلال الوعي بنسبية الممارسات شيء غير مقبول؛ لأن كل شيء متمايز وواضح في تمايزه؛ كما يتخيل الوعي السلفي.

كما نلاحظ في هذا المقطع مظهراً استدلالياً يتكرر كثيراً في الأدبيات السلفية، وذلك عندما يكون الاستدلال مجرد حشد غير مسؤول. طرح مسلمة، ثم اتباعها بالرؤية الخاصة، وكأنها مسلمة بمستواها، تدليس مقصود، يتكرر في مثل هذا الخطاب التجهيلي. الإسلام نور، هذه مسلمة لا يختلف عليها المسلمون. لكن، العطف عليها بـ (الديمقراطية ظلمات) ادعاء بأنها بمستواها من الحقيقة الشرعية، وهي ليست كذلك. كما أن حشد الآيات بعد ذلك لمجرد التشابه اللفظي يراد به تجييش الوعي الجماهيري لاتخاذ موقف ما، وكأنه موقف شرعي مؤيد بالأدلة الصحيحة.

إن مثل هذا الخطاب الذي يراكم الجمل والأدلة، يؤثر بقوة على الوعي الجماهيري الذي قد هيئ لمثل هذا العبث الاستدلالي واللاعلمية الصارخة، إن المتلقي الذي تعود على مثل هذا الخطاب لا يتوقف؛ ليسأل: هل الديمقراطية ظلمات؛ ليصح الاستدلال؟، وهل هي غي وضلال؟ وهل التعارض المصرح به بين البشري والسماوي تعارض صحيح؟.. والمأساة أن من لا يتساءل - وهم كثير - يقع فريسة هذا الاغتيال المتعمد للعقل.

2 ـ ويقول المؤلف ص13: (الديمقراطية تفصل بين الدين والحياة من خلال تنحية شريعة الله عن مجرى الحياة، وإسناد التشريع إلى الشعوب، لكي تمارس حقها الديمقراطي - كما يقولون - عن طريق صناديق الانتخابات أو عن طريق ممثليهم في المجالس النيابية).

وهذا يكشف عن جهل فاضح بالتنوع الديمقراطي من جهة، وبالشريعة وموقفها من المدنيات من جهة أخرى.. صحيح أن الشعوب تختار، لكنها - بمجموعها المشرع للنظام - لا يمكن تصور أن تجبر على الخضوع للتشريع الإسلامي إذا كانت لا تؤمن بالإسلام.. أما إذا كانت تؤمن به عقيدة وشريعة، فهو خيارها الديمقراطي الذي سيظهر من خلال الممارسة الديمقراطية ذاتها.. وبعد ذلك، تبقى مساحات التأويل للديني، والمباح (المدني) ميداناً آخر للفاعلية الديمقراطية.

ويدل على الجهل بالديمقراطيات المعاصرة وتنوعها نظرية وممارسة، بل وبطبيعة (الرؤية) الديمقراطية من أساسها، من حيث هي فضاء مفتوح للتشكل، بل وللإبداع الذاتي النابع من المرتكزات الأساسية لأي مجتمع، والتي تكون هويته العامة، قول المؤلف ص14: (الديمقراطية تفتح الباب على مصراعيه للردة والزندقة، حيث يمكن - في ظل هذا النظام الطاغوتي - لكل صاحب ملة أو مذهب أو نحلة أن يكوّن حزباً وينشئ صحيفة تدعو إلى مروقه من دين الله، بحجة إفساح المجال للرأي والرأي الآخر).

3 ـ يقول المؤلف - وهو يعبر بلغة سلفية نسمعها بين الحين والآخر من الطالبانية المحلية - ص 16: (ان من يسلك أو يتبنى النظام الديمقراطي لابد له من الاعتراف بالمؤسسات والمبادئ الكفرية، كمواثيق الأمم المتحدة وقوانين مجلس الأمن الدولي وقانون الأحزاب وغير ذلك من القيود المخالفة لشرع الله).

ومبررات الرفض هذه، هي المبررات التي كفرت بها جماعات التكفير الحكومات الإسلامية، وهي التي يستدل بها المكفراتي الصامت - في مجالسه الخاصة - على كفر جميع الدول الإسلامية، باستثناء طالبان.. وجعل الانضمام إلى الأمم المتحدة والالتزام بقوانينها من قبيل الاحتكام إلى غير ما أنزل الله، هي ذاتها حجة الإرهابي المحلي في التكفير.. ولاشك أننا على ضوء هذه الأفكار التكفيرية المتطرفة جميعاً كفار!، لأننا داخلون في هذا الحلف الأممي.

4 ـ يقول المؤلف ص19: (هذا الطريق يؤدي إلى الغفلة عن طبيعة الصراع بين الجاهلية والإسلام، والحق والباطل، فإن وجود أحدهما يستلزم القضاء على الآخر فلا يجتمعان أبداً). ويقول أيضاً ص29: (الديمقراطية تغاير وتناقض مبدأ التغيير الإسلامي القائم على اجتثاث الجاهلية من جذورها!).. وهنا يظهر مبدأ هام من مبادئ السلفية، إذ العالم منقسم إلى فسطاطين!، والصراع بينهما حتمي، بل لا يجوز في التصور السلفي إغفال هذا الصراع، لأنه - في تصورهم - صراع قدري وشرعي، لا يملك المسلم إلا الانخراط فيه. والوجوب هنا وجوب عقائدي، قد يؤدي إهماله أو إنكاره إلى الكفر الأكبر المخرج من الملة، كما تحكم بذلك الأصول السلفية.

5 ـ وكعادة هذا الخطاب في التجييش الجماهيري، يعمد إلى توظيف الرموز ذات البعد الجماهيري، وكأنها محل اعتداء المخالف أو رفضه.. يقول المؤلف ص24: (الإقرار والاعتراف بالديمقراطية معناه عند النظر والتدقيق الطعن في الرسل والرسالات، لأن الحق إذا كان يعرف عن طريق ما عليه أكثرية الشعوب فلا معنى إذاً لإرسال الرسل وإنزال الكتب).

هكذا يصبح كل منظر ديمقراطي، وكل ممارس للديمقراطية، كافراً بالرسل والكتب السماوية.. وهذا المستوى من التفكير الذي لا يميز بين الحقائق وأنواعها، والأحكام ووظائفها، وطرائق موضعتها، يفضح صاحبه علماً وموقفاً، والحق، هكذا بإطلاق، وكأنه كتلة صامتة، ودون تمييز للحقيقة الدينية من غيرها، يؤدي إلى لبس مقصود، وكأن هناك حقيقة شرعية محددة، وهناك من يريد الوصول إليها من طريق آخر غير الرسالات.. وهذا لا وجود له إلا في التيه العرفاني، بينما الحديث هنا عن الإشكال الديمقراطي المدني.

6 ـ ولأن الخطاب السلفي لا يؤمن بالتعايش ولا بحقوق الأقليّات، يرى في الديمقراطية أكبر خطر عليه.. يقول المؤلف ص 43: (في ظل الديمقراطية تنتعش البدع والضلالات بشتى أنواعها ويظهر الداعون إليها باختلاف طرائقهم وفرقهم من شيعة ورافضة وصوفية ومعتزلة وباطنية وغير ذلك).. أي أن جميع هؤلاء لا حق لهم في التصور السلفي، حتى حق التعبير، والديمقراطية التي ستمنحهم حق التعايش السلمي مرفوضة، لأنها الطريق إلى المساواة!

هنا، يظهر الخطاب السلفي وكأنه من الهشاشة بحيث لا يصمد في حضور الآخر المختلف عنه، فكل مختلف يفزعه، ويتركه في حالة استنفار.. هنا، روح العداء هي المسيطرة وليست روح التعايش.. والفرق بين المنتسبين إلى السلفية التقليدية، إنما هو فرق في مستوى التصريح، لا في أصول الخطاب.

لا زلت أذكر أن أحد الرموز المحلية لهذا الخطاب الذي لا يؤمن بالتعايش قال لي صراحة: إن الحل الوحيد مع بعض الطوائف أن يتم عزل أبنائهم عنهم، لتتم تنشئتهم على الدين الصحيح: يقصد: السلفية!.. وهذا الحل موروث!

7 ـ ويقول المؤلف ص44: (هذا الطريق يؤدي إلى أن يقف بعض السالكين فيه صفاً واحداً مع أحزاب الردة والزندقة في الدفاع عن المبادئ الجاهلية كالمواثيق الدولية وحرية الصحافة وحرية الفكر والعروبة والقومية والوطنية وما إلى ذلك)!

(أحزاب الردة) و(المبادئ الجاهلية) يطلقها على كل ما هو مدني، فلا تمييز بين أن تكون المواثيق عادلة أو أن تكون ظالمة، ما دامت لم تخرج من عباءة التصورات السلفية.. والحريات التي تتحقق العدالة والأنسنة من خلالها جاهلية، فضلاً عن الوطنية، وما تقاطع معها من انتماءات مدنية.

ولأن الديمقراطية تؤسس للتعايش بين الفرقاء حتى من خارج الإسلام، فليس غريباً أن يصفها هذا الكتيّب الذي لا يؤمن بالتعايش بأنها (أم الكفر) ص48، لأنها (يمكن أن يعيش في ظلها كل مذهب وكل دين من يهود، ونصارى، ومجوس، وبوذيين، وهندوس، ومسلمين). هذا هو ذنب الديمقراطية، فكيف يمكن الاعتذار عنه، وهو التميز الذي تراد الديمقراطية لأجله؟!

وأخيراً، إذا كان هذا العرض الموجز يبين وجهة نظر الخطاب السلفي التقليدي في الديمقراطية ومفرداتها المدنية المعاصرة، فإنه لا يعبر عن أزمة الخطاب السلفي مع الديمقراطية فحسب، بل يظهر بجلاء - من خلال هذا المعرض الذي يظهر طبيعة الرؤية - ان أزمة الخطاب السلفي، إنما هي مع المعاصرة ككل.

الرياض ـ 24/11/2005

الصفحة السابقة