ضحايا موكب رسمي

سؤال المسؤولية في منى

مشهد يكاد يتكرر سنوياً.. يعود حجاج لبيت الله الحرام الى ديارهم في توابيت قبل أن ينهوا مناسك الحج، ومايلبث أن يغلق ملف القضية على نحو عاجل، بعد أن يتم جرد عدد الضحايا والاعلان عن جنسياتهم. وليتهم يعودون عقب الترحّم عليهم والاعتذار لذويهم عمّا أصابهم من قرح وألم، وإنما يعودون وقد حمّلوا أوزار أخطاء لا دخل لهم بها وسوء فعل لم يقترفوه.. فقد جنح المسؤولون الرسميون عن تنظيم شؤون الحج الى تحميل الضحايا تبعات الكوارث الانسانية تحت ذريعة انخفاض مستوى الوعي لديهم، وتكالبهم على بعض في فترة الذروة

مسؤولية من مقتل المآت من الحجاج؟
خلال رمي الجمرات، وكأن الحال مجهولاً لدى المسؤولين، أو كأن عدد الحجاج ضئيلاً بما لا مبرر فيه لمثل هذا الزحام الشديد في مواقع هي في الاصل تفتقر الى الاستعدادات الكافية لدرء حوادث قاتلة كالتي جرت وتجري في كل عام تقريباً.

بدأ حج هذا العام بحادثة مأساوية وانتهى بأخرى، فمن سقوط فندق لؤلؤة مكة من قواعده والذي أودى بحياة ما يناهز المئة، ثم إختتمها بحادثة مأساوية أخرى في منى أودت بحياة 362 حاجاً، من بينهم مئة مصري الى جانب أفارقة وسعوديين وغيرهم من دول آسيوية، وجرح 300 حسب الحصيلة الرسمية المعلنة. وكما هي العادة فالضحايا ليس لهم سوى أكفانهم وألواح التوابيت التي تحمل أجسادهم، ورسالة عزاء فاترة، تمنحهم إياها الدولة أو المؤسسة الدينية. فقد اعتاد المسؤولون على توزيع أوسمة الشهادة على ضحايا الحج، للخروج من مأزق المسؤولية، فالشهادة هنا تنقل ملف القضية نحو السماء، وتضع الضحايا في سياق قدري يفقد معه أثر المتسبب الحقيقي في الفاجعة.

منذ خضوع المدينتين المقدّستين في العشرينيات الميلادية، أصبحت الدولة السعودية تشرف منفردة على تسيير شؤون الحج. وخلال العقود الثمانية، كانت الكوارث البشرية تقع بصورة متوالية، وفي جميعها تقريباً كان التنصّل من المسؤولية هو الموقف الرسمي الثابت. ولا يكاد يمرّ عام دون وقوع حوادث مأساوية (حرائق وانهدامات واختناقات وتدافع) يذهب ضحيتها أعداد كبيرة من الحجاج. وكانت الحكومة في كل حادثة لها موقف موحّد إما القاء اللوم على الحجاج أو تسجيلها في قائمة (القضاء والقدر). وفي الفاجعة الأخيرة كما في الفواجع السابقة، وجّه المسؤولون الرسميون وكذا المفتي العام للمملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ اللوم بلغة تقريعية للحجاج بسبب عدم انضباطهم وقلة وعيهم وحملهم للامتعة في وقت رمي الجمرات.

وفي كافة الكوارث البشرية كان يتم اغلاق الملف على نحو عاجل دون إجراء تحقيق دقيق في طبيعة كل كارثة وأسبابها، على الأقل من أجل تفادي وقوعها في المستقبل، سيما وأن كثيراً من الحوادث وقعت في ذات المكان ـ منى. فقد قتل 270 حاجاً بالقرب من جسر الجمرات عام 1994، وقضى 343 حاجاً في حريق بخيام في منى عام 1997 وقتل 119 حاجاً بالقرب من جسر الجمرات عام 1998، و35 حاجاً عام 2001 و14 حاجاً عام 2003 وحوالى 250 حاجا عام 2004.

ليس التدافع وحده مبرراً كافياً لاعطاء تفسير مقنع لما يقع من كوارث، خصوصاً وأن هذا التدافع قابل لأن يتكرر داخل الحرم المكي نفسه. وبالمقارنة مع مناسبات دينية أو إجتماعية أو ثقافية تجري في أنحاء مختلفة من العالم، فإن تجمّع أعداد كبيرة تصل في بعض الاحيان الى ما يربو على الاربعة ملايين شخصاً لا ينتهي به الحال الى سقوط هذا العدد من الضحايا، فضلاً عن أن يتكرر الحادث وفي ذات المكان وبنفس الطريقة. قد يجادل المسؤول بأن انخفاض مستوى الوعي لدى الحجاج وعدم انضباطهم الى جانب أن القادمين لأداء مناسك الحج يتبدّلون بما يجعل الخبرة غير تراكمية من جانب الحجاج وليس الحكومة، ففي كل عام يقدم أناس غير الذين قدموا في العام الذي سبقه. الى هذا الحد من الجدل قد يبدو مقبولاً، مع أن الحديث هنا لا يزال مقصوراً على أناس يراد منهم تحمّل مسؤولية تنظيم أنفسهم بأنفسهم، وماذا عن دور الاجهزة المشرفة والمنظّمة لشؤون الحج، فهل فوّضت أمرها لأناس يجهلون حتى مواقع سكناهم، فضلاً عن تضاريس المنطقة ومداخلها ومخارجها.

كل ماقيل عن الحجاج ليس سوى إبقاء القضية في سوء الانضباط من قبل الحجاج، وسوء التنظيم من قبل الدولة المشرفة على شؤون الحج، ولكن هل هناك شيء آخر غير معلن في الحادثة؟. مصادر عدة ذكرت بأن قوات الأمن أغلقت جسر الجمرات لتسهيل مرور موكب رسمي لأحد الأمراء الكبار، الأمر الذي أدى الى تعطيل حركة السير وحشر الحجيج على جانبي الطريق وبعد أن أنهى الموكب مهمته في رمي الجمرات تم فتح الطريق فتدافع الحجاج بصورة غير منظّمة وعاجلة ما أدى الى وقوع عدد منهم على الارض فحدثت الكارثة بعد ان تكوّم الحجيج في ذلك المكان فوق بعضهم وتدافعوا اما للهروب من المكان او لانقاذ ذويهم وأمتعتهم. الرواية الرسمية تقول بحسب تصريح وزير الصحة حمد بن عبدالله المانع اكد للصحافيين يوم الحادثة (ان المشكلة كانت حجاجا غير نظاميين ومشكلة الامتعة)، الا أن شهود عيان أفادوا بأن السبب غير ذلك. ومع أن المكان محاط بشبكة مراقبة منظمة بما يعني أن وزارة الداخلية تملك وحدها الدليل المرئي على الحادثة، الا أنها حتى الآن لم تظهر ما يعزز أو ينفي خبر المصادر الموثّقة التي جاءت تصريحات شهود العيان لتؤكد الخبر. فقد نقلت جريدة إيلاف الالكترونية في الثالث عشر من ديسمبر عن شهود عيان أفادوا (أن الشرطة اقدمت على إغلاق الطريق على جسر الجمرات ما اوقف سير الحجيج وتسبب بزحمة وتدافع شديدين)، ما يرجّح وقوع الكارثة بسبب موكب رسمي. والجدير بالذكر، أنها ليست المرة الاولى التي يتسبب موكب رسمي في وقوع ضحايا بين الحجاج، ففي عام 1990 تسبب موكب الملك فهد في وقوع مجزرة داخل نفق المعيصم بعد اغلاقه لفترة من الوقت ما تسبب في وقوع تدافع داخل النفق والذي أحدث حالة من الفوضى والذعر بين الحجاج. وكان المسؤولون الرسميون أعلنوا في حينها أن السبب يعود الى انطفاء المراوح المنصوبة داخل النفق ما أدى الى وقوع إختناقات وتدافعات قضت على مايربو 1500 حاج.

إن سرعة رد فعل المسؤولين الرسميين والدينيين على الكارثة بطريقة هجومية تهدف الى تبرئة الذات ودفع كرة النار الى الخارج، الى الضحايا، حيث عزت السلطات السعودية الحادث المأساوي الى حجاج (غير نظاميين)!!

بيد أن ثمة رسالة خفيّة وراء ردود الفعل الرسمية العاجلة. فوزارة الداخلية والدولة السعودية بصورة عامة تواجه تحدي المشروعية، مشروعية الادارة والاشراف على شؤون الحج، وهو تحدي واجهته منذ بداية نشأة الدولة، حيث كانت المطالبات تتواصل برفع الوصاية السعودية عن الحرمين الشريفين، واخضاعهما تحت إشراف إسلامي عام، أو هيئة إسلامية عالمية تقوم على رعاية وادارة شؤون الحج، وهي قضية تعتبر بالغة الحساسية بالنسبة للعائلة المالكة التي تدرج هذا الموضوع ضمن مجال السيادة، دع عنك أن إخضاع الحرمين الشريفين تحت إشراف إسلامي دولي يأكل من شرعية الدولة ذاتها التي اكتسبتها بفعل انفرادها التام في الرعاية والاشراف ودعوى خدمة الحرمين الشريفين، وهو ما يفسّر اللغة الصارمة التي تتبناها الرسمية السعودية في تحميل الحجاج.

طبيب جزائري صرّح بصورة غاضبة متهماً المسؤولين عن الاجهزة المختّصة بشؤون الوافدين والحجاج وقال إن (دعمهم لا شيء، صفر، لاشيء).

إن الواجب الديني والاخلاقي يفرض على الحكومة السعودية ومن منطلق الرعاية والخدمة لحجاج بيت الله الحرام فتح تحقيق في الحادث قبل اطلاق موجة تصريحات تدين الضحايا. إن الصمت واغلاق الملف وتسجيل القدر كمسؤول عن الحادث، لن يضع حداً لمطالب كثير من الحجاج بمن فيهم ذوي الضحايا لفتح تحقيق محايد لتحديد السبب الحقيقي وراء ماجرى, رغم أن شبكة الكاميرات المنصوبة على اعمدة النور وفوق المباني في منى تملك الاجابة الحاسمة، وبإمكان الحكومة، لو أرادت ذلك، الكشف عن شرائط تصويرية لبيان الحقيقة.

لقد بدا واضحاً في ضوء تكرار الحوادث المأساوية وبناء على الملاحظة والتقارير المرفوعة من مؤسسات الحج في عدد من الدول الاسلامية أن السبب الرئيسي في تلك الحوادث هو إخفاق الدولة في إدارة شؤون الحجاج، رغم وجود 60 ألف عنصر من قوات الامن، الذين أصبحوا عبئاً إضافياً في إعاقة حركة الحجاج وتنظيم فعاليات الحج، فهذه القوات أعدّت في الأصل لمهمات أمنية بدرجة أساسية وليست تنظيمية، فإدارة حشود كبيرة من الافراد يتطلب مهارات من نوع مختلف وليس عناصر مدججة بالسلاح.

إن توجيه اللوم الى الحجاج أنفسهم لا يخلي الدولة من مسؤوليتها، سيما ونحن نتحدث عن مآسي متكررة، في مقابل تراكم خبرة طويلة يفترض أن تكون استعدادات الدولة بالدرجة التي تحول دون تكرار الحادثة الواحدة في المكان نفسه مرتين، كيف وقد تكررت عدة مرات.

إذا كانت الحكومة السعودية ترفض فكرة الرعاية الاسلامية الدولية من منطلق حفظ السيادة، فإن الحاجة الى إشراك المؤسسات الاهلية أو شبه الرسمية التي يمكن الاستعانة بها في تنظيم شؤون الحج، أو الطلب من حملات الحج الكبيرة توفير فريق إداري يشارك في العملية التنظمية بالتعاون مع الهيئة العليا لشؤون الحج. بإمكان الحكومة إن شاءت أن تفرض شروطاً على حملات الحج من قبيل توفير فريق طبي، ولجنة إدارية بحيث تشارك في العملية التنظيمية العامة. من جهة ثانية، فإن بإمكان السعودية الافادة من خبرات الدول الاخرى الاسلامية وغيرها في مجال إدارة الحشود الضخمة.

ثمة أمر آخر لا يقل أهمية وخطورة، وهي المتعلقة بالأحكام الفقهية الخاصة بالحج. فبقدور الدولة السعودية الدعوة الى مؤتمر فقهي عام يُدعى اليه علماء الشريعة من كافة المذاهب الاسلامية، وتقوم الحكومة بشرح الصعوبات العملية التي تواجه الحجاج في بعض المناسك من أجل تحفيز الفقهاء على التوصل لأحكام تسهّل على الحجاج مناسكهم، وتحول دون تكرار الحوادث المأساوية.

ليس ثمة شك أن للفقهاء دوراً في تسهيل شؤون الحج، وأن الفتاوى المتعلقة بالحج في كثير من المذاهب لا تأخذ في الاعتبار الصعوبات التي تواجه الحجاج، والزيادة العددية في كل عام، بما تحمل من مخاطر جديدة على سلامة الحجاج وعلى طريقة أداء المناسك. هناك بالطبع استثناءات وخصوصاً في منسك رمي الجمرات حيث سهّل قلة من الفقهاء على أتباعهم الأمر فأفتوا بجواز رمي الجمار قبل الزوال، فيما لا يزال أغلب الفقهاء على الحكم القائل بالرمي بعد الزوال.

وفيما تبدو قضية النحر تسير نحو الحل بصورة مرضية حيث يجيز دفع أثمان الاضحيات نقداً أو الذبح خارج المشاعر أو خارج السعودية وتوزيع لحومها على الفقراء والمحتاجين، فلا تزال هناك بعض القضايا العالقة التي مازالت تشكل صعوبات شديدة.

إن كارثة منى الجديدة يجب أن تفتح ملف شؤون الحج في أبعادها المختلفة، من أجل وضع حلول حاسمة لمجمل المشكلات التي تواجه حجاج بيت الله في كل عام.

الصفحة السابقة